القول في تأويل قوله تعالى : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ، وليست اليهود ، يا محمد ، ولا النصارى براضية عنك أبدا ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم ، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم. ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم، لأن اليهودية ضد النصرانية ، والنصرانية ضد اليهودية ، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد في حال واحدة ، واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك ، إلا أن تكون يهوديا نصرانيا ، وذلك مما لا يكون منك أبدا ، لأنك شخص واحد ، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل ، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل ، فالزم هدى الله الذي لجمع الخلق إلى الألفة عليه سبيل .

وأما « الملة » فإنها الدين ، وجمعها الملل.

ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد - لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى - ( إن هدى الله هو الهدى ) ، يعني إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء الفاصل بيننا ، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه- الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه ، وهو التوراة التي تقرون جميعا بأنها من عند الله ، يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل ، وأينا أهل الجنة ، وأينا أهل النار ، وأينا على الصواب ، وأينا على الخطأ.

وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه ، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى ، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 120 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولئن اتبعت ) ، يا محمد ، هوى هؤلاء اليهود والنصارى - فيما يرضيهم عنك - من تهود وتنصر ، فصرت من ذلك إلى إرضائهم ، ووافقت فيه محبتهم - من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم ، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة - ما لك من الله من ولي يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك ، وقيم يقوم به ولا نصير ، ينصرك من الله ، فيدفع عنك ما ينـزل بك من عقوبته ، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك.وقد بينا معنى « الولي » و « النصير » فيما مضى قبل.

وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنـزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها ، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه دون ما عليه ، غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك ، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عناهم الله جل ثناؤه بقوله: ( الذين آتيناهم الكتاب ) فقال بعضهم: هم المؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من أصحابه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله: ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، هؤلاء أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ، آمنوا بكتاب الله وصدقوا به.

وقال آخرون: بل عنى الله بذلك علماء بني إسرائيل ، الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، فأقروا بحكم التوراة. فعملوا بما أمر الله فيها من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، والتصديق بما جاء به من عند الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود فأولئك هم الخاسرون.

وهذا القول أولى بالصواب من القول الذي قاله قتادة. لأن الآيات قبلها مضت بأخبار أهل الكتابين ، وتبديل من بدل منهم كتاب الله ، وتأولهم إياه على غير تأويله ، وادعائهم على الله الأباطيل. ولم يجر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الآية التي قبلها ذكر ، فيكون قوله: ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، موجها إلى الخبر عنهم ، ولا لهم بعدها ذكر في الآية التي تتلوها ، فيكون موجها ذلك إلى أنه خبر مبتدأ عن قصص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد انقضاء قصص غيرهم ، ولا جاء بأن ذلك خبر عنهم أثر يجب التسليم له.

فإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بمعنى الآية أن يكون موجها إلى أنه خبر عمن قص الله جل ثناؤه [ قصصهم ] في الآية قبلها والآية بعدها ، وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وإذْ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية: الذين آتيناهم الكتاب الذي قد عرفته يا محمد - وهو التوراة- فقرءوه واتبعوا ما فيه ، فصدقوك وآمنوا بك ، وبما جئت به من عندي ، أولئك يتلونه حق تلاوته.

وإنما أدخلت الألف واللام في « الكتاب » لأنه معرفة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عرفوا أي الكتب عنى به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل: ( يتلونه حق تلاوته ) ، فقال بعضهم: معنى ذلك يتبعونه حق اتباعه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني ابن أبي عدي ، وعبد الأعلى ، وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي جميعا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: ( يتلونه حق تلاوته ) ، يتبعونه حق اتباعه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله.

وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة بمثله.

حدثني الحسن بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قوله الله عز وجل: ( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ) ، قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ولا يحرفونه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي قال، قال أبو مالك: إن ابن عباس قال في: ( يتلونه حق تلاوته ) ، فذكر مثله، إلا أنه قال: ولا يحرفونه عن مواضعه.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المؤمل قال، حدثنا سفيان قال: حدثنا يزيد ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله عز وجل: ( يتلونه حق تلاوته ) : قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية قال، قال عبد الله بن مسعود: والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنـزله الله ، ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر ، عن قتادة ومنصور بن المعتمر ، عن ابن مسعود في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، أن يحل حلاله ويحرم حرامه ، ولا يحرفه عن مواضعه.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا [ أبو أحمد ] الزبيري قال، حدثنا عباد بن العوام عمن ذكره ، عن عكرمة ، عن ابن عباس: ( يتلونه حق تلاوته ) يتبعونه حق اتباعه.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن عطاء ، بمثله.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان - وحدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم قال، حدثنا سفيان- وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان - قالوا جميعا: عن منصور، عن أبي رزين، مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: عملا به.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك ، عن قيس بن سعد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، ألم تر إلى قوله: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [ سورة الشمس: 2 ] ، يعني الشمس إذا تَبعها القمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء وقيس بن سعد ، عن مجاهد في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يعملون به حق عمله.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم ، عن عبد الملك ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال، يتبعونه حق اتباعه.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، يعملون به حق عمله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن مجاهد في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثني عمرو قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن أبي أيوب ، عن أبي الخليل ، عن مجاهد: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه.

حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى القطان ، عن عبد الملك ، عن عطاء قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) قال: يتبعونه حق اتباعه ، يعملون به حق عمله.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي ، عن المبارك ، عن الحسن: ( يتلونه حق تلاوته ) قال: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وعملوا بما فيه، ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: إن حق تلاوته : أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، وأن يقرأه كما أنـزله الله عز وجل ، ولا يحرفه عن مواضعه.

حدثنا عمرو قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا الحكم بن عطية ، سمعت قتادة يقول: ( يتلونه حق تلاوته ) قال: يتبعونه حق اتباعه. قال: اتباعه : يحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ويقرءونه كما أنـزل.

حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم عن داود ، عن عكرمة في قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، قال: يتبعونه حق اتباعه، أما سمعت قول الله عز وجل: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [ سورة الشمس: 2 ] ، قال: إذا تبعها.

وقال آخرون : ( يتلونه حق تلاوته ) ، يقرءونه حق قراءته.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك أنه بمعنى: يتبعونه حق اتباعه ، من قول القائل: ما زلت أتلو أثره ، إذا اتبع أثره، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.

وإذ كان ذلك تأويله ، فمعنى الكلام: الذين آتيناهم الكتاب ، يا محمد من أهل التوراة الذين آمنوا بك وبما جئتهم به من الحق من عندي ، يتبعون كتابي الذي أنـزلته على رسولي موسى صلوات الله عليه ، فيؤمنون به ويقرون بما فيه من نعتك وصفتك ، وأنك رسولي، فرضٌ عليهم طاعتي في الإيمان بك والتصديق بما جئتهم به من عندي ، ويعملون بما أحللت لهم ، ويجتنبون ما حرمت عليهم فيه ، ولا يحرفونه عن مواضعه ولا يبدلونه ولا يغيرونه - كما أنـزلته عليهم - بتأويل ولا غيره.

أما قوله: ( حق تلاوته ) ، فمبالغة في صفة اتباعهم الكتاب ولزومهم العمل به ، كما يقال: « إن فلانا لعالم حق عالم » ، وكما يقال: « إن فلانا لفاضل كل فاضل »

وقد اختلف أهل العربية في إضافة « حق » إلى المعرفة ، فقال بعض نحويي الكوفة: غير جائزة إضافته إلى معرفة لأنه بمعنى « أي » ، وبمعنى قولك: « أفضل رجل فلان » ، و « أفعل » لا يضاف إلى واحد معرفة ، لأنه مبعض ، ولا يكون الواحد المبعض معرفة. فأحالوا أن يقال: « مررت بالرجل حق الرجل » ، و « مررت بالرجل جِدِّ الرجل » ، كما أحالوا « مررت بالرجل أي الرجل » ، وأجازوا ذلك في « كل الرجل » و « عين الرجل » و « نفس الرجل » . وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأن هذه الحروف كانت في الأصل توكيدا ، فلما صرن مدوحا ، تركن مدوحا على أصولهن في المعرفة.

وزعموا أن قوله: ( يتلونه حق تلاوته ) ، إنما جازت إضافته إلى التلاوة ، وهي مضافة إلى معرفة، لأن العرب تعتد ب « الهاء » - إذا عادت إلى نكرة - بالنكرة ، فيقولون: « مررت برجل واحد أمه ، ونسيج وحده ، وسيد قومه » ، قالوا: فكذلك قوله: ( حق تلاوته ) ، إنما جازت إضافة « حق » إلى « التلاوة » وهي مضافة إلى « الهاء » ، لاعتداد العرب ب « الهاء » التي في نظائرها في عداد النكرات. قالوا: ولو كان ذلك « حق التلاوة » ، لوجب أن يكون جائزا: « مررت بالرجل حق الرجل » .

فعلى هذا القول تأويل الكلام: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة.

وقال بعض نحويي البصرة: جائزة إضافة « حق » إلى النكرات مع النكرات ، ومع المعارف إلى المعارف، وإنما ذلك نظير قول القائل: « مررت بالرجل غلام الرجل » ، و « برجل غلام رجل » .

فتأويل الآية على قول هؤلاء: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته

وأولى ذلك بالصواب عندنا القول الأول، لأن معنى قوله: ( حق تلاوته ) ، أي تلاوة ، بمعنى مدح التلاوة التي تلوها وتفضيلها. « وأي » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة عند جميعهم. وكذلك « حق » غير جائزة إضافتها إلى واحد معرفة .

وإنما أضيف في ( حق تلاوته ) إلى ما فيه « الهاء » لما وصفت من العلة التي تقدم بيانها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( أولئك ) ، هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يتلون ما آتاهم من الكتاب حق تلاوته ، وأما قوله: ( يؤمنون ) ، فإنه يعني: يصدقون به. و « الهاء » التي في قوله : « به » عائدة على « الهاء » التي في تِلاوَتِهِ ، وهما جميعا من ذكر الكتاب الذي قاله الله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ .

فأخبر الله جل ثناؤه أن المؤمن بالتوراة ، هو المتبع ما فيها من حلالها وحرامها ، والعامل بما فيها من فرائض الله التي فرضها فيها على أهلها ، وأن أهلها الذين هم أهلها من كان ذلك صفته، دون من كان محرفا لها مبدلا تأويلها ، مغيرا سننها تاركا ما فرض الله فيها عليه.

وإنما وصف جل ثناؤه من وُصف بما وصف به من متبعي التوراة ، وأثنى عليهم بما أثنى به عليهم، لأن في اتباعها اتباع محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه ، لأن التوراة تأمر أهلها بذلك ، وتخبرهم عن الله تعالى ذكره بنبوته ، وفرض طاعته على جميع خلق الله من بني آدم ، وأن في التكذيب بمحمد التكذيب لها. فأخبر جل ثناؤه أن متبعي التوراة هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم العاملون بما فيها، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أولئك يؤمنون به ) ، قال: من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل ، وبالتوراة ، وإن الكافر بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الكافر بها الخاسر ، كما قال جل ثناؤه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 121 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ومن يكفر به ) ، ومن يكفر بالكتاب الذي أخبر أنه يتلوه - من آتاه من المؤمنين - حق تلاوته. ويعني بقوله جل ثناؤه: ( يكفر ) ، يجحد ما فيه من فرائض الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه ، ويبدله فيحرف تأويله ، أولئك هم الذين خسروا علمهم وعملهم ، فبخسوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ، واستبدلوا بها سخط الله وغضبه. وقال ابن زيد في قوله، بما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ) ، قال: من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من يهود ، ( فأولئك هم الخاسرون ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 122 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية عظة من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتذكير منه لهم ما سلف من أياديه إليهم في صنعه بأوائلهم ، استعطافا منه لهم على دينه وتصديق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني إسرائيل اذكروا أيادي لديكم ، وصنائعي عندكم ، واستنقاذي إياكم من أيدي عدوكم فرعون وقومه ، وإنـزالي عليكم المن والسلوى في تيهكم ، وتمكيني لكم في البلاد ، بعد أن كنتم مذللين مقهورين ، واختصاصي الرسل منكم ، وتفضيلي إياكم على عالم من كنتم بين ظهرانيه ، أيام أنتم في طاعتي- باتباع رسولي إليكم ، وتصديقه وتصديق ما جاءكم به من عندي ، ودعوا التمادي في الضلال والغي.

وقد ذكرنا فيما مضى النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل ، والمعاني التي ذكرهم جل ثناؤه من آلائه عندهم ، والعالم الذي فضلوا عليه - فيما مضى قبل ، بالروايات والشواهد ، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته ، إذْ كان المعنى في ذلك في هذا الموضع وهنالك واحدا.

 

القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ( 123 )

قال أبو جعفر : وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا - يا معشر بني إسرائيل المبدلين كتابي وتنـزيلي ، المحرفين تأويله عن وجهه ، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم - عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئا ، ولا تغني عنها غناء ، أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي ، وتكذيبكم رسولي ، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية ، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع ، ولا هي ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه.

وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وإذ ابتلى ) ، وإذا اختبر.

يقال منه: « ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء » ، ومنه قول الله عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [ سورة النساء: 6 ] ، يعني به: اختبروهم. .

وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارا بفرائض فرضها عليه, وأمر أمره به. وذلك هو « الكلمات » التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانا منه له واختبارا.

ثم اختلف أهل التأويل في صفة « الكلمات » التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه.

فقال بعضهم: هي شرائع الإسلام, وهي ثلاثون سهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم, ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ سورة النجم: 37 ] . قال: عشر منها في « الأحزاب » , وعشر منها في « براءة » , وعشر منها في « المؤمنون » و « سأل سائل » ، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهما.

حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه, فكتب الله له البراءة فقال: « وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى » ، فذكر عشرا في « براءة » [ 112 ] فقال: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ إلى آخر الآية، وعشرا في « الأحزاب » [ 35 ] ، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ , وعشرا في « سورة المؤمنون » [ 1- 9 ] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ , وعشرا في « سأل سائل » [ 22- 34 ] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ .

حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: الإسلام ثلاثون سهما, وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم, قال الله: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، فكتب الله له براءة من النار.

وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس, عن أبيه, عن ابن عباس: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس, وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب, والمضمضة, والاستنشاق, والسواك, وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار, وحلق العانة, والختان, ونتف الإبط, وغسل أثر الغائط والبول بالماء.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الحكم بن أبان, عن القاسم بن أبي بزة, عن ابن عباس، بمثله- ولم يذكر أثر البول.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه بالختان, وحلق العانة, وغسل القبل والدبر, والسواك, وقص الشارب, وتقليم الأظافر, ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.

حدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن مطر, عن أبي الخلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان: سنة: الاستنشاق, وقص الشارب, والسواك, ونتف الإبط, وقلم الأظفار, وغسل البراجم, والختان, وحلق العانة, وغسل الدبر والفرج .

وقال بعضهم: بل « الكلمات » التي ابتلي بهن عشر خلال; بعضهن في تطهير الجسد, وبعضهن في مناسك الحج.

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة, عن ابن هبيرة, عن حنش, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال، ستة في الإنسان, وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة, والختان, ونتف الإبط, وتقليم الأظفار, وقص الشارب, والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف, والسعي بين الصفا والمروة, ورمي الجمار, والإفاضة.

وقال آخرون: بل ذلك: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، في مناسك الحج.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » ، فمنهن: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وآيات النسك.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح مولى أم هانئ في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، منهن إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ومنهن آيات النسك: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [ سورة البقرة: 127 ] .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما! قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت مثابة للناس. قال: نعم. [ قال ] : وأمنا. قال: نعم. [ قال ] : وتجعلنا مسلمين لك, ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. [ قال ] : وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنا. قال: نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا.

حدثنا سفيان قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » قال، ابتلي بالآيات التي بعدها: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » ، فالكلمات: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ، وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الآية, وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » ، فمنهن: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، ومنهن: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ، ومنهن الآيات في شأن النسك, والمقام الذي جعل لإبراهيم, والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام.

وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر بن نبهان, عن قتادة, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، مناسك الحج.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، كان ابن عباس يقول في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، المناسك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، المناسك.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، مناسك الحج.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، منهن مناسك الحج.

وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحاق, عن الشعبي: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، منهن الختان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق, قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، سمعت الشعبي - وسأله أبو إسحاق عن قول الله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » - قال، منهن الختان، يا أبا إسحاق.

وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب, والقمر, والشمس, والنار, والهجرة, والختان, التي ابتلي بهن فصبر عليهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: قلت للحسن: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن » . قال: ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه؛ وابتلاه بالقمر، فرضي عنه؛ وابتلاه بالشمس، فرضي عنه؛ وابتلاه بالنار، فرضي عنه؛ وابتلاه بالهجرة, وابتلاه بالختان.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر, فأحسن في ذلك, وعرف أن ربه دائم لا يزول, فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما كان من المشركين؛ ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله؛ ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك؛ فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عمن سمع الحسن يقول في قوله: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه الله بذبح ولده, وبالنار, وبالكوكب, والشمس, والقمر.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو هلال, عن الحسن: « وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات » قال، ابتلاه بالكوكب, وبالشمس والقمر, فوجده صابرا.

وقال آخرون بما:

حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [ سورة البقرة: 127- 129 ]

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه, وأمره أن يعمل بهن فأتمهن, كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل « الكلمات » , وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك, فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك, فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء, ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم, أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد, ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا, أو أحدهما, كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما، ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني زبّان بن فائد, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله: الَّذِي وَفَّى ؟ [ سورة النجم:37 ] لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [ سورة الروم: 17 ] حتى يختم الآية.

والآخر منهما ما:-

حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن جعفر بن الزبير, عن القاسم, عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال، أتدرون ما وَفَّى ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: وفي عمل يومه، أربع ركعات في النهار.

قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده، كان بينا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ - أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته, كان معلوما أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى « الكلمات » التي أخبر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم، ما بينا آنفا.

ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبا. لأن قوله: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلي بهن إبراهيم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَتَمَّهُنَّ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فأتمهن » ، فأتم إبراهيم الكلمات. و « إتمامه إياهن » ، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ سورة النجم: 37 ] ، يعني وفى بما عهد إليه، « بالكلمات » , بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، كما:-

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس: « فأتمهن » ، أي فأداهن.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فأتمهن » ، أي عمل بهن فأتمهن.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فأتمهن » ، أي عمل بهن فأتمهن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إني جاعلك للناس إماما » ، فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به، كما:-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إني جاعلك للناس إماما » ، ليؤتم به ويقتدى به.

يقال منه: « أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة » ، إذا كنت إمامهم.

وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم: « إني جاعلك للناس إماما » ، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي, تتقدمهم أنت، ويتبعون هديك, ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك ووحيي إليك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم- لمّا رفع الله منـزلته وكرمه, فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم، يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه - : يا رب، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدي بهم، كالذي جعلتني إماما يؤتم بي ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:-

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: قال إبراهيم: « ومن ذريتي » ، يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به ويقتدى به.

وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم: « ومن ذريتي » ، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه, كما قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [ سورة إبراهيم:35 ] ، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه، بقوله: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ .

والظاهر من التنـزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه: « ومن ذريتي » ، في إثر قول الله جل ثناؤه: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا . فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه، لكان مبينا. ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره, اكتفى بالذكر الذي قد مضى، من تكريره وإعادته, فقال: « ومن ذريتي » ، بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( 124 )

قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم, فإنه غير مُصَيِّره كذلك, ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.

واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه.

فقال بعضهم: ذلك « العهد » ، هو النبوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قال لا ينال عهدي الظالمين » ، يقول: عهدي, نبوتي.

فمعنى قائل هذا القول في تأويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك.

وقال آخرون: معنى « العهد » : عهد الإمامة.

فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالما، إماما لعبادي يقتدى به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا يكون إمام ظالما.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: قال الله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا يكون إمام ظالما.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عكرمة بمثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا يكون إمام ظالم يقتدى به.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.

حدثنا مشرَّف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. .

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « لا ينال عهدي الظالمين » : قال: لا يكون إماما ظالم.

قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: « إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي » ، فأبى أن يجعل من ذريته ظالما إماما. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.

وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » ، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله, عن إسرائيل, عن مسلم الأعور, عن مجاهد, عن ابن عباس: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، ليس للظالمين عهد, وإن عاهدته فانقضه.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال، ليس لظالم عهد.

وقال آخرون: معنى « العهد » في هذا الموضع: الأمان.

فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي, وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي في الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قال لا ينال عهدي الظالمين » ، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم, فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله, فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون, فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم: « قال لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش.

وقال آخرون: بل « العهد » الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال الله لإبراهيم: « لا ينال عهدي الظالمين » فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين. ألا ترى أنه قال: وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [ سورة الصافات:113 ] ، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.

حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال، لا ينال عهدي عدو لي يعصيني, ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني.

قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله - الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير, بمعنى الاقتداء به في الدنيا, والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة, من وفى لله به في الدنيا - من كان منهم ظالما متعديا جائرا عن قصد سبيل الحق . فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به, ويجور عن قصد السبيل, ويظلم نفسه وعباده، كالذي:-

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن مجاهد في قوله: « لا ينال عهدي الظالمين » قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون

وأما نصب « الظالمين » , فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين.

وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: « لا ينال عهدي الظالمون » ، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله.

وإنما جاز الرفع في « الظالمين » والنصب, وكذلك في « العهد » ، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء, كما يقال: « نالني خير فلان، ونلت خيره » , فيوجه الفعل مرة إلى الخير ومرة إلى نفسه.

وقد بينا معنى « الظلم » فيما مضى، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ

قال أبو جعفر: أما قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة » ، فإنه عطف ب « إذ » على قوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ . وقوله: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ، واذكروا « إذ ابتلى إبراهيم ربه » , « وإذ جعلنا البيت مثابة » .

و « البيت » الذي جعله الله مثابة للناس، هو البيت الحرام.

وأما « المثابة » ، فإن أهل العربية مختلفون في معناها, والسبب الذي من أجله أنثت.

فقال بعض نحويي البصرة: ألحقت الهاء في « المثابة » ، لما كثر من يثوب إليه, كما يقال: « سيارة » لمن يكثر ذلك، « ونسابة » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل « المثاب » و « المثابة » بمعنى واحد, نظيرة « المقام » و « المقامة » . و « المقام » ، ذكر - على قوله- لأنه يريد به الموضع الذي يقام فيه, وأنثت « المقامة » ، لأنه أريد بها البقعة. وأنكر هؤلاء أن تكون « المثابة » ك « السيارة، والنسابة » ., وقالوا: إنما أدخلت الهاء في « السيارة والنسابة » تشبيها لها ب « الداعية » .

و « المثابة » « مفعلة » من « ثاب القوم إلى الموضع » ، إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا.

فمعنى قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » : وإذ جعلنا البيت مرجعا للناس ومعاذا، يأتونه كل عام ويرجعون إليه, فلا يقضون منه وطرا. ومن « المثاب » ، قول ورقة بن نوفل في صفة الحرم:

مثــاب لأفنــاء القبــائل كلهــا تخــب إليــه اليعمـلات الطلائـح

ومنه قيل: « ثاب إليه عقله » , إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [ أبو عاصم قال، حدثنا ] عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال: لا يقضون منه وطرا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يثوبون إليه, لا يقضون منه وطرا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، أما المثابة، فهو الذي يثوبون إليه كل سنة، لا يدعه الإنسان إذا أتاه مرة أن يعود إليه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي, قال حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، لا يقضون منه وطرا, يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.

حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمرو: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يثوبون إليه من كل مكان, ولا يقضون منه وطرا.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء مثله.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول, عن عطية في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، لا يقضون منه وطرا .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن: قال، حدثنا سفيان, عن أبي الهذيل قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يحجون ويثوبون.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, قال أخبرنا الثوري, عن أبي الهذيل, عن سعيد بن جبير في قوله: « مثابة للناس » قال، يحجون, ثم يحجون, ولا يقضون منه وطرا.

حدثني المثنى قال، حدثنا ابن بكير قال، حدثنا مسعر, عن غالب, عن سعيد بن جبير: « مثابة للناس » قال، يثوبون إليه.

- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا » قال، مجمعا.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « مثابة للناس » قال، يثوبون إليه.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « مثابة للناس » قال، يثوبون إليه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإذ جعلنا البيت مثابة للناس » قال، يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمْنًا

قال أبو جعفر: و « الأمن » مصدر من قول القائل: « أمن يأمن أمنا » .

وإنما سماه الله « أمنا » ، لأنه كان في الجاهلية معاذا لمن استعاذ به, وكان الرجل منهم لو لقي به قاتل أبيه أو أخيه، لم يهجه ولم يعرض له حتى يخرج منه, وكان كما قال الله جل ثناؤه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ . [ سورة العنكبوت: 67 ]

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وأمنا » قال، من أم إليه فهو آمن، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « أمنا » ، فمن دخله كان آمنا.

حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله الله: « وأمنا » قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « وأمنا » ، يقول: أمنا من العدو أن يحمل فيه السلاح, وقد كان في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبَوْن.

حدثت عن المنجاب قال، أخبرنا بشر, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: « وأمنا » قال، أمنا للناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله: « وأمنا » قال، تحريمه، لا يخاف فيه من دخله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:

فقرأه بعضهم: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » بكسر « الخاء » ، على وجه الأمر باتخاذه مصلى. وهي قراءة عامة المصرين الكوفة والبصرة, وقراءة عامة قرأة أهل مكة وبعض قرأة أهل المدينة. وذهب إليه الذين قرأوه كذلك، من الخبر الذي:-

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن أنس بن مالك قال، قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, لو اتخذت المقام مصلى! فأنـزل الله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي - وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية- جميعا, عن حميد, عن أنس, عن عمر, عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حميد, عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله, فذكر مثله.

قالوا: فإنما أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية أمرا منه نبيه صلى الله عليه وسلم باتخاذ مقام إبراهيم مصلى. فغير جائز قراءتها - وهي أمر- على وجه الخبر.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » معطوف على قوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ و « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » . فكان الأمر بهذه الآية، وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم - على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،..... كما حدثنا [ عن ] الربيع بن أنس. بما:-

حدثت [ به ] عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال: من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، فأمرهم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى, فهم يصلون خلف المقام.

فتأويل قائل هذا القول: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال، إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ، وقال: اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

قال أبو جعفر: والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل, يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء, وأنه أمر من الله تعالى ذكره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين.

وقرأه بعض قرأة أهل المدينة والشام: ( واتخذوا ) بفتح « الخاء » على وجه الخبر.

ثم اختلف في الذي عطف عليه بقوله: « واتخذوا » إذ قرئ كذلك، على وجه الخبر,

فقال بعض نحويي البصرة: تأويله، إذا قرئ كذلك: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ، [ وإذ ] اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.

وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك معطوف على قوله: جَعَلْنَا ، فكان معنى الكلام على قوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس، واتخذوه مصلى .

قال أبو جعفر: والصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا: « واتخذوا » بكسر « الخاء » , على تأويل الأمر باتخاذ مقام إبراهيم مصلى، للخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا, وأن:

عمرو بن علي حدثنا قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا جعفر بن محمد قال، حدثني أبي, عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » .

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، وفي « مقام إبراهيم » . فقال بعضهم: « مقام إبراهيم » ، هو الحج كله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: « مقام إبراهيم » ، قال الحج كله مقام إبراهيم.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، الحج كله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان، عن ابن جريج, عن عطاء, قال: الحج كله « مقام إبراهيم » .

وقال آخرون: « مقام إبراهيم » عرفة والمزدلفة والجمار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء بن أبي رياح: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال: لأني قد جعلته إماما، فمقامه عرفة والمزدلفة والجمار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، مقامه: جمع وعرفة ومنى - لا أعلمه إلا وقد ذكر مكة.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن ابن عباس في قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، مقامه، عرفة.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود, عن الشعبي قال: نـزلت عليه وهو واقف بعرفة، مقام إبراهيم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ سورة المائدة: 3 ] ، الآية.

حدثنا عمرو قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن الشعبي مثله

وقال آخرون: « مقام إبراهيم » ، الحرم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، الحرم كله « مقام إبراهيم » .

وقال آخرون: « مقام إبراهيم » الحجر الذي قام عليه إبراهيم حين ارتفع بناؤه, وضعف عن رفع الحجارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدّث، عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: جعل إبراهيم يبنيه, وإسماعيل يناوله الحجارة, ويقولان: « رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » . فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر, فهو « مقام إبراهيم »

وقال آخرون: بل « مقام إبراهيم » , هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه. ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها. ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه, فما زالت هذه الأمم يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، فهم يصلون خلف المقام.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » ، وهو الصلاة عند مقامه في الحج.

و « المقام » هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه, فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب, فغسلت شقه، ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر, فوضعته تحت الشق الآخر، فغسلته, فغابت رجله أيضا فيه, فجعلها الله من شعائره, فقال: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » .

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، ما قاله القائلون: إن « مقام إبراهيم » ، هو المقام المعروف بهذا الاسم, الذي هو في المسجد الحرام، لما روينا آنفا عن عمر بن الخطاب، ولما:-

حدثنا يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن, فرمل ثلاثا، ومشى أربعا, ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » . فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.

فهذان الخبران ينبئان أن الله تعالى ذكره إنما عنى ب « مقام إبراهيم » الذي أمرنا الله باتخاذه مصلى - هو الذي وصفنا.

ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكان الواجب فيه من القول ما قلنا. وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس ب « مقام إبراهيم » هو المصلى الذي قال الله تعالى ذكره: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى »

[ قال أبو جعفر: وأما قوله تعالى: « مصلى » ] ، فإن أهل التأويل مختلفون في معناه. فقال بعضهم: هو المدعى.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى » قال، مصلى إبراهيم مُدَّعًى.

وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده.

ذكر من قال ذلك:

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، أمروا أن يصلوا عنده.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هو الصلاة عنده.

قال أبو جعفر: فكأن الذين قالوا: تأويل: « المصلى » ههنا، المُدَّعَى, وَجَّهوا « المصَلَّى » إلى أنه « مُفَعَّل » ، من قول القائل: « صليت » بمعنى دعوت. .

وقائلو هذه المقالة، هم الذين قالوا: إن مقام إبراهيم هو الحج كله.

فكان معناه في تأويل هذه الآية: واتخذوا عرفة والمزدلفة والمشعر والجمار، وسائر أماكن الحج التي كان إبراهيم يقوم بها مَدَاعِيَ تدعوني عندها, وتأتمون بإبراهيم خليلي عليه السلام فيها, فإني قد جعلته لمن بعده - من أوليائي وأهل طاعتي- إماما يقتدون به وبآثاره, فاقتدوا به.

وأما تأويل القائلين القول الآخر, فإنه: اتخذوا أيها الناس من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده, عبادةً منكم, وتكرمةً مني لإبراهيم.

وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وَعهدنا » ؛ وأمرنا، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.

حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وعهدنا إلى إبراهيم » قال، أمرناه.

فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين. « والتطهير » الذي أمرهما الله به في البيت, هو تطهيره من الأصنام، وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك بالله.

فإن قال قائل: وما معنى قوله: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين » ؟ وهل كان أيام إبراهيم - قبل بنائه البيت- بيت يطهر من الشرك وعبادة الأوثان في الحرم, فيجوز أن يكونا أمرا بتطهيره؟

قيل: لذلك وجهان من التأويل, قد قال بكل واحد من الوجهين جماعة من أهل التأويل.

أحدهما: أن يكون معناه: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مطهرا من الشرك والرَّيْب كما قال تعالى ذكره: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ , [ سورة التوبة: 109 ] ، فكذلك قوله: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي » ، أي ابنيا بيتي على طهر من الشرك بي والريب، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي » ، يقول: ابنيا بيتي [ للطائفين ] .

فهذا أحد وجهيه.

والوجه الآخر منهما: أن يكونا أمرا بأن يطهرا مكان البيت قبل بنيانه، والبيت بعد بنيانه، مما كان أهل الشرك بالله يجعلونه فيه - على عهد نوح ومن قبله- من الأوثان, ليكون ذلك سنة لمن بعدهما, إذ كان الله تعالى ذكره قد جعل إبراهيم إماما يقتدي به من بعده، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أن طهرا » قال، من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, عن عبيد بن عمير: « أن طهرا بيتي للطائفين » قال، من الأوثان والرَّيْب.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبيد بن عمير, مثله.

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, قال: من الشرك.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو إسرائيل, عن أبي حصين, عن مجاهد: « طهرا بيتي للطائفين » قال، من الأوثان.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « طهرا بيتي للطائفين » قال: من الشرك وعبادة الأوثان.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة، بمثله - وزاد فيه: وقول الزور.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِلطَّائِفِينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الطائفين » في هذا الموضع. فقال بعضهم: هم الغرباء الذين يأتون البيت الحرام من غَرْبةٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: « للطائفين » قال، من أتاه من غربة.

وقال آخرون: بل « الطائفون » هم الذين يطوفون به، غرباء كانوا أو من أهله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: « للطائفين » قال، إذا كان طائفا بالبيت فهو من « الطائفين » .

وأولى التأويلين بالآية ما قاله عطاء. لأن « الطائف » هو الذي يطوف بالشيء دون غيره. والطارئ من غَرْبةٍ لا يستحق اسم « طائف بالبيت » ، إن لم يطف به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْعَاكِفِينَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والعاكفين » ، والمقيمين به. « والعاكف على الشيء » ، هو المقيم عليه, كما قال نابغة بني ذبيان:

عكوفــا لــدى أبيـاتهم يثمـدونهم رمـى اللـه فـي تلـك الأكف الكوانع

وإنما قيل للمعتكف « معتكف » ، من أجل مقامه في الموضع الذي حبس فيه نفسه لله تعالى.

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: « والعاكفين » .

فقال بعضهم: عنى به الجالس في البيت الحرام بغير طواف ولا صلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء قال: إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين, وإذا كان جالسا فهو من العاكفين.

وقال بعضهم: « العاكفون » ، هم المعتكفون المجاورون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « طهرا بيتي للطائفين والعاكفين » قال، المجاورون.

وقال بعضهم: « العاكفون » ، هم أهل البلد الحرام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين, عن سعيد بن جبير في قوله: « والعاكفين » قال: أهل البلد.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والعاكفين » قال: العاكفون: أهله.

وقال آخرون: « العاكفون » ، هم المصلون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال: قال ابن عباس في قوله: « طهرا بيتي للطائفين والعاكفين » قال، العاكفون، المصلون.

قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بالصواب ما قاله عطاء, وهو أن « العاكف » في هذا الموضع، المقيم في البيت مجاورا فيه بغير طواف ولا صلاة. لأن صفة « العكوف » ما وصفنا: من الإقامة بالمكان. والمقيم بالمكان قد يكون مقيما به وهو جالس ومصل وطائف وقائم, وعلى غير ذلك من الأحوال. فلما كان تعالى ذكره قد ذكر - في قوله: « أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود » - المصلين والطائفين, علم بذلك أن الحال التي عنى الله تعالى ذكره من « العاكف » ، غير حال المصلي والطائف, وأن التي عنى من أحواله، هو العكوف بالبيت، على سبيل الجوار فيه, وإن لم يكن مصليا فيه ولا راكعا ولا ساجدا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( 125 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والركع » ، جماعة القوم الراكعين فيه له, واحدهم « راكع » . وكذلك « السجود » هم جماعة القوم الساجدين فيه له، واحدهم « ساجد » - كما يقال: « رجل قاعد ورجال قعود » و « رجل جالس ورجال جلوس » ، فكذلك « رجل ساجد ورجال سجود » .

وقيل: بل عنى « بالركع السجود » ، المصلين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن أبي بكر الهذلي, عن عطاء: « والركع السجود » قال، إذا كان يصلي فهو من « الركع السجود » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والركع السجود » ، أهل الصلاة.

وقد بينا فيما مضى بيان معنى « الركوع » و « السجود » , فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا » ، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا.

قال أبو جعفر: يعني بقوله: « آمنا » : آمنا من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا عليه, ومن عقوبة الله أن تناله, كما تنال سائر البلدان, من خسف, وائتفاك, وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حُرِّم بحياله إلى العرش. وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين, حتى إذا كان زمان الطوفان - حين أغرق الله قوم نوح- رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرا، فبناه على أساس قديم كان قبله.

فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟

قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه, منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري, قال سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلا من هذيل, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: « يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأض, فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما, أو يعضد بها شجرا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبا علي أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب, فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يُحِلَّها لك » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان - وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير - جميعا, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها: هذه حرم حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين, لم تحل لأحد قبلي, ولا تحل لأحد بعدي, أُحِلَّت لي ساعة من نهار.

قالوا: فمكة منذ خلقت حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة, ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط, وأن يرزق ساكنه من الثمرات, كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله « وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر » . قالوا: وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته, وهو غير ذي زرع ولا ضرع, فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا, فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه.

قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم, وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه, وهو القائل - حين حله, ونـزله بأهله وولده: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ سورة إبراهيم: 37 ] ؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال: « عند بيتك المحرم » عند نـزوله به, ولكنه حُرِّم قبله, وحُرِّم بعده.

وقال آخرون: كان الحرم حلالا قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره, وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه, كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك، ما:-

حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن أبي الزبير, عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه, وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا تقطع عضاهها. »

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا [ حدثنا ابن إدريس - وأخبرنا أبو كريب قال ] ، حدثنا عبد الرحيم الرازي, [ قالا جميعا ] : سمعنا أشعث, عن نافع, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبد الله وخليله, وإني عبد الله ورسوله, وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها, ولا يحمل فيها سلاح لقتال, ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن سعيد قال، حدثنا بكر بن مضر, عن ابن الهاد, عن أبي بكر بن محمد, عن عبد الله بن عمرو بن عثمان, عن رافع بن خديج, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن إبراهيم حرم مكة, وإني أحرم المدينة ما بين لابيتها. »

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب.

قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال: « رب اجعل هذا بلدا آمنا » ، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض, فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، « أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض » ، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله, ولكن بمنعه من أرادها بسوء, وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات, وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله, وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه, ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه, يستنون به فيها, إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلا وأخبره أنه جاعله, للناس إماما يقتدى به, فأجابه ربه إلى ما سأله, وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه,

فصارت مكة - بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده, ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله - فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام, وواجب على عباده الامتناع من استحلالها, واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم.

فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله حرم مكة » . لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به - دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك - كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه, [ وهو الذي ] لزم العباد فرضه دون غيره.

فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين - أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « وإن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر » - وخبر جابر وأبى هريرة ورافع بن خديج وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اللهم إن إبراهيم حرم مكة » ؛ وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الآخر، كما ظنه بعض الجهال.

وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه.

وأما قول إبراهيم عليه السلام رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ سورة إبراهيم: 37 ] فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد، لهم بذلك - وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على خلقه على وجه التعبد فلا مسألة لأحد علينا في ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

قال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص, بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين، لما أعلمه الله - عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم- أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده, والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر, خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك, وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم, فأمتعه به قليلا.

وأما « من » من قوله: « من آمن منهم بالله واليوم الآخر » ، فإنه نصبٌ على الترجمة والبيان عن « الأهل » ، كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [ سورة البقرة: 217 ] ، بمعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام, وكما قال تعالى ذكره: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا [ سورة آل عمران: 97 ] : بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلا.

وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل, فسأل أن يرزق أهله ثمرا, وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله الطائف من فلسطين.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم: « وارزق أهله من الثمرات » ، نقل الله الطائف من فلسطين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره, وتأويله على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلا برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك: « فأمتعه قليلا » ، بتشديد « التاء » ورفع « العين » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع, قال، حدثني أبو العالية, عن أبي بن كعب في قوله: « ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار » ، قال هو قول الرب تعالى ذكره.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما قال إبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية, انقطاعا إلى الله، ومحبة وفراقا لمن خالف أمره, وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده, بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله: ومن كفر - فإني أرزق البر والفاجر - فأمتعه قليلا.

وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام, مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ - بتخفيف « التاء » وجزم « العين » ، وفتح « الراء » من اضطره, وفصل « ثم أضطره » بغير قطع ألفها - على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن ليث, عن مجاهد: « ومن كفر فأمتعه قليلا » ، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضا، ثم أضطره إلى عذاب النار.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل, ما قاله أبي بن كعب وقراءته, لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك, وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهو, على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله. وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك, ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم, ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار.

وأما قوله: « فأمتعه قليلا » يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته.

وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم، جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة. فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد, وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه.

وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.

وقال غيره: فأمتعه قليلا في كفره ما أقام بمكة, حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه، لما وصفنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ

قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله: « ثم أضطره إلى عذاب النار » ، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها, كما قال تعالى ذكره: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [ سورة الطور: 13 ] .

ومعنى « الاضطرار » ، الإكراه. يقال: « اضطررت فلانا إلى هذا الأمر » ، إذا ألجأته إليه وحملته عليه.

فذلك معنى قوله: « ثم أضطره إلى عذاب النار » ، أدفعه إليها وأسوقه، سحبا وجرا على وجهه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 126 )

قال أبو جعفر: قد دللنا على أن « بئس » أصله « بِئس » من « البؤس » سُكِّن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله, كما قيل للكَبد كِبْد, وما أشبه ذلك.

ومعنى الكلام: وساء المصيرُ عذابُ النار, بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها.

وأما « المصير » ، فإنه « مَفعِل » من قول القائل: « صرت مصيرا صالحا » ،, وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار.