القول في تأويل قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة » ، بالموت فتقبض أرواحهم أو أن يأتيهم ربك، يا محمد، بين خلقه في موقف القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: أو أن يأتيهم بعضُ آيات ربك. وذلك فيما قال أهل التأويل: طلوعُ الشمس من مغربها .

* ذكر من قال من أهل التأويل ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، يقول: عند الموت حين توفَّاهم « أو يأتي ربك » ، ذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: آية موجبة، طلوع الشمس من مغربها, أو ما شاء الله .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة , قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، يقول: بالموت « أو يأتي ربك » ، وذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، عند الموت « أو يأتي ربك » « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: طلوع الشمس من مغربها.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق قال، قال عبد الله في قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: يصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب، كالبعيرين القَرينين زاد ابن حميد في حديثه: « فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قَبْل أو كسبت في إيمانها خيرًا » ، وقال: « كالبعيرين المقترنين » . .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، تقبض الأنفس بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » .

 

القول في تأويل قوله : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « يوم يأتي بعض آيات ربك » , لا ينفع من كان قبل ذلك مشركًا بالله، أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية .

وقيل: إن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه أن الكافر لا ينفعه إيمانه عند مجيئها: طلوعُ الشمس من مغربها .

ذكر من قال ذلك، وما ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

حدثني عيسى بن عثمان الرملي قال، حدثنا يحيى بن عيسى, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، قال: طلوع الشمس من مغربها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, وجرير عن عمارة, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. قال: فإذا رآها الناس آمن من عليها, فتلك « حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري وإسحاق بن شاهين قالا أخبرنا خالد بن عبد الله الطحان, عن يونس, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: إنها تذهب إلى مستقرِّها تحت العرش, فتخرُّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » , فتصبح طالعة من مطلعها . ثم تجري إلى أن تنتهي إلى مستقرٍّ لها تحت العرش, فتخرّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » ، فتصبح طالعةً من مطلعها . ثم تجري لا ينكر الناسُ منها شيئًا, حتى تنتهي فتخرّ ساجدة في مستقر لها تحت العرش, فيصبح الناسُ لا ينكرون منها شيئًا, فيقال لها: « اطلعي من مغربك » فتصبح طالعة من مغربها. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ذاك يومَ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا مؤمل بن هشام ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية, عن يونس, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, نحوه .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن صفوان بن عسّال قال، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من قِبَل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه. فإذا طلعت الشمس من نحوه ، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. .

حدثنا المفضل بن إسحاق قال، حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد الإياميّ, عن أبيه, عن زبيد, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال المرادي قال: ذكرت التوبة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للتوبة بابٌ بالمغرب مسيرة سبعين عامًا أو: أربعين عامًا فلا يزال كذلك حتى يأتي بعض آيات ربك. .

حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال أنه قال: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, فإذا طلعت الشمس من مغربها, لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها الناس، آمن مَنْ عليها, فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمس من مغربها, فيومئذ يؤمن الناس كلهم أجمعون, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي عون, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال، التوبة مقبولة، ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا ضمضم بن زرعة, عن شريح بن عبيد, عن مالك بن يخامر, عن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن عمرو بن العاص, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: لا تزل التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت طُبِع على كل قلب بما فيه, وكُفي الناسُ العمل.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة وجعفر بن عون, بنحوه .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان التيمي, عن أبي زرعة قال، جلس ثلاثة من المسلمين إلى مروان بن الحكم بالمدينة, فسمعوه وهو يحدث عن الآيات: أن أولها خروجا الدجالُ، فانصرف القوم إلى عبد الله بن عمرو, فحدثوه بذلك, فقال: لم يقل مروان شيئًا! قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا لم أنسَه, لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها, أو خروج الدابة على الناس ضُحًى, أيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا . ثم قال عبد الله بن عمرو، وكان يقرأ الكتب: أظن أولهما خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فيؤذن لها في الرجوع, حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها، فعلت كما كانت تفعل، أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فلم يردَّ عليها شيئًا, فتفعل ذلك ثلاث مرات، لا يردّ عليها بشيء. حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب, وعرفت أن لو أذن لها لم تدرك المشرق, قالت: « ما أبعدَ المشرق! ربِّ، منْ لي بالناس » ! حتى إذا صار الأفق كأنه طَوْق، استأذنت في الرجوع, فقيل لها: « اطلعي من مكانك » ، فتطلع من مغربها . ثم قرأ: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، إلى آخر الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد أبي حيان, عن الشعبي, أن ثلاثة نفر دخلوا على مروان بن الحكم, فذكر نحوه, عن عبد الله بن عمرو.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعت عاصم بن أبي النجود، يحدث عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن حجاج, عن عاصم, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال قال: إذا طلعت الشمس من مغربها, فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش قال: غَدَوْتُ إلى صفوان بن عسال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب, عرضه مسيرة سبعين عامًا, فلا يزال مفتوحًا حتى تطلع من قبله الشمس . ثم قرأ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ، إلى: خَيْرًا .

حدثني الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث, عن جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز: أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من المغرب. قال: فإذا طلعت الشمس من المغرب آمن الناس كلهم، وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قُبِل منه .

حدثني المثنى قال، حدثنا فهد قال، حدثنا حماد, عن يونس بن عبيد, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس إذا غربت أتت تحت العرش فسجدت, فيقال لها: « اطلعي من حيث غربت » ، ثم قرأ هذه الآية: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ، إلى آخر الآية .

حدثني المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمارٍ, فنظر إلى الشمس حين غربت فقال: إنها تغرب في عين حامية, تنطلق حتى تخرّ لربها ساجدة تحت العرش، حتى يأذن لها, فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها, فتقول: يا ربِّ، إن مسيري بعيد! فيقول لها: اطلعي من حيث غربت ! فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة, عن موسى بن المسيب, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الشمس فقال: يوشك أن تجيء حتى تقف بين يدي الله, فيقول: « ارجعي من حيث جئت » ! فعند ذلك: « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فهو أنه لا ينفع مشركًا إيمانه عند الآيات, وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرًا قبل ذلك . قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً من العشيّات فقال لهم: يا عباد الله, توبوا إلى الله ، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قِبَل المغرب, فإذا فعلت ذلك، حُبِست التوبة، وطُوِي العمل، وخُتم الإيمان. فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آية تلكم الليلة، أن تطول كقدر ثلاث ليال, فيستيقظ الذين يخشون رَبهم، فيصلُّون له, ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض, ثم يأتون مضاجعهم فينامون. حتى إذا استيقظوا والليل مكانه, فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون بين يدي أمرٍ عظيم. فإذا أصبحوا وطال عليهم طلوع الشمس ، فبينا هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب, فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, أنه سمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها » ، الآية .

وبه قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن أبي عتيق, أنه سمع عبيد بن عمير يتلو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال، يقول: [ كنّا ] نُحدَّث، والله أعلم، أنها الشمس تطلع من مغربها قال ابن جريج، وأخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع عبيد بن عمير يقول ذلك قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الآية التي لا ينفع نفسًا إيمانها، إذا طلعت الشمس من مغربها . قال ابن جريج: وقال مجاهد ذلك أيضًا .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن قتادة, عن زرارة بن أوفى, عن ابن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث عن زرارة بن أوفى, عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف, عن ابن سيرين قال، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان عبد الله بن مسعود يقول: ما ذكر من الآيات فقد مضَين غير أربع: طلوع الشمس من مغربها, ودابة الأرض, والدجال, وخروج يأجوج ومأجوج ، والآية التي تختم بها الأعمال: طلوع الشمس من مغربها. ألم تر أن الله قال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، قال: فهي طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن أبي الضحى, عن مسروق قال: قال عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر, كأنهما بعيران مقرونان .

. . . . قال شعبة: وحدثنا قتادة, عن زرارة, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين المقترنين .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور والأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق عن عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين القرينين .

