القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم لبعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة ، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير ، قالا جميعا- حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، إلى قوله: فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية ، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين ، إعلاما ، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله ، وجحودهم مع ذلك ما أنـزل الله فيه من فروضه ، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى ، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض ، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام ، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض.

ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك ، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون ؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.

فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء ، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟

قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل ، من أن إنكار كل فريق منهم ، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي ينتحل التصديق به ، وبما جاء به الفريق الآخر ، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه ، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنـزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها ، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء ) ، قال: بلى ! قد كانت أوائل النصارى على شيء ، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا ، وقالت النصارى: ( ليست اليهود على شيء ) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ) ، قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.

وأما قوله: ( وهم يتلون الكتاب ) ، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل ، وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر ، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس في قوله: ( وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى ، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: ( كذلك قال الذين لا يعلمون ) . فقال بعضهم بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.

حدثنا بشر بن سعيد ، عن قتادة: ( قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى ، وقبل التوراة والإنجيل.

وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب ، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل ، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، فهم العرب ، قالوا: ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل ، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب ، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى ، إذْ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل ، ولا من جهة النقل المستفيض.

وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: ( كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل ، وافتراء الكذب على الله ، وجحود نبوة الأنبياء والرسل ، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون ، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون ، وعلى الله مفترون ، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله ، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا.

وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها ، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به . لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 113 )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين ، القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل ، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة ، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا.

وأما « القيامة » فهي مصدر من قول القائل: « قمت قياما وقيامة » ، كما يقال: « عدت فلانا عيادة » و « صنت هذا الأمر صيانة » .

وإنما عنى « بالقيامة » قيام الخلق من قبورهم لربهم . فمعنى « يوم القيامة » : يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وتأويل قوله: ( ومن أظلم ) ، وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره ، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟

و « المساجد » جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى. فمعنى « المسجد » : الموضع الذي يسجد لله فيه ، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه: « المجلس » ، وللموضع الذي ينـزل فيه: « منـزل » ، ثم يجمع : « منازل ومجالس » نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب « مساجد » في واحد المساجد ، وذلك كالخطأ من قائله.

وأما قوله: ( أن يذكر فيها اسمه ) ، فإن فيه وجهين من التأويل . أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه ، فتكون « أن » حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض ، وتعلق الفعل بها.

والوجه الآخر : أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده ، فتكون « أن » حينئذ في موضع نصب ، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه.

وأما قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) ، فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، وممن سعى في خراب مساجد الله. فـ « سعى » إذًا عطف على « منع » .

فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ؟ وأي المساجد هي؟

قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون ، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى ، والمسجد بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أنهم النصارى.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى ، والمسجد: مسجد بيت المقدس.

ذكر من قال ذلك:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، الآية ، أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال: هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال: الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا.

وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش ، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال ، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال: هؤلاء المشركون ، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم: « ما كان أحد يرد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده ، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق! »

وفي قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) قال: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره، ويأتيها للحج والعمرة.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) النصارى . وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس ، وأعانوا بختنصر على ذلك ، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.

والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) ، إلا أحد المسجدين ، إما مسجد بيت المقدس ، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده ، غير الذين وصفهم الله بعمارتها . إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية ، وبعمارته كان افتخارهم ، وإن كان بعض أفعالهم فيه ، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم.

وأخرى ، أن الآية التي قبل قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم ، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ، ولا للمسجد الحرام قبلها ، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) - إليهم وإلى المسجد الحرام.

وإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه ، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها ، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك ، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت.

فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك ، إذْ كان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في [ المسجد المقدس ، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون ] توجيه قوله ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل ، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد . وإن كان قد دل بعموم قوله: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا- ، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين.

القول في تأويل قوله جل ذكره أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ

قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها ، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها ، ما داموا على مناصبة الحرب ، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها، كالذي:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم اليوم كذلك ، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة: قال الله عز وجل: ( ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، وهم النصارى ، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة ، إن قدر عليهم عوقبوا.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فليس في الأرض رومي يدخلها اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه ، أو قد أخيف بأداء الجزية ، فهو يؤديها.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننـزل!. »

وإنما قيل: ( أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ) ، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع ، وهو خبر عن ( من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، لأن « من » في معنى الجميع ، وإن كان لفظه واحدا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 114 )

قال أبو جعفر : أما قوله عز وجل: ( لهم ) ، فإنه يعني: الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله: ( لهم في الدنيا خزي ) ، فإنه يعني بـ « الخزي » : العار والشر والذلة إما القتل والسباء ، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية، كما:-

حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة: ( لهم في الدنيا خزي ) ، قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله: ( لهم في الدنيا خزي ) ، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم . فذلك الخزي . وأما العذاب العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله ، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم في خرابها، ولهم على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادا عذاب جهنم ، وهو العذاب العظيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولله المشرق والمغرب ) ، لله ملكهما وتدبيرهما ، كما يقال: « لفلان هذه الدار » ، يعني بها : أنها له ، ملكا . فذلك قوله: ( ولله المشرق والمغرب ) ، يعني أنهما له ، ملكا وخلقا.

و « المشرق » هو موضع شروق الشمس ، وهو موضع طلوعها ، كما يقال : لموضع طلوعها منه « مطلع » بكسر اللام ، وكما بينا في معنى « المساجد » آنفا.

فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد ، حتى قيل: ( ولله المشرق والمغرب ) ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم ، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق ، وما بين قطري المغرب ، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده ، وكذلك غروبها كل يوم.

فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه الخلق خلقه! قيل: بلى!

فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع ، دون سائر الأشياء غيرها؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة ، ثم حولوا إلى الكعبة . فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي ، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها ، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود . فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام ، فكان يدعو وينظر إلى السماء ، فأنـزل الله تبارك وتعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ سورة البقرة: 144 ] إلى قوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ سورة البقرة: 144 ] ، فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا: مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [ سورة البقرة: 142 ] ، فأنـزل الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وقال: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي نحوه.

وقال آخرون: بل أنـزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنـزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية ، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ، لأن له المشارق والمغارب ، وأنه لا يخلو منه مكان ، كما قال جل وعز: وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [ سورة المجادلة: 7 ] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك ، فقال الله: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ سورة البقرة: 150 ]

حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، قال: هي القبلة ، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة ، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام . فنسخها الله في آية أخرى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا إِلَى وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ سورة البقرة: 144 ] ، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا - يقول: قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم ! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ورفع وجهه إلى السماء ، فقال الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ الآية [ سورة البقرة: 144 ] . »

وقال آخرون: نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب ، في مسيره في سفره ، وفي حال المسايفة ، وفي شدة الخوف ، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك ، بقوله: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ويتأول هذه الآية: ( أينما تولوا فثم وجه الله ) .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عمر أنه قال: « إنما نـزلت هذه الآية: ( أينما تولوا فثم وجه الله ) أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة » .

وقال آخرون بل نـزلت هذه الآية في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها ، فصلوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب ، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال، « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنـزلنا منـزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا ، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة . فأنـزل الله عز وجل: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ) . »

حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت ، شك الطبري - فكان في السماء سحاب ، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك ، يقول الله عز وجل: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه قال، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر ، فلم ندر أين القبلة فصلينا ، فصلى كل واحد منا على حياله، ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله عز وجل: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) .

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في سبب النجاشي ، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره ، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة ، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي ، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي ، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة ، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه ، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي ، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم ! قال فنـزلت وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [ سورة آل عمران: 199 ] ، قال : قتادة، فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنـزل الله عز وجل: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا ، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق ، وأن على جميعهم إذ كان له ملكهم طاعته فيما أمرهم ونهاهم ، وفيما فرض عليهم من الفرائض ، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه ، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب ، والمراد به من بينهما من الخلق ، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه ، كما قيل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ، وما أشبه ذلك.

ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء ، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته ، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي ، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي.

فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة ، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم ، والمراد الخاص ، وذلك أن قوله: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم ، في صلاتكم التطوع ، وفي حال مسايفتكم عدوكم ، في تطوعكم ومكتوبتكم ، فثم وجه الله ، كما قال ابن عمر والنخعي ، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا.

ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها ، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال :-

أبو كريب قال حدثنا وكيع ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، والنضر بن عربي ، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، قال: قبلة الله ، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم ، عن ابن أبي بكر ، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة.

ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج ، قال مجاهد: لما نـزلت: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [ سورة غافر: 60 ] ، قالوا: إلى أين؟ فنـزلت: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) .

فإذ كان قوله عز وجل: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، محتملا ما ذكرنا من الأوجه ، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها .

لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، مَعْنِيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نـزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس ، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة ، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس ، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين ، من ينكر أن تكون نـزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نـزلت فيه ، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت.

ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة ، إذ كانت محتملة ما وصفنا : بأن تكون جاءت بعموم ، ومعناها: في حال دون حال - إن كان عني بها التوجه في الصلاة ، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء ، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا.

وقد دللنا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » ، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكما ثابتا ، وألزم العباد فرضه ، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم ، أو المجمل ، أو المفسر ، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه .

ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، بحجة يجب التسليم لها ، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ.

وأما قوله: ( فأينما ) ، فإن معناه: حيثما.

وأما قوله: ( تولوا ) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون : تولون نحوه وإليه ، كما يقول القائل: « وليته وجهي ووليته إليه » ، بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله ، بمعنى قبلة الله.

وأما قوله: ( فثم ) فإنه بمعنى: هنالك.

واختلف في تأويل قوله: ( فثم وجه الله ) فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله ، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد: ( فثم وجه الله ) قال: قبلة الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم ، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها.

وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل : ( فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، فثم الله تبارك وتعالى.

وقال آخرون: معنى قوله: ( فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم.

وقال آخرون: عنى بـ « الوجه » ذا الوجه . وقال قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له.

فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟

قيل: هي لها مواصلة . وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه ، وسعوا في خرابها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه ، فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده ، ويعلم ما تعملون ، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس ، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله ، تبتغون به وجهه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 115 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( واسع ) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.

وأما قوله: ( عليم ) ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه ، بل هو بجميعها عليم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 116 )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ( وقالوا ) : معطوف على قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا .

وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم: ( سبحانه ) ، يعني بها: تنـزيها وتبريئا من أن يكون له ولد ، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل: « سبحان الله » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا . ومعنى ذلك: وكيف يكون المسيح لله ولدا ، وهو لا يخلو إما أن يكون في بعض هذه الأماكن، إما في السموات ، وإما في الأرض ، ولله ملك ما فيهما. ولو كان المسيح ابنا كما زعمتم ، لم يكن كسائر ما في السموات والأرض من خلقه وعبيده ، في ظهور آيات الصنعة فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ( 116 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم: معنى ذلك: مطيعون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( كل له قانتون ) ، مطيعون.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( كل له قانتون ) ، قال: مطيعون قال، طاعة الكافر في سجود ظله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد، بمثله ، إلا أنه زاد: بسجود ظله وهو كاره.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( كل له قانتون ) ، يقول: كل له مطيعون يوم القيامة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يحيى بن سعيد ، عمن ذكره ، عن عكرمة: ( كل له قانتون ) ، قال: الطاعة.

حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس: ( قانتون ) ، مطيعون.

وقال آخرون: معنى ذلك كل له مقرون بالعبودية.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة: ( كل له قانتون ) ، كل مقر له بالعبودية.

وقال آخرون بما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله: ( كل له قانتون ) ، قال: كل له قائم يوم القيامة.

ولِـ « القنوت » في كلام العرب معان: أحدها الطاعة ، والآخر القيام ، والثالث الكف عن الكلام والإمساك عنه.

وأولى معاني « القنوت » في قوله: ( كل له قانتون ) ، الطاعة والإقرار لله عز وجل بالعبودية ، بشهادة أجسامهم بما فيها من آثار الصنعة ، والدلالة على وحدانية الله عز وجل ، وأن الله تعالى ذكره بارئها وخالقها. وذلك أن الله جل ثناؤه أكذب الذين زعموا أن لله ولدا بقوله: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، ملكا وخلقا. ثم أخبر عن جميع ما في السموات والأرض أنها مقرة بدلالتها على ربها وخالقها ، وأن الله تعالى بارئها وصانعها. وإن جحد ذلك بعضهم ، فألسنتهم مذعنة له بالطاعة ، بشهادتها له بآثار الصنعة التي فيها بذلك ، وأن المسيح أحدهم ، فأنى يكون لله ولدا وهذه صفته؟

وقد زعم بعض من قصرت معرفته عن توجيه الكلام وِجْهتَه، أن قوله: ( كل له قانتون ) ، خاصة لأهل الطاعة وليست بعامة. وغير جائز ادعاء خصوص في آية عام ظاهرها ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، لما قد بينا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » .

وهذا خبر من الله جل وعز عن أن المسيح - الذي زعمت النصارى أنه ابن الله - مكذبهم هو والسموات والأرض وما فيها ، إما باللسان ، وإما بالدلالة. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن جميعهم ، بطاعتهم إياه، وإقرارهم له بالعبودية ، عقيب قوله: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، فدل ذلك على صحة ما قلنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( بديع السماوات والأرض ) ، مبدعها.

وإنما هو « مُفْعِل » صرف إلى « فعيل » كما صرف « المؤلم » إلى « أليم » ، و « المسمع » إلى « سميع » . ومعنى « المبدع » : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد. ولذلك سمي المبتدع في الدين « مبتدعا » ، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، في مدح هَوْذَة بن علي الحنفي:

يُـرعي إلـى قـول سادات الرجال إذا أبـدوا لـه الحزم , أو ما شاءه ابتدعا

أي يحدث ما شاء، ومنه قول رؤبة بن العجاج:

فأيهــا الغاشــي القِـذَافَ الأتْيَعَـا إن كــنت للــه التقــي الأطوعـا

فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا

يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه.

فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض ، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها ، وموجدها من غير أصل ، ولا مثال احتذاها عليه؟

وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده ، أن مما يشهد له بذلك : المسيح، الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول: ابتدع خلقها ، ولم يشركه في خلقها أحد.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( بديع السماوات والأرض ) ، يقول: ابتدعها فخلقها ، ولم يُخلق قبلها شيء فيتمثل به .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 117 )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( وإذا قضى أمرا ) ، وإذا أحكم أمرا وحتمه.

وأصل كل « قضاء أمر » الإحكام ، والفراغ منه. ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: « القاضي » بينهم ، لفصله القضاء بين الخصوم ، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به. ومنه قيل للميت: « قد قضى » ، يراد به قد فرغ من الدنيا ، وفصل منها. ومنه قيل: « ما ينقضي عجبي من فلان » ، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل: « تقضي النهار » ، إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [ سورة الإسراء: 23 ] أي : فصل الحكم فيه بين عباده ، بأمره إياهم بذلك ، وكذلك قوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [ سورة الإسراء: 4 ] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به ، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب:

وعليهمــا مســرودتان, قضاهمـا داود أو صَنَـــعَ الســوابغِ تُبَّــعُ

ويروى:

* وتعاورا مسرودتين قضاهما *

ويعني بقوله: « قضاهما » ، أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

قضيـت أمـورا ثـم غـادرت بعدها بَــوائِق فــي أكمامهـا لـم تَفَتَّـقِ

ويروى: « بوائج » .

وأما قوله: ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه ، فإنما يقول لذلك الأمر « كن » ، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده.

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه : « كن » ؟ أفي حال عدمه ، وتلك حال لا يجوز فيها أمره ، إذْ كان محالا أن يأمر إلا المأمور ، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر، ؛ وكما محالٌ الأمر من غير آمر ، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور. أم يقول له ذلك في حال وجوده ؟ وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث ، لأنه حادث موجود ، ولا يقال للموجود: « كن موجودا » إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟

قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك ، ونحن مخبرون بما قالوا فيه ، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك:

قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه ، ومضى فيه أمره ، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين ، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك ، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم ، وكالذي خسف به وبداره الأرض ، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه.

فوجه قائلو هذا القول قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، إلى الخصوص دون العموم

* * *.

وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها ، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها . وقال: إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك ، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها ، نظائر التي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها: « كوني » ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ، لتصور جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم.

وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهرَ عمومٍ ، فتأويلها الخصوص، لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور ، على ما وصفت قبل. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك ، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت ، أو إماتة حي ، ونحو ذلك ، فإنما يقول لحي: « كن ميتا ، أو لميت: كن حيا » ، وما أشبه ذلك من الأمر.

وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه ، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه ، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة ، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي - . وقالوا: إنما قول الله عز وجل: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل: « قال فلان برأسه » و « قال بيده » ، إذا حرك رأسه ، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا، وكما قال أبو النجم:

وقــالت للبَطْــنِ الْحَــقِ الحــق قِدْمًــا فــآضت كـالفَنِيقِ المحـنِق

ولا قول هنالك ، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي:

فـأصبحت مثـل النسر طارت فراخه إذا رام تطيــارا يقــال لـه : قـعِ

ولا قول هناك ، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع ، وكما قال الآخر:

امتــلأ الحــوض وقـال: قطنـي ســلا رويـدا , قـد مـلأت بطنـي

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه ، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم ، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » . وإذ كان ذلك كذلك ، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: ( كن ) في حال إرادته إياه مكوَّنا ، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه ، ولا أمره بالكون والوجود ، ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود ، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) قوله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [ سورة الروم: 25 ] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ، ولا يتأخر عنه.

ويسألُ من زعم أن قوله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز ، عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم ، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله.

ويسألُ الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: ( فإنما يقول له كن فيكون ) ، نظير قول القائل: « قال فلان برأسه أو بيده » ، إذا حركه وأومأ ، ونظير قول الشاعر:

تقــول إذا درأت لهــا وضينـي : أهـــذا دينـــه أبــدا ودينــي

وما أشبه ذلك- : فإنهم لا صواب اللغة أصابوا ، ولا كتاب الله ، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له: « كن » ، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن ، وخرجوا من الملة .

وإن قالوا: بل نقر به ، ولكنا نـزعم أن ذلك نظير قول القائل: « قال الحائط فمال » ولا قول هنالك ، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط.

قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟

فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب ، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها.

وإن قالوا: ذلك غير جائز .

قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون ، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل: « قال الحائط فمال » ، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، وقول القائل: « قال الحائط فمال » ؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله.

وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: ( وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود ، فبَيِّنٌ بذلك أن الذي هو أولى بقوله: ( فيكون ) الرفع على العطف على قوله ( يقول ) لأن « القول » و « الكون » حالهما واحد. وهو نظير قول القائل: « تاب فلان فاهتدى » ، و « اهتدى فلان فتاب » ، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد ، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود ، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود.

ولذلك استجاز من استجاز نصب « فيكون » من قرأ: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ النحل: 40 ] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن نقول فيكونَ.

وأما رفع من رفع ذلك ، فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله: إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا ، ثم ابتدأ بقوله: فيكون ، كما قال جل ثناؤه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ، [ سورة الحج: 5 ] وكما قال ابن أحمر:

يعــالج عــاقرا أعيــت عليــه ليُلْقِحَهـــا فيَنْتِجُهـــا حُـــوارا

يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا.

فمعنى الآية إذًا: وقالوا اتخذ الله ولدا ، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما ، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد ، وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل ، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه ، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: « كن » ، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه ، إذْ أراد خلقه من غير والد.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك النصارى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، قال: النصارى تقوله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله - وزاد فيه ( وقال الذين لا يعلمون ) ، النصارى.

وقال آخرون: بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير. وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل ، قالا جميعا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال، قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله كما تقول ، فقل لله عز وجل فليكلمنا حتى نسمع كلامه! فأنـزل الله عز وجل في ذلك من قوله: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، الآية كلها.

وقال آخرون: بل عنى بذلك مشركي العرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية ) ، وهم كفار العرب.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، قال: هم كفار العرب.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ) ، أما الذين لا يعلمون: فهم العرب.

وأولى هذه الأقوال بالصحة والصواب قول القائل: إن الله تعالى عنى بقوله: ( وقال الذين لا يعلمون ) ، النصارى دون غيرهم. لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم ، وعن افترائهم عليه وادعائهم له ولدا. فقال جل ثناؤه ، مخبرا عنهم فيما أخبر عنهم من ضلالتهم أنهم مع افترائهم على الله الكذب بقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، تمنوا على الله الأباطيل ، فقالوا جهلا منهم بالله وبمنـزلتهم عنده وهم بالله مشركون: ( لولا يكلمنا الله ) ، كما يكلم رسوله وأنبياءه ، أو تأتينا آية كما أتتهم؟ ولا ينبغي لله أن يكلم إلا أولياءه ، ولا يؤتي آية معجزة على دعوى مدع إلا لمن كان محقا في دعواه وداعيا إلى الله وتوحيده، فأما من كان كاذبا في دعواه وداعيا إلى الفرية عليه وادعاء البنين والبنات له ، فغير جائز أن يكلمه الله جل ثناؤه ، أو يؤتيه آية معجزة تكون مؤيدة كذبه وفريته عليه.

وأمّا الزاعم: أن الله عنى بقوله ( وقال الذين لا يعلمون ) العرب ، فإنه قائل قولا لا خبر بصحته ، ولا برهان على حقيقته في ظاهر الكتاب. والقول إذا صار إلى ذلك كان واضحا خطؤه ، لأنه ادعى ما لا برهان على صحته ، وادعاء مثل ذلك لن يتعذر على أحد.

وأما معنى قوله: ( لولا يكلمنا الله ) ، فإنه بمعنى: هلا يكلمنا الله! كما قال الأشهب بن رميلة:

تعـدون عقـر النيـب أفضـل مجدكم بنـي ضوطـرى , لـولا الكمي المقنعا

بمعنى: فهلا تعدون الكمي المقنع! كما:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله: ( لولا يكلمنا الله ) قال: فهلا يكلمنا الله!

قال أبو جعفر: فأما « الآية » فقد ثبت فيما قبل معنى الآية أنها العلامة. وإنما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: هلا تأتينا آية على ما نريد ونسأل ، كما أتت الأنبياء والرسل! فقال عز وجل: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، فقال بعضهم في ذلك بما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، هم اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( قال الذين من قبلهم ) ، اليهود.

وقال آخرون: هم اليهود والنصارى ، لأن الذين لا يعلمون هم العرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة: ( قال الذين من قبلهم ) ، يعني اليهود والنصارى وغيرهم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، قالوا يعني - العرب- كما قالت اليهود والنصارى من قبلهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ) ، يعني اليهود والنصارى.

قال أبو جعفر: قد دللنا على أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ، هم النصارى ، والذين قالوا مثل قولهم هم اليهود سألت موسى صلى الله عليه وسلم أن يريهم ربهم جهرة ، وأن يسمعهم كلام ربهم ، كما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا - وسألوا من الآيات ما ليس لهم مسألته تحكما منهم على ربهم ، وكذلك تمنت النصارى على ربها تحكما منها عليه أن يسمعهم كلامه ويريهم ما أرادوا من الآيات. فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا من القول في ذلك ، مثل الذي قالته اليهود وتمنت على ربها مثل أمانيها ، وأن قولهم الذي قالوه من ذلك إنما يشابه قول اليهود من أجل تشابه قلوبهم في الضلالة والكفر بالله. فهم وإن اختلفت مذاهبهم في كذبهم على الله وافترائهم عليه ، فقلوبهم متشابهة في الكفر بربهم والفرية عليه ، وتحكمهم على أنبياء الله ورسله عليهم السلام. وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( تشابهت قلوبهم ) قلوب النصارى واليهود.

وقال غيره: معنى ذلك تشابهت قلوب كفار العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( تشابهت قلوبهم ) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع: ( تشابهت قلوبهم ) ، يعني العرب واليهود والنصارى وغيرهم.

قال أبو جعفر : وغير جائز في قوله: ( تشابهت ) التثقيل ، لأن التاء التي في أولها زائدة أدخلت في قوله: « تفاعل » ، وإن ثقلت صارت تاءين، ولا يجوز إدخال تاءين زائدتين علامة لمعنى واحد ، وإنما يجوز ذلك في الاستقبال لاختلاف معنى دخولهما، لأن إحداهما تدخل علما للاستقبال ، والأخرى منها التي في « تفاعل » ، ثم تدغم إحداهما في الأخرى فتثقل ، فيقال: تشابه بعد اليوم قلوبنا.

فمعنى الآية: وقالت النصارى ، الجهال بالله وبعظمته: هلا يكلمنا الله ربنا ، كما كلم أنبياءه ورسله ، أو تجيئنا علامة من الله نعرف بها صدق ما نحن عليه على ما نسأل ونريد؟ قال الله جل ثناؤه: فكما قال هؤلاء الجهال من النصارى وتمنوا على ربهم ، قال من قبلهم من اليهود ، فسألوا ربهم أن يريهم الله نفسه جهرة ، ويؤتيهم آية ، واحتكموا عليه وعلى رسله ، وتمنوا الأماني. فاشتبهت قلوب اليهود والنصارى في تمردهم على الله وقلة معرفتهم بعظمته وجرأتهم على أنبيائه ورسله ، كما اشتبهت أقوالهم التي قالوها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 118 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) ، قد بينا العلامات التي من أجلها غضب الله على اليهود ، وجعل منهم القردة والخنازير ، وأعد لهم العذاب المهين في معادهم ، والتي من أجلها أخزى الله النصارى في الدنيا ، وأعد لهم الخزي والعذاب الأليم في الآخرة ، والتي من أجلها جعل سكان الجنان الذين أسلموا وجوههم لله وهم محسنون في هذه السورة وغيرها. فأعلموا الأسباب التي من أجلها استحق كل فريق منهم من الله ما فعل به من ذلك ، وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون، لأنهم أهل التثبت في الأمور ، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة. فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ليزول شكه ، ويعلم حقيقة الأمر، إذْ كان ذلك خبرا من الله جل ثناؤه ، وخبر الله الخبر الذي لا يعذر سامعه بالشك فيه. وقد يحتمل غيره من الأخبار ما يحتمل من الأسباب العارضة فيه من السهو والغلط والكذب ، وذلك منفي عن خبر الله عز وجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

قال أبو جعفر: ومعنى قوله جل ثناؤه: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ، إنا أرسلناك يا محمد بالإسلام الذي لا أقبل من أحد غيره من الأديان ، وهو الحق ؛ مبشرا من اتبعك فأطاعك ، وقبل منك ما دعوته إليه من الحق - بالنصر في الدنيا ، والظفر بالثواب في الآخرة ، والنعيم المقيم فيها، ومنذرا من عصاك فخالفك، ورد عليك ما دعوته إليه من الحق - بالخزي في الدنيا ، والذل فيها ، والعذاب المهين في الآخرة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ( 119 )

قال أبو جعفر: قرأت عامة الْقَرَأَة: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، بضم « التاء » من « تسأل » ، ورفع « اللام » منها على الخبر ، بمعنى: يا محمد إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، فبلغت ما أرسلت به ، وإنما عليك البلاغ والإنذار ، ولست مسئولا عمن كفر بما أتيته به من الحق ، وكان من أهل الجحيم.

وقرأ ذلك بعض أهل المدينة: ( ولا تَسألْ ) جزما. بمعنى النهي ، مفتوح « التاء » من « تسأل » ، وجزم « اللام » منها. ومعنى ذلك على قراءة هؤلاء: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا لتبلغ ما أرسلت به ، لا لتسأل عن أصحاب الجحيم ، فلا تسأل عن حالهم. وتأول الذين قرءوا هذه القراءة ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنـزلت : ( ولا تَسألْ عن أصحاب الجحيم ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ ليت شعري ما فعل أبواي؟ « ثلاثا ، فنـزلت: ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تَسأل عن أصحاب الجحيم ) ، فما ذكرهما حتى توفاه الله. »

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني داود بن أبي عاصم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: « ليت شعري أين أبواي؟ » فنـزلت: ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) .

قال أبو جعفر : والصواب عندي من القراءة في ذلك قراءة من قرأ بالرفع ، على الخبر. لأن الله جل ثناؤه قص قصص أقوام من اليهود والنصارى ، وذكر ضلالتهم ، وكفرهم بالله ، وجراءتهم على أنبيائه ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يا محمد بِالْحَقِّ بَشِيرًا ، من آمن بك واتبعك ممن قصصت عليك أنباءه ومن لم أقصص عليك أنباءه ، وَنَذِيرًا من كفر بك وخالفك ، فبلغ رسالتي ، فليس عليك من أعمال من كفر بك - بعد إبلاغك إياه رسالتي تبعة ، ولا أنت مسئول عما فعل بعد ذلك. ولم يجر - لمسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عن أصحاب الجحيم ذكر ، فيكون لقوله: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، وجه يوجه إليه. وإنما الكلام موجه معناه إلى ما دل عليه ظاهره المفهوم ، حتى تأتي دلالة بينة تقوم بها الحجة ، على أن المراد به غير ما دل عليه ظاهره، فيكون حينئذ مسلما للحجة الثابتة بذلك. ولا خبر تقوم به الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يسأل - في هذه الآية عن أصحاب الجحيم ، ولا دلالة تدل على أن ذلك كذلك في ظاهر التنـزيل. والواجب أن يكون تأويل ذلك الخبر على ما مضى ذكره قبل هذه الآية ، وعمن ذكر بعدها من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر ، دون النهي عن المسألة عنهم.

فإن ظن ظان أن الخبر الذي روي عن محمد بن كعب صحيح ، فإن في استحالة الشك من الرسول عليه السلام - في أن أهل الشرك من أهل الجحيم ، وأن أبويه كانا منهم ، ما يدفع صحة ما قاله محمد بن كعب ، إن كان الخبر عنه صحيحا. مع أن ابتداء الله الخبر بعد قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، بـ « الواو » - بقوله: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) ، وتركه وصل ذلك بأوله بـ « الفاء » ، وأن يكون: « إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا فلا تسأل عن أصحاب الجحيم » - أوضح الدلالة على أن الخبر بقوله: « ولا تسأل » ، أولى من النهي ، والرفع به أولى من الجزم. وقد ذكر أنها في قراءة أبي: ( وما تسأل ) ، وفي قراءة ابن مسعود: ( ولن تسأل ) ، وكلتا هاتين القراءتين تشهد بالرفع والخبر فيه ، دون النهي.

وقد كان بعض نحويي البصرة يوجه قوله: ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) إلى الحال ، كأنه كان يرى أن معناه: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول عن أصحاب الجحيم. وذلك إذا ضم « التاء » ، وقرأه على معنى الخبر ، وكان يجيز على ذلك قراءته: « ولا تسأل » ، بفتح « التاء » وضم « اللام » على وجه الخبر بمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، غير سائل عن أصحاب الجحيم. وقد بينا الصواب عندنا في ذلك.

وهذان القولان اللذان ذكرتهما عن البصري في ذلك، يدفعهما ما روي عن ابن مسعود وأبي من القراءة، لأن إدخالهما ما أدخلا من ذلك من « ما » و « لن » يدل على انقطاع الكلام عن أوله وابتداء قوله: ( ولا تسأل ) . وإذا كان ابتداء لم يكن حالا.

وأما ( أصحاب الجحيم ) ، ف « الجحيم » ، هي النار بعينها إذا شبت وقودها ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

إذا شـــبت جـــهنم ثــم دارت وأَعْــرَض عـن قوابسـها الجحـيم