القول في تأويل قوله : التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 112 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم ولكنه رفع, إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها. والعرب تفعل ذلك, وقد تقدَّم بياننا ذلك في قوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [ سورة البقرة: 18 ] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

ومعنى: « التائبون » ، الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبُّه ويرضاه، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله: ( التائبون ) ، قال: تابوا إلى الله من الذنوب كلها.

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثني أبي, عن أبي الأشهب, عن الحسن: أنه قرأ ( التائبون العابدون ) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن: ( التائبون العابدون ) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء، عن الحسن قال: التائبون من الشرك.

حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: ( التائبون العابدون ) ، قال الحسن: تابوا والله من الشرك, وبرئوا من النفاق.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( التائبون ) ، قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج: ( التائبون ) ، قال: الذين تابوا من الذنوب، ثم لم يعودوا فيها.

وأما قوله: ( العابدون ) ، فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له, فجدُّوا في خدمته، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( العابدون ) ، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله ( العابدون ) ، قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( العابدون ) ، قال: العابدون لربهم.

وأما قوله: ( الحامدون ) ، فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر، كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( الحامدون ) ، قوم حمدوا الله على كل حال.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة قال، قال الحسن: ( الحامدون ) ، الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها، في السرّاء والضرّاء.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الحامدون ) ، قال: الحامدون على الإسلام.

وأما قوله: ( السائحون ) ، فإنهم الصائمون، كما:-

حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع قالا حدثنا سفيان, عن عمرو, عن عبيد بن عمير

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث, عن عمرو, عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن « السائحين » فقال: هم الصائمون.

حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حكيم بن حزام قال، حدثنا سليمان, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « السائحون » هم الصائمون.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: ( السائحون ) ، الصائمون.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: ( السائحون ) ، الصائمون.

...... قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني عاصم, عن زر, عن عبد الله, بمثله.

حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا شيبان, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن قال: السياحةُ: الصيام.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( السائحون ) ، : الصائمون.

حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه وإسرائيل، عن أشعث عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ( السائحون ) ، الصائمون.

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث, عن سعيد بن جبير قال: ( السائحون ) ، الصائمون.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم، عن زر, عن عبد الله, مثله.

...... قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن إسحاق, عن عبد الرحمن قال: ( السائحون ) ، هم الصائمون.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( السائحون ) ، قال: يعني بالسائحين، الصائمين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ( السائحون ) ، هم الصائمون.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( السائحون ) ، الصائمون.

...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة، هم الصائمون.

...... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي, عن أبي سنان, عن ابن أبي الهذيل, عن أبي عمرو العبدي قال: ( السائحون ) ، الذين يُديمون الصيام من المؤمنين.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن: ( السائحون ) ، الصائمون.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن قال: ( السائحون ) ، الصائمون شهر رمضان.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك قال: ( السائحون ) ، الصائمون.

...... قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن ( السائحون ) ، فإنه الصائمون.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: ( السائحون ) ، الصائمون.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( السائحون ) ، يعني الصائمين.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، ويعلى، وأبو أسامة, عن عبد الملك, عن عطاء قال: ( السائحون ) ، الصائمون.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن عطاء, مثله.

...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل, وكان الرجل إذا ساح أربعين سنةً، رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح وَلَدُ بغيٍّ أربعين سنة، فلم ير شيئًا, فقال: أي ربِّ، أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا؟ قال: فَأرِي ما رَأى السائحون قبله قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء، فهو السائح.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة ( السائحون ) ، قوم أخذوا من أبدانهم، صومًا لله.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد, عن الوليد بن عبد الله, عن عائشة قالت: سياحةُ هذه الأمة الصيام.

وقوله: ( الراكعون الساجدون ) ، يعني المصلين، الراكعين في صلاتهم، الساجدين فيها، كما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الراكعون الساجدون ) ، قال: الصلاة المفروضة.

وأما قوله: ( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) ، فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم, واتباع الرشد والهدى، والعمل وينهونهم عن المنكر، وذلك نهيهم الناسَ عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه.

وقد روي عن الحسن في ذلك ما:-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( الآمرون بالمعروف ) ، لا إله إلا الله ( والناهون عن المنكر ) ، عن الشرك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال, قال الحسن في قوله: ( الآمرون بالمعروف ) ، قال: أمَا إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها ( والناهون عن المنكر ) ، قال: أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية, قال: كل ما ذكر في القرآن « الأمر بالمعروف » ، و « النهي عن المنكر » , فالأمر بالمعروف، دعاءٌ من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر، نهيٌ عن عبادة الأوثان والشياطين.

قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا: من أن « الأمر بالمعروف » هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم, و « النهي عن المنكر » ، هو كل ما نهى الله عنه عبادَه أو رسولُه. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُني بها خصوصٌ دون عموم، ولا خبر عن الرسول، ولا في فطرة عقلٍ, فالعموم بها أولى، لما قد بينا في غير موضع من كُتُبنا.

وأما قوله: ( والحافظون لحدود الله ) ، فإنه يعني: المؤدّون فرائض الله, المنتهون إلى أمره ونهيه, الذين لا يضيعون شيئًا ألزمهم العملَ به، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم عن ارتكابه، كالذي:-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( والحافظون لحدود الله ) ، يعني: القائمين على طاعة الله. وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد، إذا وَفَوا الله بشرطه، وفى لهم بشرطهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: القائمون على طاعة الله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قوله: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: القائمون على أمر الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( والحافظون لحدود الله ) ، قال: لفرائض الله.

وأما قوله: ( وبشر المؤمنين ) ، فإنه يعني: وبشّر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده، أنه مُوفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة، كما:-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا عوف, عن الحسن: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ، حتى ختم الآية, قال الذين وفوا ببيعتهم ( التائبون العابدون الحامدون ) ، حتى ختم الآية, فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء, ثم لقوا العدوّ فصدَقوا ما عاهدوا الله عليه.

وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الأفعال يعني قوله: ( التائبون العابدون ) ، إلى آخر الآية وإن لم يغزوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون, عن أبي إسحاق الفزاري, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( وبشر المؤمنين ) ، قال: الذين لم يغزوا.

 

القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 113 ) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به « أن يستغفروا » , يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين, ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم « أولي قربى » , ذوي قرابة لهم « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ، خلاه وتركه ، وترك الاستغفار له, وآثر الله وأمرَه عليه, فتبرأ منه حين تبين له أمره.

واختلف أهل التأويل في السبب الذي نـزلت هذه الآية فيه.

فقال بعضهم: نـزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته, فنهاه الله عن ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية, فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله! فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك! فنـزلت: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » , ونـزلت: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، [ القصص: 56 ] .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني يونس, عن الزهري قال، أخبرني سعيد بن المسيب, عن أبيه, قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله! قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: « هو على ملة عبد المطلب » , وأبى أن يقول: « لا إله إلا الله » , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك! فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، وأنـزل الله في أبي طالب, فقال لرسول الله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، الآية.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، قال: يقول المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرًا؟ فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو بن دينار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك, فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي! فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه! فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » إلى قوله: « تبرأ منه » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاةُ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيْ عم، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا, ولأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي, فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة يوم القيامة, قل: لا إله إلا الله ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى, عن محمد بن ثور.

وقال آخرون: بل نـزلت في سبب أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك أنه أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل, عن عطية قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمّه حتى سخِنت عليه الشمس, رجاءَ أن يؤذن له فيستغفر لها, حتى نـزلت: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى » ، إلى قوله: « تبرأ منه » .

..... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس, عن علقمة بن مرثد, عن سليمان بن بريدة, عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رَسْمَ قال: وأكثر ظني أنه قال : قَبْرٍ فجلس إليه, فجعل يخاطبُ, ثم قام مُسْتَعْبِرًا, فقلت: يا رسول الله, إنّا رأينا ما صنعت! قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمّي، فأذن لي, واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي. فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا » ، إلى: « أنهم أصحاب الجحيم » ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمّه, فنهاه الله عن ذلك, فقال: وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه! فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم » ، إلى لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ .

وقال آخرون: بل نـزلت من أجل أن قومًا من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين, فنهوا عن ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، الآية, فكانوا يستغفرون لهم، حتى نـزلت هذه الآية. فلما نـزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم, ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، الآية.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » ، الآية, ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله, إن من آبائنا من كان يُحْسِن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم, أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى! والله لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه! قال: فأنـزل الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » حتى بلغ: « الجحيم » ، ثم عذر الله إبراهيم فقال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ،. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: أوحي إليّ كلمات فدخلن في أذني، ووَقَرْنَ في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركًا, ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له, ومن أمسك فهو شرٌّ له, ولا يلوم اللهُ على كَفافٍ .

واختلف أهل العربية في معنى قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .

فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار وكذلك معنى قوله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ ، وما كان لنفس الإيمان إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ، [ يونس: 100 ] .

وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت « أن » مع « كان » , فكلها بتأويل: ينبغي، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ آل عمران: 161 ] ما كان ينبغي له، ليس هذا من أخلاقه. قال: فلذلك إذا دخلت « أن » لتدل على الاستقبال, لأن « يَنْبَغِي » تطلب الاستقبال.

وأما قوله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنـزل فيه.

فقال بعضهم: أنـزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين، ظنًّا منهم أنّ إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك، حين أنـزل الله قوله خبرًا عن إبراهيم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [ مريم: 47 ] .

وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره, وسنذكر عمن لم نذكره.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الخليل, عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان, فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, فأنـزل الله: « وما كان استغفار إبراهيم » إلى « تبرأ منه » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الخليل, عن علي: أن النبي صلى كان يستغفر لأبويه وهما مشركان, حتى نـزلت: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه » ، إلى قوله: « تبرأ منه » .

وقيل: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة » , ومعناه: إلا من بعد موعدة, كما يقال: « ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا » , بمعنى: من بعد ذلك السبب، أو من أجله. فكذلك قوله: « إلا عن موعدة » ، من أجل موعدة وبعدها.

وقد تأوّل قوم قولَ الله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى » ، الآية, أنّ النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم, لقوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » . وقالوا: ذلك لا يتبينه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره, وأما وهو حيٌّ فلا سبيل إلى علم ذلك, فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سليمان بن عمر الرقي, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن سفيان الثوري, عن الشيباني, عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم, فلم يخرج معه, فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًّا, فإذا مات، وكله إلى شانه! ثم قال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، لم يدعُ.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا فضيل, عن ضرار بن مرة, عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني, فوكله ابنه إلى أهل دينه, فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنَّه واستغفر له؟ ثم تلا « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه » ، الآية.

وتأوّل آخرون « الاستغفارَ » ، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، ثني إسحاق قال، حدثنا كثير بن هشام, عن جعفر بن برقان قال، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق, عن عطاء بن أبي رباح قال: ما كنت أدع الصلاةَ على أحدٍ من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشيةً حُبْلى من الزنا, لأني لم أسمع الله يَحْجُب الصلاة إلا عن المشركين, يقول الله: « ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » .

وتأوّله آخرون، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عصمة بن زامل, عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمّه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك.

قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى « الاستغفار » : مسألة العبد ربَّه غفرَ الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك, وكانت مسألة العبد ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة, لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدًا, لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم, ولم يخصص عن ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له.

وأما قوله: « من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، فإن معناه: ما قد بيَّنتُ، من أنه: من بعد ما يعلمون بموته كافرًا أنه من أهل النار.

وقيل: « أصحاب الجحيم » ، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها, كما يقال لسكان الدار: « هؤلاء أصحاب هذه الدار » , بمعنى: سكانها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرازق, قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » ، قال: تبيّن للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين ماتَ أن التوبة قد انقطعت عنه.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « تبيَّن له » حين مات, وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله: « من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين » الآية, يقول: إذا ماتوا مشركين, يقول الله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ، الآية، [ المائدة: 72 ] .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » .

قال بعضهم: معناه: فلما تبين له بموته مشركًا بالله، تبرأ منه، وترك الاستغفار له.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات « فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حبيب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما مات لم يستغفر له.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، يعني: استغفر له ما كان حيًا, فلما مات أمسك عن الاستغفار له.

حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة, قالا حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, في قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: لما مات.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فلما تبين له أنه عدو لله » ، قال: موته وهو كافر.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن شعبة. عن الحكم, عن مجاهد, مثله.

...... قال، حدثنا ابن أبي غنية, عن أبيه, عن الحكم: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: حين مات ولم يؤمن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن عمرو بن دينار: « فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه » ، : موته وهو كافر.

..... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: لما مات.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، لما مات على شركه « تبرأ منه » .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه » ، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًّا، فلما مات على شركه تبرّأ منه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه » ، قال: موته وهو كافر.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات, فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فلم يستغفر له.

...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، أبو إسرائيل, عن علي بن بذيمة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « فلما تبين له أنه عدو لله » ، قال: فلما مات.

وقال آخرون: معناه : فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلَّق به إذا أرادَ أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه, حتى إذا كاد أن يجاوزه، حانت من إبراهيم التفاتةٌ، فإذا هو بأبيه في صورة قِرْد أو ضَبُع, فيخلِّي عنه ويتبرأ منه حينئذ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقولُ يوم القيامة: « ربِّ والدي، رَبِّ والدي » ! فإذا كان الثالثة، أخذ بيده, فيلتفت إليه وهو ضِبْعانٌ، فيتبرأ منه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن عبيد بن عمير, قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيدٍ واحد، يسمعكم الداعي، وينفُذُكم البصر. قال: فتزفِرُ جهنم زفرةً لا يبْقى مَلك مُقَرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا وقع لركبتيه تُرْعَد فرائصُه! قال: فحسبته يقول: نَفْسي نفسي! ويضربُ الصِّراط على جهنم كحدِّ السيف, دحْضِ مَزِلَّةٍ، وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السَّعْدان. قال: فيمضون كالبرق، وكالريح، وكالطير, وكأجاويد الركاب, وكأجاويد الرجال, والملائكة يقولون: « ربّ سلِّمْ سلِّم » ، فناجٍ سالمٌ ومخدوش ناجٍ, ومكدوسٌ في النار، يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم, فخُذْ بحقْوي! فيأخذ بِضَبْعَيْه, فيمسخ ضَبُعًا, فإذا رأه قد مُسِخَ تبرَّأ منه.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ الله, وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوٌّ، يبرأ منه, وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ، وهو به مشرك, وهو حالُ موته على شركه.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ( 114 )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في « الأوّاه » .

فقال بعضهم: هو الدعَّاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن زرّ, عن عبد الله قال: « الأوّاه » ، الدعّاء.

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو بكر, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله قال: « الأوّاه » ، الدعّاء.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم, عن عاصم بن بهدلة, عن زرّ بن حبيش قال: سألت عبد الله عن « الأواه » , فقال: هو الدعّاء.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن ابن أبي عروبة, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله، مثله.

..... قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عبد الكريم عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: « الأوّاه » : الدعّاء.

..... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله, مثله.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، وإسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن عبد الله، مثله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع, قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند, قال: نُبِّئتُ عن عبيد بن عمير, قال: « الأوّاه » : الدعاء.

حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا داود, عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي, عن أبيه قال: « الأوّاه » : الدعّاء.

وقال آخرون: بل هو الرحيم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن أبي العُبَيْدَيْنِ, قال: سئل عبد الله عن « الأوّاه » , فقال: الرحيم.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن أبي العبيدين، رجلٍ ضرير البصر: أنه سأل عبد الله عن « الأواه » ، فقال: الرحيم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل جميعًا, عن المسعوديّ, عن سلمة بن كهيل, عن أبي العبيدين: أنه سأل ابن مسعود, فقال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن إدريس, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين: أنه جاء إلى عبد الله وكان ضرير البصر فقال: يا أبا عبد الرحمن, من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له, قال: أخبرني عن « الأوّاه » , قال: الرحيم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان, عن سلمة بن كهيل, عن مسلم البطين, عن أبي العبيدين, قال: سألت عبد الله عن « الأواه » , فقال: هو الرحيم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له: ما حاجتك؟ قال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.

..... قال، حدثنا ابن إدريس, عن الأعمش, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين، رجل من بني سَوَاءَة, قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن « الأوّاه » , فقال له عبد الله: الرحيم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وهانئ بن سعيد, عن حجاج, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار, عن أبي العبيدين, عن عبد الله قال: « الأواه » ، الرحيم.

حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية, عن شعبة, عن الحكم, عن يحيى بن الجزار: أن أبا العبيدين، رجل من بني نمير قال يعقوب: كان ضريرَ البصر، وقال ابن وكيع: كان مكفوفَ البصر سأل ابن مسعود فقال: ما « الأواه » ؟ قال: الرحيم.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن زكريا, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, قال: « الأواه » : الرحيم.

..... قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن, قال: هو الرحيم.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: كنا نحدَّث أن « الأواه » الرحيم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « إن إبراهيم لأواه » ، قال: رحيم.

قال عبد الكريم الجزري, عن أبي عبيدة, عن ابن مسعود مثل ذلك.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن عبد الكريم, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: « الأواه » : الرحيم.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن سلمة, عن مسلم البطين, عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله عن « الأواه » , فقال الرحيم.

...... قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن شرحبيل قال: « الأواه » : الرحيم.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك, عن الحسن, قال: « الأواه » : الرحيم بعباد الله.

..... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو خيثمة زهير قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني, عن أبي ميسرة, عن عمرو بن شرحبيل, قال: « الأواه » : الرحيم بلحن الحبشة.

وقال آخرون: بل هو الموقن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان, عن قابوس, عن أبيه، عن ابن عباس قال: « الأواه » : الموقن.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن ابن مبارك, عن خالد, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « الأواه » ، الموقن، بلسان الحبشة.

..... قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن, عن مسلم, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال، « الأواه » ، الموقن، بلسانه الحبشة.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, قال: سمعت سفيان يقول: « الأواه » ، الموقن وقال بعضهم: الفقيه الموقن.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن عطاء, قال: « الأواه » ، الموقن، بلسان الحبشة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن رجل, عن عكرمة, قال: هو الموقن، بلسان الحبشة.

..... قال، حدثنا ابن نمير, عن الثوري, عن مجالد, عن أبي هاشم, عن مجاهد, قال: « الأواه » ، الموقن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن مسلم, عن مجاهد قال: « الأواه » ، الموقن.

.... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قابوس, عن أبي ظبيان, عن ابن عباس قال: « الأواه » ، الموقن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أواه » ، موقن.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أواه » , قال: مؤتمن موقن.

حدثت عن الحسين بن الفرج, قال: سمعت أبا معاذ, يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إن إبراهيم لأواه حليم » ، قال: « الأواه » : الموقن.

وقال آخرون: هي كلمة بالحبشة، معناها: المؤمن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « لأواه حليم » ، قال: « الأواه » ، هو المؤمن بالحبشية.

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « إن إبراهيم لأواه » ، يعني: المؤمن التواب.

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح, عن مسلم, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « الأواه » : المؤمن.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « الأواه » ، المؤمن بالحبشية.

وقال آخرون: هو المسبِّح، الكثير الذكر لله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد, قال: « الأواه » : المسبِّح.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن حجاج, عن الحكم, عن الحسن بن مسلم بن يناق: أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبِّح, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إنه أوَّاه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حيان, عن ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد, عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر قال: « الأواه » ، الكثير الذكر لله.

وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة, عن حجاج بن أرطأة, عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفن ميتًا, فقال: يرحمك الله، إن كنت لأواهًا! يعني: تلاءً للقرآن.

وقال آخرون: هو من التأوُّه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي يونس القشيري, عن قاصّ كان بمكة: أن رجلا كان في الطواف, فجعل يقول: أوّه! قال: فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه إنه أوَّاه !

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن شعبة, عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلا بمكة كان أصله روميًّا، يحدّث عن أبي ذر, قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: « أوَّه! أوّه » ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أوَّاه! زاد أبو كريب في حديثه, قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب, عن جعفر بن سليمان قال، حدثنا عمران, عن عبيد الله بن رباح, عن كعب, قال: « الأواه » : إذا ذكر النار قال: أوّه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: كان إذا ذكر النار قال: أوّه.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن جعفر بن سليمان قال، أخبرنا أبو عمران قال، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول، سمعت كعبًا يقول: « إن إبراهيم لأواه » ، قال: إذا ذكر النار قال: « أوّهْ من النار » .

وقال آخرون: معناه أنه فقيهٌ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « إن إبراهيم لأوّاه » ، قال: فقيه.

وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب, عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، قال رجل: يا رسول الله، ما « الأوَّاه » ، قال: المتضرع، قال: « إن إبراهيم لأوّاه حليم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن عبد الحميد, عن شهر, عن عبد الله بن شداد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الأوّاه » : الخاشعُ المتضرِّع .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زرٌّ : أنه الدعَّاء.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن الله ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه, فقال: « وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه » ، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال: إن إبراهيم لدعَّاء لربه، شاكٍ له، حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له, ودعاءَ الله له بالمغفرة، عند وعيد أبيه إياه, وتهدُّده له بالشتم، بعد ما ردَّ عليه نصيحته في الله وقوله: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، فقال له صلوات الله عليه، سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ، [ مريم: 46 - 48 ] . فوفى لأبيه بالاستغفار له، حتى تبيَّن له أنه عدو لله, فوصفه الله بأنه دَعّاء لربه، حليم عمن سَفِه عليه.

وأصله من « التأوّه » ، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق, كما روى عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما روى عقبة بن عامر، الخبَرَ الذي حدَّثنيه :-

يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثني الحارث بن يزيد, عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر: أنه قال لرجل يقال له « ذو البجادين » : « إنه أواه » ! وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء، ويرفَعُ صوته.

ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: « لا تتأوه » ، كما قال المُثَقِّب العَبْدي:

إذَا مــا قُمْــتُ أَرْحَلُهــا بِلَيْــلٍ تَــأَوَّهُ آهَــةَ الرَّجُــلِ الحَــزِينِ

ومنه قول الجَعْديَ:

ضَـرُوحٍ مَـرُوحٍ تُتْبِـعُ الْوُرْقَ بَعْدَما يُعَرِّسْــنَ شَــكْوَى, آهَـةً وَتَنَمَّـرَا

ولا تكاد العرب تنطق منه : بـ « فعل يفعل » , وإنما تقول فيه: « تَفَعَّلَ يَتَفَعَّل » , مثل: « تأوّه يتأوه » , « وأوّه يؤوِّه » .

كما قال الراجز:

فَأَوَّهَ الرّاعِي وَضَوْضَى أكْلُبُه

وقالوا أيضًا: « أوْهِ منك! » ، ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده:

فَـأَوْهِ مِـنَ الذِّكْـرَى إذَا مَـا ذَكَرْتُهـا وَمِــنْ بُعْــدِ أَرْضٍ بَيْنَنَـا وَسَـمَاءِ

قال: وربما أنشدنا: ( فَأَوٍّ مِنَ الذِّكْرَى ) ، بغيرها. ولو جاء « فعل » منه على الأصل لكان: « آه ، يَئوهُ أوْهًا » .

ولأن معنى ذلك: « توجَّع، وتحزّن، وتضرع » ، اختلف أهل التأويل فيه الاختلافَ الذي ذكرتُ. فقال من قال: معناه « الرحمة » : أن ذلك كان من إبراهيم على وجه الرِّقة على أبيه، والرحمة له، ولغيره من الناس.

وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه، وحسن معرفته بعظمة الله، وتواضعه له.

وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربِّه.

وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنـزيل الله الذي أنـزله عليه.

وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر رَبِّه.

وكلُّ ذلك عائد إلى ما قلتُ, وتَقَارَبَ معنى بعض ذلك من بعض، لأن الحزين المتضرِّع إلى ربه، الخاشع له بقلبه, ينوبه ذلك عند مسألته ربَّه، ودعائه إياه في حاجاته, وتعتوره هذه الخلال التي وجَّه المفسرون إليها تأويل قول الله: « إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ » .

 

القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 115 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله, حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه, فإنه لا يحكم عليكم بالضلال, لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ, فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه « إن الله بكل شيء عليم » ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم من الاستغفار لموتاكم المشركين، من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه، وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها, فبيَّن لكم حلمه في ذلك عليكم، ليضع عنكم ثِقَل الوَجْد بذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة, وفي بيانه طاعتُه ومعصيته, فافعلوا أو ذَرُوا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: بيانُ الله للمؤمنين: أن لا يستغفروا للمشركين خاصة, وفي بيانه طاعتُه ومعصيته عامة, فافعلوا أو ذَرُوا.

..... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, قوله: « وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون » ، قال: يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته, فافعلوا أو ذروا.

 

القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( 116 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله، أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه, بيده حياتهم وموتهم, يحيي من يشاء منهم، ويميت من يشاء منهم, فلا تجزعوا، أيها المؤمنون، من قتال من كفر بي من الملوك, ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة، أو غيرهم, واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي, فإني المعزُّ من أشاء منهم ومنكم، والمذلُّ من أشاء.

وهذا حضٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كلّ من كفر به من المماليك, وإغراءٌ منه لهم بحربهم.

وقوله: ( وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير ) ، يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليفٌ من دون الله يظاهركم عليه، إن أنتم خالفتم أمرَ الله فعاقبكم على خلافكم أمرَه، يستنقذكم من عقابه ( ولا نصير ) ، ينصركم منه إن أراد بكم سوءًا. يقول: فبالله فثقوا, وإياه فارهبوا, وجاهدوا في سبيله من كفر به, فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة, تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُون وتُقْتَلُون.

 

القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 117 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته، نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم, والمهاجرين ديارَهم وعشيرتَهم إلى دار الإسلام, وأنصار رسوله في الله الذين اتبعوا رَسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء ( من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ) ، يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، ويشك في دينه ويرتاب، بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه ( ثم تاب عليهم ) ، يقول: ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم ( إنه بهم رءوف رحيم ) ، يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبَهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة رءوف بهم ( رحيم ) ، أن يهلكهم, فينـزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلوا مع رسوله، وصبروا عليه من البأساء والضراء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( في ساعة العسرة ) ، في غزوة تبوك.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل: ( في ساعة العسرة ) ، قال: خرجوا في غزوةٍ، الرجلان والثلاثة على بعير. وخرجوا في حرٍّ شديد, وأصابهم يومئذ عطش شديد, فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها، ويشربون ماءه, وكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من الظهر، وعسرة من النفقة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ساعة العسرة ) ، قال: غزوة تبوك, قال: « العسرة » ، أصابهم جَهْدٌ شديد، حتى إن الرجلين ليشقَّان التمرة بينهما، وأنهم ليمصُّون التمرة الواحدة، ويشربون عليها الماء.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال: غزوة تبوك.

...... قال، حدثنا زكريا بن عدي, عن ابن مبارك, عن معمر, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر: ( الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، قال: عسرة الظهر, وعسرة الزاد, وعسرة الماء.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ) ، الآية, الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَل الشأم في لهَبَانِ الحرّ على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديد, حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما, وكان النفر يتناولون التمرة بينهم، يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصُّها هذا ثم يشرب عليها, فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن عتبة بن أبي عتبة, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة, فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد, فنـزلنا منـزلا أصابنا فيه عطش, حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع, حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسُ الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع, حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا, فادع لنا! قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه، فلم يَرْجِعهما حتى قالت السماء, فأظلّت، ثم سكبت, فملئوا ما معهم, ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها، جاوزت العسكر.

حدثني إسحاق بن زيادة العطار قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد الله بن وهب قال، حدثنا عمرو بن الحارث, عن سعيد بن أبي هلال, عن نافع بن جبير, عن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: حدِّثنا عن شأن جيش العسرة! فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه.