القول في تأويل قوله : إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 37 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما النّسيء إلا زيادة في الكفر.

و « النسيء » مصدر من قول القائل: « نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك » ، أي: زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء, فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: « نسيء » . ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: « نسيء » , وقيل للمرأة الحبلى: « نَسُوء » , و « نُسِئت المرأة » , لزيادة الولد فيها، وقيل: « نسأتُ الناقة وأنسأتها » ، إذا زجرتها ليزداد سيرها.

وقد يحتمل أن: « النسيء » ، « فعيل » صرف إليه من « مفعول » , كما قيل: « لعينٌ » و « قتيل » , بمعنى: ملعون ومقتول. ويكون معناه: إنما الشهر المؤخَّر زيادة في الكفر.

وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام, وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حرامًا, زيادة في كفرهم وجحودهم أحكامَ الله وآياته.

وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك: ( إِنَّمَا النَّسْيُ ) بترك الهمز، وترك مدِّه: ( يضل به الذين كفروا ) ،.

واختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة الكوفيين: ( يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.

وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا ) ، بمعنى: يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته، الذين كفروا.

وقد حكي عن الحسن البصري: ( يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا ) ، بمعنى: يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا, الناسَ.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان, قد قرأت بكل واحدةٍ القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به, وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو « ضال » ، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.

وأما الصواب من القراءة في « النسيء » , فالهمزة, وقراءته على تقدير « فعيل » لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.

وأما قوله: ( يحلونه عامًا ) ، فإن معناه: يُحلُّ الذين كفروا النسيء و « الهاء » في قوله: ( يحلونه ) ، عائدة عليه.

ومعنى الكلام: يحلُّون الذي أخَّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم، عامًا ( ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله ) ، يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حلَّلوا من الشهور، وتحريمهم ما حرموا منها, عدّة ما حرّم الله ( فيحلوا ما حرّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم ) ، يقول: حُسِّن لهم وحُبِّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها، وما خولف به أمرُ الله وطاعته ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) ، يقول: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، وما لله فيه رضًى, القومَ الجاحدين توحيدَه، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه يخذّلهم عن الهُدى، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: « النسيء » ، هو أن « جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني » ، كان يوافي الموسم كلَّ عام, وكان يُكنى « أبا ثُمَامة » , فينادي: « ألا إنّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ, ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ » ، فيحله الناس, فيحرم صَفَر عامًا, ويحرِّم المحرم عامًا, فذلك قوله تعالى: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، إلى قوله: ( الكافرين ) . وقوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، يقول: يتركون المحرم عامًا, وعامًا يحرِّمونه.

قال أبو جعفر: وهذا التأويلُ من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ ( النَّسْيُ ) ، بترك الهمزة وترك المدّ, وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه « فَعْلٌ » ، من قول القائل: « نسيت الشيء أنساه » , ومن قول الله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ، [ سورة التوبة: 67 ] ، بمعنى: تركوا الله فتركهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا, وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم, وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة, فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي وائل: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: كان « النسيء » رجلا من بني كنانة, وكان ذا رأي فيهم, وكان يجعل سنةً المحرمَ صفرًا, فيغزون فيه، فيغنمون فيه، ويصيبون, ويحرِّمه سنة.

...... قال حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي وائل: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، الآية, وكان رجل من بني كنانة يُسَمَّى « النسيء » , فكان يجعل المحرَّم صفرًا، ويستحل فيه الغنائم, فنـزلت هذه الآية.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إدريس قال، سمعت ليثًا, عن مجاهد قال، كان رجل من بني كنانة يأتي كلَّ عام في الموسم على حمار له, فيقول: « أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحَابُ, ولا مَرَدَّ لما أقول، إنَّا قد حرمنا المحرَّم, وأخَّرنا صفر » . ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته, ويقول: « إنا قد حرَّمنا صفر وأخَّرنا المحرَّم » ، فهو قوله: ( ليواطئوا عدة ما حرم الله ) ، قال: يعني الأربعة ( فيحلوا ما حرم الله ) ، لتأخير هذا الشهر الحرام.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، « النسيء » ، المحرّم, وكان يحرم المحرَّم عامًا ويحرِّم صفر عامًا, فالزيادة « صفر » , وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرم, فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه, هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، إلى قوله: ( الكافرين ) ، عمد أناسٌ من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم, فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: « ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرَّم » ، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول: « ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر » ، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما « الصفران » . قال: فكان أول من نَسَأ النسيء: بنو مالك بن كنانة, وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بني أمية أحد بني فقيم بن الحارث, ثم أحد بني كنانة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: فرض الله الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة, والمحرم, وصفر, وربيع, وربيع, وجمادى, وجمادى, ورجب, وشعبان, ورمضان, وشوال, وذو القعدة, وذو الحجة, يحجون فيه مرة، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه, ثم يعودون فيسمُّون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخرة, ثم يسمون شعبان ورمضان, ثم يسمون رمضانَ شوالا ثم يسمُّون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة, ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه, واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة, فكانوا يحجون في كل شهر عامين, حتى وافق حجةُ أبي بكر رضي الله عنه الآخرَ من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجَّته التي حجَّ, فوافق ذا الحجة, فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: حجوا في ذي الحجة عامين, ثم حجوا في المحرم عامين, ثم حجُّوا في صفر عامين, فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين, حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: « إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن حصين, عن أبي مالك: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشر شهرًا, فيجعلون المحرَّم صفرًا, فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنـزل الله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ) ، الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: « القَلَمَّس » , كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام, يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمُدّ إليه يده. فلما كان هو, قال: « اخرجوا بنا » اخرجوا له: « هذا المحرَّم » ‍‍! فقال: « ننسئه العام, هما العام صفران, فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين » . قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: « لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم, هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه » . ذلك « الإنساء » ، وقال منافرهم:

وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ

وأنـزل الله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، إلى آخر الآية.

وأما قوله: ( زيادة في الكفر ) ، فإن معناه زيادة كُفْر بالنسيء، إلى كفرهم بالله قبلَ ابتداعهم النسيء، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) ، يقول: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.

وأما قوله: ( ليواطئوا ) ، فإنه من قول القائل: « واطأت فلانا على كذا أواطئه مُواطأة » ، إذا وافقته عليه, معينًا له, غير مخالف عليه.

وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ليواطئوا عدة ما حرم الله ) ، يقول: يشبهون.

قال أبو جعفر: وذلك قريب المعنى مما بَيَّنَّا, وذلك أن ما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.

وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله, لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها, وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله.

 

القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ ( 38 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم, وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.

يقول جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( ما لكم ) ، أيّ شيء أمرُكم ( إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ) ، يقول: إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ ( انفروا ) ، أي: اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم.

وأصل « النفر » ، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه: « نفورًا الدابة » . غير أنه يقال: من النفر إلى الغزو: « نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا » , وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه، وإن اتفقت معاني الخبر.

فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون، إذا قيل لكم: اخرجُوا غزاة « في سبيل الله » ، أي: في جهاد أعداء الله ( اثَّاقلتم إلى الأرض ) ، يقول: تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها.

وقيل: « اثّاقلتم » لإدغام « التاء » في « الثاء » فأحدثتْ لها ألف. ليُتَوصَّل إلى الكلام بها، لأن « التاء » مدغمة في « الثاء » . ولو أسقطت الألف، وابتدئ بها، لم تكن إلا متحركة, فأحدثت الألف لتقع الحركة بها, كما قال جل ثناؤه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا ، [ سورة الأعراف: 38 ] ، وكما قال الشاعر:

تُـولِي الضَّجِـيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا عَـذْبَ المَـذَاقِ, إذَا مَـا أتَّـابَعَ القُبَـلُ

[ فهو من « الثقل » ، ومجازه مجاز « افتعلتم » ] ، من « التثاقل » .

وقوله: ( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) ، يقول جل ثناؤه, أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة ) ، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته ( إلا قليل ) ، يسير. يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه.

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف, وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف، حين خُرِفت النخل, وطابت الثمار, واشتَهُوا الظلال, وشقّ عليهم المخرج.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ) الآية, قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف, حين اختُرِفت النخل, وطابت الثمار, واشتهوا الظلال, وشقَّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: « الثقيل » , ذو الحاجة, والضَّيْعة, والشغل, والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنـزل الله: انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا ، [ سورة التوبة: 41 ]

 

القول في تأويل قوله : إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله, متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا، أيها المؤمنون، إلى من استنفركم رسول الله, يعذّبكم الله عاجلا في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم، عذابًا مُوجعًا ( ويستبدل قومًا غيركم ) ، يقول: يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم, ينفرون إذا استنفروا, ويجيبونه إذا دعوا, ويطيعون الله ورسوله ( ولا تضروه شيئا ) ، يقول: ولا تضروا الله، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا, لأنه لا حاجة به إليكم, بل أنتم أهل الحاجة إليه, وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء ( والله على كل شيء قدير ) ، يقول جل ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم، وعلى كل ما يشاء من الأشياء، قدير.

وقد ذكر أن « العذاب الأليم » في هذا الموضع، كان احتباسَ القَطْر عنهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال، حدثني نجدة الخراساني قال: سمعت ابن عباس, سئل عن قوله: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه, فأمسك عنهم المطر, فكان ذلك عذابَهم, فذلك قوله: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما ) .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن, عن نجدة قال: سألت ابن عباس, فذكر نحوه إلا أنه قال: فكان عذابهم أنْ أمسك عنهم المطر.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَل الشأم، على ما يعلم الله من الجَهْد.

وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، وقال: مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، فنسختها الآية التي تلتها: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، إلى قوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ، [ سورة التوبة: 120 - 122 ] .

قال أبو جعفر: ولا خبرَ بالذي قال عكرمة والحسن، من نسخ حكم هذه الآية التي ذكَرا، يجب التسليم له, ولا حجةَ نافٍ لصحة ذلك. وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعدُ، وجائزٌ أن يكون قوله: ( إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ) ، الخاص من الناس, ويكون المراد به من استنفرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس.

وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ، نهيًا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيم فيها, وإعلامًا من الله لهم أن الواجب النَّفرُ على بعضهم دون بعض, وذلك على من استُنْفِرَ منهم دون من لم يُسْتَنْفَر. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى, وكان حكم كل واحدة منهما ماضيًا فيما عُنِيَتْ به.

 

القول في تأويل قوله : إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا

قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم, أعانوه أو لم يعينوه, وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به, وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة, فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟

يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه, فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره ( إذ أخرجه الذين كفروا ) ، بالله من قريش من وطنه وداره ( ثاني اثنين ) ، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.

وكذلك تقول العرب: « هو ثاني اثنين » يعني: أحد الاثنين, و « ثالث ثلاثة, ورابع أربعة » , يعني: أحد الثلاثة, وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: « هو أخو ستة، وغلام سبعة » , لأن « الأخ » ، و « الغلام » غير الستة والسبعة, « وثالث الثلاثة » ، أحد الثلاثة.

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: ( ثاني اثنين ) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه, لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.

وقوله: ( إذ هما في الغار ) ، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه، في الغار.

و « الغار » ، النقب العظيم يكون في الجبل.

( إذ يقول لصاحبه ) ، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، ( لا تحزن ) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما, فجزع من ذلك, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تحزن » ، لأن الله معنا والله ناصرنا,

فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.

يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد, فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره, وعدد جنودِه؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا تنصروه ) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ, فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك ( ثانيَ اثنين إذ هما في الغار ) .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) ، الآية, قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما « الغار » ، فجبل بمكة يقال له: « ثَوْر » .

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه, وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله, فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور, وهو « الغار » الذي سماه الله في القرآن.

حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام, عن ثابت، عن أنس, أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا, فقلت: يا رسول الله, لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: ( إذ هما في الغار ) ، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا, مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عمرو بن الحارث, عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ « سورة التوبة » ؟ قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن ) ، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه.

 

القول في تأويل قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنـزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل: على أبي بكر ( وأيده بجنود لم تروها ) ، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم ( وجعل كلمة الذين كفروا ) ، وهي كلمة الشرك ( السُّفْلى ) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها, وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى ( وكلمة الله هي العليا ) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله, وهي كلمتُه ( العليا ) ، على الشرك وأهله, الغالبةُ، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) ، وهي: الشرك بالله ( وكلمة الله هي العليا ) ، وهي: لا إله إلا الله.

وقوله: ( وكلمة الله هي العليا ) ، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: ( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على « الكلمة » الأولى، لكان نصبًا.

وأما قوله: ( والله عزيز حكيم ) ، فإنه يعني: ( والله عزيز ) ، في انتقامه من أهل الكفر به, لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر ( حكيم ) ، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته.