القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا لجهنّم كثيرًا من الجن والإنس.

يقال منه: ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذَرْءًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن الحسين الأزدي قال: حدثنا يحيى بن يمان, عن مبارك بن فضالة, عن الحسن, في قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس ) قال: مما خلقنا.

.... حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن أبي زائدة, عن مبارك, عن الحسن, في قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) قال: خلقنا.

.... قال: حدثنا زكريا, عن عتاب بن بشير, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير قال: أولاد الزنا ممّا ذرأ الله لجهنم.

قال: حدثنا زكريا بن عدي، وعثمان الأحول, عن مروان بن معاوية, عن الحسن بن عمرو, عن معاوية بن إسحاق, عن جليس له بالطائف, عن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله لما ذرأ لجهنم ما ذرأ, كان ولدُ الزنا ممن ذرأ لجهنم » .

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) ، يقول: خلقنا.

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) قال: لقد خلقنا لجهنم كثيرًا من الجن و الإنس.

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) ، خلقنا.

قال أبو جعفر: وقال جل ثناؤه: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس ) ، لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربِّهم.

وأما قوله: ( لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ) ، فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله, ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته, ولا يعتبرون بها حُجَجه لرسله, فيعلموا توحيد ربِّهم, ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم. فوصفهم ربُّنا جل ثناؤه بأنهم: « لا يفقهون بها » ، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبُّر صحة [ نبوّة ] الرسل، وبُطُول الكفر. وكذلك قوله: ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) ، معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته, فيتأملوها ويتفكروا فيها, فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم, وفسادِ ما هم عليه مقيمون، من الشرك بالله، وتكذيب رسله; فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحقّ، بأنهم لا يبصرون بها.

وكذلك قوله: ( ولهم آذان لا يسمعون بها ) ، آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها, ولكنهم يعرضون عنها, ويقولون: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ، [ سورة فصلت: 26 ] . وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، [ سورة البقرة: 171 ] .والعرب تقول ذلك للتارك استعمالَ بعض جوارحه فيما يصلح له, ومنه قول مسكين الدارمي:

أَعْمَــى إِذَا مَــا جَـارَتِي خَرَجَـتْ حَــتَّى يُــوَارِيَ جَــارَتِي السِّـتْرُ

وَأَصَــمُّ عَمَّـا كَـــانَ بَيْنَهُمَــا سَــمْعِي وَمَـا بِالسَّـمْعِ مِـنْ وَقْــرِ

فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم. ومنه قول الآخر: وَعَــوْرَاءُ اللِّئَــامِ صَمَمْـتُ عَنْهَـا وَإِنِّــي لَــوْ أَشَــاءُ بِهَـا سَـمِيعُ

وَبَـادِرَةٍ وَزَعْـــتُ النَّفْـسَ عَنْهَـا وَقَـدْ تَثِقَـتْ مِـنَ الْغَضَـبِ الضُّلُـوعُ

وذلك كثير في كلام العرب وأشعارها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) قال: لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) ، الهدى ( ولهم آذان لا يسمعون بها ) الحقَّ، ثم جعلهم كالأنعام سواءً, ثم جعلهم شرًّا من الأنعام, فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، ثم أخبر أنهم هم الغافلون.

 

القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( 179 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( أولئك كالأنعام ) ، هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم، هم كالأنعام, وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها، ولا تفهم ما أبصرته لما يصلح وما لا يَصْلُح، ولا تعقل بقلوبها الخيرَ من الشر، فتميز بينهما. فشبههم الله بها, إذ كانوا لا يتذكَّرون ما يرون بأبصارهم من حُججه, ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه. ثم قال: ( بل هم أضل ) ، يقول: هؤلاء الكفرة الذين ذَرَأهم لجهنم، أشدُّ ذهابًا عن الحق، وألزم لطريق الباطل من البهائم، لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز، فتختار وتميز, وإنما هي مسَخَّرة، ومع ذلك تهرب من المضارِّ، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصفَ الله صفتهم في هذه الآية, مع ما أعطوا من الأفهام والعقول المميِّزة بين المصالح والمضارّ, تترك ما فيه صلاحُ دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارّها, فالبهائم منها أسدُّ، وهي منها أضل، كما وصفها به ربُّنا جل ثناؤه.

وقوله: ( أولئك هم الغافلون ) ، يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم, القومُ الذين غفلوا يعني: سهوًا عن آياتي وحُججي, وتركوا تدبُّرها والاعتبارَ بها والاستدلالَ على ما دلّت عليه من توحيد ربّها, لا البهائم التي قد عرّفها ربُّها ما سخَّرها له.

 

القول في تأويل قوله : وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 180 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ( ولله الأسماء الحسنى ) ، , وهي كما قال ابن عباس: -

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي, قال حدثني عمي ، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) ، ومن أسمائه: « العزيز الجبار » , وكل أسمائه حسن.

حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية, عن هشام بن حسّان, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن لله تسعة وتسعين اسمًا, مائة إلا واحدًا, من أحصاها كُلَّها دخل الجنة » .

وأما قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، فإنه يعني به المشركين.

وكان إلحادهم في أسماء الله، أنهم عدَلوا بها عمّا هي عليه, فسموا بها آلهتهم وأوثانهم, وزادوا فيها ونقصوا منها, فسموا بعضها « اللات » اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو « الله » , وسموا بعضها « العُزَّى » اشتقاقًا لها من اسم الله الذي هو « العزيز » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، قال: إلحاد الملحدين: أن دعوا « اللات » في أسماء الله.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) قال: اشتقوا « العزى » من « العزيز » , واشتقوا « اللات » من « الله » .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( يلحدون ) .

فقال بعضهم: يكذّبون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن ابن عباس, قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) قال: الإلحاد: التكذيب.

وقال آخرون: معنى ذلك: يشركون.

ذكر من قال ذلك.

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا أبو ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يلحدون ) قال: يشركون.

وأصل « الإلحاد » في كلام العرب: العدول عن القصد, والجورُ عنه, والإعراض. ثم يستعمل في كل معوَجّ غير مستقيم, ولذلك قيل للحْد القبر: « لحد » , لأنه في ناحية منه، وليس في وسطه. يقال منه: « ألحد فلانٌ يُلْحِد إلحادًا » , و « لَحد يلْحَد لَحْدًا ولُحُودًا » . وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرّق بين « الإلحاد » و « اللحٍْد » , فيقول في « الإلحاد » : إنه العدول عن القصد, وفي « اللحد » إنه الركون إلى الشيء. وكان يقرأ جميع ما في القرآن: ( يُلْحِدُونَ ) بضم الياء وكسر الحاء, إلا التي في النحل, فإنه كان يقرؤها: « يَلْحَدُون » بفتح الياء والحاء, ويزعم أنه بمعنى الركون.

وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب، فيرون أن معناهما واحدٌ, وأنهما لغتان جاءتا في حرفٍ واحدٍ بمعنى واحد.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: ( يُلْحِدُون ) ، بضم الياء وكسر الحاء من « ألحد يُلْحِد » في جميع القرآن.

وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: « يَلْحَدُونَ » بفتح الياء والحاء من « لَحَد يَلْحَدُ » .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. غير أنِّي أختار القراءة بضمِّ الياء على لغة من قال: « ألحد » , لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما.

وكان ابن زيد يقول في قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، إنه منسوخٌ.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وذَرُوا الذين يلحدون في أسمائه ) قال: هؤلاء أهل الكفر, وقد نُسِخ, نَسَخه القتال.

ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ, لأن قوله: ( وذروا الذين يلحدون في أسمائه ) ، ليس بأمر من الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك، حتى يأذن له في قِتالهم, وإنما هو تهديدٌ من الله للملحدين في أسمائه، ووعيدٌ منه لهم, كما قال في موضع آخر: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، [ سورة الحجر: 3 ] الآية, وكقوله: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ، [ سورة العنكبوت: 66 ] وهو كلام خرج مخرج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد, ومعناه: أنْ مَهِّل الذين يلحدون، يا محمد، في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه, فسوف يجزون، إذا جاءهم أجل الله الذي أجلهم إليه، جزاءَ أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله، والإلحاد في أسمائه، وتكذيب رسوله.

 

القول في تأويل قوله : وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( 181 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الخلق الذين خلقنا « أمة » , يعني جماعة « يهدون » , يقول: يهتدون بالحق ( وبه يعدلون ) ، يقول: وبالحق يقضُون ويُنصفون الناس, كما قال ابن جريج: -

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: ( أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) قال ابن جريج: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه أمتي! قال: بالحق يأخُذون ويعطون ويَقْضُون.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ...

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ، بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأها: هذه لكم, وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلَها: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ، [ سورة الأعراف: 159 ] .

 

القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ( 182 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بأدلتنا وأعلامِنا, فجحدوها ولم يتذكروا بها, سنمهله بغِرَّته ونـزين له سوء عمله, حتى يحسب أنه فيما هو عليه من تكذيبه بآيات الله إلى نفسه محسن, وحتى يبلغ الغايةَ التي كُتِبَتْ له من المَهَل, ثم يأخذه بأعماله السيئة, فيجازيه بها من العقوبة ما قد أعدَّ له. وذلك استدراج الله إياه.

وأصل « الاستدراج » اغترارُ المستدرَج بلطف من [ استدرجه ] ، حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسنٌ، حتى يورِّطه مكروهًا.

وقد بينا وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( 183 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأُؤخر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا. [ وأصل « الإملاء » من قولهم: « مضى عليه مليٌّ، ومِلاوَة ومُلاوَة ] ، ومَلاوة » بالكسر والضم والفتح « من الدهر » , وهي الحين, ومنه قيل: انتظرتُك مليًّا.

ليبلغوا بمعصيتهم ربهم، المقدارَ الذي قد كتبه لهم من العقاب والعذاب ثم يقبضهم إليه.

( إن كيدي ) .

والكيد: هو المكر.

وقوله: ( متين ) ، يعني: قويٌّ شديدٌ, ومنه قول الشاعر: [ عدلن عـدول النـاس وأقبـح ] يَبْتَـلِي أَفَــانِينَ مِـنْ أُلْهُـوبِ شَـدٍّ مُمَـاتِنِ

يعني: سيرًا شديدًا باقيًا لا ينقطع.

 

القول في تأويل قوله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 184 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، فيتدبروا بعقولهم, ويعلموا أن رسولَنا الذي أرسلناه إليهم, لا جنَّة به ولا خَبَل, وأن الذي دعاهم إليه هو [ الرأي ] الصحيح، والدين القويم، والحق المبين؟ وإنما نـزلت هذه الآية فيما قيل, كما: -

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصَّفا, فدعا قريشًا, فجعل يفخِّذُهم فخذًا فخذًا: « يا بني فلان، يا بني فلان! » فحذّرهم بأس الله, ووَقَائع الله, فقال قائلهم: « إن صاحبكم هذا لمجنون! باتَ يصوّت إلى الصباح أو: حتى أصبح! » فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( أوَ لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ) .

ويعني بقوله: ( إن هو إلا نذير مبين ) ، : ما هو إلا نذيرٌ ينذركم عقاب الله على كفركم به، إن لم تنيبوا إلى الإيمان به .

ويعني بقوله: ( مبين ) ، قد أبان لكم، أيها الناس، إنذارُه ما أنذركم به من بأس الله على كفركم به.

 

القول في تأويل قوله : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 185 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله، في ملك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض، وفيما خلق جل ثناؤه من شيء فيهما, فيتدبروا ذلك، ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمنْ لا نظير له ولا شبيه, ومِنْ فِعْلِ من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له, فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذرُوا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.

وقوله: ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) ، يقول: فبأيّ تخويفٍ وتحذير ترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبِه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه، يصدِّقون, إن لم يصدقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى؟

 

القول في تأويل قوله : مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 186 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا, التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها, لإضلال الله إياهم, ولو هداهم الله لاعتبرُوا وتدبَّروا فأبصروا رُشْدهم; ولكن الله أضلَّهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلا ومن أضلَّه عن الرشاد فلا هادي له إليه، ولكن الله يدعهم في تَمَاديهم في كفرهم، وتمرُّدهم في شركهم، يترددون, ليستوجبوا الغايةَ التي كتبها الله لهم من عُقوبته وأليم نَكاله.

 

القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ( يسألونك عن الساعة ) . فقال بعضهم: عني بذلك قومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش, وكانوا سألوا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنّ بيننا وبينك قرابة, فأسِرَّ إلينا متى الساعة! فقال الله: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا .

وقال آخرون: بل عُني به قوم من اليهود.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال جَبَل بن أبي قشير، وشمول بن زيد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيًّا كما تقول, فإنا نعلم متى هي؟ فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي ) ، إلى قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ .

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن طارق بن شهاب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكُر من شأن الساعة حتى نـزلت: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قومًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة, فأنـزل الله هذه الآية وجائز أن يكون كانوا من قريش وجائز أن يكونوا كانوا من اليهود; ولا خبر بذلك عندنا يجوِّز قَطْعَ القول على أيّ ذلك كان.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذاً: يسألك القومُ الذين يسألونك عن الساعة ( أيان مرساها ) ؟ يقول: متى قيامها؟

ومعنى « أيان » : متى، في كلام العرب, ومنه قول الراجز: أَيَّــانَ تَقْضِــي حَــاجَتِي أَيَّانَــا أَمَـــا تَــرَى لِنُجْحِهَــا إِبَّانَــا

ومعنى قوله: ( مرساها ) ، قيامها, من قول القائل: « أرساها الله فهي مُرْسَاة » , و « أرساها القوم » ، إذا حبسوها, و « رسَت هي، ترسُو رُسُوًّا » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ، : يقول متى قيامها.

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ، : متى قيامها؟

وقال آخرون: معنى ذلك: مُنتهاها وذلك قريب المعنى من معنى مَن قال: معناه: « قيامها » , لأن انتهاءها، بلوغها وقتها. وقد بينا أن أصل ذلك: الحبس والوقوف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) ، يعني: منتهاها.

وأما قوله: ( قل إنما علمها عند ربي لا يجلِّيها لوقتها إلا هو ) ، فإنه أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله الذي يعلم الغيب, وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيرُه جل ذكره، كما: -

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ) ، يقول: علمها عند الله, هو يجليها لوقتها, لا يعلم ذلك إلا الله.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لا يجليها ) ، : يأتي بها.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال مجاهد: ( لا يجليها ) ، قال: لا يأتي بها إلا هو.

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا يجليها لوقتها إلا هو ) ، يقول: لا يرسلها لوقتها إلا هو.

 

القول في تأويل قوله : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: ثقلت الساعة على أهل السموات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها، لخفائها عنهم، واستئثار الله بعلمها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، يقول: خفيت في السموات والأرض, فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعًا, عن معمر, عن بعض أهل التأويل: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، قال: ثقل علمها على أهل السموات وأهل الأرض، إنهم لا يعلمون.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كَبُرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق جميعًا, عن معمر قال: قال الحسن, في قوله: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، يعني: إذا جاءت ثقلت على أهل السماء وأهل الأرض. يقول: كبرت عليهم.

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج: ( ثقلت في السموات والأرض ) قال: إذا جاءت انشقت السماء, وانتثرت النجوم, وكوِّرت الشمس, وسُيِّرت الجبال, وكان ما قال الله; فذلك ثقلها.

حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال بعض الناس في « ثقلت » : عظمت.

وقال آخرون: معنى قوله: ( في السموات والأرض ) ، : على السموات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ثقلت في السموات والأرض ) ، أي: على السموات والأرض.

قال أبو جعفر: وأولى ذلك عندي بالصواب, قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها، أن يعرفوا وقتها وقيامها; لأن الله أخفى ذلك عن خلقه, فلم يطلع عليه منهم أحدًا. وذلك أن الله أخبرَ بذلك بعد قوله: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ، وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة, فالذي هو أولى: أن يكون ما بين ذلك أيضًا خبرًا عن خفاء علمها عن الخلق, إذ كان ما قبله وما بعده كذلك.

وأما قوله: ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ، فإنه يقول: لا تجيء الساعة إلا فجأة, لا تشعرون بمجيئها، كما: -

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ، يقول: يبغتهم قيامها, تأتيهم على غفلة.

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( لا تأتيكم إلا بغتة ) ، قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الساعة تهيج بالناس والرجل يُصْلِح حوضه، والرجلُ يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه.

 

القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 187 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يسألك هؤلاء القوم عن الساعة, كأنك حَفِيٌّ عنها.

[ واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( حفي عنها ) ] .

فقال بعضهم: يسألونك عنها كأنك حفي بهم. وقالوا: معنى قوله: « عنها » التقديم، وإن كان مؤخرًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( يسألونك كأنك حفيّ عنها ) ، يقول: كأن بينك وبينهم مودة, كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناسُ محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدًا حفي بهم, فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده, استأثر بعلمها, فلم يطلع عليها ملكًا ولا رسولا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال: قال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة, فأسِرَّ إلينا متى الساعة ! فقال الله: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، : أي حفي بهم. قال: قالت قريش: يا محمد، أسرّ إلينا علم الساعة، لما بيننا وبينك من القرابة لقرابتنا منك.

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، وهانئ بن سعيد, عن حجاج, عن خصيف, عن مجاهد وعكرمة: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال: حفي بهم حين يسألونك.

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال: قريب منهم, وتحفَّى عليهم قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم. قال: قريب منهم, وتحفَّى عليهم قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم، فتحدثهم.

حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، كأنك صديق لهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد استحفيت المسألة عنها فعلمتها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كأنك حفي عنها ) ، استحفيت عنها السؤال حتى علمتَها.

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد, عن مجاهد في قوله: ( كأنك حفي عنها ) قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها.

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال: كأنك عالم بها.

... قال: حدثنا حامد بن نوح, عن أبي روق, عن الضحاك: ( يسألونك كأنك حفيّ عنها ) قال: كأنك تعلمها.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: ثني عبيد بن سليمان, عن الضحاك, قوله: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، يقول: يسألونك عن الساعة, كأنك عندك علمًا منها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن بعضهم: ( كأنك حفي عنها ) ، : كأنك عالم بها.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( كأنك حفي عنها ) قال: كأنك عالم بها. وقال: أخفى علمها على خلقه. وقرأ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، [ سورة لقمان: 34 ] حتى ختم السورة.

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قوله: ( يسألونك كأنك حفي عنها ) ، يقول: كأنك يعجبك سؤالهم إياك ( قل إنما علمها عند الله ) .

وقوله: ( كأنك حفي عنها ) ، يقول: لطيف بها.

فوجَّه هؤلاء تأويل قوله: ( كأنك حفي عنها ) ، إلى حفيّ بها, وقالوا: تقول العرب: « تحفّيت له في المسألة » , و « تحفيت عنه » . قالوا: ولذلك قيل: « أتينا فلانًا نسأل به » , بمعنى نسأل عنه.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: كأنك حفي بالمسألة عنها فتعلمها.

فإن قال قائل: وكيف قيل: ( حفي عنها ) ، ولم يُقَل: « حفي بها » , إن كان ذلك تأويل الكلام؟

قيل: إن ذلك قيل كذلك, لأن الحفاوة إنما تكون في المسألة, وهي البشاشة للمسئول عند المسألة, والإكثار من السؤال عنه, والسؤال يوصل ب « عن » مرة، وب « الباء » مرة. فيقال: « سألت عنه » , و « سألت به » . فلما وضع قوله: « حفي » موضع السؤال, وصل بأغلب الحرفين اللذين يوصل بهما « السؤال » , وهو « عن » , كما قال الشاعر: سُــؤَالَ حَــفِيٍّ عَـنْ أَخِيـهِ كَأَنَّـهُ بِذِكْرَتِـــهِ وَسْــنَانُ أَوْ مُتَوَاسِــنُ

وأما قوله: ( قل إنما علمها عند الله ) ، فإن معناه: قل، يا محمد، لسائليك عن وقت الساعة وحين مجيئها: لا علم لي بذلك, ولا علم به إلا [ عند ] الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله, بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه.