القول في تأويل قوله تعالى : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ما ننسخ من آية ) : ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

وأصل « النسخ » من « نسخ الكتاب » ، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى « نسخ » الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك, أو محي أثرها, فعفِّي ونسي, إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه: « نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا, و » النُّسخة « الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول: »

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف, عن الحسن أنه قال في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا, ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه.

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( ما ننسخ ) فقال بعضهم بما:-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ما ننسخ من آية ) ، أما نسخها، فقبضها.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ما ننسخ من آية ) ، يقول: ما نبدل من آية.

وقال آخرون بما:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا: ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها، [ ونبدل حكمها ] .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما ننسخ من آية ) ، نثبت خطها, ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن أصحاب ابن مسعود: ( ما ننسخ من آية ) نثبت خطها، [ ونبدل حكمها ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ نُنْسِهَا

قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: ( أو ننسها ) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل.

أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: ( ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها ) , فذلك تأويل: « النسيان » . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها, ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وينسخ ما شاء.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: ( ننسها ) ، نرفعها من عندكم.

حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف, عن الحسن أنه قال في قوله: ( أو ننسها ) ، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا, ثم نسيه.

وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها: ( أو تَنسها ) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى بن عطاء, عن القاسم [ بن ربيعة ] قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) ، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: ( أو تُنْسها ) ، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينـزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى [ الأعلى: 6 ] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف: 24 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه.

حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا, عن شعبة, عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: ( ما ننسخ من آية أو تُنسها ) فقال سعد: إن الله لم ينـزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: ( ما ننسخ من آية أو تنسها ) يا محمد. ثم قرأ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى و وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( ما ننسخ من آية أو نُنسها ) ، يقول: « ننسها » : نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنـزل أمورا من القرآن ثم رفعها.

والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى « الترك » , من قول الله جل ثناؤه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ التوبة: 67 ] ، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: ( أو نَنسها ) ، يقول: أو نتركها لا نبدلها.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( أو ننسها ) ، نتركها لا ننسخها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها ) ، قال: الناسخ والمنسوخ.

قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( نُنسها ) ، نمحها.

وقرأ ذلك آخرون: ( أو ننسأها ) بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى نؤخرها, من قولك: « نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء » ، إذا أخرته, وهو من قولهم: « بعته بنساء, يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد: »

لعمـرك إن المـوت مـا أَنْسَـأ الفتى لكــالطِّوَل المُرْخــى وثِنْيـاه بـاليد

يعني بقوله « أنسأ » ، أخر.

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين, وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين, وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: ( ما ننسخ من آية أو نَنْسأها ) ، قال: نؤخرها.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: ( أو ننسأها ) ، قال: نُرْجئها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو ننسأها ) ، نرجئها ونؤخرها.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل, عن عطية: ( أو ننسأها ) ، قال: نؤخرها فلا ننسخها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي, عن عبيد بن عمير ( أو ننسأها ) ، إرجاؤها وتأخيرها.

هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير, « عن عبيد الأزدي » ، وإنما هو عن « علي الأزدي » .

حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن علي الأزدي, عن عبيد بن عمير أنه قرأها: ( ننسأها ) .

قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنـزلناها إليك يا محمد, فنبطل حكمها ونثبت خطها, أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها.

وقد قرأ بعضهم ذلك: ( ما ننسخ من آية أو تُنسها ) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: ( أو نُنسها ) ، إلا أن معنى ( أو تُنسها ) ، أنت يا محمد.

وقد قرأ بعضهم: ( ما نُنسخ من آية ) ، بضم النون وكسر السين, بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من « أنسختك فأنا أنسخك » . وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ ( تُنسها ) أو ( تَنسها ) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة.

وأولى القراءات في قوله: ( أو ننسها ) بالصواب، من قرأ: ( أو نُنْسها ) بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره, فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها, أن يكون - إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع, إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ . قوله: أو نترك نسخها, إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت, فهو يشتمل على معنى « الإنساء » الذي هو بمعنى الترك، ومعنى « النَّساء » الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك.

وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: ( أو نَنْسها ) ، إذا عني به النسيان, وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد, فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [ الإسراء: 86 ] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم.

قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا: « بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » . ثم إن ذلك رفع.

والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون: « لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب » . ثم رفع.

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.

وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنـزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين, فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز.

وأما قوله: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه, وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه, فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه, وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ [ الأعلى: 6- 7 ] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله.

فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى, لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنـزيله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( نأت بخير منها أو مثلها ) . فقال بعضهم بما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.

وقال آخرون بما:

حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، يقول: آية فيها تخفيف, فيها رحمة، فيها أمر, فيها نهي.

وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها, أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( نأت بخير منها ) ، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثلها، أو مثل التي تركناها.

« فالهاء والألف » اللتان في قوله: ( منها ) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ . و « الهاء والألف » اللتان في قوله: ( أو مثلها ) ، عائدتان على « الهاء والألف » اللتين في قوله: أَوْ نُنْسِهَا .

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: نُنْسِهَا نرفعها من عندكم, نأت بمثلها أو خير منها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: أَوْ نُنْسِهَا ، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها.

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شوذب, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن أصحاب ابن مسعود مثله.

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله, نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم, من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم, وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل, ثم نسخ ذلك فوضع عنهم, فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة, فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول, فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك, فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر, لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات, فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: ( نأت بخير منها ) . لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه, أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره.

أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه, نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس, وإن خالف التوجه شطر المسجد, فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره, نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى « المثل » الذي قال جل ثناؤه: ( أو مثلها ) .

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر « الآية » من ذكر « حكمها » . وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا, كقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ البقرة: 93 ] ، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك.

فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله, نأت بخير لكم - أيها المؤمنون- حكما منها, أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.

فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل, فما الذي يدل على أن قوله: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ) - لذلك نظير؟

قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: ( نأت بخير منها أو مثلها ) ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله, ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 106 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم, إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير.

ومعنى قوله: ( قدير ) في هذا الموضع: قوي. يقال منه: « قد قدرت على كذا وكذا » ، إذا قويت عليه « أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا ومقدرة » ، وبنو مرة من غطفان تقول: « قدِرت عليه » بكسر الدال.

فأما من « التقدير » من قول القائل: « قدرت الشيء » ، فإنه يقال منه « قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 107 )

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟

قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا, فيقول أحدهما لصاحبه: « ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ » بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه, يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك.

قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه: ( ألم تعلم ) ، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام, وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات, وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب, ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم, فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه: لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: ( وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم, وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ) . لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره, وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره, أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ الأحزاب: 1- 2 ] ، فرجع إلى خطاب الجماعة, وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إلــى الســراج المنـير أحـمد, لا يَعْـــدِلني رغبــــة ولا رهــب

عنـه إلـى غـيره ولـو رفـع الـن اس إلـــيّ العيـــونُ وارتقبــوا

وقيـل: أفـرطتَ! بـل قصـدتُ ولـو عنفنـــي القـــائلون أو ثَلَبُــوا

لــج بتفضيلــك اللســان, ولـو أكــثـر فيــك الضِّجـاج واللجَـب

أنـت المصفي المحض المهذب في الن ســبة, إن نــص قـومَك النسـب

فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته, فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله, ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله.

وكما قال جميل بن معمر:

ألا إن جــيراني العشــية رائــح دعتهــم دواع مـن هـوى ومنـادح

فقال: « ألا إن جيراني العشية » فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه, ثم قال: « رائح » ، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى:

خـليلي فيمـا عشـتما, هـل رأيتمـا قتيـلا بكـى مـن حـب قاتلـه قبلي

وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها. فكذلك قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم, فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك.

أما قوله: ( له ملك السموات والأرض ) ولم يقل: ملك السموات، فإنه عنى بذلك « ملك » السلطان والمملكة دون « المِلك » . والعرب إذا أرادت الخبر عن « المملكة » التي هي مملكة سلطان، قالت: « ملك الله الخلق مُلكا » . وإذا أرادت الخبر عن « المِلك » قالت: « ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا. »

فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء, وأنهى عما أشاء, وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء, وأقر منها ما أشاء؟

وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته, فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى, وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم, لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما, فإن الخلق أهل مملكته وطاعته, عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه, وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عما شاء, ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء, وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري, وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي, ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي, فإنه لا قيم بأمركم سواي, ولا ناصر لكم غيري, وأنا المنفرد بولايتكم، والدفاع عنكم, والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم, حتى أعلي حجتكم, وأجعلها عليهم لكم.

و « الولي » معناه « فعيل » من قول القائل: « وَلِيت أمر فلان » ، إذا صرت قيِّما به، « فأنا أليه، فهو وليه » وقَيِّمُه. ومن ذلك قيل: « فلان ولي عهد المسلمين » , يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين.

