القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 74 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه ، واعظًا لهم: واذكروا ، أيها القوم ، نعمة الله عليكم ( إذ جعلكم خلفاء ) ، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها.

و « خلفاء » جمع « خليفة » . وإنما جمع « خليفة » « خلفاء » ، و « فُعلاء » إنما هي جمع « فعيل » ، كما « الشركاء » جمع « شريك » ، و « العلماء » جمع « عليم » ، و « الحلماء » جمع « حليم » ، لأنه ذهب بالخليفة إلى الرجل، فكأن واحدهم « خليف » ، ثم جمع « خلفاء » ، فأما لو جمعت « الخليفة » على أنها نظيرة « كريمة » و « حليلة » و « رغيبة » ، قيل « خلائف » ، كما يقال: « كرائم » و « حلائل » و « رغائب » ، إذ كانت من صفات الإناث. وإنما جمعت « الخليفة » على الوجهين اللذين جاء بهما القرآن، لأنها جُمعت مرّة على لفظها، ومرة على معناها.

وأما قوله: ( وبوأكم في الأرض ) ، فإنه يقول: وأنـزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا ، ( تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وتنحتون الجبال بيوتًا ) ، كانوا ينقبون في الجبال البيوتَ.

وقوله: ( فاذكروا آلاء الله ) ، يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) .

وكان قتادة يقول في ذلك ما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسيروا في الأرض مفسدين.

وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 75 ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( 76 )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ) ، قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتباع صالح والإيمان بالله وبه ( للذين استضعفوا ) ، يعني: لأهل المسكنة من تبَّاع صالح والمؤمنين به منهم، دون ذوي شرفهم وأهل السُّؤدد منهم ( أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه ) ، أرسله الله إلينا وإليكم ، قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا بما أرسل الله به صالحًا من الحقّ والهدى مؤمنون ، يقول: مصدِّقون مقرّون أنه من عند الله ، وأن الله أمر به ، وعن أمر الله دعانا صالح إليه ( قال الذين استكبروا ) ، عن أمر الله وأمر رسوله صالح ( إنا ) ، أيها القوم ( بالذي آمنتم به ) ، يقول: صدقتم به من نبوّة صالح، وأن الذي جاء به حق من عند الله ( كافرون ) ، يقول: جاحدون منكرون، لا نصدِّق به ولا نقرُّ.

 

القول في تأويل قوله : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 77 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمودُ الناقةَ التي جعلها الله لهم آية ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، يقول: تكبروا وتجبروا عن اتباع الله، واستعلوا عن الحق ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وعتوا ) ، علوا عن الحق ، لا يبصرون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( عتوا عن أمر ربهم ) ، علوا في الباطل.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، قال: عتوا في الباطل وتركوا الحق.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وعتوا عن أمر ربهم ) ، قال: علوا في الباطل.

وهو من قولهم: « جبّار عاتٍ » ، إذا كان عاليًا في تجبُّره.

( وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدُنا ) ، يقول: قالوا: جئنا ، يا صالح ، بما تعدنا من عذاب الله ونقمته ، استعجالا منهم للعذاب ( إن كنت من المرسلين ) ، يقول: إن كنت لله رسولا إلينا، فإن الله ينصر رسله على أعدائه ، فعجَّل ذلك لهم كما استعجلوه، يقول جل ثناؤه: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ .

 

القول في تأويل قوله : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 78 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقةَ من ثمود ( الرجفة ) ، وهي الصيحة.

و « الرجفة » ، « الفعلة » ، من قول القائل: « رجَف بفلان كذا يرجُفُ رجْفًا » ، وذلك إذا حرَّكه وزعزعه، كما قال الأخطل:

إِمَّـا تَـرَيْنِي حَنَـانِي الشَّـيْبُ مِنْ كِبَرٍ كَالنَّسْـرِ أَرْجُـفُ , وَالإنْسَـانُ مَهْدُودُ

وإنما عنى بـ « الرجفة » ، ها هنا الصيحة التي زعزعتهم وحركتهم للهلاك، لأن ثمود هلكت بالصيحة ، فيما ذكر أهل العلم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: « الرجفة » ، قال: الصيحة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( فأخذتهم الرجفة ) ، وهي الصيحة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: ( فأخذتهم الرجفة ) ، قال: الصيحة.

وقوله: ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، يقول: فأصبح الذين أهلك الله من ثمود ( في دارهم ) ، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها وبلدتهم.

ولذلك وحَّد « الدار » ولم يجمعها فيقول « في دورهم » وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور، ولكن وجَّه بالواحدة إلى الجميع، كما قيل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) [ العصر: 1- 2 ] .

وقوله: ( جاثمين ) ، يعني: سقوطًا صرعَى لا يتحركون ، لأنهم لا أرواح فيهم ، قد هلكوا. والعرب تقول للبارك على الركبة: « جاثم » ، ومنه قول جرير:

عَــرَفْتُ المُنْتَـأَى , وَعَـرَفْتُ مِنْهَـا مَطَايَــا القِــدْرِ كَــالحِدَإِ الجُـثُومِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، قال: ميتين.

 

القول في تأويل قوله : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ( 79 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله ، خارجًا عن أرضهم من بين أظهُرهم ، لأن الله تعالى ذكره أوحَى إليه: إنّي مهلكهم بعد ثالثة.

وقيل: إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهُرها.

فأخبر الله جل ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: ( فتولى عنهم ) صالح وقال لقومه ثمود ( لقد أبلغتكم رسالة ربي ) ، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه ( ونصحت لكم ) ، في أدائي رسالة الله إليكم ، في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان ( ولكن لا تحبون الناصحين ) ، لكم في الله ، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم ، الصادِّين لكم عن شهوات أنفسكم.

 

القول في تأويل قوله : وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ( 80 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا لوطًا.

ولو قيل: معناه: واذكر لوطًا ، يا محمد ، ( إذ قال لقومه ) إذ لم يكن في الكلام صلة « الرسالة » كما كان في ذكر عاد وثمود كان مذهبًا.

وقوله: ( إذ قال لقومه ) ، يقول: حين قال لقومه من سَدُوم، وإليهم كان أرسل لوط ( أتأتون الفاحشة ) ، وكانت فاحشتهم التي كانوا يأتونها ، التي عاقبهم الله عليها ، إتيان الذكور ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ، يقول: ما سبقكم بفعل هذه الفاحشة أحد من العالمين ، وذلك كالذي:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار قوله: ( ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ، قال: ما رُئي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر : يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه، توبيخًا منه لهم على فعلهم: إنكم ، أيها القوم ، لتأتون الرجال في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم وأحلَّه من النساء ( بل أنتم قوم مسرفون ) ، يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرَّم الله عليكم ، وتعصونه بفعلكم هذا.

وذلك هو « الإسراف » ، في هذا الموضع.

و « الشهوة » ، « الفَعْلة » ، وهي مصدر من قول القائل: « شَهَيتُ هذا الشيء أشهاه شهوة » ومن ذلك قول الشاعر:

وأَشْـعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ! إذَا مَـا النُّجُـومُ أَعْـرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ

فَقَــامَ يَجُـرُّ الـبُرْدَ , لَـوْ أَنَّ نَفْسَـهُ يُقَـالُ لَـهُ : خُذْهَـا بِكَـفَّيْكَ! خَـرَّتِ