القول في تأويل قوله : قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 )

قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به, واعترافِهما على أنفسهما بالذنب, ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة, خلاف جواب اللعين إبليس إياه.

ومعنى قوله: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا ) ، قال: آدم وحواء لربهما: يا ربنا، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك، وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك, فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها ( وإن لم تغفر لنا ) ، يقول: وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا، وتترك فضيحتنا به بعقوبتك إيانا عليه « وترحمنا » ، بتعطفك علينا, وتركك أخذنا به ( لنكونن من الخاسرين ) ، يعني: لنكونن من الهالكين.

وقد بيَّنا معنى « الخاسر » فيما مضى بشواهده، والرواية فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال آدم عليه السلام: يا رب, أرأيتَ إن تبتُ واستغفرتك؟ قال: إذًا أدخلك الجنة . وأما إبليس فلم يسأله التوبة, وسأل النَّظِرة, فأعطى كلَّ واحد منهما ما سأل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا ) ، الآية, قال: هي الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربه.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( 24 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذريته، وآدم وولده، والحية.

يقول تعالى ذكره لآدم وحواء وإبليس والحية: اهبطوا من السماء إلى الأرض، بعضكم لبعض عدوّ، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن طلحة, عن أسباط, عن السدي: ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) ، قال: فلعنَ الحية, وقطع قوائمها, وتركها تمشي على بطنها, وجعل رزقها من التراب, وأهبطوا إلى الأرض: آدم، وحواء، وإبليس، والحية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي عوانة, عن إسماعيل بن سالم, عن أبي صالح: ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ) ، قال: آدم، وحواء، والحية.

وقوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، يقول: ولكم، يا آدم وحواء، وإبليس والحية في الأرض قرارٌ تستقرونه، وفراش تمتهدونه، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا ، [ سورة البقرة: 22 ] .

وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:-

حدثت عن عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عباس قوله: ( ولكم في الأرض مستقر ) ، قال: القبور.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ آدم وحواءَ وإبليس والحية، إذ أهبطوا إلى الأرض: أنهم عدوٌّ بعضهم لبعض, وأن لهم فيها مستقرًّا يستقرون فيه, ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرًّا في حال حياتهم دون حال موتهم, بل عمَّ الخبرَ عنها بأن لهم فيها مستقرًّا, فذلك على عمومه، كما عمّ خبرُ الله, ولهم فيها مستقر في حياتهم على ظهرها، وبعد وفاتهم في بطنها, كما قال جل ثناؤه: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ، [ سورة المرسلات: 25- 26 ] .

وأما قوله: ( ومتاع إلى حين ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: « ولكم فيها متاع » ، تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا, وذلك هو الحين الذي ذكره، كما:-

حدثت عن عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل, عن السدي, عمن حدثه, عن ابن عباس: ( ومتاع إلى حين ) ، قال: إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا.

و « الحين » نفسه: الوقت, غير أنه مجهول القدر ، يدل على ذلك قول الشاعر:

وَمَـا مِرَاحُـكَ بَعْـدَ الْحِـلْمِ وَالـدِّينِ وَقَـدْ عَـلاكَ مَشِـيبٌ حِـينَ لا حِـينِ

أي وقت لا وقت.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( 25 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: ( فيها تحيون ) ، يقول: في الأرض تحيون, يقول: تكونون فيها أيام حياتكم ( وفيها تموتون ) ، يقول في الأرض تكون وفاتكم, ( ومنها تخرجون ) ، يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء.

 

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرَّون للطواف، اتباعًا منهم أمرَ الشيطان، وتركًا منهم طاعةَ الله, فعرفهم انخداعهم بغروره لهم، حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعمَ به عليهم, حتى أبدى سوءاتهم وأظهرها من بعضهم لبعض, مع تفضل الله عليهم بتمكينهم مما يسترونها به, وأنهم قد سار بهم سيرته في أبويهم آدم وحواء اللذين دلاهما بغرور حتى سلبهما ستر الله الذي كان أنعم به عليهما حتى أبدى لهما سوءاتهما فعرّاهما منه: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا ) ، يعني بإنـزاله عليهم ذلك، خلقَه لهم, ورزقه إياهم و « اللباس » ما يلبسون من الثياب ( يواري سوآتكم ) يقول: يستر عوراتكم عن أعينكم وكنى بـ « السوءات » ، عن العورات.

واحدتها « سوءة » , وهي « فعلة » من « السوء » , وإنما سميت « سوءة » ، لأنه يسوء صاحبها انكشافُها من جسده, كما قال الشاعر:

خَــــرَقُوا جَـــيْبَ فَتَـــاتِهِمُ لَـــمْ يُبَــالُوا سَــوْءَةَ الرَّجُلَــهْ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( لباسًا يواري سوآتكم ) قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراةً, ولا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ) ، قال: أربع آيات نـزلت في قريش. كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف قال: سمعت معبدًا الجهني يقول في قوله: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا ) ، قال: اللباس الذي تلبسون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: كانت قريش تطوف عراة, لا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه. وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: ( يا بني آدم قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: اللباس الذي يواري سوءاتكم: وهو لَبُوسكم هذه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لباسًا يواري سوآتكم ) قال: هي الثياب.

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، حدثني مَنْ سمع عروة بن الزبير يقول، اللباس: الثياب.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوآتكم ) قال: يعني ثيابَ الرجل التي يلبسها.

 

القول في تأويل قوله : وَرِيشًا

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَرِيشًا ) ، بغير « ألف » .

وذكر عن زر بن حبيش والحسن البصري: أنهما كانا يقرآنه: « وَرِياشًا » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث, عن أبان العطار قال، حدثنا عاصم: أن زر بن حبيش قرأها: « وَرِياشًا » .

قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك، قراءة من قرأ: ( وَرِيشًا ) بغير « ألف » ، لإجماع الحجة من القرأة عليها.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرٌ في إسناده نظر: أنه قرأه: « وَرِياشًا » .

فمن قرأ ذلك: « وَرِياشًا » فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع « الريش » , كما تجمع « الذئب » ، « ذئابًا » ، و « البئر » « بئارًا » .

ويحتمل أن يكون أراد به مصدرًا، من قول القائل: « راشه الله يَريشه رياشًا ورِيشًا » , كما يقال: « لَبِسه يلبسه لباسًا ولِبْسًا » ، وقد أنشد بعضهم:

فَلَمــا كَشَـفْنَ اللِّبْسَ عَنْـهُ مَسَـحْنَهُ بِـأَطْرَافِ طَفْـلٍ زَانَ غَيْـلا مُوَشَّـمَا

بكسر « اللام » من « اللبس » .

و « الرياش » ، في كلام العرب، الأثاث، وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يُحْشى من فراش أو دِثَار.

و « الريش » إنما هو المتاع والأموال عندهم. وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال. يقولون: « أعطاه سرجًا بريشه » , و « رحْلا بريشه » ، أي بكسوته وجهازه. ويقولون: « إنه لحسن ريش الثياب » ، وقد يستعمل « الرياش » في الخصب ورَفاهة العيش.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال: « الرياش » ، المال:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وريشًا ) ، يقول: مالا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وريشًا ) ، قال: المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ورياشًا » ، قال: أما « رياشًا » ، فرياش المال.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: « الرياش » ، المال.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: « ورياشًا » ، يعني، المال.

* ذكر من قال: هو اللباس ورفاهة العيش.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ورياشًا » ، قال: « الرياش » ، اللباس والعيش والنَّعيم.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني: « ورياشًا » ، قال: « الرياش » ، المعاش.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني: « ورياشًا » ، قال: هو المعاش.

وقال آخرون: « الريش » ، الجمال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ورياشًا » ، قال: « الريش » ، الجمال.

 

القول في تأويل قوله : وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: « لباس التقوى » ، هو الإيمان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولباس التقوى ) ، هو الإيمان.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج, عن ابن جريج: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان.

وقال آخرون: هو الحياء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف, عن عوف, عن معبد الجهني في قوله: ( ولباس التقوى ) ، الذي ذكر الله في القرآن، هو الحياء.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني, فذكر مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن معبد، بنحوه.

