القول في تأويل قوله : ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 27 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه، من بعد عذابه الذي به عذَّب من هلك منهم قتلا بالسيف ( على من يشاء ) ، أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء، يُقْبِل به إلى طاعته ( والله غفور ) ، لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها ( رحيم ) ، بهم، فلا يعذبهم بعد توبتهم, ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 28 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرُّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نَجَس.

واختلف أهل التأويل في معنى « النجس » ، وما السبب الذي من أجله سمَّاهم بذلك.

فقال بعضهم: سماهم بذلك، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون, فقال: هم نجس, ولا يقربوا المسجد الحرام لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, في قوله: ( إنما المشركون نجس ) ، : لا أعلم قتادة إلا قال: « النجس » ، الجنابة.

وبه، عن معمر قال: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة, وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده, فقال حذيفة: يا رسول الله، إني جُنُب ! فقال: إنّ المؤمن لا ينجُس.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ) ، أي: أجْنَابٌ.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رِجْسُ خنـزير أو كلب.

وهذا قولٌ رُوِي عن ابن عباس من وجه غير حميد, فكرهنا ذكرَه.

وقوله: ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم, لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء: الحرمُ كله قبلةٌ ومسجد. قال: ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، لم يعن المسجدَ وحده, إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرَّةٍ.

وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:-

حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: « أنِ امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين » ، وأَتْبَعَ في نهيه قولَ الله: ( إنما المشركون نجس ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن الحسن: ( إنما المشركون نجس ) ، قال: لا تصافحوهم, فمن صافحَهم فليتوضَّأ.

وأما قوله: ( بعد عامهم هذا ) ، فإنه يعني: بعد العام الذي نادَى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة, وذلك عام حجَّ بالناس أبو بكر, وهي سنة تسع من الهجرة، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر, ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجّة الوداع، لم يحجَّ قبلها ولا بعدها.

وقوله: ( وإن خفتم عيلة ) ، يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقَةً وفقرًا, بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) .

يقال منه: عال يَعِيلُ عَيْلَةً وعُيُولا ومنه قول الشاعر:

وَمَــا يَــدْرِي الفَقِـيرُ مَتَـى غِنَـاه وَمَــا يَــدْرِي الغَنِـيُّ مَتَـى يَعِيـلُ

وقد حكي عن بعضهم أنّ من العرب من يقولُ في الفاقة: « عال يعول » بالواو.

وذكر عن عمرو بن فائد أنه كان تأوّل قوله ( وإن خفتم عيلة ) ، بمعنى: وإذ خفتم. ويقول: كان القوم قد خافُوا, وذلك نحو قول القائل لأبيه: « إن كنت أبي فأكرمني » , بمعنى: إذ كنت أبي.

وإنما قيل ذلك لهم, لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم، انقطاع تجاراتهم، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك. وأمَّنهم الله من العيلة، وعوَّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم، ما هو خير لهم منه, وهو الجزية, فقال لهم: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، إلى: صَاغِرُونَ .

وقال قوم: بإدرار المطر عليهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنى معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: لما نَفَى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن, قال: من أين تأكلون، وقد نُفِيَ المشركون وانقطعت عنهم العيرُ! فقال الله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، فأمرهم بقتال أهل الكتاب, وأغناهم من فضله.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت, ويجيئون معهم بالطعام، وَيتَّجرون فيه. فلما نُهُوا أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا طعام؟ فأنـزل الله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، فأنـزل عليهم المطر, وكثر خيرهم، حتى ذهب عنهم المشركون.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن علي بن صالح, عن سماك, عن عكرمة: ( إنما المشركون نجس ) ، الآية ثم ذكر نحو حديث هنّاد, عن أبي الأحوص.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن واقد, عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا, ومن يأتينا بالمتاع؟ فنـزلت: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن واقد مولى زيد بن خليدة, عن سعيد بن جبير, قال: كان المشركون يقدَمون عليهم بالتجارة, فنـزلت هذه الآية: ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله: ( عيلة ) ، قال: الفقر ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية العوفي قال: قال المسلمون: قد كنّا نصيب من تجارتهم وبِياعاتهم, فنـزلت: ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله: ( من فضله ) .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي أحسِبه قال: أنبأنا أبو جعفر، عن عطية, قال: لما قيل: ولا يحج بعد العام مشرك ! قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال: فنـزلت: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، يعني: بما فاتهم من بياعاتهم.

