القول في تأويل قوله : قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ( 14 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قاتلوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم, وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ( يعذبهم الله بأيديكم ) ، يقول: يقتلهم الله بأيديكم ( ويخزهم ) ، يقول: ويذلهم بالأسر والقهر ( وينصركم عليهم ) ، فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه.

وقيل: إن الله عنى بقوله: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، : صدورَ خزاعة حلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قريشًا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرًا عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد في هذه الآية: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، قال: خزاعة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, عن أسباط, عن السدي: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، قال: خزاعة، يشف صدورهم من بني بكر.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد: ( ويشف صدور قوم مؤمنين ) ، قال: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله.

 

القول في تأويل قوله : وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 15 )

قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: ويذهب وَجْدَ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة, على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين، وغمَّها وكربَها بما فيها من الوجد عليهم, بمعونتهم بكرًا عليهم، كما:-

حدثني ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي, عن أسباط, عن السدي: ( ويذهب غيظ قلوبهم ) ، حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم قريش.

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, مثله إلا أنه قال: وأعانتهم عليهم قريش.

وأما قوله: ( ويتوب الله على من يشاء ) ، فإنه خبر مبتدأ, ولذلك رفع، وجُزِم الأحرفُ الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة, كأنه قال: قاتلوهم، فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم, ويخزهم, وينصركم عليهم ثم ابتدأ فقال: ( ويتوب الله على من يشاء ) ، لأن القتال غير موجب لهم التوبةَ من الله, وهو موجبٌ لهم العذابَ من الله، والخزيَ، وشفاءَ صدور المؤمنين، وذهابَ غيظ قلوبهم, فجزم ذلك شرطًا وجزاءً على القتال, ولم يكن موجبًا القتالُ التوبةَ, فابتُدِئ الخبرُ به ورُفع.

ومعنى الكلام: ويمنّ الله على من يشاء من عباده الكافرين, فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه ( والله عليم ) ، بسرائر عباده، ومَنْ هو للتوبة أهلٌ فيتوب عليه, ومَنْ منهم غير أهل لها فيخذله ( حكيم ) ، في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيقه من وفَّقه لذلك ومن حال إيمان إلى كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده, وغير ذلك من أمرهم.

 

القول في تأويل قوله : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 16 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين, الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ، الآية, حاضًّا على جهادهم: ( أم حسبتم ) ، أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها، وبغير اختبار يختبركم به, فيعرف الصادقَ منكم في دينه من الكاذب فيه ( ولما يعلم الله الذين جاهدوا ) ، يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله, من المضيِّعين أمرَ الله في ذلك المفرِّطين ( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ) ، يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم, والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ولا من دون المؤمنين ( وليجة ) .

هو الشيء يدخل في آخر غيره, يقالُ منه: « ولج فلان في كذا يلجِه، فهو وليجة » .

وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم ( والله خبير بما تعملون ) ، يقول: والله ذو خبرة بما تعملون، من اتخاذكم من دون الله ودون رسوله والمؤمنين به أولياءَ وبطانةً، بعد ما قد نهاكم عنه, لا يخفى ذلك عليه، ولا غيره من أعمالكم, والله مجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.

وبنحو الذي قلت في معنى « الوليجة » ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا المؤمنين وليجة ) ، يتولّجها من الولاية للمشركين.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع: ( وليجة ) ، قال: دَخَلا.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: ( أم حسبتم أن تتركوا ) ، إلى قوله: ( وليجة ) ، قال: أبي أن يدعهم دون التمحيص. وقرأ: ( « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ » ، وقرأ: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ) ، [ سورة آل عمران : 142 ] ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ، الآيات كلها, [ سورة البقرة 214 ] أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحِّصهم ويختبرهم. وقرأ: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، [ سورة العنكبوت: 1 - 3 ] ، أبى الله إلا أن يمَحِّص.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( وليجة ) ، قال: هو الكفر والنفاق أو قال أحدَهما.

وقيل: ( أم حسبتم ) ، ولم يقل: « أحسبتم » , لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام, فأدخلت فيه « أم » ليفرَّق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. وقد بينت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب.

 

القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ( 17 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها، لا للكفر به, فمن كان بالله كافرًا، فليس من شأنه أن يعمُرَ مساجد الله.

وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر, فإنها كما:-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، يقول: ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما ( شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، فإن النصراني يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي, فيقول: يهودي والصابئ, فيقول: صابئ والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك ! لم يكن ليقوله أحدٌ إلا العرب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزي, عن أسباط, عن السدي: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) ، قال: يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو, عن أسباط, عن السدي: ( شاهدين على أنفسهم بالكفر ) ، قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ فيقول: نصراني واليهودي يقال له: ما أنت؟ فيقول: يهودي والصابئ يقال له: ما أنت؟ فيقول: صابئ.

وقوله: ( أولئك حبطت أعمالهم ) ، يقول: بطلت وذهبت أجورها, لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان ( وفي النار هم خالدون ) ، يقول: ماكثون فيها أبدًا, لا أحياءً ولا أمواتًا.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( مساجد الله ) ، على الجماع.

وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: ( مَسْجِدَ اللهِ ) ، على التوحيد, بمعنى المسجد الحرام.

قال أبو جعفر: وهم جميعًا مجمعون على قراءة قوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، على الجماع, لأنه إذا قرئ كذلك، احتمل معنى الواحد والجماع, لأن العرب قد تذهب بالواحد إلى الجماع، وبالجماع إلى الواحد, كقولهم: « عليه ثوب أخلاق » .

 

القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 18 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( إنما يعمر مساجد الله ) ، المصدِّق بوحدانية الله, المخلص له العبادة ( واليوم الآخر ) , يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياءً من قبورهم يوم القيامة ( وأقام الصلاة ) ، المكتوبة، بحدودها وأدَّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له ( ولم يخش إلا الله ) ، يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه، سوى الله ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) ، يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم، أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) ، يقول: من وحَّد الله، وآمن باليوم الآخر. يقول: أقرّ بما أنـزل الله ( وأقام الصلاة ) ، يعني الصلوات الخمس ( ولم يخش إلا الله ) ، يقول: ثم لم يعبد إلا الله قال: ( فعسى أولئك ) ، يقول: إن أولئك هم المفلحون, كقوله لنبيه: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ، [ سورة الإسراء: 79 ] : يقول: إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا، وهي الشفاعة, وكل « عسى » ، في القرآن فهي واجبة.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر قول قريش: إنَّا أهلُ الحرم, وسُقاة الحاج, وعُمَّار هذا البيت, ولا أحد أفضل منا! فقال: ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) ، أي: إن عمارتكم ليست على ذلك, ( إنما يعمر مساجد الله ) ، أي: من عمرها بحقها ( من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) فأولئك عمارها ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) ، و « عسى » من الله حق.

 

القول في تأويل قوله : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 19 )

قال أبو جعفر: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت, فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية.

وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني معاوية بن سلام, عن جده أبي سلام الأسود, عن النعمان بن بشير الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه, فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام, إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام ! وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ! فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال: ففعل, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( أجعلتم سقاية الحاج ) إلى قوله: ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .

حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ) ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد, لقد كنا نعمر المسجد الحرام, ونسقي الحاج, ونفك العاني ! قال الله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، إلى قوله: ( الظالمين ) ، يعني أن ذلك كان في الشرك, ولا أقبل ما كان في الشرك.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، إلى قوله: ( الظالمين ) ، وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون، من أجل أنهم أهله وعُمَّاره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم, فقال لأهل الحرم من المشركين: قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ [ سورة المؤمنون: 66، 67 ] ، يعني أنهم يستكبرون بالحرم. وقال: بِهِ سَامِرًا ، لأنهم كانوا يسمرون، ويهجرون القرآن والنبيَّ صلى الله عليه وسلم. فخيَّر الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله صلى الله عليه وسلم، على عمران المشركين البيتَ وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به، أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه. قال الله: ( لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة, فسماهم الله « ظالمين » ، بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئًا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير, عن النعمان بن بشير, أن رجلا قال: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج ! وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرامَ ! وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم! فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه! فنـزلت: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) ، إلى قوله: ( لا يستوون عند الله ) ،

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عمرو, عن الحسن قال: نـزلت في علي، وعباس، وعثمان، وشيبة, تكلموا في ذلك، فقال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيرًا. »

... قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل, عن الشعبي قال: نـزلت في علي، والعباس, تكلما في ذلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرت عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار, وعباس بن عبد المطلب, وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة، أنا صاحب البيت، معي مفتاحه, لو أشاء بِتُّ فيه ! وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها, ولو أشاء بِتُّ في المسجد ! وقال علي: ما أدري ما تقولان, لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس, وأنا صاحب الجهاد ! فأنـزل الله: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام ) ، الآية كلها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن قال: لما نـزلت ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم « أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا » .

حدثني محمد بن الحسن قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدى: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) ، قال: افتخر علي، وعباس، وشيبة بن عثمان, فقال للعباس: أنا أفضلكم, أنا أسقي حُجَّاج بيت الله ! وقال شيبة: أنا أعمُر مسجد الله ! وقال علي: أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاهد معه في سبيل الله ! فأنـزل الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، إلى: نَعِيمٌ مُقِيمٌ .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، الآية, أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسرُوا يوم بدر يعيِّرونهم بالشرك, فقال العباس: أما والله لقد كنَّا نَعمُر المسجدَ الحرام, ونفُكُّ العاني, ونحجب البيتَ, ونسقي الحاج ! فأنـزل الله: ( أجعلتم سقاية الحاج ) ، الآية.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أجعلتم، أيها القوم، سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ( لا يستوون ) هؤلاء، وأولئك, ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملا ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يقول: والله لا يوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا ولتوحيده جاحدا.

ووضع الاسم موضع المصدر في قوله: ( كمن آمن بالله ) ، إذ كان معلومًا معناه, كما قال الشاعر:

لَعَمْـرُكَ مَـا الفِتْيَـانُ أَنْ تَنْبُـتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَــا الفِتْيَـانُ كُـلُّ فَتًـى نَـدِي

فجعل خبر « الفتيان » ، « أن » , وهو كما يقال: « إنما السخاء حاتم، والشعر زهير » .

 

القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( 20 )

قال أبو جعفر: وهذا قضاءٌ من الله بَيْن فِرَق المفتخرين الذين افتخرَ أحدهم بالسقاية, والآخرُ بالسِّدانة, والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: ( الذين أمنوا ) بالله، وصدقوا بتوحيده من المشركين ( وهاجروا ) دورَ قومهم ( وجاهدوا ) المشركين في دين الله ( بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ) ، وأرفع منـزلة عنده، من سُقَاة الحاج وعُمَّار المسجد الحرام، وهم بالله مشركون ( وأولئك ) ، يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم، أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا ( هم الفائزون ) ، بالجنة، الناجون من النار.