القول في تأويل قوله : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 80 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ادع الله لهؤلاء المنافقين، الذين وصفت صفاتهم في هذه الآيات بالمغفرة, أو لا تدع لهم بها.

وهذا كلام خرج مخرج الأمر, وتأويله الخبر, ومعناه: إن استغفرت لهم، يا محمد، أو لم تستغفر لهم, فلن يغفر الله لهم.

وقوله: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، يقول: إن تسأل لهم أن تُسْتر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها, فلن يستر الله عليهم, ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة ( ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ) ، يقول جل ثناؤه: هذا الفعل من الله بهم, وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم, من أجل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، يقول: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله، من آثر الكفر به والخروج عن طاعته، على الإيمان به وبرسوله.

ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين نـزلت هذه الآية قال: « لأزيدنّ في الاستغفار لهم على سبعين مرة » ، رجاءً منه أن يغفر الله لهم, فنـزلت: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [ سورة المنافقون: 6 ] .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن هشام بن عروة, عن أبيه: أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأصحابه: لولا أنكم تُنْفقون على محمد وأصحابه لانفَضُّوا من حوله! وهو القائل: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ [ سورة المنافقون: 8 ] ، فأنـزل الله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على السبعين! فأنـزل الله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، فأبى الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم .

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن شباك, عن الشعبي قال: دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: حُباب بن عبد الله بن أبيّ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول, إن « الحُبَاب » هو الشيطان.

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه قد قيل لي: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) , فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين، وألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصَه وهو عَرِقٌ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأزيد على سبعين استغفارة! فأنـزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، عزمًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.

...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن الشعبي قال: لما ثَقُل عبد الله بن أبيّ, انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أبي قد احْتُضِر, فأحبُّ أن تشهده وتصليّ عليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحُباب بن عبد الله. قال: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي, إن « الحباب » اسم شيطان. قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عَرِق, وصلى عليه, فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال: إن الله قال: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، ولأستغفرن له سبعين وسبعين! قال هشيم: وأشكُّ في الثالثة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ) إلى قوله: ( القوم الفاسقين ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نـزلت هذه الآية: أسمعُ ربّي قد رَخّص لي فيهم, فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة, فلعل الله أن يغفر لهم ! فقال الله، من شدة غضبه عليهم: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ سورة المنافقون: 6 ] .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، فقال نبي الله: قد خيَّرني ربي، فلأزيدنهم على سبعين! فأنـزل الله سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ، الآية.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: لما نـزلت: ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على سبعين! فقال الله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ .

 

القول في تأويل قوله : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ( 81 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح الذين خلَّفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، يقول: بجلوسهم في منازلهم ( خلاف رسول الله ) ، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنَّفْر إلى جهاد أعداء الله, فخالفوا أمْرَه وجلسوا في منازلهم.

وقوله: ( خِلاف ) ، مصدر من قول القائل: « خالف فلان فلانًا فهو يخالفه خِلافًا » ، فلذلك جاء مصدره على تقدير « فِعال » , كما يقال: « قاتله فهو يقاتله قتالا » , ولو كان مصدرًا من « خَلَفه » لكانت القراءة: « بمقعدهم خَلْفَ رسول الله » , لأن مصدر: « خلفه » ، « خلفٌ » لا « خِلاف » , ولكنه على ما بينت من أنه مصدر: « خالف » ، فقرئ: ( خلاف رسول الله ) ، وهي القراءة التي عليها قرأة الأمصار, وهي الصواب عندنا.

وقد تأول بعضهم ذلك بمعنى: « بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم » , واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

عَقَــبَ الــرَّبِيعُ خِــلافَهُمْ فَكَأَنَّمَـا بَسَــطَ الشَّـوَاطِبُ بَيْنَهُـنَّ حَـصِيرَا

وذلك قريبٌ لمعنى ما قلنا, لأنهم قعدوا بعده على الخلافِ له.

وقوله: ( وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) ، يقول تعالى ذكره: وكره هؤلاء المخلفون أن يغزُوا الكفار بأموالهم وأنفسهم ( في سبيل الله ) ، يعني: في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه, ميلا إلى الدعة والخفض, وإيثارًا للراحة على التعب والمشقة, وشحًّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله.

( وقالوا لا تنفروا في الحر ) ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة, وهي غزوة تبوك، في حرّ شديدٍ, فقال المنافقون بعضهم لبعض: « لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ » ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) لهم، يا محمد ( نار جهنم ) ، التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله ( أشد حرًّا ) ، من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه. يقول: الذي هو أشد حرًا، أحرى أن يُحذر ويُتَّقى من الذي هو أقلهما أذًى ( لو كانوا يفقهون ) ، يقول: لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظَه، ويتدبَّرون آي كتابه, ولكنهم لا يفقهون عن الله, فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروهًا وأخفَّه أذًى, ويواقعون أشدَّه مكروهًا وأعظمه على من يصلاه بلاءً.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، إلى قوله: ( يفقهون ) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا معه, وذلك في الصيف, فقال رجال: يا رسول الله, الحرُّ شديدٌ، ولا نستطيع الخروجَ, فلا تنفر في الحرّ ! فقال الله: ( قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون ) ، فأمره الله بالخروج.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتاده في قوله: ( بمقعدهم خلاف رسول الله ) ، قال: هي غزوة تبوك.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ إلى تبوك, فقال رجل من بني سَلِمة: لا تنفروا في الحرّ ! فأنـزل الله: ( قل نار جهنم ) ، الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: [ ثم ] ذكر قول بعضهم لبعض, حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد, وأجمع السير إلى تبوك، على شدّة الحرّ وجدب البلاد. يقول الله جل ثناؤه: ( وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًّا ) .

 

القول في تأويل قوله : فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله, فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولَهْوهم عن طاعة ربهم, فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكانَ ضحكهم القليل في الدنيا ( جزاء ) ، يقول: ثوابًا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم، وقعودهم في منازلهم خلافَ رسول الله ( بما كانوا يكسبون ) ، يقول: بما كانوا يجترحون من الذنوب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن أبي رزين: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال يقول الله تبارك وتعالى: الدنيا قليل, فليضحكوا فيها ما شاءوا, فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن منصور, عن أبي رزين, عن الربيع بن خثيم: ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، قال: في الآخرة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان, عن إسماعيل بن سميع, عن أبي رزين في قوله: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال: في الآخرة.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي رزين أنه قال في هذه الآية: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال: ليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في النار كثيرًا. وقال في هذه الآية: وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ، [ سورة الأحزاب: 16 ] ، قال: إلى آجالهم أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: ليضحكوا قليلا في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، في الآخرة، في نار جهنم ( جزاء بما كانوا يكسبون ) .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( فليضحكوا قليلا ) ، : أي في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، : أي في النار. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا. ذكر لنا أنه نودي عند ذلك, أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن أبي رزين, عن الربيع بن خثيم، ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، قال: في الآخرة.

...... قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن سميع, عن أبي رزين: ( فليضحكوا قليلا ) ، قال: في الدنيا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع, فذلك الكثير.

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا ) ، قال: هم المنافقون والكفار، الذين اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا. يقول الله تبارك وتعالى: ( فليضحكوا قليلا ) ، في الدنيا ( وليبكوا كثيرًا ) ، في النار.

حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فليضحكوا ) ، في الدنيا، ( قليلا ) ( وليبكوا ) ، يوم القيامة، ( كثيرًا ) . وقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ، حتى بلغ: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، [ سورة المطففين: 36 ] .

 

القول في تأويل قوله : فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ( 83 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن ردّك الله، يا محمد، إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه ( فاستأذنوك للخروج ) ، معك في أخرى غيرها ( فقل ) لهم ( لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًّا إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرة ) ، وذلك عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، يقول: فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأنكم منهم, فاقتدوا بهديهم، واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله, فإن الله قد سخط عليكم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله, الحر شديد، ولا نستطيع الخروج, فلا تنفر في الحرّ ! وذلك في غزوة تبوك فقال الله: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ، فأمره الله بالخروج. فتخلف عنه رجال, فأدركتهم نفوسهم فقالوا: والله ما صنعنا شيئًا ! فانطلق منهم ثلاثة, فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة, فأنـزل الله: ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) ، إلى قوله: وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلك الذين تخلَّفوا، فأنـزل الله عُذْرَهم لما تابوا, فقال: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ، إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، [ سورة التوبة: 117، 118 ] .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ) ، إلى قوله: ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، أي: مع النساء. ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين, قيل فيهم ما قيل.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، و « الخالفون » ، الرجال.

قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في قوله: ( الخالفين ) ، ما قال ابن عباس.

فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء, فقولٌ لا معنى له. لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهن رجال، بالياء والنون, ولا بالواو والنون. ولو كان معنيًّا بذلك النساء لقيل: « فاقعدوا مع الخوالف » , أو « مع الخالفات » . ولكن معناه ما قلنا، من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرِّجال وأهل زَمانتهم، والضعفاء منهم، والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر, فإن العرب تغلب الذكور على الإناث, ولذلك قيل: ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، والمعنى ما ذكرنا.

ولو وُجِّه معنى ذلك إلى: فاقعدوا مع أهل الفساد, من قولهم: « خَلَف الرجال عن أهله يخْلُف خُلُوفًا » , إذا فسد, ومن قولهم: « هو خَلْف سَوْءٍ » كان مذهبًا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى، من قولهم: « خَلَف اللبن يَخْلُفُ خُلُوفا » ، إذا خبث من طول وضعه في السِّقاء حتى يفسد, ومن قولهم: « خَلَف فم الصائم » ، إذا تغيرت ريحه.

 

القول في تأويل قوله : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ( 84 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تصلِّ، يا محمد، على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدًا ( ولا تقم على قبره ) ، يقول: ولا تتولَّ دفنه وتقبيره.

من قول القائل: « قام فلان بأمر فلان » ، إذا كفاه أمرَه.

( إنهم كفروا بالله ) ، يقول: إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله وماتوا وهم خارجون من الإسلام، مفارقون أمرَ الله ونهيه.

وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع, وسوار بن عبد الله قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبيد الله قال، أخبرني نافع, عن ابن عمر قال: جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله حين مات أبوه فقال: أعطني قميصَك حتى أكفّنه فيه, وصلّ عليه، واستغفر له . فأعطاه قميصه وإذا فرغتم فآذنوني. فلما أراد أن يصلي عليه, [ جذبه ] عمر، وقال: أليس قد نهاك الله أن تُصَلّي على المنافقين؟ فقال: بل خيّرني وقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، قال: فصلي عليه. قال: فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) ، قال: فترك الصلاة عليهم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عبيد الله, عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ بثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم, فقال: ابنَ سلول ! أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما خيَّرني ربّي, فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، وسأزيد على سبعين. فقال: إنه منافق ! فصلى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن مجاهد قال، حدثني عامر, عن جابر بن عبد الله: أن رأسَ المنافقين مات بالمدينة, فأوصى أن يصلي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأن يكفَّن في قميصه، فكفنه في قميصه, وصلى عليه وقام على قبره, فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .

حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة, عن يزيد الرقاشي, عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن جابر قال: جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن أبيّ وقد أدخل حُفْرته, فأخرجه فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه، وتَفَل عليه من ريقه, والله أعلم .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود, عن عبد الله بن عباس قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه, فقام إليه. فلما وقف عليه يريد الصلاة, تحوَّلتُ حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله, أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبي، القائل يوم كذا كذا وكذا!! أعدِّد أيّامه, ورسول الله عليه السلام يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخِّر عنّي يا عمر، إني خُيِّرت فاخترت, وقد قيل لي: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، فلو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين غفر له، لزدت ! قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبتُ لي وجُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نـزلت هاتان الآيتان: ( ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبدًا ) ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه على منافق, ولا قام على قبره، حتى قبضه الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما مات عبد الله بن أبي, أتى ابنه عبد الله بن عبد الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فسأله قميصه, فأعطاه, فكفَّن فيه أباه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب قال، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن عباس, عن عمر بن الخطاب قال: لما مات عبد الله بن أبيّ فذكر مثل حديث ابن حميد, عن سلمة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) ، الآية, قال: بعث عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه, فنهاه عن ذلك عمر. فأتاه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ اليهود! قال فقال: يا نبي الله، إني لم أبعث إليك لتؤنّبني, ولكن بعثت إليك لتستغفر لي! وسأله قميصه أن يكفن فيه, فأعطاه إياه, فاستغفر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمات فكفن في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم, ونفث في جلده، ودلاه في قبره، فأنـزل الله تبارك وتعالى: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ) ، الآية. قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كُلّم في ذلك فقال: وما يغني عنه قميصي من الله أو: ربي وصلى عليه وإني لأرجو أن يسلم به ألفٌ من قومه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فلما دخل عليه, قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ يهود! قال: يا رسول الله, إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفّن فيه, فأعطاه إياه، وصلى عليه, وقام على قبره, فأنـزل الله تعالى ذكره: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره ) .

 

القول في تأويل قوله : وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تعجبك، يا محمد، أموالُ هؤلاء المنافقين وأولادهم، فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم على قبره، من أجل كثرة ماله وولده, فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذبه بها في الدنيا بالغموم والهموم, بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات، وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات، ( وتزهق أنفسهم ) ، يقول: وليموت فتخرج نفسه من جسده, فيفارق ما أعطيته من المال والولد, فيكون ذلك حسرة عليه عند موته، ووبالا عليه حينئذٍ، ووبالا عليه في الآخرة، بموته جاحدًا توحيدَ الله، ونبوةَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن السدي: ( وتزهق أنفسهم ) ، في الحياة الدنيا.

 

القول في تأويل قوله : وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ( 86 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنـزل عليك، يا محمد، سورة من القرآن, بأن يقال لهؤلاء المنافقين: ( آمنوا بالله ) ، يقول: صدِّقوا بالله ( وجاهدوا مع رسوله ) ، يقول: اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استأذنك أولو الطول منهم ) ، يقول: استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك، والقعود في أهله ( وقالوا ذرنا ) ، يقول: وقالوا لك: دعنا، نكن ممن يقعد في منـزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على الخروج معك في السفر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( استأذنك أولو الطول ) ، قال: يعني أهل الغنى.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( أولو الطول منهم ) ، يعني: الأغنياء.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم ) ، كان منهم عبد الله بن أبيّ، والجدُّ بن قيس. فنعى الله ذلك عليهم.