وقال آخرون: هو العمل الصالح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ولباس التقوى ذلك خير ) ، قال: لباس التقوى: العمل الصالح.

وقال آخرون: بل ذلك هو السَّمْت الحسن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود, عن محمد بن موسى, عن . . . . بن عمرو, عن ابن عباس: ( ولباس التقوى ) ، قال: السمت الحسن في الوجه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن سليمان بن أرقم, عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه قميصٌ قُوهيّ محلول الزرّ, وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام, ثم قال: يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر, فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحدٌ قط سرًّا إلا ألبسه الله رداءَ علانيةٍ, إن خيرًا فخيرًا, وإن شرًّا فشرًا » ، ثم تلا هذه الآية: « وَرِيَاشًا » ولم يقرأها: وَرِيشًا

( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) ، قال: السمتُ الحسن.

وقال آخرون: هو خشية الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدنى قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: ( لباس التقوى ) ، خشية الله.

وقال آخرون: ( لباس التقوى ) ، في هذه المواضع، ستر العورة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولباس التقوى ) ، يتقي الله، فيواري عورته, ذلك « لباس التقوى » .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة المكيين والكوفيين والبصريين: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) ، برفع « ولباس » .

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: « وَلِبَاسَ التَّقْوَى » ، بنصب « اللباس » , وهي قراءة بعض قرأة الكوفيين.

فمن نصب: « ولباس » ، فإنه نصبه عطفًا على « الريش » ، بمعنى: قد أنـزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا, وأنـزلنا لباسَ التقوى.

وأما الرفع, فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به « اللباس » .

فكان بعض نحويي البصرة يقول: هو مرفوع على الابتداء, وخبره في قوله: ( ذلك خير ) . وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال: هذا غلط, لأنه لم يعد على « اللباس » في الجملة عائد, فيكون « اللباس » إذا رفع على الابتداء وجعل « ذلك خير » خبرًا.

وقال بعض نحويي الكوفة: ( ولباس ) ، يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل « ذلك » من نعته.

قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في رافع « اللباس » ، لأنه لا وجه للرفع إلا أن يكون مرفوعًا بـ « خير » ، وإذا رفع بـ « خير » لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل « اللباس » نعتًا, لا أنه عائد على « اللباس » من ذكره في قوله: ( ذلك خير ) ، فيكون خير مرفوعًا بـ « ذلك » ، و « ذلك » ، به.

فإذ، كان ذلك كذلك, فتأويل الكلام إذا رفع « لباس التقوى » : ولباس التقوى ذلك الذي قد علمتموه، خير لكم يا بني آدم، من لباس الثياب التي تواري سوءاتكم, ومن الرياش التي أنـزلناها إليكم، هكذا فالبَسوه.

وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا, فإنه: « يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى » ، هذا الذي أنـزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم, والريش, ولباس التقوى خير لكم من التعرِّي والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت, فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش, ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعرِّي من الثياب, فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة, كما فعل بأبويكم آدم وحواء، فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له، في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصَياه بأكلها.

قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, أعني نصب قوله: « وَلِبَاسَ التَّقْوَى » ، لصحة معناه في التأويل على ما بيّنت, وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنـزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش، توبيخًا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت, ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال، مع الإيمان به واتباع طاعته ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله، وتعرِّيهم, لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنـزل إليهم خيرٌ من بعض.

وما يدل على صحة ما قلنا في ذلك، الآيات التي بعد هذه الآية, وذلك قوله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، فإنه جل ثناؤه يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب، واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي، وبالإيمان به، واتباع أمره والعمل بطاعته, وينهى عن الشرك به واتباع أمر الشيطان ، مؤكدًا في كل ذلك ما قد أجمله في قوله: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْـزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله: « ولباس التقوى » ، استشعار النفوس تقوى الله، في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته ، وذلك يجمع الإيمان، والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمتَ الحسن, لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمنًا، وبما أمره به عاملا ومنه خائفًا، وله مراقبًا, ومن أن يُرَى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا. ومَنْ كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه, فحسن سَمْته وهَدْيه، ورُئِيَتْ عليه بهجة الإيمان ونوره.

وإنما قلنا: عنى بـ « لباس التقوى » ، استشعارَ النفس والقلب ذلك لأن « اللباس » ، إنما هو ادِّراع ما يلبس، واجتياب ما يكتسى, أو تغطية بدنه أو بعضه به. فكل من ادَّرع شيئًا واجتابهُ حتى يُرَى عَيْنه أو أثرُه عليه, فهو له « لابس » . ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسًا، وهن لهم لباسًا, وجعل الليل لعباده لباسًا.

* ذكر من تأول ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله، إذا قرئ قوله: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ) ، رفعًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولباس التقوى ) ، الإيمان ( ذلك خير ) ، يقول: ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوءاتكم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولباس التقوى ) ، قال: لباس التقوى خير, وهو الإيمان.

 

القول في تأويل قوله : ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 26 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أنّي أنـزلته إليكم، أيها الناس، من اللباس والرياش، من حجج الله وأدلته التي يعلم بها مَنْ كفر صحة توحيد الله, وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة ( لعلهم يذكرون ) ، يقول جل ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلا على ما وصفت، ليذكروا فيعتبروا وينيبوا إلى الحق وترك الباطل, رحمة مني بعبادي.

 

القول في تأويل قوله : يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوءاتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم, كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما، فأخرجهما بما سبَّب لهما من مكره وخدعه، من الجنة, ونـزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس، ليريهما سوءاتهما بكشف عورتهما، وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترةً.

وقد بينا فيما مضى أن معنى « الفتنة » ، الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته.

وقد اختلف أهل التأويل في صفة « اللباس » الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه نـزعه عن أبوينا، وما كان.

فقال بعضهم: كان ذلك أظفارًا.

* ذكر من لم يذكر قوله فيما مضى من كتابنا هذا في ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عكرمة: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: لباس كل دابة منها, ولباس الإنسان الظُّفر, فأدركت آدم التوبة عند ظُفُره أو قال: أظفاره.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني, عن نضر أبي عمر, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: تركت أظفاره عليه زينة ومنافع، في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) .

حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، أخبرنا مخلد بن الحسين, عن عمرو بن مالك, عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نـزع عنهما, وتركت الأظفار تذكرة وزينة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: كان لباسه الظفر, فانتهت توبته إلى أظفاره.

وقال آخرون: كان لباسهما نورًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن وهب بن منبه: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، النور.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ) قال: كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما, لا يرى هذا عورة هذه, ولا هذه عورة هذا.

وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، يسلبهما تقوى الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مطلب بن زياد, عن ليث, عن مجاهد: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: التقوى.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ينـزع عنهما لباسهما ) ، قال: التقوى.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحواء, وأن يجرِّدهم من لباس الله الذي أنـزله إليهم, كما نـزع عن أبويهم لباسهما. « اللباس » المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس, وهو ما اجتابَ فيه اللابس من أنواع الكُسي, أو غطى بدنه أو بعضه.

وإذ كان ذلك كذلك, فالحق أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحواء من لباسهما الذي نـزعه عنهما الشيطان، هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعوْرَتهما . وقد يجوز أن يكون ذلك كان ظفرًا ويجوز أن يكون كان ذلك نورًا ويجوز أن يكون غير ذلك ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك تثبت به الحجة, فلا قول في ذلك أصوب من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه: ( ينـزع عنهما لباسهما ) .

وأضاف جل ثناؤه إلى إبليس إخراجَ آدم وحواء من الجنة, ونـزعَ ما كان عليهما من اللباس عنهما، وإن كان الله جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه, إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تسْنيةِ ذلك لهما بمكره وخداعه, فأضيف إليه أحيانًا بذلك المعنى, وإلى الله أحيانًا بفعله ذلك بهما.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 27 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو و « الهاء » في « إنه » عائدة على الشيطان و « قبيله » ، يعني: وصنفه وجنسه الذي هو منه واحدٌ جمع جيلا وهم الجن، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ( إنه يراكم هو وقبيله ) ، قال: الجن والشياطين.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنه يراكم هو وقبيله ) ، قال: « قبيله » ، نسله.

وقوله: ( من حيث لا ترونهم ) ، يقول: من حيث لا ترون أنتم، أيها الناس، الشيطان وقبيله ( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ) ، يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحِّدون الله ولا يصدقون رسله.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 28 )

قال أبو جعفر: ذكر أن معنى « الفاحشة » ، في هذا الموضع, ما:-

حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا أبو محياة، عن منصور, عن مجاهد: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة, يقولون: « نطوف كما ولدتنا أمهاتنا » , فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء، فتقول:

الْيَــوْمَ يَبْــدُو بَعْضُــهُ أَوْ كُلُّــهُ فَمَــا بَــدَا مِنْــهُ فَــلا أُحِلُّــهُ

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد في قوله: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن مفضل, عن منصور, عن مجاهد, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير والشعبي: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ) ، قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة, فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا, والله أمرنا بها.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وإذا فعلوا فاحشة ) ، قال: طوافهم بالبيت عراة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: في طواف الحُمْس في الثياب، وغيرهم عراة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) ، قال: كان نساؤهم يطفن بالبيت عراة, فتلك الفاحشة التي وجدوا عليها آباءهم: ( قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ) ، الآية.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله، الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء، قبيحًا من الفعل، وهو « الفاحشة » , وذلك تعرِّيهم للطواف بالبيت وتجردهم له, فعُذِلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه, قالوا: « وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا, فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون, ونقتدي بهديهم، ونستنّ بسنتهم, والله أمرنا به, فنحن نتبع أمره فيه » .

يقول الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهم: « إن الله لا يأمر بالفحشاء » , يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها « أتقولون » ، أيها الناس، « على الله ما لا تعلمون » ، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف, وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟

 

القول في تأويل قوله : قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبًا على الله: ما أمر ربي بما تقولون, بل ( أمر ربي بالقسط ) ، يعني: بالعدل، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل أمر ربي بالقسط ) ، بالعدل.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( قل أمر ربي بالقسط ) ، والقسط: العدل.

وأما قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله . فقال بعضهم: معناه: وجِّهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، إلى الكعبة حيثما صليتم، في الكنيسة وغيرها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة، في كنائسكم وغيرها.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، هو « المسجد » ، الكعبة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن, عن عمر بن ذر, عن مجاهد في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: الكعبة، حيثما كنت.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: أقيموها للقبلة، هذه القبلة التي أمركم الله بها.

وقال آخرون: بل عنى بذلك: واجعلوا سجودكم لله خالصًا، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.

ذكر من قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ) ، قال: في الإخلاص، أن لا تدعوا غيره, وأن تخلصوا له الدين.

قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما قاله الربيع: وهو أن القوم أُمِروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم, لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام, وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصًا, لا مُكاءً ولا تصدية.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله إنما خاطب بهذه الآية قومًا من مشركي العرب، لم يكونوا أهل كنائس وبيع, وإنما كانت الكنائس والبِيَع لأهل الكتابين. فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بِيعة: « وجِّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بِيعةٍ » .

وأما قوله: ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة, لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكًا، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( وادعوه مخلصين له الدين ) ، قال: أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل, ثم توجِّهون إلى البيت الحرام.

 

القول في تأويل قوله : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ( 29 ) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .

فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسُعَداء, كذلك تبعثون يوم القيامة.

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة ) ، قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا, كما قال جل ثناؤه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، [ سورة التغابن: 2 ] ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنًا وكافرًا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور قال، حدثنا أصحابنا, عن ابن عباس: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المؤمن مؤمنًا, والكافر كافرًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن الضريس, عن أبي جعفر, عن الربيع, عن رجل, عن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه, المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية قال: عادوا إلى علمه فيهم, ألم تسمع إلى قول الله فيهم: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ؟ ألم تسمع قوله: ( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) ؟.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: رُدُّوا إلى علمه فيهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: من ابتدأ الله خلقه على الشِّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة, كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء, كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئ عليه خلقهم.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن وِقَاء بن إياس أبي يزيد, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا, والكافر كافرًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان, عن أبي يزيد, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: يبعث المسلم مسلمًا, والكافر كافرًا.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة ) ، يقول: كما بدأكم تعودون، كما خلقناكم, فريق مهتدون، وفريق ضال, كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.

حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تُبعث كل نفس على ما كانت عليه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما كتب عليكم تكونون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد بن زيد, عن ليث, عن مجاهد قال، يبعث المؤمن مؤمنًا, والكافر كافرًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، شقيًّا وسعيدًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد, مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: كما خلقكم ولم تكونوا شيئًا، تعودون بعد الفناء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن عوف, عن الحسن: ( كما بدأكم تعودون ) ، قال: كما بدأكم ولم تكونوا شيئًا فأحياكم, كذلك يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن عوف, عن الحسن: ( كما بدأكم تعودون ) ، قال: كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئًا, ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( كما بدأكم تعودون فريقًا هدى ) ، يقول: كما خلقناكم أول مرة، كذلك تعودون.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، يحييكم بعد موتكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ، قال: كما خلقهم أولا كذلك يعيدهم آخرًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, القولُ الذي قاله من قال: معناه: كما بدأكم الله خلقًا بعد أن لم تكونوا شيئًا، تعودون بعد فنائكم خلقًا مثله, يحشركم إلى يوم القيامة لأن الله تعالى ذكره: أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم بما في هذه الآية قومًا مشركين أهلَ جاهلية، لا يؤمنون بالمعاد، ولا يصدِّقون بالقيامة. فأمره أن يدعوهم إلى الإقرار بأن الله باعثهم يوم القيامة، ومثيبُ مَنْ أطاعه، ومعاقبُ مَنْ عصاه. فقال له: قل لهم: أمرَ ربي بالقسط, وأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد, وأن ادعوه مخلصين له الدين, وأن أقرُّوا بأنْ كما بدأكم تعودون فترك ذكر « وأن أقروا بأن » . كما ترك ذكر « أن » مع « أقيموا » , إذ كان فيما ذكر دلالة على ما حذف منه.

وإذ كان ذلك كذلك, فلا وجه لأن يؤمر بدعاء مَنْ كان جاحدًا النشورَ بعد الممات، إلى الإقرار بالصفة التي عليها ينشر مَنْ نُشِر, وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك مَنْ كان بالبعث مصدّقًا, فأما مَنْ كان له جاحدًا، فإنما يدعى إلى الإقرار به، ثم يعرَّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:-

حدثناه محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُحْشر الناس عُراة غُرْلا وأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ، [ سورة الأنبياء: 104 ]

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة, فقال: يا أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حُفَاة غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ .

ما يبيِّن صحة القول الذي قلنا في ذلك, من أن معناه: أن الخلقَ يعودون إلى الله يوم القيامة خلقًا أحياء، كما بدأهم في الدنيا خلقًا أحياء.

يقال منه: « بدأ الله الخلق يبدؤهم وأبدأَهُم يُبْدِئهم إبداءً » ، بمعنى خلقهم, لغتان فصيحتان.

ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه، وجرى به فيهم قضاؤه, فقال: هدى الله منهم فريقًا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون, وحقَّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد, باتخاذهم الشيطان من دون الله وليًّا.

وإذا كان التأويل هذا, كان « الفريق » الأول منصوبًا بإعمال « هدى » فيه, و « الفريق » ، الثاني بوقوع قوله: « حق » على عائد ذكره في « عليهم » , كما قال جل ثناؤه: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ، [ سورة الإنسان: 31 ]

ومن وجه تأويل ذلك إلى أنه: كما بدأكم في الدنيا صنفين: كافرًا, ومؤمنًا, كذلك تعودون في الآخرة فريقين: فريقًا هدى، وفريقًا حق عليهم الضلالة نصب « فريقًا » ، الأول بقوله: « تعودون » , وجعل الثاني عطفًا عليه. وقد بينا الصواب عندنا من القول فيه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ( 30 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجارُوا عن قصد المحجة, باتخاذهم الشياطين نُصراء من دون الله، وظُهراء, جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق, وأن الصواب ما أتوه وركبوا.

وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك, لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.