وأما « النصير » فإنه « فعيل » من قولك: « نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك ونصيرك » ، وهو المؤيد والمقوي.

وأما معنى قوله: ( من دون الله ) ، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

يـا نفس مـالك دون اللـه مـن واقي ومـا عـلى حدثـان الدهـر من باقي

يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره.

فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزلت هذه الآية. فقال بعضهم بما:

حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل- قالا حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنـزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنـزل الله في ذلك من قولهما: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، الآية.

وقال آخرون بما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، وكان موسى يسأل، فقيل له: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.

وقال آخرون بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا, قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم « ! فأبوا ورجعوا. »

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا, فقال: « نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا, فأنـزل الله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) ، أن يريهم الله جهرة. »

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية قال، قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها, فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا, وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل, قال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [ النساء: 110 ] . قال: وقال: » الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن « . »

وقال: « من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, فإن عملها كتبت له عشر أمثالها, ولا يهلك على الله إلا هالك » .

فأنـزل الله: ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) .

واختلف أهل العربية في معنى ( أم ) التي في قوله: ( أم تريدون ) . فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام. وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟

وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام, كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء « و » لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ « قال: وليس قوله: ( أم تريدون ) على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل: »

كــذبَتْك عينُـك أم رأيـت بواسـط غَلَس الظــلام مـن الرَّبـاب خيـالا

وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: ( أم تريدون ) استفهاما على كلام قد سبقه, كما قال جل ثناؤه: الم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ السجدة: 1- 3 ] ، فجاءت « أم » وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة: « أم » في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين: إحداهما أن تُفَرِّق معنى « أي » ، والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق, والذي ينوي بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ « الألف » أو بـ « هل » .

قال: وإن شئت قلت في قوله: ( أم تريدون ) ، قبله استفهام, فرد عليه وهو في قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ « أم » ، وإن كانت « أم » أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: الم * تَنْـزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ السجدة: 1- 3 ] وقد تكون « أم » بمعنى « بل » ، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه « أي » , فيقولون: « هل لك قِبَلَنا حق, أم أنت رجل معروف بالظلم؟ » وقال الشاعر:

فواللــه مـا أدري أسـلمى تغـولت أم النــوم أم كــل إلــي حـبيب

يعني: بل كل إلي حبيب.

وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن « أم » في قوله: ( أم تريدون ) استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها إلى أوله - : إن الأول خبر، والثاني استفهام, والاستفهام لا يكون في الخبر, والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر, فاستفهم.

قال أبو جعفر: فإذا كان معنى « أم » ما وصفنا, فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم, فتكفروا - إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه، فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك, كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم, فلما أعطيت كفرت, فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد إعطاء الله إياها سؤلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ومن يتبدل ) ، ومن يستبدل « الكفر » ، ويعني بـ « الكفر » ، الجحود بالله وبآياته، ( بالإيمان ) , يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به.

وقد قيل: عنى بـ « الكفر » في هذا الموضع: الشدة، وبـ « الإيمان » الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني « الكفر » , ولا الرخاء في معنى « الإيمان » ، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله « الكفر » بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله « الإيمان » في معنى الرخاء - : ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد, وما أعد الله لأهل الإيمان فيها من النعيم, فيكون ذلك وجها، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن أبي العالية: ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) ، يقول: يتبدل الشدة بالرخاء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن أبي جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية بمثله.

وفي قوله: ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) ، دليل واضح على ما قلنا: من أن هذه الآيات من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا ، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم, فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك, وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي, وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل, ونهاهم أن ينتصحوهم, وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا، فقد أخطأ قصد السبيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 108 )

قال أبو جعفر: أما قوله: ( فقد ضل ) ، فإنه يعني به ذهب وحاد. وأصل « الضلال عن الشيء » ، الذهاب عند والحيد، ثم يستعمل في الشيء الهالك، والشيء الذي لا يؤبه له, كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة: « ضُل بن ضُل » , و « قُل بن قُل » ، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك:

كـنتَ القَـذَى فـي مـوجِ أكدر مُزْبدٍ قــذف الأتِـيُّ بـه فضـل ضـلالا

يعني: هلك فذهب.

والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: ( فقد ضل سواء السبيل ) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.

وأما تأويل قوله: ( سواء السبيل ) ، فإنه يعني بـ « السواء » ، القصد والمنهج.

