القول في تأويل قوله : أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ( 68 ) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 69 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي » ، أؤدي ذلك إليكم، أيها القوم « وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ » ، يقول: وأنا لكم في أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة، ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت كما أمرت « أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم » ، يقول: أوعجبتم أن أنـزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، يقول: فاتقوا الله في أنفسكم، واذكروا ما حلّ بقوم نوح من العذاب إذ عصوا رسولهم، وكفروا بربهم، فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لمّا أهلكهم أبدلكم منهم فيها، فاتقوا الله أن يحلّ بكم نظير ما حل بهم من العقوبة، فيهلككم ويبدل منكم غيركم، سنَّته في قوم نوح قبلكم، على معصيتكم إياه وكفركم به « وزادكم في الخلق بسطة » ، زاد في أجسامكم طولا وعِظَمًا على أجسام قوم نوح، وفي قواكم على قواهم، نعمة منه بذلك عليكم، فاذكروا نعمه وفضله الذي فضلكم به عليهم في أجسامكم وقُوَاكم، واشكروا الله على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأنداد « لعلكم تفلحون » ، يقول: كي تفلحوا فتدركوا الخلود والبقاء في النعم في الآخرة، وتنجحوا في طلباتكم عنده.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: « واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح » ، أي: ساكني الأرض بعد قوم نوح.

وبنحو الذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: « بسطة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وزادكم في الخلق بسطة » ، قال: ما لقوّةِ قوم عاد.

وأما « الآلاء » ، فإنها جمع، واحدها: « إلًى » بكسر « الألف » في تقدير « مِعًى » ، ويقال: « ألَى » في تقدير « قَفَا » بفتح « الألف » . وقد حكي سماعًا من العرب: « إلْي » مثل « حِسْي » . و « الآلاء » ، النعم.

وكذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فاذكروا آلاء الله » ، أي: نعم الله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما « آلاء الله » ، فنعم الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فاذكروا آلاء الله » ، قال: آلاؤه، نعمه.

قال أبو جعفر: و « عاد » ، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من عنده، هم، فيما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.

وكانت مساكنهم الشِّحْر، من أرض اليمن وما وَالى بلاد حضرموت إلى عُمَان، كما:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، ذا أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف. قال: و « الأحقاف » ، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله. وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من دون الله: صنم يقال له « صُداء » ، وصنم يقال له « صَمُود » ، وصنم يقال له « الهباء » . فبعث الله إليهم هودًا، وهو من أوْسطهم نسبًا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحِّدوا الله ولا يجعلوا معه إلهًا غيره، وأن يكفُّوا عن ظلم الناس. ولم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك. فأبوا عليه وكذبوه. وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً . واتبعه منهم ناسٌ، وهم يسيرٌ مكتتمون بإيمانهم. وكان ممن آمن به وصدّقه رجلٌ من عاد يقال له: « مرثد بن سعد بن عفير » ، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيَّهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبَّروا وبنوا بكل رِيع آية عبَثًا بغير نفع، كلمهم هود فقال: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [ سورة الشعراء: 128- 131 ] ، قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي ، إلى قوله: صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سورة هود: 53- 56 ] . فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر من السَّماء ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نـزل بهم بلاء أو جَهْد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طَلِبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثيرٌ شتى مختلفةٌ أديانُهم، وكلهم معظّم لمكة، يعرف حُرْمتها ومكانَها من الله.

قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق وإنما سموا « العماليق » ، لأن أباهم: « عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح » وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة، فيما يزعمون رجلا يقال له معاوية بن بكر، وكان أبوه حيًّا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه. وكان السؤدد والشرف من العماليق، فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت. وكانت أم معاوية بن بكر، كلهدة ابنة الخيبري، رجلٍ من عادٍ، فلما قَحَطَ المطر عن عاد وجُهِدوا، قالوا: جهزوا منكم وفدًا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم! فبعثوا قيل بن عنـز ولقيم بن هزّال بن هزيل، وعتيل بن صُدّ بن عاد الأكبر. ومرثد بن سعد بن عفير، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، وجُلْهُمَة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر أخو أمه. ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صُدّ بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدّة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نـزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم، فأنـزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وصِهْرَه.

فلما نـزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان قينتان لمعاوية بن بكر. وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون عليّ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له، فيظنوا أنه ضِيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك مَنْ وراءهم من قومهم جَهْدًا وعَطَشا!! أو كما قال. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرًا نُغنِّيهم به، لا يدرون مَنْ قاله، لعل ذلك أن يحرِّكهم! فقال معاوية بن بكر، حين أشارتا عليه بذلك:

أَلا يَــا قَيْـلَ, ويْحَـكَ! قُـمْ فَهَيْنِـمْ لَعَــلَّ اللــهَ يُصْبِحُنَــا غَمَامَــا

فَيَسْــقِي أَرْضَ عَــادٍ, إنَّ عَــادًا قَــدَ امْسَــوا لا يُبِينُــونَ الكَلامَـا

مِــنَ الْعَطَشِ الشَّـدِيدِ, فَلَيْسَ نَرْجُـو بِــهِ الشَّــيْخَ الكَبِـيرَ وَلا الغُلامَــا

وَقــدْ كَــانَتْ نِسَــاؤُهُمُ بِخَــيْرٍ فَقَــدْ أَمْسَــتْ نِسَــاؤُهُمُ عَيَـامَى

وَإنَّ الْوَحْـــشَ تَــأتِيهِمْ جِهَــارًا وَلا تَخْشَـــى لِعَـــادِيٍّ سِــهَامَـا

وَأنْتُــمْ هَــا هُنَـا فِيمَـا اشْـتَهَيْتُمْ نَهَــــارَكُمُ وَلَيْلَكُـــمُ التَّمَامَـــا

فَقُبِّــحَ وَفْــدُكُمْ مِــنْ وَفْـدِ قَـوْمٍ وَلا لُقُّـــوا التَّحِيَّـــةَ وَالسَّــلامَا

فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان. فلما سمع القوم ما غنَّتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومُكم يتعوَّذون بكم من هذا البلاء الذي نـزل بهم، وقد أبطأتم عليهم! فادخلوا هذا الحرمَ واستسقوا لقومكم! فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله لا تُسْقَون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيَّكم، وأنبتم إليه، سُقِيتم! فأظهر إسلامه عند ذلك، فقال لهم جُلْهُمة بن الخيبريّ، خال معاوية بن بكر، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هودٍ وآمن به:

أَبَــا سَــعْدٍ فَــإِنَّكَ مِــنْ قَبِيـلٍ ذَوِي كَــرَمٍ وَأُمُّــكَ مِــنْ ثَمُـودِ

فَإنَّــا لَــنْ نُطِيعَــكَ مَــا بقِينَـا وَلَسْـــنَا فَــاعِلِينَ لِمَــا تُرِيــدُ

أَتَأْمُرنَـــا لِنَــتْرُكَ دِيــنَ رِفْــدٍ وَرَمْـــلَ وَآلَ صُـــدَّ والعُبُــودِ

وَنَـــتْرُكَ دِيــنَ آبــاءٍ كِــرَامٍ ذَوِي رَأيٍ وَنَتْبَـــعَ دِيــنَ هُــودِ

ثم قالوا لمعاوية بن أبي بكر وأبيه بكرٍ: احبسَا عَنَّا مرثد بن سعد، فلا يقدمنَّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك دينَنَا ! ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد. فلما ولَّوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منـزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعُون، يقول: « اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفدُ عاد » ! وكان قيل بن عنـز رأس وفد عاد. وقال وفد عاد: « اللهمّ أعطِ قَيْلا ما سألك، واجعل سؤلَنا مع سُؤله » ! وكان قد تخلّف عن وفد عاد حين دعا، لقمانُ بن عاد، وكان سيِّد عادٍ. حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: « اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي » ! وقال قيل بن عنـز حين دعا: « يا إلهنا، إن كان هود صادقًا فاسقِنا، فإنّا قد هلكنا » ! فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثًا: بيضاء، وَحمراء، وسوداء. ثم ناداه منادٍ من السحاب: « يا قيل، اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب » . فقال: « اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماءً » ! فناداه منادٍ: « اخترت رَمَادًا، رِمْدِدًا، لا تُبقي مِن آل عاد أحدًا، لا والدًا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته هَمِدًا، إلا بني اللُّوذِيّة المُهَدَّى » و « بنو اللوذية » ، بنو لقيم بن هزّال بن هزيلة بن بكر، وكانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عادٌ الآخِرة، ومن كان من نسلهم الذين بقُوا من عاد.

وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قَيْل بن عنـز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من وادٍ يقال له: « المغيث » . فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ، يقول الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ سورة الأحقاف: 24- 25 ] ، أي: كلّ شيء أُمِرَتْ به. وكان أوّل من أبصر ما فيها وعرف أنها رِيح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها « مَهْدَد » .، فلما تيقنت ما فيها صاحت، ثم صَعِقت. فلما أن أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُب النار، أمامها رجالٌ يقودُونها! فسخَّرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، كما قال الله و « الحسوم » ، الدائمة فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك. فاعتزل هُود، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليهِ الجلود، وتَلتذُّ الأنفس، وإنها لتمرُّ على عاد بالطَّعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتى مرُّوا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنـزلوا عليه. فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمِرة مُسْيَ ثالثةٍ من مُصاب عادٍ، فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودًا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر. فكأنهم شكُّوا فيما حدّثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدَق وربِّ الكعبة!

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم، عن الحارث بن حسّان البكري قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بامرأة بالرّبَذَة، فقالت: هل أنت حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم! فحملتها حتى قدِمت المدينة، فدخلتُ المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وإذا بلالٌ متقلِّدَ السيف، وإذا رايات سُودٌ. قال قلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من غزوته. فلما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبره، أتيته فاستأذنتُ، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، إن بالباب امرأة من بني تميم، وقد سألتني أن أحملها إليك. قال: يا بلال، ائذن لها. قال: فدخلتْ، فلما جلست قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت الدَّبَرَة عليهم فإن رأيت أن تجعل الدَّهنا بيننا وبينهم حاجزًا فعلت! قال: تقول المرأة: فأين تضطرُّ مُضَرَك، يا رسول الله؟ قال قلت: مَثَلي مَثَلُ مِعْزى حملت حَتْفًا! قال قلت: وحملتُك تكونين عليَّ خَصْمًا! أعوذ بالله أن أكون كوافدِ عاد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما وافدُ عادٍ؟ قال قلت: على الخبير سقطتَ! إنّ عادًا قَحَطت فبعثت مَنْ يستسقي لها، فبعثُوا رجالا فمرُّوا على بكر بن معاوية، فسقاهم الخمر وتغنَّتهم الجرادتان شهرًا، ثم بعث من عنده رجلا حتى أتى جبالَ مَهْرة، فدعَوْا، فجاءت سحابات. قال: وكلما جاءت سحابة قال: اذهبي إلى كذا، حتى جاءت سحابة، فنودي منها « خذها رَمادًا رِمددًا * لا تدعُ من عادٍ أحدًا » . قال: فسمعه وكتمهم حتى جاءهم العذاب قال أبو كريب: قال أبو بكر بعد ذلك في حديث عادٍ، قال: فأقبل الذين أتاهم، فأتى جبال مهرة، فصعد فقال: اللهم إنّي لم أجئك لأسير فأفاديه، ولا لمريض فأشفيه، فأسْقِ عادًا ما كنت مُسْقِيه ! قال: فرفعت له سحاباتٌ، قال: فنودي منها: اخْتَر ! قال: فجعل يقول: اذهبي إلى بني فلان، اذهبي إلى بني فلان. قال: فمرَّت آخرَها سحابةٌ سوداء، فقال: اذهبي إلى عاد! فنودي منها: « خُذْها رمادًا رِمْددًا، لا تدع من عاد أحدًا » . قال: وكتمهم، والقوم عند بكر بن معاوية، يشربون. قال: وكره بكر بن معاوية أن يقولَ لهم، من أجل أنهم عنده، وأنهم في طعامه. قال: فأخذَ في الغناء وذكَّرهم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا سلام أبو المنذر النحوي قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري قال: خرجت لأشكوَ العلاء بن الحضرميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربَذَة، فإذا عجوزٌ منقَطعٌ بها، من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إنّ لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فقدمت المدينة. قال: فإذا رايات، قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. قال: فجلست حتى فرغ. قال: فدخل منـزله أو قال: رَحْله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم! وكانت لنا الدَّبَرة عليهم، وقد مررت بالربذة، فإذا عجوز منهم مُنقطَعٌ بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت، فقلت: يا رسول الله، اجعل بيننا وبين تميم الدَّهنا حاجزًا، فحميت العجوزُ واستوفزت، وقالت: فأين تضطرُّ مُضَرَك يا رسول الله؟ قال، قلت: أنا كما قال الأول: « معزى حملت حَتْفًا » ! حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد! قال: وما وافدُ عادٍ؟ « قلت » على الخبير سقطتَ! قال: وهو يستطعمني الحديثَ. قلت: إن عادًا قُحِطوا فبعثوا « قَيْلا » وافدًا، فنـزل على بكرٍ، فسقاه الخمرَ شهرًا وتغنّيه جاريتان يقال لهما « الجرادتان » ، فخرج إلى جبال مهرة، فنادى: « إني لم أجئ لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهم فأسقِ عادًا ما كانت تُسْقِيه » ! فمرت به سحابات سُودٌ، فنودي منها: « خذها رمادًا رِمْدِدًا، لا تبقي من عادٍ أحدًا » . قال: فكانت المرأة تقول: « لا تكن كوافد عادٍ » ! فما بَلَغني أنَّه ما أرسل عليهم من الريح، يا رسول الله، إلا قَدْر ما يجري في خاتمي قال أبو وائل: فكذلك بلغني.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، أنّ عادًا أتاهم هود، فوعظهم وذكّرهم بما قَصّ الله في القرآن، فكذبوه وكفَروا، وسألوه أن يأتيهم بالعذاب، فقال لهم: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ [ سورة الأحقاف: 23 ] . وإن عادًا أصابهم حين كفروا قُحُوطُ المطر، حتى جُهِدوا لذلك جَهْدًا شديدًا. وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العَقيم، وهي الريح التي لا تُلْقِح الشجرَ. فلما نظروا إليها قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ سورة الأحقاف: 24 ] . فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطيرُ بهم الريحُ بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادَروا إلى البيوت، فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فأصابتهم فِي يَوْمِ نَحْسٍ والنحس، هو الشؤم و مُسْتَمِرٍّ ، استمر عليهم بالعذاب سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا حَسمت كل شيء مرّت به، فلما أخرجتهم من البيوت قال الله: تَنْـزِعُ النَّاسَ من البيوت، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ، [ سورة القمر: 20 ] انقعر من أصوله « خاوية » ، خوت فسقطت. فلما أهلكهم الله، أرسل عليهم طيرًا سودًا، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، فذلك قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ [ سورة الأحقاف: 25 ] . ولم تخرج ريحٌ قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنة فغلبتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، وذلك قوله: فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، [ سورة الحاقة: 6 ] و « الصرصر » ، ذات الصوت الشديد.

 

القول في تأويل قوله : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 70 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت عاد له: أجئتنا تتوعَّدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين، كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرَّأ منها؟ فلسنا فاعِلي ذلك، ولا نحن متبعوك على ما تدعونا إليه، فأتنا بما تعدنا من العقابِ والعذاب على تركنا إخلاص التوحيد لله، وعبادتنا ما نعبد من دونه مِنَ الأوثان، إن كنت من أهل الصدق على ما تقول وتعِدُ.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذَابٌ وغضبٌ من الله.

وكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لنا عنه يزعم أن « الرجز » و « الرجس » بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما قلبت « ستّ » وهي من « سداس » بسين، وكما قالوا « قَرَبُوس » و « قَرَبُوت » وكما قال الراجز:

أَلا لَحَــى اللــهُ بَنِــي السِّـعْلاتِ عَمْــرَو بْـنَ يَرْبُـوعٍ لِئَـامَ النَّـاتِ

لَيْسُــوا بِأَعْفَـافٍ وَلا أَكْيَــاتِ

يريد « الناس » ، و « أكياس » ، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة:

كَـمْ قَـدْ رَأَيْنَـا مِـنْ عَدِيـدٍ مُـبْزِي حَــتَّى وَقَمْنَــا كَيْــدَهُ بــالرِّجْزِ

روي عن ابن عباس أنه كان يقول: « الرجس » ، السّخط.

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( قد وقع عليكم من ربكم رجس ) يقول: سَخَط.

وأما قوله: ( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) فإنه يقول: أتخاصمونني في أسماء سمَّيتموها أصنامًا لا تضر ولا تنفع ( أنتم وآباؤكم ما نـزل الله بها من سلطان ) يقول: ما جعل الله لكم في عبادتكم إياها من حجة تحتجُّون بها ، ولا معذرة تعتذرون بها ، لأن العبادة إنما هي لمن ضرَّ ونفع ، وأثابَ على الطاعة وعاقب على المعصية ، ورزق ومنَع . فأما الجماد من الحجارة والحديد والنحاس ، فإنه لا نفع فيه ولا ضرّ، إلا أن تتخذ منه آلةً، ولا حجة لعابد عبده من دون الله في عبادته إياه ، لأن الله لم يأذن بذلك، فيعتذر من عبدَه بأنه يعبده اتباعًا منه أمرَ الله في عبادته إياه. ولا هو إذ كان الله لم يأذن في عبادته مما يرجى نفعه ، أو يخاف ضرّه ، في عاجل أو آجل، فيعبد رجَاء نفعه ، أو دفع ضره - ( فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) يقول: فانتظروا حكمَ الله فينا وفيكم ( إني معكم من المنتظرين ) حكمَه وفصل قضائه فينا وفيكم.

 

القول في تأويل قوله : فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ( 72 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه ، من توحيد الله ، وهجر الآلهة والأوثان ( برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا ، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وقطعنا دابرَ الذين كذبوا بآياتنا ) قال: استأصلناهم.

وقد بينا فيما مضى معنى قوله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [ الأنعام: 45 ] ، بشواهده ، بما أغنى عن إعادته.

( وما كانوا مؤمنين ) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا برسوله هود.

 

القول في تأويل قوله : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.

و « ثمود » ، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَدِيس بن غاثر ، وكانت مساكنهما الحِجْر ، بين الحجاز والشأم ، إلى وادي القُرَى وما حوله.

ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا.

وإنما منع « ثمود » ، لأن « ثمود » قبيلة ، كما « بكر » قبيلة، وكذلك « تميم » .

( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ، يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما أقول، وحقيقة ما إليه أدعو ، من إخلاص التوحيد لله ، وإفراده بالعبادة دون ما سواه ، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه ، هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة ، دليلا على نبوّتي وصدق مقالتي ، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحدٌ إلا الله.

وإنما استشهد صالح ، فيما بلغني ، على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة ، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله.

ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين ! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل ، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: ( هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، [ سورة الشعراء:155 ] . فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، [ سورة هود:65 ] قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حُمْرًا، واليوم الثاني صُفْرًا، واليوم الثالث سُودًا. قال: فصبَّحهم العذاب، فلما رأوا ذلك تحنَّطُوا واستعدُّوا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وإلى ثمود أخاهم صالحًا ) ، قال: إن الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: ( ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء ) . فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله: فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ، [ سورة فصلت: 17 ] . وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء تمرّ بين جبلين فيرحمانها، ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا، ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه ! فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن العاشر أزْرَق أحمرَ ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب التِّسعة على صالح ، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ، [ النمل:49 ] . قالوا: نخرج، فيرى الناس أنّا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد ، أتيناه فقتلناه ، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، ثم رجعنا فقلنا: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ، يصدقوننا ، يعلمون أنّا قد خرجنا إلى سفر! فانطلقوا ، فلما دخلوا الغارَ أرادوا أن يخرجوا من الليل، فسقط عليهم الغارُ فقتلهم، فذلك قوله: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ حتى بلغ ها هنا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [ سورة النمل: 48- 51 ] . وكبر الغلام ابن العاشر، ونبت نباتًا عجبًا من السرعة، فجلس مع قومٍ يصيبون من الشَّراب، فأرادُوا ماءً يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم يوم شِرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقةُ، فاشتدَّ ذلك عليهم ، وقالوا في شأن الناقة: ما نَصْنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة، فنُسْقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيرًا لنا ! فقال الغلام ابن العاشر: هل لكم في أن أعْقِرَها لكم؟ قالوا: نعم! فأظهروا دينَهم، فأتاها الغلام، فلما بَصُرت به شدَّت عليه، فهرب منها ، فلما رأى ذلك، دخل خلف صخرةٍ على طريقها فاستتر بها، فقال: أحِيشوها عليّ ! فأحَاشوها عليه، فلما جازت به نادوه: عليك ! فتناولها فعقرها، فسقطت ، فذلك قوله: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ، [ سورة القمر:29 ] . وأظهروا حينئذٍ أمرهم، وعقروا الناقة، وعَتَوْا عن أمر ربهم، وقالوا: يا صالحُ ائتنا بما تعِدنا . وفزع ناسٌ منهم إلى صالح ، وأخبروه أن الناقة قد عُقرت، فقال: عليَّ بالفصيل ! فطلبوا الفَصِيل فوجدوه على رَابية من الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلَّقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رَغَا الفصيلُ إلى الله، فأوحى الله إلى صالح: أنْ مُرْهم فليتمتَّعوا في دارهم ثلاثة أيام! فقال لهم صالح: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيام ، وآية ذلك أن تُصبح وجوهكم أوَّل يوم مصفَرَّة، والثاني محمرّة، واليوم الثالث مسوَدّة، واليومُ الرابعُ فيه العذاب. فلما رأوا العلامات تكفّنوا وتحنّطوا ولطَّخوا أنفسهم بالمرّ، ولبسوا الأنْطاع، وحفروا الأسراب فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة، حتى جاءهم العذاب فهلكوا. فذلك قوله: دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، فنـزلوا فيها وانتشروا ، ثم عتوا على الله . فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا رسولا وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون ، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله ، في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن استجيب لك اتَّبعناك! وإن استجيب لنا اتَّبعتنا! فقال لهم صالح: نعم! فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثم قال له جندع بن عمرو بن جواس بن عمرو بن الدميل، وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم: يا صالح ، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحِجْر ، يقال لها الكاثِبة ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء و « المخترجة » ، ما شاكلت البُخْت من الإبل. وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك ، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ ! وأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي! قالوا: نعم! فأعطوه على ذلك عهودَهم. فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم من تلك الهَضْبة ، كما وصفوا.

فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى الهضبة ، حين دعا الله صالح بما دعا به ، تتمخَّض بالناقة تمخُّض النَّتُوج بولدها، فتحركت الهضبة ، ثم انتفضت بالناقة، فانصدعت عن ناقة ، كما وصَفوا ، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا ، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد ، والحباب صاحبُ أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا من أشراف ثمود، فردُّوا أشرافَها عن الإسلام والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرَّحمة والنجاة ، وكان لجندع ابن عم يقال له: « شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس » ، فأراد أن يسلم ، فنهاه أولئك الرهط عن ذلك، فأطاعهم، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فقال رجل من ثمود يقال له: « مهوس بن عنمة بن الدّميل » ، وكان مسلمًا:

وَكَــانَتْ عُصْبَــةٌ مِـنْ آلِ عَمْـروٍ إِلَــى دِيــنِ النَّبِـيِّ دَعَـوْا شِـهَابَا

عَزِيــزَ ثَمُــودَ كُــلِّهِمُ جَمِيعًــا فَهَــمَّ بِــأَنْ يُجِــيبَ وَلَـوْ أَجَابَـا

لأَصْبَــحَ صَــالِحٌ فِينَــا عَزِيـزًا وَمَــا عَدَلــوا بصَــاحِبِهم ذُؤَابَـا

وَلكِــنَّ الغُــوَاةَ مِــن َآلِ حُجْـرٍ تَوَلَّـــوْا بَعْــدَ رُشْــدِهِمُ ذُبَابَــا

فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سَقْبها في أرض ثمودَ ترعى الشجر وتشرب الماء، فقال لهم صالح عليه السلام: ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، وقال الله لصالح: إن الماء قسمةٌ بينهم، كُلّ شِرْبٍ مُحْتَضَر أي: إن الماء نصفان ، لهم يوم ، ولها يوم وهي محتضرة، فيومها لا تدع شربها. وقال: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، [ سورة الشعراء:155 ] . فكانت ، فيما بلغني والله أعلم ، إذا وردت ، وكانت تَرِد غِبًّا ، وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها « بئر الناقة » ، فيزعمون أنها منها كانت تشرب إذا وردت ، تضع رأسَها فيها، فما ترْفَعه حتى تشرب كل قطرة ماء في الوادي، ثم ترفع رأسها فتفشَّج يعني تفحَّج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدَّخرون ، حتى يملؤوا كل آنيتهم، ثم تصدر من غير الفجّ الذي منه وردت، لا تقدِرُ على أن تصدر من حيث ترِدُ لضيقِه عنها، فلا ترجع منه . حتى إذا كان الغدُ ، كان يومهم، فيشربون ما شاؤوا من الماء، ويدّخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة. وكانت الناقة ، فيما يذكرون ، تَصِيف إذا كان الحرّ ظَهْرَ الوادي، فتهرب منها المواشي ، أغنامُهم وأبْقارهم وإبلُهم، فتهبط إلى بطن الوادي في حرِّه وجَدْبه وذلك أن المواشي تنفِرُ منها إذا رأتها وتشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مَواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدْب، فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاءِ والاختبار. وكانت مرابعُها ، فيما يزعمون ، الحبابُ وحِسْمَى، كل ذلك ترعى مع وادي الحِجر ، فكبر ذلك عليهم، فعتوا عن أمر ربهم، وأجمعوا في عقر الناقة رأيَهم.

وكانت امرأة من ثمودَ يقال لها: « عنيزة بنت غنم بن مجلز » ، تكني بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل ، أخي رُميل بن المهل، وكانت امرأةَ ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بناتٍ حسان، وكانت ذات مال من إبلٍ وبقر وغنم وامرأة أخرى يقال لها: « صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا » ، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول ، وكان الوادي يقال له: « وادي المحيا » ، وهو المحيَّا الأكبر ، جد المحيَّا الأصغر أبي صدوف وكانت « صدوف » من أحسن الناس، وكانت غنيَّة ، ذات مالٍ من إبل وغنم وبقر وكانتَا من أشدِّ امرأتين في ثمود عداوةً لصالح ، وأعظمِه به كفرًا، وكانتا تَحْتالان أن تُعْقَر الناقة مع كفرهما به ، لما أضرَّت به من مواشيهما. وكانت صدوف عند ابن خالٍ لها يقال له: « صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف » ، من بني هليل، فأسلم فحسن إسلامه، وكانت صدوفُ قد فَوَّضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح حتى رَقَّ المال. فاطّلعت على ذلك من إسلامه صدوفُ، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه ، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام، فأبت عليه، وبيَّتتْ له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيَّبتهم في بني عبيد بطنِها الذي هي منه. وكان صنتم زوجُها من بني هليل، وكان ابنَ خالها، فقال لها: ردِّي عليَّ ولدي ! فقالت: حتى أنافِرك إلى بني صنعان بن عبيد ، أو إلى بني جندع بن عبيد! فقال لها صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ! وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام ، وأبطأ عنه الآخرون. فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه ! فقال بنو مرداس: والله لتعطِنَّه ولده طائعةً أو كارهة ! فلما رأت ذلك أعطته إياهم.

ثم إن صدوف وعُنيزة مَحَلَتا في عقر الناقة ، للشقاء الذي نـزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له « الحباب » لعقر الناقة. وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل، فأبَى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له : « مصدع بن مهرج بن المحيَّا » ، وجعلت له نفسها ، على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناسِ ، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك. ودعت عنيزة بنت غنم ، « قدارَ بن سالف بن جندع » ، رجلا من أهل قُرْح. وكان قُدار رجلا أحمرَ أزرقَ قصيرًا ،يزعمون أنه كان لزَنْيَةٍ ، من رجل يقال له : « صهياد » ، ولم يكن لأبيه « سالف » الذي يدعى إليه ، ولكنه قد ولد على فراش « سالف » ، وكان يدعى له وينسب إليه. فقالت: أعطيك أيَّ بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة ! وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو ، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه. فانطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج، فاستنفرَا غُواةً من ثمود ، فاتّبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر، أحدُ النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له : « هويل بن ميلغ » خال قدار بن سالف ، أخو أمّه لأبيها وأمها، وكان عزيزًا من أهل حجر و « دعير بن غنم بن داعر » ، وهو من بني خلاوة بن المهل و « دأب بن مهرج » ، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم..... فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظمَ به عضَلَة ساقها. وخرجت أم غنم عنيزة ، وأمرت ابنتها ، وكانت من أحسن الناس وجهًا ، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمَّرته، فشدّ على الناقة بالسيف، فخشَفَ عُرْقوبها، فخرَّت ورغت رَغَاةً واحدة تحذّرُ سَقْبها ، ثم طعن في لبَّتها فنحرَها ، وانطلق سقبها حتى أتى جبلا مُنِيفًا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها واسم الجبل فيما يزعمون « صنو » ، فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت ، ثم قال: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته ! فاتّبع السقبَ أربعةُ نفر من التّسعة الذين عقرُوا الناقة، وفيهم « مصدع بن مهرج » ، فرماه مصدع بسهم، فانتظمَ قلبَه، ثم جرَّ برجله فأنـزله، ثم ألقوا لحمَه مع لحم أمه.

فلما قال لهم صالح: « أبشروا بعذاب الله ونقمته » ، قالوا له وهم يهزؤون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد « أول » والاثنين « أهون » ، والثلاثاء « دبار » ، والأربعاء « جبار » ، والخميس « مؤنس » ، والجمعة « العروبة » ، والسبت « شيار » ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس ، يعني يوم الخميس ، ووجوهكم مصفرّة ، ثم تصبحون يوم العروبة ، يعني يوم الجمعة ، ووجوهكم محمرّة ، ثم تصبحون يوم شيار ، يعني يوم السبت ، ووجوهكم مسودَّة ، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول ، يعني يوم الأحد. فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلمَّ فلنقتل صالحًا ، إن كان صادقًا عجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا يكون قد ألحقناه بناقتِه ! فأتوه ليلا ليبيِّتوه في أهله، فدمَغَتهم الملائكة بالحجارة. فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منـزلَ صالح، فوجدوهم مشدَّخين قد رُضِخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ! ثم همُّوا به، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاحَ، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدًا، فقد وعدكم أنَّ العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربَّكم عليكم إلا غضبًا، وإن كان كاذبًا فأنتم من وراء ما تريدون! فانصرفوا عنهم ليلتَهم تلك، والنفر الذين رَضَختهم الملائكة بالحجارة ، التسعةُ الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ إلى قوله: لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ، [ سورة النمل: 48 - 52 ] .

فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرَّة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربًا منهم ، حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم : « بنو غنم » ، فنـزل على سيِّدهم رجلٍ منهم يقال له : « نفيل » ، يكنى بأبي هدب، وهو مشرِك، فغيَّبه ، فلم يقدروا عليه. فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له : « ميدع بن هرم » : يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلَّهم عليك، أفندلُّهم عليك؟ قال: نعم ! فدلهم عليه « ميدع بن هرم » ، فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هُدْب فكلموه، فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل! فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنـزل الله بهم من عذابه. فجعل بعضهم يخبر بعضًا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرَّة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرَّة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودّة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشأم، فنـزل رملة فلسطين، وتخلّف رجل من أصحابه يقال له : « ميدع بن هرم » ، فنـزل قُرْح وهي وادي القرى، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا فنـزل على سيِّدِهم رجلٍ يقال له : « عمرو بن غنم » ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يَشْتَركْ في قتلها، فقال له ميدع بن هرم: يا عمرو بن غنم، أخرج من هذا البلد، فإن صالحًا قال: « من أقام فيه هلك ، ومن خرج منه نجا » ، فقال عمرو: ما شرِكت في عَقْرها، وما رضيت ما صُنع بها! فلما كانت صبيحة الأحد أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها : « الزُّرَيْعَة » ، وهي الكلبة ابنة السِّلق، كانت كافرة شديدَة العداوة لصالح، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذابَ أجمعَ، فخرجت كأسرع ما يُرَى شيءٌ قط، حتى أتت أهل قُرْحٍ فأخبرتهم بما عاينتْ من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسُقِيت، فلما شربت ماتت.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر ، أخبرني من سمع الحسن يقول: لما عقرت ثمود الناقة ، ذهبَ فصيلها حتى صعد تلا فقال: يا رب ، أين أمي؟ ثم رغا رَغوةً، فنـزلت الصيحةُ، فأخمدتهم.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن بنحوه إلا أنه قال: أصعد تلا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتَّعوا ثلاثة أيام! وقال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرَّة، ثم تصبح اليومَ الثاني محمرَّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودَّة ، فأصبحت كذلك. فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك ، تكفَّنوا وتحنَّطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين! فجعلوا يدخلون على المرأة في حِجْرها فيقولون: أترضين؟ فتقول: نعم! والصبيّ، حتى رضوا أجمعين، فعقرها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال، لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قومُ صالح، فكانت ترد من هذا الفجّ ، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم ، فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يومًا ، ويشربون لبنها يومًا. فعقروها، فأخذتهم الصيحة: أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حَرَم الله ، قيل: من هو؟ قال: أبو رِغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.

.... قال عبد الرزاق، قال معمر: وأخبرني إسماعيل بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي رِغال، فقال: أتدرون ما هذا؟ ، قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: هذا قبر أبي رِغال؟ قالوا فمن أبو رِغال؟ قال: رجل من ثمود ، كان في حرم الله، فمنعه حرم الله عذابَ الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب! فنـزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عليه، فاستخرجوا الغصن.

. . . قال عبد الرزاق: قال: معمر: قال الزهري: أبو رِغال: أبو ثقيف.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال، مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه: قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة قال، كان يقال إنّ أحمرَ ثمود الذي عقر الناقة، كان ولد زَنْية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق قال، قال أبو موسى: أتيت أرض ثمود، فذرعت مَصْدرَ الناقة ، فوجدته ستين ذراعًا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا يعني بنحو حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال: ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبر أبي رِغال، قالوا: ومن أبو رِغال؟ قال: أبو ثقيف، كان في الحرم لما أهلك الله قومه، منعه حرم الله من عذاب الله ، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن ها هنا ، ودفن معه غصن من ذهب. قال: فابتدره القوم يبحثون عنه ، حتى استخرجوا ذلك الغصن.

وقال الحسن: كان للناقة يوم ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم.

حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، أنْ يصيبكم مثل الذي أصابهم! ثم قال: هذا وادي النَّفَر! ثم قَنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.

وأما قوله: ( ولا تمسوها بسوء ) ، فإنه يقول: ولا تمسوا ناقة الله بعقرٍ ولا نحر ( فيأخذكم عذابٌ أليم ) ، يعني: موجع.