. . . وقال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وأبيه, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن عبد الله قال: التوبة مبسوطةٌ ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن أمِّ عبد كان يقول: لا يزال باب التوبة مفتوحًا حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا رأى الناس ذلك آمنوا, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا بشر قال، حدثنا عبد الله بن جعفر قال، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت آمن الناس كلهم, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عبيد بن عمير: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

. . . وقال، حدثنا أبي, عن الحسن بن عقبة، أبي كيران, عن الضحاك: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل قال، أخبرني أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن ابن مسعود في قوله: ( لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، قال: لا تزال التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر, عن القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، يقول: إذا جاءت الآيات لم ينفع نفسًا إيمانها. يقول: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن وهب بن جابر, عن عبد الله بن عمرو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها .

وقال آخرون: بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة, ويأجوج ومأجوج, وطلوع الشمس من مغربها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن المسعودي, عن القاسم قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: ما لم تطلع الشمس من مغربها, أو الدابة, أو فتح يأجوج ومأجوج .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا المسعودي, عن القاسم بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة, وطلوع الشمس من مغربها, وخروج يأجوج ومأجوج .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن عامر, عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات، طُرِحت الأقلام, وحُبِست الحفظة, وشهدت الأجساد على الأعمال .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أبيه, عن أبي حازم, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث إذا خرجت « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » : طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض .

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا معاوية بن عبد الكريم قال: حدثنا الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال ستًّا: طلوعَ الشمس من مغربها, والدجال، والدخَان, ودابة الأرض, وخُوَيِّصة أحدكم, وأمرَ العامة .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول, فذكر نحوه .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك, ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ذلك حين تطلع الشمس من مغربها » .

وأما قوله: ( أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فإنه يعني: أو عملت في تصديقها بالله خيرًا، من عمل صالح يصدِّق قِيلَه ويُحققه، من قبل طلوع الشمس من مغربها. لا ينفع كافرًا لم يكن آمن بالله قبل طلوعها كذلك، إيمانه بالله إن آمن وصدق بالله ورسله, لأنها حالة لا تمتنع نفسٌ من الإقرار بالله، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله, فحكم إيمانهم، كحكم إيمانهم عند قيام الساعة، وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله، لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار, ولا ينفع مَنْ كان بالله وبرسله مصدِّقًا، ولفرائض الله مضيعًا، غير مكتسب بجوارحه لله طاعة، إذا هي طلعت من مغربها أعمالُه إن عمل, وكسبُه إن اكتسب, لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، يقول: كسبت في تصديقها خيرًا، عملا صالحًا, فهؤلاء أهل القبلة . وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا، فعملت بعد أن رأت الآية، لم يقبل منها . وإن عملت قبل الآية خيرًا، ثم عملت بعد الآية خيرًا, قُبل منها .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: مَنْ أدركه بعضُ الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قَبِلَ الله منه العمل بعدَ نـزول الآية، كما قَبِلَ منه قبل ذلك .

 

القول في تأويل قوله : قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 158 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت فتقبض أرواحكم, أو أن يأتي ربكم لفصل القضاء بيننا وبينكم في موقف القيامة, أو أن يأتيكم طلوع الشمس من مغربها, فتطوى صحف الأعمال, ولا ينفعكم إيمانكم حينئذ إن آمنتم, حتى تعلموا حينئذ المحقَّ منا من المبطل, والمسيءَ من المحسن, والصادقَ من الكاذب, وتتبينوا عند ذلك بمن يحيق عذاب الله وأليم نكاله, ومَنْ الناجي منا ومنكم ومَنْ الهالك - إنا منتظرو ذلك, ليجزل الله لنا ثوابه على طاعتنا إياه, وإخلاصنا العبادة له, وإفرادناه بالربوبية دون ما سواه, ويفصل بيننا وبينكم بالحق, وهو خير الفاصلين .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 159 )

قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: ( فرقوا ) .

فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ما:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن دينار, أن عليًّا رضي الله عنه قرأ: « إنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير قال، قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

. . . وقال، حدثنا الحسن بن علي, عن سفيان, عن قتادة: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » .

وكأن عليًّا ذهب بقوله: « فارقوا دينهم » ، خرجوا فارتدوا عنه، من « المفارقة » .

وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود, كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن رافع, عن زهير قال، حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها: ( فَرَّقوا دِينَهُمْ ) .

وعلى هذه القراءة أعني قراءة عبد الله قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين . وكأنّ عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد, وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة, ففرّق ذلك اليهود والنصارى, فتهوّد قومٌ وتنصَّر آخرون, فجعلوه شيعًا متفرقة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان, قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة, وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك أن كل ضالّ فلدينه مفارق, وقد فرَّق الأحزابُ دينَ الله الذي ارتضاه لعباده, فتهود بعض وتنصر آخرون, وتمجس بعض. وذلك هو « التفريق » بعينه، ومصير أهله شيعًا متفرقين غير مجتمعين, فهم لدين الله الحقِّ مفارقون، وله مفرِّقون. فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب, غير أني أختار القراءة بالذي عليه عُظْم القرأة, وذلك تشديد « الراء » من « فرقوا » .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: ( إن الذين فرّقوا دينهم ) .

فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وكانوا شيعًا ) ، قال: يهود .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فرقوا دينهم ) ، قال: هم اليهود والنصارى.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، من اليهود والنصارى.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، هؤلاء اليهود والنصارى . وأما قوله: ( فارقوا دينهم ) ، فيقول: تركوا دينهم وكانوا شيعًا .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد، فتفرقوا. فلما بعث محمد أنـزل الله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، يعني اليهود والنصارى .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي, عن شيبان, عن قتادة: « فارقوا دينهم » ، قال: هم اليهود والنصارى .

وقال آخرون: عنى بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: ( إن الذين فرقوا دينهم ) ، قال: نـزلت هذه الآية في هذه الأمة .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، قال: هم أهل الصلاة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: كتب إليّ عباد بن كثير قال، حدثني ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، وليسوا منك, هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه, وكانوا فرقًا فيه وأحزابًا شيعًا, وأنه ليس منهم. ولا هم منه، لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام، دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ سورة الأنعام: 161 ] .

فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهودي ونصرانيّ ومتحنِّف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم, فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء, وهو داخل في عموم قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) .

وأما قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وُجوب فرض قتالهم, ثم نسخها الأمر بقتالهم في « سورة براءة » , وذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . [ سورة التوبة: 5 ] .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، لم يؤمر بقتالهم, ثم نسخت, فأمر بقتالهم في « سورة براءة » .

وقال آخرون: بل نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلامًا من الله له أنَّ من أمته من يُحْدث بعده في دينه. وليست بمنسوخة, لأنها خبرٌ لا أمر, والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مالك بن مغول, عن علي بن الأقمر, عن أبي الأحوص, أنه تلا هذه الآية: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، ثم يقول: بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم, عن مالك بن مغول, بنحوه .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا شجاع أبو بدر, عن عمرو بن قيس الملائي قال، قالت أم سلمة: ليتّق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ! ثم قرأت: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) قال عمرو بن قيس: قالها مُرَّة الطيِّب، وتلا هذه الآية .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: ( لست منهم في شيء ) ، إعلام من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء, ومن الأحزاب من مشركي قومه، ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم, لأنه غير محال أن في الكلام: « لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم. فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه, ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرًا فيقبض روحه, أو يقتله بيدك على كفره, ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدَمهم عليه » . وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم, وقوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، ولم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة، في كتابنا كتاب: « اللطيف عن أصول الأحكام » .

وأما قوله: ( إنما أمرهم إلى الله ) ، فإنه يقول: أنا الذي إليَّ أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا, والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك, دونك ودون كل أحد. إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها, وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم ( ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) ، يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليَّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون, المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .

 

القول في تأويل قوله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 160 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من وافَى ربَّه يوم القيامة في موقف الحساب، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا، بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته, وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال: من جاء بها فله عشر أمثالها .

ويعني بقوله: ( فله عشر أمثالها ) ، فله عشر حسنات أمثال حسنته التي جاء بها ( ومن جاء بالسيئة ) ، يقول: ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدِّين الحقّ والكفر بالله, فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء, كما وافى الله به من عمله السيئ ( وهم لا يظلمون ) ، يقول: ولا يظلم الله الفريقين، لا فريق الإحسان, ولا فريق الإساءة, بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان، ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له, لأنه جل ثناؤه حكيمٌ لا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يستحق أن يضعه فيه, ولا يجازي أحدًا إلا بما يستحقّ من الجزاء .

وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « الظلم » ، وضع الشيء في غير موضعه، بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع .

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما ذكرت، من أن معنى « الحسنة » في هذا الموضع: الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتصديق برسوله « والسيئة » فيه: الشرك به، والتكذيب لرسوله أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن؟ وإن كان له مثل، فكيف يجازى به, و « الإيمان » ، إنما هو عندك قول وعمل, والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الآخرة, والإنعام عليه بما أعدّ لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود, وذلك أعيان ترى وتعاين وتحسّ ويلتذّ بها, لا قول يسمع، ولا كسبُ جوارح؟

قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه, وإنما معناه: من جاء بالحسنة فوافَى الله بها له مطيعًا, فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها .

فإن قال: قلت فهل لقول « لا إله إلا الله » من الحسنات مثل؟

قيل: له مثل هو غيره, [ ولكن له مثل هو قول لا إله إلا الله ] , وذلك هو الذي وعد الله جل ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله. وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك, إلا أنه لا يجازى صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال رجل من القوم: فإنّ « لا إله إلا الله » حسنة؟ قال: نعم, أفضل الحسنات .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله .

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله قال: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: من جاء بلا إله إلا الله. قال: ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن الحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاوية بن عمرو المعنَّى، عن زائدة, عن عاصم, عن شقيق: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد وعن عثمان بن الأسود, عن مجاهد والقاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قالوا: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قالوا: بالشرك وبالكفر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن أبي معشر, عن إبراهيم, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم, مثله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أبي المحجل, عن أبي معشر قال: كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني: أنّ ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، من جاء بالشرك .

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء, في قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) قال: بالشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم جميعًا, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن عثمان بن الأسود, عن القاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الكفر .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن أشعث, عن الحسن: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله .

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، يقول: من جاء بلا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الأعمال ستة: مُوجِبة ومُوجِبة, ومُضْعِفة ومُضْعِفة, ومِثْل ومِثْل . فأما الموجبتان: فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة, ومن لقي الله مشركًا به دخل النار. وأما المضعف والمضعف: فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمئة ضعف, ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها . وأما مثل ومثل: فإذا همّ العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيئة .

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش, عن شمر بن عطية, عن شيخ من التيم, عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، علمني عملا يقرِّبني إلى الجنة ويباعدني من النار . قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة, فإنها عشر أمثالها . قال: قلت: يا رسول الله, « لا إله إلا الله » من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات .

وقال قوم: عني بهذه الآية الأعراب، فأما المهاجرون فإن حسناتهم سبعمئة ضعف أو أكثر .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري في قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: هذه للأعراب, وللمهاجرين سبعمئة .

حدثنا محمد أبو نشيط بن هارون الحربي قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي, عن عبد الله بن عمر قال: نـزلت هذه الآية في الأعراب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: قال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أعظم من ذلك: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، [ سورة النساء: 40 ] وإذا قال الله لشيء: « عظيم » , فهو عظيم .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع قال: نـزلت هذه الآية: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر، ويؤدّون عشر أموالهم. ثم نـزلت الفرائض بعد ذلك: صوم رمضان والزكاة .