وأصل « السواء » الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال: « ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي » , يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت:

يــا ويــح أنصـار النبـي ونسـله بعــد المغيـب فـي سـواء الملحـد

يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول: « هو في سواء السبيل » , يعني في مستوى السبيل، « وسواء الأرض » : مستواها، عندهم.

وأما « السبيل » ، فإنها الطريق المسبول, صرف من « مسبول » إلى « سبيل » .

فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر، فيرتد عن دينه, فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول.

وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق, والمعْنِيُّ به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه, وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه, نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في آخرتهم, كالذي يدرك اللازم محجة السبيل بلزومه إياها طلبته من النجاة منها, والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، وذهابه عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه, مثلَ الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل, الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه، إلا ازداد من موضع حاجته بعدا, وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا.

وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها, هي الصراط المستقيم « ، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا

قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه, بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم, إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، وعتاب منه لهم, ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء, وما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود: رَاعِنَا ، تأسيا منكم بهم, ولكن قولوا: انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا , فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره, ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينـزل عليكم من خير من ربكم, ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم, من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة.

وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، كعب بن الأشرف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، هو كعب بن الأشرف.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان العمري, عن معمر, عن الزهري وقتادة: ( ود كثير من أهل الكتاب ) ، قال: كعب بن الأشرف.

وقال بعضهم بما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا, إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم, وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا, فأنـزل الله فيهما: ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم ) الآية.

قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن الأشرف واحد, وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له « كثير » ، بمعنى الكثرة في العدد, إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز ورفعة المنـزلة في قومه وعشيرته, كما يقال: « فلان في الناس كثير » , يراد به كثرة المنـزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ, لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال: ( لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا ) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة, والمقصود بالخبر عنه الواحد, نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل، فيكون ذلك أيضا خطأ. وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه, ولا دلالة تدل في قوله: ( ود كثير من أهل الكتاب ) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة, فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ

قال أبو جعفر: ويعني جل ثناؤه بقوله: ( حسدا من عند أنفسهم ) ، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدا منهم وبغيا عليهم.

و « الحسد » إذا منصوب على غير النعت للكفار, ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر, كقول القائل لغيره: « تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك » ، فيكون « الحسد » مصدرا من معنى قوله: « تمنيت من السوء » . لأن في قوله تمنيت لك ذلك, معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب « الحسد » , لأن في قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ، معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق, ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله, وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما, ولم يجعله منهم, فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله: ( حسدا ) ، مصدرا من ذلك المعنى.

وأما قوله: ( من عند أنفسهم ) ، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم, كما يقول القائل: « لي عندك كذا وكذا » , بمعنى: لي قبلك، وكما:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع بن أنس، قوله: ( من عند أنفسهم ) ، قال: من قبل أنفسهم.

وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم, وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب - الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم- الحقُّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والإسلام دين الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, مثله - وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا, إذْ كان من غيرهم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله.

قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد, وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون، كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: ( من بعد ما تبين لهم الحق ) ، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا, ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( فاعفوا ) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم ‍صلى الله عليه وسلم : وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ، [ النساء: 46 ] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره ، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء ، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره ، وأتى بأمره ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين به: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . [ التوبة: 29 ] . فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح ، بفرض قتالهم على المؤمنين ، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة ، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ) ، ونسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ التوبة: 5 ]

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، فأتى الله بأمره فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، حتى بلغ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، أي: صغارا ونقمة لهم . فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث الله بعد فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى: وَهُمْ صَاغِرُونَ .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) قال: نسختها: ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) ، قال: هذا منسوخ ، نسخه قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 109 )

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى « القدير » ، وأنه القوي.

فمعنى الآية ههنا: إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير ، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم ، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان ، لا يتعذر عليه شيء أراده ، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه ، لأن له الخلق والأمر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى « إقامة الصلاة » ، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها ، وعلى تأويل « الصلاة » وما أصلها ، وعلى معنى « إيتاء الزكاة » ، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووجبت ، وعلى معنى « الزكاة » واختلاف المختلفين فيها ، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وأما قوله: ( وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ) ، فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم ، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به.

و « الخير » هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: ( تجدوه ) ، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله: ( تجدوه ) يعني: تجدوا ثوابه عند الله.

قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه ، كما قال عمر بن لجأ:

وســـبحت المدينـــة لا تلمهــا رأت قمـــرا بســـوقهم نهــارا

وإنما أراد: وسبح أهل المدينة.

وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم ، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: رَاعِنَا ، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب ، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 110 )

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها.

وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا . وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجدوا في طاعته ، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه ، كما قال: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ، وليحذروا معصيته ، إذْ كان مطلعا على راكبها ، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه ، وما وعد عليه فمأمور به.

وأما قوله: ( بصير ) ، فإنه « مبصر » صرف إلى « بصير » ، كما صرف « مبدع » إلى « بديع » ، و « مؤلم » إلى « أليم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وقالوا ) ، وقالت اليهود والنصارى: ( لن يدخل الجنة ) .

فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين ؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب ، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟

قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه . وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه ، جُمع الفريقان في الخبر عنهما ، فقيل: ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) الآية - أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.

وأما قوله: ( من كان هودا ) ، فإن في « الهود » قولين: أحدهما أن يكون جمع « هائد » ، كما جاء « عُوط » جمع « عائط » ، و « عُوذ » جمع « عائذ » ، و « حُول » جمع « حائل » ، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد . و « الهائد » التائب الراجع إلى الحق.

والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع ، كما يقال: « رجل صَوم وقوم صوم » ، و « رجل فِطر وقوم فطر ، ونسوة فطر » .

وقد قيل: إن قوله: ( إلا من كان هودا ) ، إنما هو قوله، إلا من كان يهودا ، ولكنه حذف الياء الزائدة ، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي: « إلا من كان يهوديا أو نصرانيا » .

وقد بينا فيما مضى معنى « النصارى » ، ولم سميت بذلك ، وجمعت كذلك ، بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله: ( تلك أمانيهم ) ، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا: ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان ، ولا يقين علم بصحة ما يدعون ، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( تلك أمانيهم ) ، أماني يتمنونها على الله كاذبة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( تلك أمانيهم ) ، قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 111 )

قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا : لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها ، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا : من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد ، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، دون غيرهم من سائر البشر: ( هاتوا برهانكم ) ، على ما تزعمون من ذلك ، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.

والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا بينتكم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( هاتوا برهانكم ) ، هاتوا حجتكم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: ( قل هاتوا برهانكم ) ، قال: حجتكم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( قل هاتوا برهانكم ) ، أي : حجتكم.

قال أبو جعفر: وهذا الكلام ، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك ، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم ، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام، بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم.

وأما تأويل قوله: ( قل هاتوا برهانكم ) فإنه: أحضروا وأتوا به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ ) ، أنه ليس كما قال الزاعمون لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن ، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية.

وقد بينا معنى ( بلى ) فيما مضى قبل.

وأما قوله: ( من أسلم وجهه لله ) ، فإنه يعني بـ « إسلام الوجه » : التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل « الإسلام » : الاستسلام ، لأنه « من استسلمت لأمره » ، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي « المسلم » مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ) ، يقول: أخلص لله. وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:

وأســلمت وجــهي لمـن أسـلمت لــه المــزن تحــمل عذبـا زلالا

يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له.

وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه ، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه ، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا ، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء ، فتضيفه إلى « وجهه » وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه ، كقول الأعشى:

أَؤُوِّل الحـــكم عـــلى وَجهــه ليس قضــائي بــالهوى الجــائر

يعني بقوله: « على وجهه » : على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة:

فطـاوعت همـي وانجـلى وجه بازل مـن الأمـر, لـم يترك خِلاجا بُزُولُها

يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك ، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه ، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ) ، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه ، فخضع له بالطاعة جسده ، وهو محسن في إسلامه له جسده ، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر « الوجه » من ذكر « جسده » لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر « الوجه » .

وأما قوله: ( وهو محسن ) ، فإنه يعني به : في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له ، محسنا في فعله ذلك.

 

القول في تأويل قوله : فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 112 )

قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: ( فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا ، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه ، عند الله في معاده.

ويعني بقوله: ( ولا خوف عليهم ) ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون ، المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه ، وما قدموا عليه من أعمالهم.

ويعني بقوله: ( ولا هم يحزنون ) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا ، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته.

وإنما قال جل ثناؤه: ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، وقد قال قبل: ( فله أجره عند ربه ) ، لأن « من » التي في قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ، في لفظ واحد ومعنى جميع ، فالتوحيد في قوله: ( فله أجره ) للفظ ، والجمع في قوله: ( ولا خوف عليهم ) ، للمعنى.