القول في تأويل قوله : قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ( 88 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( قال الملأ الذين استكبروا ) ، يعني بالملأ الجماعة من الرجال ويعني بالذين استكبروا ، الذين تكبروا عن الإيمان بالله ، والانتهاء إلى أمره ، واتباع رسوله شعيب ، لما حذرهم شعيبٌ بأسَ الله ، على خلافهم أمرَ ربهم، وكفرهم به ( لنخرجنك يا شعيب ) ، ومن تبعك وصدقك وآمن بك، وبما جئت به معك ( من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) ، يقول: لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه قال شعيب مجيبًا لهم: ( أولو كنا كارهين ) .

ومعنى الكلام: أن شعيبًا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم، وتصدّوننا عن سبيل الله، ولو كنا كارهين لذلك؟ ثم أدخلت « ألف » الاستفهام على « واو » « ولو » .

 

القول في تأويل قوله : قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( 89 )

قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم ، والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: ( قد افترينا على الله كذبًا ) ، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، وتخرّصنا عليه من القول باطلا إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها ، ونترك الحق الذي نحن عليه ( إلا أن يشاء الله ربنا ) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها ، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا ( وسع ربنا كل شيء علما ) ، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن. فإن يكن سبق لنا في علمه أنّا نعود في ملتكم ، ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن، فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير عائدين في ملّتكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( قد افترينا على الله كذبًا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها ، إلا أن يشاء الله ربنا، فالله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئًا، فإنه وسع كل شيء علمًا.

وقوله: ( على الله توكلنا ) ، يقول: على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تعِدوننا به من شرِّكم ، أيها القوم، فإنه الكافي من توكَّل عليه.

ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه إذ أيس من فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة ، والإقرار له بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فَسَقتهم العطبَ والهلكة بتعجيل النقمة، فقال: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول: احكم بيننا وبينهم بحكمك الحقّ الذي لا جور فيه ولا حَيْف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق ( وأنت خير الفاتحين ) ، يعني: خير الحاكمين.

ذكر الفرَّاء أنّ أهلَ عُمان يسمون القاضي « الفاتح » و « الفتّاح » .

وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب: أنه من لغة مراد، وأنشد لبعضهم بيتًا وهو:

أَلا أَبْلِــغْ بَنــي عُصْــمٍ رَسُـولا بِـــأَنِّي عَــنْ فُتَــاحَتِكُمْ غَنِــيُّ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول: « تعالَ أفاتحك » ، تعني: أقاضيك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول: اقض بيننا وبين قومنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا مسعر قال، سمعت قتادة يقول: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن تقول: « تعالَ أفاتحك » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، : اقض بيننا وبين قومنا بالحق.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، أما قوله: ( افتح بيننا ) ، فيقول: احكم بيننا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال الحسن البصري: افتح احكم بيننا وبين قومنا، و إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، [ الفتح: 1 ] حكمنا لك حكمًا مبينًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « افتح » ، اقض.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير قال، حدثنا مسعر ، عن قتادة، عن ابن عباس قال: لم أكن أدري ما ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: « انطلق أُفاتحك » .

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ( 90 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وقالت الجماعة من كفرة رجال قوم شعيب وهم « الملأ » الذين جحدوا آيات الله ، وكذبوا رسوله ، وتمادوا في غيِّهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم شُعَيبًا على ما يقول ، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله ، والانتهاء إلى أمره ونهيه ، وأقررتم بنبوَّته ( إنكم إذًا لخاسرون ) ، يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون ، إلى دينه الذي يدعوكم إليه وهالِكُون بذلك من فعلكم.

 

القول في تأويل قوله : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 91 )

قال أبو جعفر : يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب ، الرجفة. وقد بيّنت معنى « الرجفة » قبل ، وأنها الزلزلة المحركة لعذاب الله.

( فأصبحوا في دارهم جاثمين ) ، على ركبهم ، موتَى هلكى.

وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به ، كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ، قال: إن الله بعث شعيبًا إلى مدين، وإلى أصحاب الأيكة و « الأيكة » ، هي الغيضة من الشجر وكانوا مع كفرهم يبخَسون الكيل والميزان، فدعاهم فكذبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردُّوا عليه. فلما عتوا وكذبوه، سألوه العذابَ، ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فأهلكهم الحرّ منه، فلم ينفعهم ظلٌ ولا ماء. ثم إنه بعثَ سحابةً فيها ريحٌ طيبة، فوجدوا بَرْدَ الرّيح وطيبِها، فتنادوا: « الظُّلّةَ، عليكم بها » ! فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، [ سورة الشعراء: 189 ] .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. كانوا أهلَ بخسٍ للناس في مكاييلهم وموازينهم، مع كفرهم بالله ، وتكذيبهم نبيَّهم . وكان يدعوهم إلى الله وعبادته ، وترك ظلم الناس وبخسهم في مكاييلهم وموازينهم ، فقال نُصْحًا لهم ، وكان صادقا: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، [ هود: 88 ] . قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة إذا ذكر شعيبًا قال: « ذاك خطيب الأنبياء » ! لحسن مراجعته قومه فيما يرادُ بهم. فلما كذَّبوه وتوعَّدوه بالرَّجْم والنفي من بلادهم ، وعتوا على الله، أخذهُم عذاب يوم الظُّلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم. فبلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له : عمرو بن جلهاء، لما رآها قال : يَـا قَـوْم إنَّ شُـعَيْبًا مُرْسَـلٌ فَـذَرُوا عنكـم سُـمَيْرًا وَعِمْـرَانَ بْـنَ شَـدَّادِ

إنِّـي أَرَى غَبْيَـةً يَـا قَـوْم قَدْ طَلَعَتْ تَدْعُـو بِصَـوْتٍ عَـلَى صَمَّانَةِ الْوَادِي

وَإِنَّكـمْ لَـنْ تَـرَوْا فِيهَـا ضَحَـاءَ غَدٍ إلا الــرَّقِيمَ يُمَشِّــي بَيْــنَ أنْجَـادِ

و « سمير » و « عمران » ، كاهناهم و « الرقيم » ، كلبهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال: فبلغني ، والله أعلم ، أنَّ الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم، ثم أنشأ لهم الظُّلةَ كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدرُوها يستغيثون ببَرْدها مما هم فيه من الحر، حتى إذا دَخلوا تحتها ، أطبقت عليهم، فهلكوا جميعًا، ونجى الله شعيبًا والذين آمنوا معه برحمته.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني أبو عبد الله البجلي قال: « أبو جاد » و « هوّز » و « حُطّي » و « كلمون » و « سعفص » و « قرشت » ، أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب « كلمون » ، فقالت أخت كلمون تبكيه:

كَلَمُــونٌ هَــــــدَّ رُكْنِـــي هُلْكُــــهُ وَسْــــطَ المَحَلَّـــهْ

سَــــيِّدُ الْقَـــوْمِ أَتَـــاهُ الْـ حَـــتْفُ نَــارًا وَسْــطَ ظُلَّـــةْ

جُــــعِلَتْ نَـــارًا عَلَيْهِـــمْ , دَارُهُــــــمْ كَالْمُضْمَحِلَّـــــةْ

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ( 92 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأهلك الذين كذبوا شعيبًا فلم يؤمنوا به، فأبادَهم، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاءً ( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول: كأن لم ينـزلوا قطّ ولم يعيشوا بها حين هلكوا .

يقال: « غَنِيَ فلان بمكان كذا ، فهو يَغْنَى به غِنًى وغُنِيًّا » ، إذا نـزل به وكان به، كما قال الشاعر.

وَلَقَــدْ يَغْنَــى بِهَــا جِـيرَانُكِ الْ مُمْسِــكُو مِنْــكِ بِعَهْــدٍ وَوِصَـالِ

وقال رؤبة:

وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا

إنما هو « مفعل » من « غني » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة. ( كأن لم يغنوا فيها ) ، : كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال : حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول : كأن لم يعيشوا فيها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، كأن لم يكونوا فيها قطُّ.

وقوله: ( الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين ) ، يقول تعالى ذكره: لم يكن الذين اتَّبعوا شعيبًا الخاسرين ، بل الذين كذّبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين. لأنه أخبر عنهم جل ثناؤه: أن الذين كذبوا شعيبًا قالوا للذين أرادُوا اتباعه: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ، فكذبهم الله بما أحلَّ بهم من عاجلِ نَكاله، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما خسر تُبَّاع شعيب، بل كانَ الذين كذبوا شعيبًا لما جاءت عقوبة الله ، هم الخاسرين ، دون الذين صدّقوا وآمنوا به.

 

القول في تأويل قوله : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( 93 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فأدبر شعيب عنهم ، شاخصًا من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، وقال لما أيقن بنـزول نقمة الله بقومه الذين كذّبوه ، حزنًا عليهم: ( يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ) ، وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم، من تحذيركم غضبَه على إقامتكم على الكفر به ، وظلم الناس أشياءهم ( ونصحت لكم ) ، بأمري إياكم بطاعة الله ، ونهيكم عن معصيته- ( فكيف آسى ) ، يقول: فكيف أحزن على قوم جَحَدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله ، وأتوجَّع لهلاكهم؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: ( فكيف آسى ) ، يعني: فكيف أحزن؟

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( فكيف آسى ) ، يقول: فكيف أحزن؟

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أصاب شعيبًا على قومه حُزْن لما يرى بهم من نقمةِ الله، ثم قال يعزي نفسه ، فيما ذكر الله عنه: ( يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ) .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( 94 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، معرِّفَه سنّته في الأمم التي قد خَلَت من قبل أمته، ومذكّرَ من كفر به من قريش ، لينـزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك بالله ، والتكذيب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وما أرسلنا في قرية من نبي ) ، قبلك ( إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ) ، وهو البؤس وشَظَف المعيشة وضِيقها و « الضراء » ، وهي الضُّرُ وسوء الحال في أسباب دُنياهم ( لعلهم يضرعون ) ، يقول: فعلنا ذلك ليتضرّعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا ، بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائِهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ) ، يقول: بالفقر والجوع.

وقد ذكرنا فيما مضى الشواهدَ على صحّة القول بما قلنا في معنى: « البأساء » ، و « الضراء » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وقيل: « يضرّعون » ، والمعنى: يتضرعون، ولكن أدغمت « التاء » في « الضاد » ، لتقارب مخرجهما.

 

القول في تأويل قوله : ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 95 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( ثم بدلنا ) أهلَ القرية التي أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ( مكان السيئة ) ، وهي البأساء والضراء. وإنما جعل ذلك « سيئة » ، لأنه ممّا يسوء الناس ولا تسوءهم « الحَسَنة » ، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة ( حتى عفوا ) ، يقول: حتى كَثرُوا.

وكذلك كل شيء كثر، فإنه يقال فيه: « قد عفا » ، كما قال الشاعر:

ولَكِنَّــا نُعِــضُّ السَّــيْفَ مِنْهَــا بِأَسْــوُقِ عَافِيَــاتِ الشَّــحْمِ كُـومِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( مكان السيئة الحسنة ) ، قال: مكان الشدة رخاء ( حتى عفوا ) .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( مكان السيئة الحسنة ) ، قال: « السيئة » ، الشر، و « الحسنة » ، الرخاء والمالُ والولد.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال : حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مكان السيئة الحسنة ) ، قال: « السيئة » ، الشر، و « الحسنة » ، الخير.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) ، يقول: مكان الشدة الرَّخاء.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ) ، قال: بدلنا مكان ما كرهوا ما أحبُّوا في الدنيا ( حتى عفوا ) ، من ذلك العذاب ( وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء ) .

واختلفوا في تأويل قوله: ( حتى عفوا ) .

فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( حتى عفوا ) ، يقول: حتى كثروا وكثرت أموالهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( حتى عفوا ) ، قال: جَمُّوا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( حتى عفوا ) ، قال: كثرت أموالهم وأولادهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ( حتى عفوا ) ، حتى كثروا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: ( حتى عفوا ) ، قال: حتى جَمُّوا وكثروا.

... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: ( حتى عفوا ) ، قال: حتى جَمُّوا.

... قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( حتى عفوا ) ، يعني: جَمُّوا وكثروا.

... قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( حتى عفوا ) ، قال: حتى كثرت أموالهم وأولادهم.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حتى عفوا ) ، كثروا كما يكثر النّبات والرّيش، ثم أخذهم عند ذلك ( بغتة وهم لا يَشْعُرون ) .

وقال آخرون: معنى ذلك: حتى سُرُّوا.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( حتى عفوا ) ، يقول: حتى سُرُّوا بذلك.

قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله قتادة في معنى : « عفوا » ، تأويلٌ لا وجه له في كلام العرب. لأنه لا يعرف « العفو » بمعنى السرور ،في شيء من كلامها ، إلا أن يكون أراد: حتى سُرُّوا بكثرتهم وكثرةِ أموالهم، فيكون ذلك وجهًا، وإن بَعُد.

وأما قوله: ( وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ) ، فإنه خبرٌ من الله عن هؤلاء القوم الذين أبدلهم مكان الحسنة السيئة التي كانوا فيها ، استدراجًا وابتلاء ، أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم: هذه أحوال قد أصابتْ مَنْ قبلنا من آبائنا ، ونالت أسلافَنا، ونحن لا نعدُو أن نكون أمثالَهم يصيبنا ما أصابهم من الشدة في المعايش والرخاء فيها وهي « السراء » ، لأنها تَسرُّ أهلها.

وجهل المساكين شكرَ نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامةَ فضلهِ بالإنابة إلى طاعته، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون.

يقول جل جلاله: ( فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) ، يقول: فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة ، أتاهم على غِرّة منهم بمجيئه، وهم لا يدرون ولا يعلمون أنّه يجيئهم، بل هُم بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوه.