القول في تأويل قوله : وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرقناهم يعني قوم موسى من بني إسرائيل, فرقهم الله فجعلهم قبائل شتى, اثنتي عشرة قبيلة.

وقد بينا معنى « الأسباط » ، فيما مضى، ومن هم.

واختلف أهل العربية في وجه تأنيث « الاثنتي عشرة » ، و « الأسباط » جمع مذكر. فقال بعض نحويي البصرة: أراد اثنتي عشرة فرقة, ثم أخبر أن الفرق « أسباط » , ولم يجعل العدد على « أسباط » .

وكان بعضهم يستخِلُّ هذا التأويل ويقول لا يخرج العدد على غير التالي, ولكن « الفرق » قبل « الاثنتي عشرة » ، حتى تكون « الاثنتا عشرة » مؤنثة على ما قبلها, ويكون الكلام: وقطعناهم فرقًا اثنتي عشرة أسباطًا فيصحّ التأنيث لما تقدَّم.

وقال بعض نحويي الكوفة: إنما قال « الاثنتي عشرة » بالتأنيث، و « السبط » مذكر, لأن الكلام ذهب إلى « الأمم » ، فغُلّب التأنيث، وإن كان « السبط » ذكرًا, وهو مثل قول الشاعر: وَإِنَّ كِلابًــا هَــذِهِ عَشْــرُ أَبْطُـنٍ وَأَنْـتَ بَـرِيءٌ مِـنْ قَبَائِلِهَـا الْعَشْـرِ

ذهب ب « البطن » إلى القبيلة والفصيلة, فلذلك جمع « البطن » بالتأنيث.

وكان آخرون من نحويي الكوفة يقولون: إنما أنّثت « الاثنتا عشرة » ، و « السبط » ذكر, لذكر « الأمم » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنّ « الاثنتي عشرة » أنثت لتأنيث « القطعة » ، ومعنى الكلام: وقطعناهم قِطَعًا اثنتي عشرة ثم ترجم عن « القِطَع » ب « الأسباط » ، وغير جائز أن تكون « الأسباط » مفسرة عن « الاثنتي عشرة » وهي جمع, لأن التفسير فيما فوق « العشر » إلى « العشرين » بالتوحيد لا بالجمع, و « الأسباط » جمع لا واحد, وذلك كقولهم: « عندي اثنتا عشرة امرأة » . ولا يقال: « عندي اثنتا عشرة نسوة » ، فبيَّن ذلك أن « الأسباط » ليست بتفسير للاثنتي عشرة, وأن القول في ذلك على ما قلنا.

وأما « الأمم » ، فالجماعات و « السبط » في بني إسرائيل نحو « القَرْن » .

وقيل: إنما فرّقوا أسباطًا لاختلافهم في دينهم.

 

القول في تأويل قوله : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 160 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وأوحينا إلى موسى » ، إذ فرّقنا بني إسرائيل قومه اثنتي عشرة فرقة, وتيَّهناهم في التيه، فاستسقوا موسى من العَطش وغَوْر الماء « أن اضرب بعصَاك الحجر » .

وقد بينا السبب الذي كان قومه استسقوه وبينا معنى الوحي بشواهده.

« فانبجست » ، فانصّبت وانفجرت من الحجر اثنتَا عشرة عينًا من الماء, « قد علم كل أناس » ، يعني: كل أناس من الأسباط الاثنتي عشرة « مشربهم » ، لا يدخل سبط على غيره في شربه « وظللنا عليهم الغمام » ، يكنُّهم من حرّ الشمس وأذاها.

وقد بينا معنى « الغمام » فيما مضى قبل, وكذلك: « المن والسلوى » .

« وأنـزلنا عليهم المن والسلوى » ، طعامًا لهم « كلوا من طيبات ما رزقناكم » ، يقول: وقلنا لهم: كلوا من حَلال ما رَزقْناكم، أيها الناس، وطيّبناه لكم « وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ، وفي الكلام محذوف، ترك ذكره استغناءً بما ظهَر عما ترك, وهو: « فأجِمُوا ذلك، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد, فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير » « وما ظلمونا » ، يقول: وما أدخلوا علينا نقصًا في ملكنا وسلطاننا بمسألتهم ما سألوا, وفعلهم ما فعلوا « ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » ، أي: ينقصونها حظوظَها باستبدالهم الأدنى بالخير، والأرذل بالأفضل.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَـزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 161 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا، يا محمد، من خطأ فعل هؤلاء القوم، وخلافهِم على ربهم، وعصيانهم نبيَّهم موسى عليه السلام، وتبديلهم القولَ الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم: « اسكنوا هذه القرية » ، وهي قرية بيت المقدس « وكلوا منها » وكلوا : من ثمارها وحبوبها ونباتها « حيث شئتم » ، منها، يقول: أنّى شئتم منها « وقولوا حطة » ، يقول: وقولوا: هذه الفعلة « حِطّةٌ » ، تحطُّ ذنوبنا « نغفر لكم » ، يتغمد لكم ربكم « ذنوبكم » ، التي سلفت منكم, فيعفو لكم عنها, فلا يؤاخذكم بها. « سنـزيد المحسنين » ، منكم, وهم المطيعون لله, على ما وعدتكم من غفران الخطايا.

وقد ذكرنا الروايات في كل ذلك باختلاف المختلفين، والصحيح من القول لدينا فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله : فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ( 162 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول, فقالوا وقد قيل لهم: قولوا: هذه حطة: « حنطة في شعيرة » . وقولهم ذلك كذلك، هو غير القول الذي قيل لهم قولوه. يقول الله تعالى: « فأرسلنا عليهم رجزًا من السماءِ » ، بَعثنا عليهم عذابًا، أهلكناهم بما كانوا يغيِّرون ما يؤمرون به, فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله، ويقولون غير الذي أمرهم الله بفعله.

وقد بينا معنى الرجز فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله : وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 163 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واسأل، يا محمد، هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك, عن أمر « القرية التي كانت حاضرة البحر » , يقول: كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه.

واختلف أهل التأويل فيها.

فقال بعضهم: هي « أيلة » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن محمد بن إسحاق, عن داود بن حصين, عن عكرمة, عن ابن عباس: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: هي قرية يقال لها « أيلة » , بين مَدْين والطور.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير في قوله: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » قال: سمعنا أنها أيلة.

حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال، حدثنا ابن جريج, عن عكرمة قال: دخلتُ على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي, فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداك؟ فقال: ويلك, وتعرِف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة!

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: هي أيلة.

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: هي قرية على شاطئ البحر، بين مصر والمدينة، يقال لها: « أيلة » .

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هم أهل أيلة, القرية التي كانت حاضرة البحر.

حدثني الحارث قال، حدثنا أبو سعد, عن مجاهد في قوله: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: أيلة.

وقال آخرون: معناه: ساحلُ مدين.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » الآية, ذكر لنا أنها كانت قرية على ساحل البحر، يقال لها أيلة.

وقال آخرون: هي مَقْنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر » ، قال: هي قرية يقال لها « مقنا » ، بين مدين وعَيْنُوني.

وقال آخرون: هي مدين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: هي قرية بين أيلة والطور، يقال لها « مَدْين » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هي قرية حاضرة البحر وجائز أن تكون أيلة وجائز أن تكون مدين وجائز أن تكون مقنا لأن كل ذلك حاضرة البحر، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع العذر بأيِّ ذلك من أيٍّ, والاختلاف فيه على ما وصفت. ولا يوصل إلى علم ما قد كان فمضى مما لم نعاينه, إلا بخبر يوجب العلم. ولا خبر كذلك في ذلك.

وقوله: « إذ يعدون في السبت » ، يعني به أهله، إذ يعتدون في السبت أمرَ الله, ويتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم.

يقال منه: « عدا فلان أمري » و « اعتدى » ، إذا تجاوزه.

وكان اعتداؤهم في السبت: أن الله كان حرَّم عليهم السبت, فكانوا يصطادون فيه السمك.

« إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرَّعًا » ، يقول: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم الذي نهوا فيه العمل « شرَّعًا » , يقول: شارعة ظاهرةً على الماء من كل طريق وناحية، كشوارع الطرق، كالذي: -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك، عن ابن عباس: « إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا » ، يقول: ظاهرة على الماء.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « شرعًا » ، يقول: من كلّ مكان.

وقوله: « ويوم لا يسبتون » ، يقول: ويوم لا يعظمونه تعظيمهم السَّبت, وذلك سائر الأيام غير يوم السبت « لا تأتيهم » ، الحيتان « كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون » ، يقول: كما وصفنا لكم من الاختبار والابتلاء الذي ذكرنا، بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده, وإخفائه عنهم في اليوم المحلل صيده « كذلك نبلوهم » ، ونختبرهم « بما كانوا يفسقون » ، يقول: بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ويوم لا يسبتون » .

فقرئ بفتح « الياء » من ( يَسْبِتُونَ ) من قول القائل: « سبت فلان يسبت سَبْتًا وسُبُوتًا » ، إذا عظَّم « السبت » .

وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: ( وَيَوْمَ لا يُسْبَتُونَ ) بضم الياء. من « أسبت القوم يسبتون » ، إذا دخلوا في « السبت » , كما يقال: « أجمعنا » ، مرّت بنا جمعة, و « أشهرنا » مرّ بنا شهر, و « أسبتنا » ، مرّ بنا سبت.

ونصب « يوم » من قوله: « ويوم لا يسبتون » ، بقوله: « لا تأتيهم » ، لأن معنى الكلام: لا تأتيهم يوم لا يسبتون.