فإن قال قائل: وكيف قيل « عشر أمثالها » , فأضيف « العشر » إلى « الأمثال » , وهي « الأمثال » ؟ وهل يضاف الشيء إلى نفسه؟

قيل: أضيفت إليها لأنه مرادٌ بها: فله عشر حسنات أمثالها, فـ « الأمثال » حلّت محل المفسّر, وأضيف « العشر » إليها, كما يقال: « عندي عشر نسوة » , فلأنه أريد بالأمثال مقامها، فقيل: « عشر أمثالها » , فأخرج « العشر » مخرج عدد الحسنات, و « المثل » مذكر لا مؤنث, ولكنها لما وضعت موضع الحسنات, وكان « المثل » يقع للمذكر والمؤنث, فجعلت خلفًا منها, فعل بها ما ذكرت. ومَنْ قال: « عندي عشر أمثالها » , لم يقل: « عندي عشر صالحات » , لأن « الصالحات » فعل لا يعدّ, وإنما تعدّ الأسماء. و « المثل » اسم, ولذلك جاز العدد به .

وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « فَلَهُ عَشْرٌ » بالتنوين، « أَمْثَالُهَا » بالرفع. وذلك على وجه صحيح في العربية, غير أن القرأة في الأمصار على خلافها, فلا نستجيز خلافها فيما هي عليه مُجْمِعة .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم, هو دين الله الذي ابتعثه به, وذلك الحنيفية المسلمة, فوفقني له ( دينًا قيمًا ) ، يقول: مستقيمًا ( ملة إبراهيم ) ، يقول: دين إبراهيم ( حنيفًا ) يقول: مستقيمًا ( وما كان من المشركين ) ، يقول: وما كان من المشركين بالله, يعني إبراهيم صلوات الله عليه, لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام .

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( دينًا قيمًا ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: « دِينًا قَيِّمًا » بفتح « القاف » وتشديد « الياء » ، إلحاقًا منهم ذلك بقول الله: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [ سورة التوبة: 36 / سورة يوسف: 40 / سورة الروم: 30 ] . وبقوله: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ سورة البينة: 5 ] .

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( دِينًا قِيَمًا ) بكسر « القاف » وفتح « الياء » وتخفيفها. وقالوا: « القيِّم » و « القِيَم » بمعنى واحد, وهم لغتان معناهما: الدين المستقيم .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيبٌ, غير أن فتح « القاف » وتشديد « الياء » أعجب إليّ, لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما .

ونصب قوله: ( دينًا ) على المصدر من معنى قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، وذلك أن المعنى: هداني ربي إلى دين قويم, فاهتديت له « دينا قيما » فالدين منصوب من المحذوف الذي هو « اهتديت » ، الذي ناب عنه قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) .

وقال بعض نحويي البصرة: إنما نصب ذلك، لأنه لما قال: ( هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، قد أخبر أنه عرف شيئًا, فقال: « دينًا قيمًا » ، كأنه قال: عرفت دينًا قيما ملّة إبراهيم .

وأما معنى الحنيف, فقد بينته في مكانه في « سورة البقرة » بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 162 ) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( 163 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الذين يسألونك أن تتبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان ( إن صلاتي ونسكي ) ، يقول: وذبحي ( ومحياي ) ، يقول: وحياتي ( ومماتي ) يقول: ووفاتي ( لله رب العالمين ) ، يعني: أن ذلك كله له خالصًا دون ما أشركتم به، أيها المشركون، من الأوثان ( لا شريك له ) في شيء من ذلك من خلقه, ولا لشيء منهم فيه نصيب, لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصًا ( وبذلك أمرت ) ، يقول: وبذلك أمرني ربي ( وأنا أول المسلمين ) ، يقول: وأنا أوّل من أقرَّ وأذْعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

* ذكر من قال: « النسك » ، في هذا الموضع، الذبح.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( إن صلاتي ونسكي ) ، قال: « النسك » ، الذبائح في الحج والعمرة .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ونسكي ) ، ذبحي في الحج والعمرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ونسكي ) ، ذبيحتي في الحج والعمرة .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل, وليس بابن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن إسماعيل, عن سعيد بن جبير في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير قال ابن مهدي: لا أدري من « إسماعيل » هذا ! ( صلاتي ونسكي ) ، قال: صلاتي وذبيحتي .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: وذبيحتي .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ونسكي ) ، قال: ذبحي .

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ونسكي ) ، قال: ذبيحتي .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: « الصلاة » ، الصلاة, و « النسك » ، الذبح .

وأما قوله: ( وأنا أوّل المسلمين ) ، فإن:-

محمد بن عبد الأعلى حدثنا قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر، عن قتادة: ( وأنا أول المسلمين ) ، قال: أول المسلمين من هذه الأمة .

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان, الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان ( أغير الله أبغي ربًّا ) ، يقول: أسوى الله أطلب سيدًا يسودني ؟ ( وهو رب كل شيء ) ، يقول: وهو سيد كل شيء دونه ومدبّره ومصلحه ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ، يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة، سواها, بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها, ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها .

وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم. يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم, وعليكم عقوبة إجرامكم, ولنا جزاء أعمالنا . وهذا كما أمره الله جل ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون:6 ] ، وذلك كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: كان في ذلك الزمان، لا مخرج للعلماء العابدين إلا إحدى خَلَّتين: إحداهما أفضل من صاحبتها. إمَّا أمرٌ ودعاء إلى الحق, أو الاعتزال فلا تشارك أهل الباطل في عملهم, وتؤدي الفرائض فيما بينك وبين ربك, وتحبّ لله وتبغض لله, ولا تشارك أحدًا في إثم . قال: وقد أنـزل في ذلك آية محكمة: ( قل أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء ) ، إلى قوله: فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وفي ذلك قال: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [ سورة البينة: 4 ] .

يقال من « الوزر » « وزَر يَزِر » , « و وزَرَ يَوْزَر » , و « وُزِرَ يُؤزر، فهو موزور » .

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 164 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان: كل عامل منا ومنكم فله ثواب عمله، وعليه وزره, فاعملوا ما أنتم عاملوه - ( ثم إلى ربكم ) ، أيها الناس ( مرجعكم ) ، يقول: ثم إليه مصيركم ومنقلبكم ( فينبئكم بما كنتم فيه ) ، في الدنيا, ( تختلفون ) من الأديان والملل, إذ كان بعضكم يدين باليهودية, وبعضٌ بالنصرانية, وبعض بالمجوسية, وبعض بعبادة الأصنام وادِّعاء الشركاء مع الله والأنداد, ثم يجازي جميعَكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شر, فتعلموا حينئذ من المحسنُ منَّا والمسيء .

 

القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله الذي جعلكم، أيها الناس، ( خلائفَ الأرض ) ، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية, واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض, تخلفونهم فيها, وتعمرُونها بعدَهم .

و « الخلائف » جمع « خليفة » , كما « الوصائف » جمع « وصيفة » , وهي من قول القائل: « خَلَف فلان فلانًا في داره يخلُفه خِلافة، فهو خليفة فيها » , كما قال الشماخ:

تُصِيبُهُـــمُ وَتُخْـــطِئُنِي المَنَايــا وَأَخْــلُفُ فِـي رُبُـوعٍ عَـنْ رُبُـوعِ

وذلك كما:-

حدثني الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) ، قال: أما « خلائف الأرض » ، فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم .

وأما قوله: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم, فجعل بعضكم فوق بعض, بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا, وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى, فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا . وذلك كالذي:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، يقول: في الرزق .

وأما قوله: ( ليبلوكم في ما آتاكم ) ، فإنه يعني: ليختبركم فيما خوَّلكم من فضله ومنحكم من رزقه, فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه، والعاصي؛ ومن المؤدِّي مما آتاه الحق الذي أمره بأدائه منه، والمفرِّط في أدائه .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 165 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « إن ربك » ، يا محمد، لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه، وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه, ولمن ابتلى منه فيما منحه من فضله وطَوْله, تولِّيًا وإدبارًا عنه, مع إنعامه عليه، وتمكينه إياه في الأرض, كما فعل بالقرون السالفة ( وإنه لغفور ) ، يقول: وإنه لساتر ذنوبَ مَنْ ابتلى منه إقبالا إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة, واختباره إياه بأمره ونهيه, فمغطٍّ عليه فيها، وتارك فضيحته بها في موقف الحساب ( رحيم ) بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه، إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه.

آخر تفسير سورة الأنعام