حدثنا أبو كريب وابن وكيع, قالا حدثنا ابن يمان, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، قال: الجزية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان وأبو معاوية, عن أبي سنان, عن ثابت, عن الضحاك, قال: أخرج المشركون من مكة, فشقَّ ذلك على المسلمين وقالوا: كنا نُصيب منهم التجارة والميرة. فأنـزل الله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، كان ناس من المسلمين يتألَّفون العير; فلما نـزلت « براءة » بقتال المشركين حيثما ثقفوا, وأن يقعدُوا لهم كل مرصد, قذف الشيطان في قلوب المؤمنين: فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير؟ فعلم الله من ذلك ما علم, فقال: أطيعوني, وامضوا لأمري, وأطيعوا رسولي, فإني سوف أغنيكم من فضلي. فتوكل لهم الله بذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( إنما المشركون نجس ) ، إلى قوله: ( فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) ، قال: قال المؤمنون: كنا نصيب من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله، عوضًا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية مع أول « براءة » في القراءة, ومع آخرها في التأويل قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، حين أمر محمد وأصحابه بغزْوة تبوك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه.

16609م- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام, شقَّ ذلك على المسلمين, وكانوا يأتون بِبَيْعَات ينتفع بذلك المسلمون. فأنـزل الله تعالى ذكره: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، فأغناهم بهذا الخراج، الجزيةَ الجاريةَ عليهم, يأخذونها شهرًا شهرًا, عامًا عامًا، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحالٍ، إلا صاحب الجزية, أو عبد رجلٍ من المسلمين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج, قال: أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمّة.

...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: إلا صاحب جزية, أو عبد لرجلٍ من المسلمين.

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج, عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، إلا أن يكون عبدًا، أو أحدًا من أهل الجزية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، قال: أغناهم الله بالجزية الجارية شهرًا فشهرًا، وعامًا فعامًا.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام, عن الحجاج, عن أبي الزبير, عن جابر: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشركٌ ولا ذميٌّ.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة ) ، وذلك أن الناس قالوا: لتقطعنَّ عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المَرافق! فقال الله عز وجل: ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) ، من وجه غير ذلك ( إن شاء ) ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ ، ففي هذا عوَض مما تخوَّفتم من قطع تلك الأسواق، فعوَّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطَاهم من أعْناق أهلِ الكتاب من الجزية.

وأما قوله: ( إن الله عليم حكيم ) ، فإن معناه: ( إن الله عليم ) ، بما حدثتكم به أنفسكم، أيها المؤمنون، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام, وغير ذلك من مصالح عباده ( حكيم ) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه.

 

القول في تأويل قوله : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( 29 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: ( قاتلوا ) ، أيها المؤمنون، القومَ ( الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ، يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار ( ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ) ، يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقِّ، يعني: أنهم لا يطيعون طاعةَ أهل الإسلام ( من الذين أوتوا الكتاب ) ، وهم اليهود والنصارَى.

وكل مطيع ملكًا وذا سلطانٍ, فهو دائنٌ له. يقال منه: « دان فلان لفلان فهو يدين له، دينًا » ، قال زهير:

لَئِـنْ حَـلَلْتَ بِجَـوٍّ فِـي بَنِـي أَسَـدٍ فِـي دِيـنِ عَمْـرٍو وَحَـالَتْ بَيْنَنا فَدَكُ

وقوله: ( من الذين أوتوا الكتاب ) ، يعني: الذين أعطوا كتاب الله, وهم أهل التوراة والإنجيل ( حتى يعطوا الجزية ) .

و « الجزية » : الفِعْلة من: « جزى فلان فلانًا ما عليه » ، إذا قضاه, « يجزيه » ، و « الجِزْية » مثل « القِعْدة » و « الجِلْسة » .

ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراجَ عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دَفْعًا عنها.

وأما قوله: ( عن يد ) ، فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه.

وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرًا له، شيئًا طائعًا له أو كارهًا: « أعطاه عن يده، وعن يد » . وذلك نظير قولهم: « كلمته فمًا لفمٍ » ، و « لقيته كَفَّةً لكَفَّةٍ » , وكذلك: « أعطيته عن يدٍ ليد » .

وأما قوله: ( وهم صاغرون ) ، فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون.

يقال للذليل الحقير: « صاغر » .

وذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم, فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نـزولها غزوة تبوك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عروة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، حين أمر محمدٌ وأصحابه بغزوة تبوك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.

واختلف أهل التأويل في معنى « الصغار » ، الذي عناه الله في هذا الموضع.

فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائمٌ، والآخذ جالسٌ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال، حدثنا سفيان, عن أبي سعد, عن عكرمة: ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، قال: أي تأخذها وأنت جالس، وهو قائم.

وقال آخرون: معنى قوله: ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، عن أنفسهم، بأيديهم يمشون بها، وهم كارهون, وذلك قولٌ رُوي عن ابن عباس، من وجهٍ فيه نظر.

وقال آخرون: إعطاؤهم إياها، هو الصغار.

 

القول في تأويل قوله : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 30 )

قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في القائل: ( عزير ابن الله ) .

فقال بعضهم: كان ذلك رجلا واحدًا, هو فِنْحاص.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله: ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، قال: قالها رجل واحد, قالوا: إن اسمه فنحاص. وقالوا: هو الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، [ سورة آل عمران: 181 ] .

وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة, عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَلامُ بن مشكم, ونعمانُ بن أوفى, وشأسُ بن قيس, ومالك بن الصِّيف, فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قِبْلتنا, وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله؟ فأنـزل في ذلك من قولهم: ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) ، إلى: ( أنى يؤفكون ) .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، وإنما قالوا: هو ابن الله من أجل أن عُزَيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا, ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التّابوت فيهم. فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء, رفع الله عنهم التابوت, وأنساهُم التوراة، ونسخها من صدورهم, وأرسل الله عليهم مرضًا, فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبدُه, حتى نسوا التوراة, ونسخت من صدورهم, وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثُوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم, وكان عزير قبلُ من علمائهم, فدعا عزيرٌ الله، وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخَ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله, نـزل نور من الله فدخل جَوْفه, فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة, فأذّن في قومه فقال: يا قوم، قد آتاني الله التوراةَ وردَّها إليَّ ! فعلقَ بهم يعلمهم, فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إنَّ التابوت نـزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرَضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلِّمهم, فوجدوه مثله, فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالت اليهود عزير ابن الله ) ، إنما قالت ذلك, لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم, وأخذوا التوراة, وذهب علماؤهم الذين بقُوا، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال. وكان عزير غلامًا يتعبَّد في رءوس الجبال، لا ينـزل إلا يوم عيد. فجعل الغلام يبكي ويقول: « ربِّ تركتَ بني إسرائيل بغير عالم » ! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفارُ عينيه، فنـزل مرة إلى العيد، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلتْ له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه, ويا كاسِياه ! فقال لها: ويحك, من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ قالت: الله! قال: فإن الله حي لم يمت! قالت: يا عزير, فمن كان يعلِّم العلماء قبلَ بني إسرائيل؟ قال: الله! قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم، ولَّى مدبرًا, فدعته فقالت: يا عزير، إذا أصبحت غدًا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه, ثم اخرج فصلِّ ركعتين, فإنه يأتيك شيخٌ، فما أعطاك فخُذْه. فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر, فاغتسل فيه, ثم خرج فصلى ركعتين. فجاءه الشيخُ فقال: افتح فمك! ففتح فمه, فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة، مجتمع كهيئة القوارير، ثلاث مرار. فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة, فقال: يا بني إسرائيل, إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا: يا عزير، ما كنت كذَّابًا! فعمد فربط على كل إصبع له قلمًا, وكتب بأصابعه كلها, فكتب التوراة كلّها. فلما رجعَ العلماء، أخبروا بشأن عزير, فاستخرج أولئك العلماء كُتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال, وكانت في خوابٍ مدفونة, فعارضوها بتوراة عزير، فوجدوها مثلها, فقالوا: ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه!

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: « وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ » ، لا ينونون « عزيرًا » .

وقرأه بعض المكيين والكوفيين: ( عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) ، بتنوين « عُزَيْرٌ » قال: هو اسم مجْرًى وإن كان أعجميًّا، لخفته. وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله, فيكون بمنـزلة قول القائل: « زيدٌ بن عبد الله » , وأوقع « الابن » موقع الخبر. ولو كان منسوبًا إلى الله لكان الوجه فيه، إذا كان الابن خبرًا، الإجراء، والتنوين, فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه.

وأما من ترك تنوين « عزير » , فإنه لما كانت الباء من « ابن » ساكنة مع التنوين الساكن، والتقى ساكنان، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه, قال الراجز:

لَتَجــــدَنِّي بِـــالأمِيرِ بَـــرًّا وَبِالقَنَــــاةِ مِدْعَسًـــا مِكَـــرَّا

إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا

فحذف النون للساكن الذي استقبلها.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) ، بتنوين « عزير » ، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان « الابن » نعتًا للاسم, [ وتنونه إذا كان خبرًا ] ، كقولهم: « هذا زيدٌ بن عبد الله » , فأرادوا الخبر عن « زيد » بأنه « ابن الله » , ولم يريدوا أن يجعلوا « الابن » له نعتًا و « الابن » في هذا الموضع خبر لـ « عزير » , لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك, إنما أخبروا عن « عزير » ، أنه كذلك, وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين.

( وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يعني قول اليهود: ( عزير ابن الله ) . يقول: يُشْبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابنٌ، كذِبَ اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرًا إلى أنه لله ابن, ولا ينبغي أن يكون لله ولدٌ سبحانه, بل له ما في السماوات والأرض, كل له قانتون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول: يُشبِّهون.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدّي: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في « عزيز » .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول: النصارى، يضاهئون قول اليهود.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ) ، يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.

وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقولهم قولَ أهل الأوثان، الذين قالوا: اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( يُضَاهُونَ ) ، بغير همز.

وقرأه عاصم: ( يُضَاهِئُونَ ) ، بالهمز, وهي لغة لثقيف.

وهما لغتان, يقال: « ضاهيته على كذا أضَاهيه مضاهاة » و « ضاهأته عليه مُضَأهاة » , إذا مالأته عليه وأعنته.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءَة في ذلك ترك الهمز, لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة الفصحى.

وأما قوله: ( قاتلهم الله ) ، فإن معناه، فيما ذكر عن ابن عباس, ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( قاتلهم الله ) ، يقول: لعنهم الله. وكل شيء في القرآن « قتل » ، فهو لعن.

وقال ابن جريج في ذلك ما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( قاتلهم الله ) ، يعني النصارى, كلمةٌ من كلام العرب.

فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون: معناه: قتلهم الله. والعرب تقول: « قاتعك الله » , و « قاتعها الله » ، بمعنى: قاتلك الله. قالوا: و « قاتعك الله » أهون من « قاتله الله » .

وقد ذكروا أنهم يقولون: « شاقاه الله ما تاقاه » , يريدون: أشقاه الله ما أبقاه.

قالوا: ومعنى قوله: ( قاتلهم الله ) ، كقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، [ سورة الذاريات: 10 ] ، و قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ، [ سورة البروج: 4 ] ، واحدٌ هو بمعنى التعجب.

فإن كان الذي قالوا كما قالوا, فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس, لأنّ « فاعلت » لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين, كقولهم: « خاصمت فلانًا » ، و « قاتلته » , وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: « عافاك الله » منه, وأن معناه: أعفاك الله, بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يُعْفيه من السوء.

وقوله: ( أنى يؤفكون ) ، يقول: أيَّ وجه يُذْهبُ بهم، ويحيدون؟ وكيف يصدُّون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل.

 

القول في تأويل قوله : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 31 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم, وهم العلماء.

وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا قبل. واحدهم « حَبْرٌ » ، و « حِبْرٌ » بكسر الحاء منه وفتحها.

وكان يونس الجرمي، فيما ذكر عنه، يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا « حِبر » بكسر الحاء, ويحتج بقول الناس: « هذا مِدَادُ حِبْرٍ » , يراد به: مدادُ عالم.

وذكر الفرَّاء أنه سمعه « حِبْرًا » ، و « حَبْرًا » بكسر الحاء وفتحها.

والنصارى « رهبانهم » ، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم، كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم ) ، قال: قُرَّاءهم وعلماءهم.

( أربابا من دون الله ) ، يعني: سادةً لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله, فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم، كما:-

حدثني الحسين بن يزيد الطحّان قال، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي, عن غطيف بن أعين, عن مصعب بن سعد, عن عدي بن حاتم قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في « سورة براءة » : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ، فقال: « أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم, ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون » .

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا مالك بن إسماعيل وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد جميعًا، عن عبد السلام بن حرب قال، حدثنا غطيف بن أعين, عن مصعب بن سعد, عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب, فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك ! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في « سورة براءة » , فقرأ هذه الآية: ( اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه, ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! واللفظ لحديث أبي كريب.

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية، عن قيس بن الربيع, عن عبد السلام بن حرب النهدي, عن غضيف, عن مصعب بن سعد, عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ « سورة براءة » ، فلما قرأ: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قلت: يا رسول الله, إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: صدقت, ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه, ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي البختري, عن حذيفة: أنه سئل عن قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه, وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب, عن أبي البختري قال: قيل لأبي حذيفة، فذكر نحوه غير أنه قال: ولكن كانوا يحلُّون لهم الحرام فيستحلُّونه, ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرِّمونه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب, عن حبيب عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله: ( اتخذوا أحبارهم ) ؟ قال: أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم, ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه, وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه, فتلك كانت رُبوبيَّتهم.

...... قال، حدثنا جرير وابن فضيل, عن عطاء, عن أبي البختري: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال: انطلقوا إلى حلال الله فجعلوه حرامًا, وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم. ولو قالوا لهم: « اعبدونا » ، لم يفعلوا.

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه, وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن أبي عديّ, عن أشعث, عن الحسن: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا ) ، قال: في الطاعة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، يقول: زيَّنُوا لهم طاعتهم.

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال عبد الله بن عباس: لم يأمروهم أن يسجُدوا لهم, ولكن أمروهم بمعصية الله, فأطاعوهم, فسمَّاهم الله بذلك أربابًا.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا ) ، قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الرُّبوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال: [ لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى ] « ما أمرونا به ائتمرنا, وما نهونا عنه انتهينا لقولهم » ، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه, فاستنصحوا الرجالَ, ونبذُوا كتاب الله وراء ظهورهم.

حدثني بشر بن سويد قال، حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن أبي البختري, عن حذيفة: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ) ، قال: لم يعبدوهم, ولكنهم أطاعوهم في المعاصي.

وأما قوله: ( والمسيح ابن مريم ) ، فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله.

وأما قوله: ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا ) ، فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا, وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق, المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية « لا إله إلا هو » ، يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته, ولزمت جميع العباد طاعته ( سبحانه عما يشركون ) ، يقول: تنـزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته، القائلون: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ , والقائلون: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ , المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله.