تفسير سورة الأنفال

( القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

( رَبِّ يَسِّر )

 

القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الأنفال » التي ذكرها الله في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هي الغنائم, وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر، لمن هي؟ فقل: هي لله ولرسوله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن عكرمة، « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن مجاهد قال: « الأنفال » ، المغنم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: الغنائم.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « الأنفال » ، قال: يعني الغنائم.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « يسألونك عن الأنفال » ، « الأنفال » ، الغنائم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الأنفال » ، الغنائم.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن جريج, عن عطاء: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: الغنائم.

وقال آخرون: هي أنفال السرايا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال، بلغني في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: السرايا.

وقال آخرون: « الأنفال » ، ما شذَّ من المشركين إلى المسلمين، من عَبْد أو دابة، وما أشبه ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن عبد الملك, عن عطاء في قوله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، قال: هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، دابَّة أو عبدٌ أو متاعٌ, ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن عبد الملك, عن عطاء: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو أمة أو متاع أوثَقَل, فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء.

. . . . قال، حدثنا عبد الأعلى, عن معمر, عن الزهري: أن ابن عباس سئل عن: « الأنفال » ، فقال: السَّلَب والفرس.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ويقال « الأنفال » ، ما أخذ مما سقط من المتاع بعد ما تُقَسَّم الغنائم, فهي نفلٌ لله ولرسوله.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عثمان بن أبي سليمان, عن محمد بن شهاب: أن رجلا قال لابن عباس: ما « الأنفال » ؟ قال: الفرَس والدِّرع والرمحُ.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، قال ابن جريج, قال عطاء: « الأنفال » ، الفرس الشاذّ والدرع والثوب.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن ابن عباس قال: كان ينفِّل الرجل سَلَب الرجل وفرسه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس, عن ابن شهاب, عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا سأل ابن عباس عن « الأنفال » , فقال ابن عباس: الفرس من النَّفَل, والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته, فقال ابن عباس ذلك أيضًا. ثم قال الرجل: « الأنفال » ، التي قال الله في كتابه، ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يُحْرجه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا، مَثَلُ صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن القاسم بن محمد قال، قال ابن عباس: كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال: « لا آمرك ولا أنهاك » . ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا زاجرًا آمرًا، محللا محرمًا قال القاسم: فسلِّط على ابن عباس رجل يسأله عن: « الأنفال » , فقال ابن عباس: كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل, فقال له مثل ذلك, ثم أعاد عليه حتى أغضبه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مَثَل هذا، مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه؟ فقال الرجل: أمّا أنت فقد انتقم الله لعمر منك.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك, عن عبد الملك, عن عطاء: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال، من دابة أو [ عبد ] , فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون: « النفل » ، الخمس الذي جعله الله لأهل الخُمُس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: هو الخمس. قال المهاجرون: لِمَ يُرْفع عنا هذا الخمس، لم يُخْرج منا؟ فقال الله: هو لله والرسول.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام, عن الحجاج, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس, فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى: « الأنفال » ، قولُ من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم، إما من سَهْمه على حقوقهم من القسمة, وإما مما وصل إليه بالنفل, أو ببعض أسبابه, ترغيبًا له، وتحريضًا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين, أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك, ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس، لأن ذلك أمره إلى الإمام، إذا لم يكن ما وصلوا إليه بغلبة وقهر, يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام, وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقَهر.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب, لأن « النفل » في كلام العرب، إنما هو الزيادة على الشيء, يقال منه: « نفَّلتك كذا » , و « أنفلتك » ، إذا زدتك.

و « الأنفال » ، جمع « نَفَل » ، ومنه قول لبيد بن ربيعة:

إِنَّ تَقْــوَى رَبِّنــا خَــيْرُ نَفَــلْ وَبِــإِذْنِ اللــهِ رَيْثِــي وَعَجَــلْ

فإذ كان معناه ما ذكرنا, فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة إن كان ذلك لبلاء أبلاه، أو لغناء كان منه عن المسلمين بتنفيل الوالي ذلك إيّاه, فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل, فهو منفل ما زيد من ذلك، لأن الزيادة نَفَلٌ، [ والنَّفَل ] ، وإن كان مستوجِبَهُ في بعض الأحوال لحق, ليس هو من الغنيمة التي تقع فيها القسمة. وكذلك كل ما رُضِخ لمن لا سهم له في الغنيمة، فهو « نفل » , لأنه وإن كان مغلوبًا عليه، فليس مما وقعت عليه القسمة.

فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين « الغنيمة » و « النفل » , أن « الغنيمة » هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر، نفَّل منه منفِّل أو لم ينفل، و « النفل » : هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغَنَاء عن الجيش على غير قسمة.

وإذْ كان ذلك معنى « النفل » , فتأويل الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر، لمن هو؟ قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم, يجعله حيث شاء.

واختلف في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية.

فقال بعضهم: نـزلت في غنائم بدر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نفَّل أقوامًا على بلاء, فأبلى أقوام، وتخلف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب, فأنـزل الله هذه الآية على رسوله, يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فماضٍ جائزٌ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « من أتى مكان كذا وكذا, فله كذا وكذا, أو فعل كذا وكذا, فله كذا وكذا » ، فتسارع إليه الشبان, وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم , فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا! فأنـزل الله عليه الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ .

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صنع كذا وكذا, فله كذا وكذا » ، قال: فتسارع في ذلك شبان الرجال, وبقيت الشيوخ تحت الرايات. فلما كان الغنائم, جاءوا يطلبون الذي جعُل لهم, فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا, فإنا كنا رِدْءًا لكم, وكنا تحت الرايات, ولو انكشفتم انكشفتم إلينا! فتنازعوا, فأنـزل الله: « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » .

حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من فعل كذا فله كذا وكذا من النفل » . قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخةُ الراياتِ, فلم يبرحوا. فلما فُتح عليهم, قالت المشيخة: كنا ردءًا لكم, فلو انهزمتم انحزتم إلينا, لا تذهبوا بالمغنم دوننا! فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!‍‍‍ فأنـزل الله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » . قال: فكان ذلك خيرًا لهم, وكذلك أيضًا أطيعوني فإني أعلم.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عكرمة في هذه الآية: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، قال: لما كان يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من صنع كذا فله من النفل كذا » ‍‍‍! فخرج شبان من الرجال، فجعلوا يصنعونه, فلما كان عند القسمة, قال الشيوخ: نحن أصحاب الرايات, وقد كنا رِدْءًا لكم! فأنـزل الله في ذلك: « قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب الزهري قال، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن سليمان بن موسى, عن مكحول مولى هذيل, عن أبي سلام, عن أبي أمامة الباهلي, عن عبادة بن الصامت قال، أنـزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر: « يسألونك عن الأنفال » إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، عن بَوَاء.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا, عن سليمان بن موسى الأشدق, عن مكحول, عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن « الأنفال » , فقال: فينا معشرَ أصحاب بدر نـزلت، حين اختلفنا في النَّفَل, وساءت فيه أخلاقنا, فنـزعه الله من أيدينا, فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بَوَاء يقول: على السواء فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصلاحُ ذاتِ البين .

وقال آخرون: بل إنما أنـزلت هذه الآية، لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئًا قبل قسمتها, فلم يعطه إياه, إذ كان شِرْكًا بين الجيش, فجعل الله جميعَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسماعيل بن موسى السدي قال، حدثنا أبو الأحوص, عن عاصم, عن مصعب بن سعد, عن سعد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف فقلت: يا رسول الله، هذا السيف قد شَفَى الله به من المشركين! فسألته إياه, فقال: ليس هذا لي ولا لك! قال: فلما وليت, قلت: أخاف أن يعطيه من لم يُبْلِ بلائي! فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي, قال فقلت: أخاف أن يكون نـزل في شيء! قال: إن السيف قد صارَ لي! قال: فأعطانيه, ونـزلت: « يسألونك عن الأنفال » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عاصم, عن مصعب بن سعد, عن سعد بن مالك قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف. قال: فقلت: يا رسول الله, إن الله قد شفي صَدري من المشركين أو نحو هذا فهبْ لي هذا السيف! فقال لي: هذا ليس لي ولا لك! فرجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا من لم يُبْلِ بلائي! فجاءني الرسول, فقلت: حدث فِيَّ حدثٌ ! فلما انتهيت قال: يا سعد إنك، سألتني السيف وليس لي, وإنه قد صار لي، فهو لك! ونـزلت: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن سماك بن حرب, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: أصبت سيفًا يوم بدر فأعجبني, فقلت: يا رسول الله، هبه لي! فأنـزل الله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » .

حدثنا ابن المثنى وابن وكيع قال ابن المثنى: حدثني أبو معاوية وقال ابن وكيع: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الشيباني, عن محمد بن عبيد الله, عن سعد بن أبي وقاص قال: فلما كان يوم بدر، قتل أخي عُمَيْر، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه, وكان يسمى « ذا الكتيفة » , فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب فاطرحه في القبض! فطرحته ورجعتُ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سَلَبي! قال: فما جاوزت إلا قريبًا، حتى نـزلت عليه « سورة الأنفال » , فقال: اذهب فخذ سيفك! ولفظ الحديث لابن المثنى.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة جميعًا, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر, عن قيس بن ساعدة قال: سمعت أبا أسَيْد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر, وكان السيف يدعى « المرْزُبان » ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردُّوا ما في أيديهم من النفل, أقبلت به فألقيته في النفل, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا يُسْأله, فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأعطاه إياه.

- 15661- حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا أحمد بن أبي بكر, عن يحيى بن عمران, عن جده عثمان بن الأرقم وعن عمه, عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ردُّوا ما كان من الأنفال! فوضع أبو أسيد الساعديّ سيف ابن عائذ « المرزبان » , فعرفه الأرقم فقال: هبه لي، يا رسول الله! قال: فأعطاه إياه.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سماك بن حرب, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: أصبت سيفا قال: فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نفلنيه! فقال: ضعه! ثم قام فقال: يا رسول الله، نفلنيه! قال: ضعه! قال: ثم قام فقال: يا رسول، الله نفلنيه! أجعل كمن لا غَنَاء له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته! فنـزلت هذه الآية: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن مصعب بن سعد, عن سعد قال: أخذت سيفًا من المغنم فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا! فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » .

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: قال سعد: كنت أخذت سيفَ سعيد بن العاص بن أمية, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقلت: أعطني هذا السيف يا رسول الله! فسكت, فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » ، إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، قال: فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون: بل نـزلت: لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر، فأعلمهم الله أنّ ذلك لله ولرسوله دونهم، ليس لهم فيه شيء. وقالوا: معنى « عن » في هذا الموضع « من » ، وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال. وقالوا: قد كان ابن مسعود يقرؤه: « يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ » على هذا التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: « يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: هي في قراءة ابن مسعود « يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، قال: « الأنفال » ، المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، ليس لأحد منها شيء, ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به, فمن حبس منه إبرة أو سِلْكًا فهو غُلول. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها, قال الله: يسألونك عن الأنفال، قل: الأنفال لي جعلتها لرسولي، ليس لكم فيها شيء « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين » , ثم أنـزل الله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ سورة الأنفال: 41 ] . ثم قسم ذلك الخُمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن سمي في الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: نـزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرًا. قال: واختلفوا، فكانوا أثلاثًا. قال: فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، وملَّكه الله رَسوله, يقسمه كما أراه الله.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام, عن الحجاج, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده: أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر, فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » .

. . . . قال: حدثنا عباد بن العوّام, عن جويبر, عن الضحاك: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: يسألونك أن تنفِّلهم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا أيوب, عن عكرمة في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: يسألونك الأنفال.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبرَ في هذه الآية عن قوم سألوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يُعطيهموها, فأخبرهم الله أنها لله، وأنه جعلها لرسوله.

وإذا كان ذلك معناه، جاز أن يكون نـزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش.

واختلفوا فيها: أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟

فقال بعضهم: هي منسوخة. وقالوا: نسخها قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [ سورة الأنفال: 41 ] ، .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة قالا كانت الأنفال لله وللرسول، فنسختها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفًا, فاختصم فيه وناسٌ معه, فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم , فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منهم, فقال الله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، الآية, فكانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة, فنسخها الله بالخُمس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني سليم مولى أم محمد, عن مجاهد في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: نسختها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة أو: عكرمة وعامر قالا نسخت الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ .

وقال آخرون: هي محكمة، وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: « قل الأنفال لله » , وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول، يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، فقرأ حتى بلغ: « إن كنتم مؤمنين » ، فسلَّموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا, فقالوا: نعم! ثم جاء بعد الأربعين: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [ سورة الأنفال: 41 ] ، ولكم أربعة أخماس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: « وهذا الخمس مردود على فقرائكم » ، يصنع الله ورسوله في ذلك الخمس ما أحبَّا, ويضعانه حيث أحبَّا, ثم أخبرنا الله بالذي يجب من ذلك. ثم قرأ الآية: وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ سورة الحشر: 7 ] .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم، يُنفِّل من شاء, فنفّل القاتل السَّلَب, وجعل للجيش في البَدْأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. ونفَّل قومًا بعد سُهْمَانهم بعيرًا بعيرًا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ينفِّل على ما يرى مما فيه صلاحُ المسلمين, وعلى من بعده من الأئمة أن يستَنّوا بسُنته في ذلك.

وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ، لاحتمالها ما ذكرتُ من المعنى الذي وصفت. وغير جائز أن يحكم بحكم قد نـزل به القرآن أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها, فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادثُ حكمٍ بخلافه، ينفيه من كل معانيه, أو يأتي خبرٌ يوجب الحجةَ أن أحدهما ناسخٌ الآخرَ.

وقد ذكر عن سعيد بن المسيب: أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأويلا منه لقول الله تعالى: « قل الأنفال لله والرسول » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن محمد بن عمرو قال: أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء, فقال: إنكم أرسلتم إلي تسألوني عن الأنفال, فلا نَفَل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد بينا أن للأئمة أن يتأسَّوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله, فينفِّلوا على نحو ما كان ينفل, إذا كان التنفيل صلاحًا للمسلمين.

 

القول في تأويل قوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 1 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم, واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه, وأصلحوا الحال بينكم.

واختلف أهل التأويل في الذي عنى بقوله: « وأصلحوا ذات بينكم » .

فقال بعضهم: هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر، وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اختلفوا في الغنيمة: أن يردَّ ما أصابوا منها بعضُهم على بعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، قال: كان نبي الله ينفِّل الرجل من المؤمنين سَلَب الرجل من الكفار إذا قتله, ثم أنـزل الله: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، أمرهم أن يردَّ بعضهم على بعض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفّل الرجل على قدر جِدّه وغَنَائه على ما رأى, حتى إذا كان يوم بدر، وملأ الناسُ أيديهم غنائم, قال أهل الضعف من الناس: ذهب أهل القوة بالغنائم! فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فنـزلت: « قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ » ، ليردَّ أهل القوة على أهل الضعف.

وقال آخرون: هذا تحريج من الله على القوم, ونهيٌ لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا خالد بن يزيد وحدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قالا حدثنا أبو إسرائيل, عن فضيل, عن مجاهد, في قول الله: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، قال: حَرَّج عليهم.

حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عباد بن العوام, عن سفيان بن حسين, عن مجاهد, عن ابن عباس: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، قال هذا تحريجٌ من الله على المؤمنين، أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم قال عباد, قال سفيان: هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، أي لا تَسْتَبُّوا.

واختلف أهل العربية في وجه تأنيث « البين » .

فقال بعض نحويي البصرة: أضاف « ذات » إلى « البين » وجعله « ذاتًا » , لأن بعضَ الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث, وبعضًا يذكر نحو « الدار » و « الحائط » ، أنث « الدار » وذكر « الحائط » .

وقال بعضهم: إنما أراد بقوله: « ذات بينكم » ، الحال التي للبين، فقال: وكذلك « ذات العشاء » ، يريد الساعة التي فيها العشاء، قال: ولم يضعوا مذكرًا لمؤنث، ولا مؤنثًا لمذكر، إلا لمعنى.

قال أبو جعفر: هذا القول أولى القولين بالصواب، للعلة التي ذكرتها له.

وأما قوله: « وأطيعوا الله ورسوله » ، فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال، إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم, فقد بين لكم وجوهه وسبله « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم مصدقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين » ، فسلموا لله ولرسوله، يحكمان فيها بما شاءا, ويضعانها حيث أرادا.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 2 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك اتباعَ ما أنـزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه, ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه, وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها، وأيقن أنها من عند الله, فازداد بتصديقه بذلك، إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك، تصديقًا. وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إيَّاهم إيمانًا « وعلى ربهم يتوكلون » ، يقول: وبالله يوقنون، في أن قضاءه فيهم ماضٍ، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: المنافقون، لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه, ولا يؤمنون بشيء من آيات الله, ولا يتوكلون على الله, ولا يصلّون إذا غابوا, ولا يؤدُّون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين, ثم وصف المؤمنين فقال: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، فأدوا فرائضه « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا » ، يقول: تصديقًا « وعلى ربهم يتوكلون » ، يقول: لا يرجون غيره.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد: « الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: فَرِقت.

. . . . قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن السدي: « الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: إذا ذكر الله عند الشيء وجِلَ قلبه.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، يقول: إذا ذكر الله وَجِل قلبه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وجلت قلوبهم » ، قال: فرقت.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وجلت قلوبهم » ، فرقت.

. . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان قال: سمعت السدي يقول في قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال: يهمّ بمعصية أحسبه قال: فينـزع عنه.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن شهر بن حوشب, عن أبي الدرداء في قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: الوجل في القلب كإحراق السَّعَفة, أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى! قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله, فإن الدعاء يذهب بذلك.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: فرقًا من الله تبارك وتعالى, ووَجلا من الله, وخوفًا من الله تبارك وتعالى.

وأما قوله: « زادتهم إيمانًا » ، فقد ذكرت قول ابن عباس فيه.

وقال غيره فيه, ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا » ، قال: خشية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون » ، قال: هذا نعت أهل الإيمان, فأثبت نَعْتهم, ووصفهم فأثبت صِفَتهم.

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها, وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه، من زكاة وجهاد وحج وعمرة ونفقةٍ على من تجب عليهم نفقته, فيؤدُّون حقوقهم « أولئك » ، يقول: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال « هم المؤمنون » ، لا الذين يقولون بألسنتهم: « قد آمنا » وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقًا, لا يقيمون صلاة ولا يؤدُّون زكاة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس: « الذين يقيمون الصلاة » ، يقول: الصلوات الخمس « ومما رزقناهم ينفقون » ، يقول: زكاة أموالهم « أولئك هم المؤمنون حقًّا » ، يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ : إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [ سورة النساء: 150- 151 ] فجعل الله المؤمن مؤمنًا حقًّا, وجعل الكافر كافرًا حقًّا, وهو قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ سورة التغابن: 2 ] .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « أولئك هم المؤمنون حقًّا » ، قال: استحقُّوا الإيمان بحق, فأحقه الله لهم.

 

القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « لهم درجات » ، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم « درجات » , وهي مراتب رفيعة.

ثم اختلف أهل التأويل في هذه « الدرجات » التي ذكر الله أنها لهم عنده، ما هي؟

فقال بعضهم: هي أعمال رفيعة، وفضائل قدّموها في أيام حياتهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد: « لهم درجات عند ربهم » ، قال: أعمال رفيعة.

وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن هشام عن جبلة, عن عطية, عن ابن محيريز: « لهم درجات عند ربهم » ، قال: الدرجات سبعون درجة, كل درجة حُضْر الفرس الجواد المضمَّر سبعين سنة.

وقوله: « ومغفرة » ، يقول: وعفو عن ذنوبهم، وتغطية عليها « ورزق كريم » ، قيل: الجنة وهو عندي: ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق, عن هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة: « ومغفرة » ، قال: لذنوبهم « ورزق كريم » ، قال: الجنة.

 

القول في تأويل قوله : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( 5 ) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ( 6 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه « الكاف » التي في قوله: « كما أخرجك » ، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق.

فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين, اتقاؤهم ربهم, وإصلاحهم ذات بينهم, وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك: يقول الله: وأصلحوا ذات بينكم, فإن ذلك خير لكم, كما أخرج الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من بيته بالحقّ، فكان خيرًا له.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عكرمة: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ « ، الآية، أي: إن هذا خيرٌ لكم, كما كان إخراجك من بيتك بالحق خيرًا لك »

وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك، يا محمد، من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم يكرهون القتال, فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق » ، قال: كذلك يجادلونك في الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق » ، كذلك يجادلونك في الحقِّ, القتالِ.

. . . . قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق » ، قال: كذلك أخرجك ربك.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أنـزل الله في خروجه يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، ومجادلتهم إياه فقال: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون » ، لطلب المشركين, « يجادلونك في الحق بعد ما تبين » .

واختلف أهل العربية في ذلك.

فقال بعض نحويي الكوفيين: ذلك أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضي لأمره في الغنائم, على كره من أصحابه, كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير وهم كارهون.

وقال آخرون منهم: معنى ذلك: يسألونك عن الأنفال مجادلةً، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: « أخرجتنا للعِير, ولم تعلمنا قتالا فنستعدَّ له » .

وقال بعض نحويي البصرة، يجوز أن يكون هذا « الكاف » في ( كما أخرجك ) ، على قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) . وقال: « الكاف » بمعنى « على » .

وقال آخرون منهم هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربّك.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال في ذلك بقول مجاهد, وقال: معناه: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين, كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تبين لأن كلا الأمرين قد كان, أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارهًا, وجدالهم في لقاء العدو وعند دنوِّ القوم بعضهم من بعض, فتشبيه بعض ذلك ببعض، مع قرب أحدهما من الآخر، أولى من تشبيهه بما بَعُد عنه.

وقال مجاهد في « الحق » الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما تبينوه: هو القتال.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يجادلونك في الحق ) ، قال: القتال.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

وأما قوله: ( من بيتك ) ، فإن بعضهم قال: معناه: من المدينة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي بزة: ( كما أخرجك ربك من بيتك ) ، المدينة، إلى بدر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر في قوله: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) ، قال: من المدينة إلى بدر.

وأما قوله: ( وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون ) ، فإن كراهتهم كانت، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة, وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا, عن عبد الله بن عباس, قالوا: لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم, ندب إليهم المسلمين, وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم, فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس, فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون ) ، لطلب المشركين.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ( يجادلونك في الحق بعد ما تبين ) .

فقال بعضهم: عُني بذلك: أهلُ الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا معه حين توجَّه إلى بدر للقاء المشركين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال، لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء القوم, وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر, أمرَ الناس, فتعبَّوْا للقتال, وأمرهم بالشوكة, وكره ذلك أهل الإيمان, فأنـزل الله: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) .

حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر القومَ يعني أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , حين عرف القوم أن قريشًا قد سارت إليهم, وأنهم إنما خرجوا يريدون العيرَ طمعًا في الغنيمة, فقال: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) ، إلى قوله: ( لكارهون ) ، أي كراهيةً للقاء القوم, وإنكارًا لمسير قريش حين ذُكِروا لهم.

وقال آخرون: عُني بذلك المشركون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، قال: هؤلاء المشركون، جادلوه في الحق « كأنما يساقون إلى الموت » ، حين يدعون إلى الإسلام ( وهم ينظرون ) ، قال: وليس هذا من صفة الآخرين, هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثني عبد العزيز بن محمد, عن ابن أخي الزهري, عن عمه قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر: ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، خروجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العِير.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق, من أن ذلك خبرٌ من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو, وكان جدالهم نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا: « لم يُعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم, وإنما خرجنا للعير » . ومما يدلّ على صحته قولُه وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، ففي ذلك الدليلُ الواضح لمن فهم عن الله، أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم كان في القتال، كما قال مجاهد, كراهيةً منهم له وأنْ لا معنى لما قال ابن زيد, لأن الذي قبل قوله: ( يجادلونك في الحق ) ، خبرٌ عن أهل الإيمان, والذي يتلوه خبرٌ عنهم, فأن يكون خبرًا عنهم، أولى منه بأن يكون خبرًا عمن لم يجرِ له ذكرٌ.

وأما قوله: ( بعد ما تبين ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: معناه: بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: بعد ما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به.

وقال آخرون: معناه: يجادلونك في القتال بعدما أمرت به.

ذكر من قال ذلك:

رواه الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس.

وأما قوله: ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، فإن معناه: كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ، من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال، « يساقون إلى الموت » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، أي كراهةً للقاء القوم, وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكروا، أيها القوم ( إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) ، يعني إحدى الفرقتين, فرقة أبي سفيان بن حرب والعير, وفرقة المشركين الذين نَفَروا من مكة لمنع عيرهم.

وقوله: ( أنها لكم ) ، يقول: إن ما معهم غنيمة لكم ( وتودون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة يقول: ليس لها حدٌّ، ولا فيها قتال أن تكون لكم. يقول: تودُّون أن تكون لكم العيرُ التي ليس فيها قتال لكم، دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم، الذين في لقائهم القتالُ والحربُ.

وأصل « الشوكة » من « الشوك » .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن نصر, وعبد الوارث بن عبد الصمد قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة: أن أبا سفيان أقبل ومن معه من رُكبان قريش مقبلين من الشأم, فسلكوا طريق الساحل. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ندب أصحابه, وحدّثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم. فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه، لا يرونها إلا غنيمة لهم, لا يظنون أن يكون كبيرُ قتالٍ إذا رأوهم. وهي التي أنـزل الله فيها ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة, وعبد الله بن أبي بكر, ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا, عن عبد الله بن عباس, كُلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سُقت من حديث بدر, قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم, فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس, فخف بعضهم وثقل بعض, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. وكان أبو سفيان يستيقن حين دنا من الحجاز ويتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفًا على أموال الناس, حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان: « أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعِيرك » ! فحذر عند ذلك, واستأجر ضمضم بن عمرو الغِفاري, فبعثه إلى مكة, وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديًا يقال له « ذَفِرَان » , فخرج منه, حتى إذا كان ببعضه، نـزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم, فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ, وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر رضوان الله عليه، فقال فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض إلى حيث أمرك الله، فنحن معك, والله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [ سورة المائدة: 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق، لئن سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد يعني: مدينة الحبشة لجالدنا معك مَن دونه حتى تبلغه! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا, ثم دعا له بخيرٍ, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليّ أيها الناس! وإنما يريد الأنصار, وذلك أنهم كانوا عَدَدَ الناس, وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة قالوا: « يا رسول الله، إنا برآء من ذِمامك حتى تصل إلى ديارنا, فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا, نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا » ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نُصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه, وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم قال: فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدَّقناك, وشهدنا أن ما جئت به هو الحق, وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت, فوالذي بعثك بالحق إن استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضته لخُضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا, إنا لصُبُرٌ عند الحرب, صُدُقٌ عند اللقاء, لعلّ الله أن يريك منا ما تَقرُّ به عينك, فسر بنا على بركة الله! فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك, ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا, فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم غدًا « . »

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أن أبا سفيان أقبل في عير من الشأم فيها تجارة قريش, وهي اللَّطيمة, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد أقبلت، فاستنفر الناس, فخرجوا معه ثلثمائة وبضعة عشر رجلا. فبعث عينًا له من جُهَينة, حليفًا للأنصار، يدعى « ابن أريقط » , فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا سفيان خروج محمد صلى الله عليه وسلم , فبعث إلى أهل مكة يستعينهم, فبعث رجلا من بني غِفار يدعى ضمضم بن عمرو, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشعر بخروج قريش, فأخبره الله بخروجهم, فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا: « إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا » ! فأقبل على أصحابه فاستشارهم في طلب العِير, فقال له أبو بكر رحمة الله عليه: إنّي قد سلكت هذا الطريق, فأنا أعلم به, وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا, فسكت النبي صلى الله عليه وسلم , ثم عاد فشاورهم, فجعلوا يشيرون عليه بالعير. فلما أكثر المشورة, تكلم سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله, أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك، وتعود فتشاورهم, فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك، وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار! أنت رسول الله, وعليك أنـزل الكتاب, وقد أمرك الله بالقتال، ووعدك النصر, والله لا يخلف الميعاد, امض لما أمرت به، فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار! ثم قام المقداد بن الأسود الكندي فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [ سورة المائدة: 24 ] ، ولكنا نقول: أقدم فقاتل، إنا معك مقاتلون! ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: إن ربي وعدني القوم، وقد خرجوا، فسيروا إليهم! فساروا.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم, والطائفة الأخرى أبو جهل معه نفر من قريش. فكره المسلمون الشوكة والقتال, وأحبوا أن يلقوا العير, وأراد الله ما أراد.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) ، قال: أقبلت عير أهل مكة يريد: من الشأم فبلغ أهل المدينة ذلك, فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة, فسارعوا السير إليها، لا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين, فكانوا أن يلقوا العير أحبَّ إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنمًا. فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم , سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم, فكره القوم مسيرهم لشوكةٍ في القوم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: أرادوا العير. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول, فأغار كُرْز بن جابر الفهري يريد سَرْح المدينة حتى بلغ الصفراء, فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فركب في أثره, فسبقه كرز بن جابر. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم , فأقام سنَتَه. ثم إن أبا سفيان أقبل من الشأم في عير لقريش, حتى إذا كان قريبًا من بدر, نـزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، فنفر النبي صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين, وهم يومئذ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا منهم سبعون ومئتان من الأنصار, وسائرهم من المهاجرين. وبلغ أبا سفيان الخبر وهو بالبطم, فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة, فنفرت قريش وغضبت.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: كان جبريل عليه السلام قد نـزل فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها, ووعده إما العيرَ, وإما قريشًا وذلك كان ببدر, وأخذوا السُّقاة وسألوهم, فأخبروهم, فذلك قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، هم أهل مكة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، إلى آخر الآية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهم يريدون يعترضون عِيرًا لقريش. قال: وخرج الشيطان في صورة سُرَاقة بن جعشم, حتى أتى أهل مكة فاستغواهم، وقال: إنّ محمدًا وأصحابه قد عرضوا لعيركم! وقال: لا غالبَ لكم اليوم من الناس من مثلكم, وإنّي جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله! فخرجوا ونادوا أن لا يتخلف منا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه! وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالروحاء عينًا للقوم, فأخبره بهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدكم العير أو القوم! فكانت العير أحبّ إلى القوم من القوم, كان القتال في الشوكة, والعير ليس فيها قتال, وذلك قول الله عز وجل: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: « الشوكة » ، القتال, و « غير الشوكة » ، العير.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن وهب, عن ابن لهيعة, عن ابن أبي حبيب, عن أبي عمران, عن أبي أيوب قال: أنـزل الله جل وعز: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) ، فلما وعدنا إحدى الطائفتين أنها لنا، طابت أنفسنا: و « الطائفتان » ، عِير أبي سفيان, أو قريش.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن أسلم أبي عمران الأنصاري, أحسبه قال: قال أبو أيوب: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قالوا: « الشوكة » القوم و « غير الشوكة » العير، فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين، إما العير وإما القوم, طابت أنفسنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعقوب بن محمد قال، حدثني غير واحد في قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، إن « الشوكة » ، قريش.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، هي عير أبي سفيان, ودّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم، وأن القتال صُرِف عنهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، أي الغنيمة دون الحرب.

وأما قوله: ( أنها لكم ) ، ففتحت على تكرير « يعد » , وذلك أن قوله: ( يعدكم الله ) ، قد عمل في « إحدى الطائفتين » .

فتأويل الكلام: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) ، يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم, كما قال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً . [ سورة الزخرف : 66 ] .

قال: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، فأنث « ذات » ، لأنه مراد بها الطائفة. ومعنى الكلام: وتودون أن الطائفة التي هي غير ذات الشوكة تكون لكم, دون الطائفة ذات الشوكة.

 

القول في تأويل قوله : وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( 7 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحق الإسلام ويعليه

« بكلماته » , يقول: بأمره إياكم، أيها المؤمنون، بقتال الكفار, وأنتم تريدون الغنيمة، والمال وقوله: ( ويقطع دابر الكافرين ) ، يقول: يريد أن يَجُبَّ أصل الجاحدين توحيدَ الله.

وقد بينا فيما مضى معنى « دابر » , وأنه المتأخر, وأن معنى: « قطعه » ، الإتيان على الجميع منهم.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قول الله: ( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ) ، أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم, هذا خيرٌ لكم من العير.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) ، أي: الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر.

 

القول في تأويل قوله : لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 8 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، كيما يحق الحق, كيما يُعبد الله وحده دون الآلهة والأصنام, ويعزّ الإسلام, وذلك هو « تحقيق الحق » ( ويبطل الباطل ) ، يقول ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر، ولو كره ذلك الذين أجرموا فاكتسبوا المآثم والأوزار من الكفار.

حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) ، هم المشركون.

وقيل: إن « الحق » في هذا الموضع، الله عز وجل.