القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 94 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية مما احتج الله بها لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره, وفضح بها أحبارهم وعلماءهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم، فيما كان بينه وبينهم من الخلاف. كما أمره الله أن يدعو الفريق الآخر من النصارى - إذ خالفوه في عيسى صلوات الله عليه وجادلوا فيه - إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة. وقال لفريق اليهود: إن كنتم محقين فتمنوا الموت, فإن ذلك غير ضاركم، إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنـزلة من الله. بل إن أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم، فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جنانه, إن كان الأمر كما تزعمون: من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا. وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المبطلون ونحن المحقون في دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم. فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى ، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة.

فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا » .

حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن عبد الكريم, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي, عن الأعمش, عن ابن عباس في قوله: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن عكرمة في قوله: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا.

حدثني موسى قال، أخبرنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - قال أبو جعفر: فيما أروي: أنبأنا - عن سعيد، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: لو تمنوه يوم قال ذلك لهم, ما بقي على ظهر الأرض يهودي إلا مات.

قال أبو جعفر: فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم, ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.

وإنما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: ( تمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، لأنهم - فيما ذكر لنا- قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [ المائدة: 18 ] ، وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة: 111 ] . فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون، فتمنوا الموت. فأبان الله كذبهم بامتناعهم من تمني ذلك, وأفلج حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو اليهود أن يتمنوا الموت, وعلى أي وجه أمروا أن يتمنوه. فقال بعضهم: أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن سعيد، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب.

وقال آخرون بما:-

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ) ، وذلك أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [ البقرة: 111 ] ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [ المائدة: 18 ] فقيل لهم: ( فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية قال: قالت اليهود: ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فقال الله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، فلم يفعلوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) الآية, وذلك بأنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ .

وأما تأويل قوله: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ) ، فإنه يقول: قل يا محمد: إن كان نعيم الدار الآخرة ولذاتها لكم يا معشر اليهود عند الله. فاكتفى بذكر « الدار » ، من ذكر نعيمها، لمعرفة المخاطبين بالآية معناها. وقد بينا معنى « الدار الآخرة » . فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وأما تأويل قوله: ( خالصة ) ، فإنه يعني به: صافية. كما يقال: « خلص لي فلان » بمعنى صار لي وحدي وصفا لي. يقال منه: « خلص لي هذا الشيء فهو يخلص خلوصا وخالصة, و » الخالصة « مصدر مثل » العافية « . ويقال للرجل: » هذا خُلْصاني « , يعني خالصتي من دون أصحابي. »

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يتأول قوله: ( خالصة ) : خاصة. وذلك تأويل قريب من معنى التأويل الذي قلناه في ذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة ) ، قال: « قل » يا محمد لهم - يعني اليهود - : إن كانت لكم الدار الآخرة « - يعني: الجنة - ( عند الله خالصة ) ، يقول: خاصة لكم. »

وأما قوله: ( من دون الناس ) ، فإن الذي يدل عليه ظاهر التنـزيل أنهم قالوا: لنا الدار الآخرة عند الله خالصة من دون جميع الناس. ويبين أن ذلك كان قولهم - من غير استثناء منهم من ذلك أحدا من بني آدم - إخبار الله عنهم أنهم قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، إلا أنه روي عن ابن عباس قول غير ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( من دون الناس ) ، يقول: من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين استهزأتم بهم, وزعمتم أن الحق في أيديكم, وأن الدار الآخرة لكم دونهم.

وأما قوله: ( فتمنوا الموت ) فإن تأويله: تشهوه وأريدوه. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تأويله: فسلوا الموت. ولا يعرف « التمني » بمعنى « المسألة » في كلام العرب. ولكن أحسب أن ابن عباس وجه معنى « الأمنية » - إذ كانت محبة النفس وشهوتها - إلى معنى الرغبة والمسألة, إذْ كانت المسألة، هي رغبة السائل إلى الله فيما سأله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك عن ابن عباس: ( فتمنوا الموت ) ، فسلوا الموت، ( إن كنتم صادقين ) .

القول في تأويل قوله تعالى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 95 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت, لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون, وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب, كالذي:-

حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر, عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ الآية, أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: ( ولن يتمنوه أبدا ) ، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي, فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت, ولم يكونوا ليتمنوه أبدا.

وأما قوله: ( بما قدمت أيديهم ) ، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها: « نالك هذا بما جنت يداك, وبما كسبت يداك, وبما قدمت يداك » ، فتضيف ذلك إلى « اليد » . ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.

قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى « اليد » ، لأن عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم, فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى « أيديهم » ، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده.

فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله, وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة, ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم, والبغي عليه, وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم, وأنه مما قدمته أيديهم, لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنـزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( بما قدمت أيديهم ) ، يقول: بما أسلفت أيديهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( بما قدمت أيديهم ) ، قال: إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه.

وأما قوله: ( والله عليم بالظالمين ) ، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون.

وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه, وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.

وقد دللنا على معنى « الظلم » فيما مضى بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) - اليهود - . يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, حدثنا الربيع، عن أبي العالية: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، يعني اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ومن الذين أشركوا ) ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة, كما يقال: « هو أشجع الناس ومن عنترة » بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة. فكذلك قوله: ( ومن الذين أشركوا ) . لأن معنى الكلام: ولتجدن - يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [ من ] الناس على حياة ومن الذين أشركوا. فلما أضيف « أحرص » إلى « الناس » وفيه تأويل « من » ، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل الذي ذكرنا.

وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك, فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث, ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب, فاليهود أحرص منهم على الحياة وأكره للموت.

وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث .

* ذكر من قال هم المجوس:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، يعني المجوس.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: المجوس.

حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد: ( ومن الذين أشركوا ) ، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة.

* ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ) ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ

قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة. يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته، أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض: « عشرة آلاف عام » حرصا منهم على الحياة، كما:-

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي عليا, أخبرنا أبو حمزة, عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: هو قول الأعاجم: « سال زه نوروز مهرجان حر » .

وحدثت عن نعيم النحوي, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس: « زه هزار سال » .

حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية, عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في قوله: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد, عن ابن علية, عن ابن أبي نجيح في قوله: ( يود أحدهم ) ، فذكر مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) حتى بلغ: ( لو يعمر ألف سنة ) ، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة.

وحدثت عن أبي معاوية, عن الأعمش, عن سعيد, عن ابن عباس في قوله: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ) ، قال: هو قول أحدهم إذا عطس: « زه هزار سال » , يقول: عشرة آلاف سنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله.

وقوله: ( هو ) عماد لطلب « ما » الاسم أكثر من طلبها الفعل, كما قال الشاعر:

فهل هو مرفوع بما ههنا رأس *

و « أن » التي في: ( أن يعمر ) ، رفع، بـ « مزحزحه » , و « هو » الذي مع « ما » تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة.

وقد قال بعضهم: إن « هو » الذي مع « ما » كناية ذكر العمر. كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة, وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل « أن يعمر » مترجما عن « هو » , يريد ما هو بمزحزحه التعمير.

وقال بعضهم: قوله: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر.

قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا, وهو أن يكون « هو » عمادا، نظير قولك: « ما هو قائم عمرو » .

وقد قال قوم من أهل التأويل: إن « أن » التي في قوله: « أن يعمر » بمعنى: وإن عمر, وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع، عن أبي العالية: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول: وإن عمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « أن يعمر » - ولو عمر.

وأما تأويل قوله: ( بمزحزحه ) ، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه, كما قال الحطيئة:

وقـالوا: تزحـزح ما بنا فضل حاجة إليـك, ومـا منــا لـوَهْيِك راقــع

يعني بقوله: « تزحزح » ، تباعد, يقال منه: « زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا, » وهو عنك متزحزح « ، أي متباعد. »

فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى الله، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد - فيما أروي- عن سعيد بن جبير, أو عن عكرمة, عن ابن عباس: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، أي: ما هو بمنحيه من العذاب.

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: ( وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، يقول: وإن عُمِّر, فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منحيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب ) ، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة, وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك, إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب.

القول في تأويل قوله جل ثناؤه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 96 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( والله بصير بما يعملون ) ، والله ذو إبصار بما يعملون, لا يخفي عليه شيء من أعمالهم, بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها.

وأصل « بصير » « مبصر » - من قول القائل: « أبصرت فأنا مبصر » ، ولكن صرف إلى « فعيل » , كما صرف « مسمع » إلى « سميع » , و « عذاب مؤلم » إلى « أليم » , « ومبدع السموات » إلى بديع, وما أشبه ذلك.

القول في تأويل قوله جل ثناؤه قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نـزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل, إذ زعموا أن جبريل عدو لهم, وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, عن عبد الحميد بن بهرام, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم, ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال: » نشدتكم بالذي أنـزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه, فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر: فيما أروي: وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنـزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ, وأن ماء المرأة أصفر رقيق, فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله, فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال: وأنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل, ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك, لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك. قال: « فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنـزل الله عز وجل: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، فعندها باءوا بغضب على غضب. »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين - يعني المكي- , عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة, ونطفة المرأة صفراء رقيقة, فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها, وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها, فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون أنه جبريل، وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم, ولكنه لنا عدو, وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء, فلولا ذلك اتبعناك. فأنـزل الله فيهم: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك ) إلى قوله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينـزل عليه بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنـزل: ( من كان عدوا لجبريل ) الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينـزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! فنـزل: ( من كان عدوا لجبريل ) الآية.

وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, قال: نـزل عمر الروحاء, فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها, فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره ذلك وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه, أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا به, فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم! إذا هلكتم! قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟ قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة, وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا, وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منـزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما, ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل, ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم, فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان، فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نـزلن؟ فقرأ على: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر!

حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود, فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم, ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه, فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على سرنا, وإذا جاء جاء بالحرب والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل, وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم, فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم, فوجده قد أنـزل عليه هذه الآية: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما، فذكر نحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( من كان عدوا لجبريل ) ، قال: قالت اليهود: إن جبريل هو عدونا، لأنه ينـزل بالشدة والحرب والسنة, وإن ميكائيل ينـزل بالرخاء والعافية والخصب, فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه: ( من كان عدوا لجبريل ) .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه ) ، قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة, فكان يأتيها, وكان ممره على طريق مدراس اليهود, وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا, وتمر بنا فلا تؤذينا, وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأَسْكتوا. فقال: تكلموا، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى بعض, فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو لأخبرنه. قالوا: نعم, إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا, وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف, ولو أنه كان وليه ميكائيل، إذًا لآمنا به, فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنـزل التوراة على موسى بطور سيناء, أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم, فوجد جبريل قد سبقه بالوحي, فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه, فقال عمر: والذي بعثك بالحق, لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك!

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير, عن مجالد, عن الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة, وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد, وهو عدونا من الملائكة, وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنـزل التوراة على موسى, ما منـزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه, وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله, وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل, وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [ فبينما هو عندهم ] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنـزل عليه: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن, عن ابن أبي ليلى في قوله: ( من كان عدوا لجبريل ) . قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينـزل عليكم لتبعناكم, فإنه ينـزل بالرحمة والغيث, وإن جبريل ينـزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنـزلت هذه الآية: ( من كان عدوا لجبريل ) .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء بنحو ذلك.

قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) - فهو: أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنـزيل ورحمة, فأبوا اتباعك، وجحدوا نبوتك, وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك, وزعموا أنه عدو لهم - : من يكن من الناس لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل, ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله, وأنه هو الذي ينـزل وحي الله على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي، ويشد فؤادي، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: ( قل من كان عدوا لجبريل ) ، قال: وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة, فأخبرهم بها على ما هي عندهم - « إلا جبريل » , فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة, ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني: تنـزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه: أن جبريل صاحب وحي الله, وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنـزل الله عز وجل إكذابا لهم: ( قل ) يا محمد: ( من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك ) ، يقول: فإن جبريل نـزله. يقول: نـزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك « , يعني: بوحينا الذي نـزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك. »

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نـزله على قلبك بإذن الله ) ، يقول: أنـزل الكتاب على قلبك بإذن الله.

وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( فإنه نـزله على قلبك ) ، يقول: نـزل الكتاب على قليك جبريل.

قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: ( فإنه نـزله على قلبك ) - وهو يعني بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم, وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل: فإنه نـزله على قلبي ولو قيل: « على قلبي » كان صوابا من القول لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه, إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في نظير ذلك: « قل للقوم إن الخير عندي كثير » - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه- : و « قل للقوم إن الخير عندك كثير » - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك: « لا تقل للقوم إني قائم » و « لا تقل لهم إنك قائم » , و « الياء » من « إني » اسم المأمور بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ و ( تغلبون ) [ آل عمران: 12 ] ، بالياء والتاء.

وأما « جبريل » فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون « جبريل، وميكال » بغير همز، بكسر الجيم والراء من « جبريل » وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة.

أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون: « جَبرئيل وميكائيل » على مثال « جبرعيل وميكاعيل » ، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة, كما قال جرير بن عطية:

عبــدوا الصليـب وكذبـوا بمحـمد وبجَــــبرَئيل وكذبــــوا ميكــــالا

وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن: « جبريل » بفتح الجيم. وترك الهمز.

قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها, لأن « فعليل » في كلام العرب غير موجود. وقد اختار ذلك بعضهم, وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال: « سمويل » , وأنشد في ذلك:

بحـيث لـو وزنـت لخـم بأجمعهـا مـا وازنـت ريشــة مـن ريش سـمويلا

وأما بنو أسد فإنها تقول « جِبرين » بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في « جبريل » « ألفا » فتقول: جبراييل وميكاييل.

وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ: « جَبْرَئِلّ » بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام.

فأما « جبر » و « ميك » ، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى: « عبد » ، والآخر بمعنى: « عبيد » .

وأما « إيل » فهو الله تعالى ذكره، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني, عن الأعمش, عن المنهال, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: « جبريل » و « ميكائيل » ، كقولك: عبد الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « جبريل » عبد الله؛ و « ميكائيل » ، عبيد الله. وكل اسم « إيل » فهو: الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إسماعيل بن رجاء, عن عمير مولى ابن عباس: أن « إسرائيل، وميكائيل وجبريل، وإسرافيل » كقولك: عبد الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن المنهال بن عمرو, عن عبد الله بن الحارث قال: « إيل » ، الله، بالعبرانية.

حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن منصور قال، حدثنا قيس, عن عاصم, عن عكرمة، قال: « جبريل » اسمه: عبد الله؛ و « ميكائيل » اسمه: عبيد الله. « إيل » : الله.

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين قال: اسم « جبريل » عبد الله, واسم « ميكائيل » عبيد الله, واسم « إسرافيل » : عبد الرحمن. وكل معبد، « إيل » ، فهو عبد الله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين, قال: ما تعدون « جبريل » في أسمائكم؟ قال: « جبريل » عبد الله, و « ميكائيل » عبيد الله. وكل اسم فيه « إيل » ، فهو مُعَبَّدٌ لله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن عمرو بن عطاء, عن علي بن حسين قال: قال لي: هل تدري ما اسم « جبريل » من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله. قال: فهل تدري ما اسم « ميكائيل » من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبيد الله. وقد سمى لي « إسرائيل » باسم نحو ذلك فنسيته, إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى « إيل » فهو معبد له.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن عكرمة في قوله: ( جبريل ) قال: « جبر » عبد, « إيل » الله, و « ميكا » قال: عبد. « إيل » : الله.

قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ « جبرئيل » بالفتح، والهمز، والمد. وهو - إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز.

وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام, فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة « جبر » و « ميكا » إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني. وذلك أن « الإلّ » بلسان العرب: الله، كما قال: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً [ التوبة: 10 ] . فقال جماعة من أهل العلم: « الإل » هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه - لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول, فأخبروه - فقال لهم: ويحكم « أين ذهب بكم؟ والله, إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني » من إل « : من الله وقد:- »

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز في قوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً قال: قول « جبريل » و « ميكائيل » و « إسرافيل » .

كأنه يقول: حين يضيف « جبر » و « ميكا » و « إسرا » إلى « إيل » يقول: عبد الله. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا ، كأنه يقول: لا يرقبون الله عز وجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( مصدقا لما بين يديه ) ، القرآن. ونصب « مصدقا » على القطع من « الهاء » التي في قوله: نَـزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ .

فمعنى الكلام: فإن جبريل نـزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه, ونـزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله, وهي تصدقه. كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق عن الضحاك, عن ابن عباس. ( مصدقا لما بين يديه ) ، يقول: لما قبله من الكتب التي أنـزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( مصدقا لما بين يديه ) ، من التوراة والإنجيل.

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 97 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وهدى ) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه « هدى » ، لاهتداء المؤمن به. و « اهتداؤه به » اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و « الهادي » من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل: « هواديها » , وهو ما تقدم أمامها, وكذلك قيل للعنق: « الهادي » , لتقدمها أمام سائر الجسد.

وأما « البشرى » فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته, وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه، وذلك هو « البشرى » التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره.

وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هدى وبشرى للمؤمنين ) ، لأن المؤمن إذا سمع القرآن حفظه ووعاه، وانتفع به واطمأن إليه، وصدق بموعود الله الذي وعد فيه, وكان على يقين من ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ( 98 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه من كان عدوا لله، من عاداه، وعادى جميع ملائكته ورسله؛ وإعلام منه أن من عادى جبريل فقد عاداه وعادى ميكائيل، وعادى جميع ملائكته ورسله. لأن الذين سماهم الله في هذه الآية هم أولياء الله وأهل طاعته, ومن عادى لله وليا فقد عادى الله وبارزه بالمحاربة, ومن عادى الله فقد عادى جميع أهل طاعته وولايته. لأن العدو لله عدو لأوليائه, والعدو لأولياء الله عدو له. فكذلك قال لليهود - الذين قالوا: إن جبريل عدونا من الملائكة, وميكائيل ولينا منهم- : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) ، من أجل أن عدو جبريل عدو كل ولي لله. فأخبرهم جل ثناؤه أن من كان عدوا لجبريل، فهو لكل من ذكره - من ملائكته ورسله وميكال - عدو, وكذلك عدو بعض رسل الله، عدو لله ولكل ولي. وقد:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله - يعني العتكي - ، عن رجل من قريش قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال: أسالكم بكتابكم الذي تقرءون، هل تجدون به قد بشر بي عيسى ابن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟ فقالوا: اللهم وجدناك في كتابنا، ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال وتهَرِيق الدماء. فأنـزل الله: ( من كان عدوا لله وملائكته ) الآية.

حدثت عن عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن يهوديا لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبك، هو عدو لنا. فقال له عمر: ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) . قال: فنـزلت على لسان عمر.

وهذا الخبر يدل على أن الله أنـزل هذه الآية توبيخا لليهود في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم, وإخبارا منه لهم أن من كان عدوا لمحمد فالله له عدو, وأن عدو محمد من الناس كلهم، لمن الكافرين بالله، الجاحدين آياته.

فإن قال قائل: أو ليس جبريل وميكائيل من الملائكة؟

قيل: بلى.

فإن قال: فما معنى تكرير ذكرهما بأسمائهما, وقد مضى ذكرهما في الآية في جملة أسماء الملائكة؟

قيل: معنى إفراد ذكرهما بأسمائهما، أن اليهود لما قالت: « جبريل عدونا، وميكائيل ولينا » - وزعمت أنها كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أن جبريل صاحب محمد صلى الله عليه وسلم - أعلمهم الله أن من كان لجبريل عدوا, فإن الله له عدو, وأنه من الكافرين. فنص عليه باسمه وعلى ميكائيل باسمه, لئلا يقول منهم قائل: إنما قال الله: من كان عدوا لله وملائكته ورسله, ولسنا لله ولا لملائكته ورسله أعداء. لأن الملائكة اسم عام محتمل خاصا، وجبريل وميكائيل غير داخلين فيه. وكذلك قوله: ( ورسله ) ، فلست يا محمد داخلا فيهم. فنص الله تعالى على أسماء من زعموا أنهم أعداؤه بأعيانهم، ليقطع بذلك تلبيسهم على أهل الضعف منهم, ويحسم تمويههم أمورهم على المنافقين.

وأما إظهار اسم الله في قوله: ( فإن الله عدو للكافرين ) ، وتكريره فيه - وقد ابتدأ أول الخبر بذكره فقال: ( من كان عدوا لله وملائكته ) - فلئلا يلتبس لو ظهر ذلك بكناية, فقيل: « فإنه عدو للكافرين » ، على سامعه، من المَعْنِيّ بـ « الهاء » التي في « فإنه » : أألله، أم رسل الله جل ثناؤه, أم جبريل, أم ميكائيل؟ إذ لو جاء ذلك بكناية على ما وصفت، فإنه يلتبس معنى ذلك على من لم يوقف على المعني بذلك، لاحتمال الكلام ما وصفت، وقد كان بعض أهل العربية يوجه ذلك إلى نحو قول الشاعر:

ليـت الغـراب غـداة ينعَـب دائمـا كــــان الغــــراب مقطـــع الأوداج

وأنه إظهار الاسم الذي حظه الكناية عنه. والأمر في ذلك بخلاف ما قال. وذلك أن « الغراب » الثاني لو كان مكنى عنه، لما التبس على أحد يعقل كلام العرب أنه كناية اسم « الغراب » الأول, إذ كان لا شيء قبله يحتمل الكلام أن يوجه إليه غير كناية اسم « الغراب » الأول - وأن قبل قوله: ( فإن الله عدو للكافرين ) أسماء، لو جاء اسم الله تعالى ذكره مكنيا عنه، لم يعلم من المقصود إليه بكناية الاسم، إلا بتوقيف من حجة. فلذلك اختلف أمراهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولقد أنـزلنا إليك آيات ) ، أي أنـزلنا إليك يا محمد علامات واضحات دالات على نبوتك: وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله الذي أنـزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم من خفايا علوم اليهود ومكنون سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل, والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم - وما حرفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه، من أحكامهم التي كانت في التوراة. فأطلعها الله في كتابه الذي أنـزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فكان، في ذلك من أمره، الآيات البينات لمن أنصف نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحسد والبغي. إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة، تصديق من أتى بمثل الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصفت من غير تعلم تعلمه من بشر، ولا أخذ شيء منه عن آدمي. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات ) يقول: فأنت تتلوه عليهم، وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك, وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا, وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه. يقول الله: ففي ذلك لهم عبرة وبيان، وعليهم حجة لو كانوا يعلمون.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة مولى ابن عباس, وعن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا الفِطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه, وما أنـزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها! فأنـزل الله عز وجل: ( ولقد أنـزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) !

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ ( 99 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( وما يكفر بها إلا الفاسقون ) ، وما يجحد بها. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى « الكفر » الجحود، بما أغنى عن إعادته هنا. وكذلك بينا معنى « الفسق » ، وأنه الخروج عن الشيء إلى غيره.

فتأويل الآية: ولقد أنـزلنا إليك، فيما أوحينا إليك من الكتاب علامات واضحات تبين لعلماء بني إسرائيل وأحبارهم - الجاحدين نبوتك، والمكذبين رسالتك - أنك لي رسول إليهم، ونبي مبعوث, وما يجحد تلك الآيات الدالات على صدقك ونبوتك، التي أنـزلتها إليك في كتابي فيكذب بها منهم إلا الخارج منهم من دينه, التارك منهم فرائضي عليه في الكتاب الذي يدين بتصديقه. فأما المتمسك منهم بدينه، والمتبع منهم حكم كتابه, فإنه بالذي أنـزلت إليك من آياتي مصدق وهم الذين كانوا آمنوا بالله وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 100 )

قال أبوجعفر: اختلف أهل العربية في حكم « الواو » التي في قوله: ( أو كلما عاهدوا عهدا ) . فقال بعض نحويي البصريين: هي « واو » تجعل مع حروف الاستفهام, وهي مثل « الفاء » في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ [ البقرة: 87 ] ، قال: وهما زائدتان في هذا الوجه, وهي مثل « الفاء » التي في قوله: فالله لتصنعن كذا وكذا, وكقولك للرجل: « أفلا تقوم » ؟ وإن شئت جعلت « الفاء » و « الواو » هاهنا حرف عطف.

وقال بعض نحويي الكوفيين: هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام.

والصواب في ذلك عندي من القولة أنها « واو » عطف، أدخلت عليها « ألف » الاستفهام, كأنه قال جل ثناؤه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) ثم أدخل « ألف » الاستفهام على « وكلما » فقال : ( قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم )

وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له, فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن « الواو » و « الفاء » من قوله: ( أو كلما ) و ( أفكلما ) زائدتان لا معنى لهما.

وأما « العهد » ، فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بما في التوراة مرة بعد أخرى, ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى. فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك، وعير به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته, فقال تعالى ذكره: أو كلما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا، نبذه فريق منهم، فتركه ونقضه؟ كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال مالك بن الصيف - حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد الله إليهم فيه- : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم، وما أخذ له علينا ميثاقا! فأنـزل الله جل ثناؤه: ( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس مثله.

قال أبو جعفر: وأما « النبذ » فإن أصله - في كلام العرب- الطرح, ولذلك قيل للملقوط: « المنبوذ » ، لأنه مطروح مرمي به. ومنه سمي النبيذ « نبيذا » , لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء، ثم يعالج بالماء. وأصله « مفعول » صرف إلى « فعيل » , أعني أن « النبيذ » أصله « منبوذ » ثم صرف إلى « فعيل » فقيل: « نبيذ » ، كما قيل: « كف خضيب، ولحية دهين » - يعني: مخضوبة ومدهونة. يقال منه: « نبذته أنبذه نبذا » , كما قال أبو الأسود الدؤلي:

نظــرت إلــى عنوانــه فنبذتـه كنبذك نعـلا أخلقت مــن نعالكــا

فمعنى قوله جل ذكره: ( نبذه فريق منهم ) ، طرحه فريق منهم، فتركه ورفضه ونقضه. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( نبذه فريق منهم ) يقول: نقضه فريق منهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( نبذه فريق منهم ) ، قال: لم يكن في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه, ويعاهدون اليوم وينقضون غدا. قال: وفي قراءة عبد الله: ( نقضه فريق منهم ) .

و « الهاء » التي في قوله: ( نبذه ) ، من ذكر العهد. فمعناه أو كلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم.

و « الفريق » الجماعة، لا واحد له من لفظه، بمنـزلة « الجيش » و « الرهط » الذي لا واحد له من لفظه.

و « الهاء والميم » اللتان في قوله: ( فريق منهم ) ، من ذكر اليهود من بني إسرائيل.

وأما قوله: ( بل أكثرهم لا يؤمنون ) فإنه يعني جل ثناؤه: بل أكثر هؤلاء - الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا، نقضه فريق منهم - لا يؤمنون.

ولذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذبين الناقضين عهد الله، على عدد الفريق. فيكون الكلام حينئذ معناه: أو كلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد؟ لا - ما ينقض ذلك فريق منهم, ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله، أكثرهم، لا القليل منهم. فهذا أحد وجهيه.

والوجه الآخر: أن يكون معناه: أو كلما عاهدت اليهود ربها عهدا، نبذ ذلك العهد فريق منهم؟ لا - ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم ولكن أكثرهم لا يصدقون بالله ورسله, ولا وعده ووعيده. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى « الإيمان » ، وأنه التصديق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 101 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولما جاءهم ) ، أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل - ( رسول ) ، يعني بالرسول: محمدا صلى الله عليه وسلم. كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: ( ولما جاءهم رسول ) ، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: ( مصدق لما معهم ) ، فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة والتوراة تصدقه، في أنه لله نبي مبعوث إلى خلقه.

وأما تأويل قوله: ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم ) ، فإنه للذي هو مع اليهود, وهو التوراة. فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة، أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي لله, ( نبذ فريق ) , يعني بذلك: أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرين، حسدا منهم له وبغيا عليه. وقوله: ( من الذين أوتوا الكتاب ) . وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها. ويعني بقوله: ( كتاب الله ) ، التوراة.

وقوله: ( وراء ظهورهم ) ، جعلوه وراء ظهورهم. وهذا مثل, يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال: « قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر، وجعله وراء ظهره » , يعني به: أعرض عنه وصد وانصرف، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) ، قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها, فاتفقت التوراة والقرآن, فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت. فذلك قوله الله: ( كأنهم لا يعلمون ) .

ومعنى قوله: ( كأنهم لا يعلمون ) ، كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود - فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه - لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه. وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحق على علم منهم به ومعرفة, وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب ) ، يقول: نقض فريق من الذين أوتوا الكتاب « كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون ) : أي أن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم أفسدوا علمهم، وجحدوا وكفروا وكتموا. »