القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 79 ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ( 80 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل من يسحر من السحرة، عليم بالسحر ( فلما جاء السحرة ) ، فرعونَ قال موسى: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ، من حبالكم وعصيِّكم.

وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: « فأتوه بالسحرة، فلما جاء السحرة » ، ولكن اكتفى بدلالة قوله: ( فلما جاء السحرة ) ، على ذلك، فترك ذكره.

وكذلك بعد قوله: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ، محذوفٌ أيضًا قد ترك ذكرُه، وهو: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى ، ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه، فتُرك ذكره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( 81 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه ، قال لهم موسى: ما جئتم به السحر.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون ، أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم: قال موسى: الذي جئتم به أيّها السحرة ، هو السحر.

وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين والبصريين: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا به، أسحر هو أم غيره؟

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه ، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له ، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه ، أي شيء هو؟

وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه، فلم يكن يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في الخبر عمّا جاءوه به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به من ذلك بالحق الذي أتاه ،

ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه .

وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخرى.

فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في « السحر » إن كان الأمر على ما وصفت ، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: « ما جاءني به عمرو درهمٌ والذي أعطاني أخوك دينار » ، ولا يكادون أن يقولوا

: الذي أعطاني أخوك الدرهم وما جاءني به عمرو الدينار؟

قيل له: بلى، كلام العرب إدخال « الألف واللام » في خبر « ما » و « الذي » إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام، لأنّ الخبر حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين، وإنما يأتي ذلك بغير « الألف واللام » ، إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصدَ شيء بعينه، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر. وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله عَلَمًا له على صدقه ونبوته ، إلى أنه سحرٌ، فقال لهم موسى: السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو الذي جئتم به أنتم ، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: ( إن الله سيبطله ) ، يقول: سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره ، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه ، حتى لم يبق منه شيء ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) ، يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه ، وعمل فيها بمعاصيه.

وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ ) .

وفي قراءة ابن مسعود: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ ) ، وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 82 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة: ( ويحق الله الحق ) ، يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه « بكلماته » ، يعني : بأمره ( ولو كره المجرمون ) ، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم ، بمعصيتهم إياه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 83 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى ، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة ( إلا ذرية من قومه ) خائفين من فرعون وملئهم.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع.

فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه ) ، قال، كان ابن عباس يقول: « الذرية » : القليل.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، « الذرية » ، القليل، كما قال الله تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ سورة الأنعام: 133 ]

وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم « ذرية » ، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله تعالى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ، ومات آباؤهم.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ومات آباؤهم.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم ، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير، منهم : امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.

وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا القول، وذلك ما:-

حدثني به المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ذرية من قومه ) ، يقول: بني إسرائيل.

فهذا الخبر ، ينبئ عن أنه كان يرى أن « الذرية » في هذا الموضع ، هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن « الذرية » ، في هذا الموضع أريد بها ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرُّوا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريّتهم ، فآمن منهم من ذكر الله ، بموسى.

وإنما قلت : « هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك » ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فَلأن تكون « الهاء » ، في قوله : « من قومه » ، من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ ، من خبرٍ ولا نظرٍ.

وبعدُ، فإن في قوله: ( على خوف من فرعون وملئهم ) ، الدليلُ الواضح على أن الهاء في قوله: ( إلا ذرية من قومه ) ، من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام ، « على خوف منه » ، ولم يكن ( على خوف من فرعون ) .

وأما قوله: ( على خوف من فرعون ) ، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، من بني إسرائيل ، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم.

وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: « فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه » ، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم « الذرية » ، من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: « أبناء » . .

والمعروف من معنى « الذرية » في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ، [ سورة الإسراء: 3 ] ، وكما قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ، [ سورة الأنعام: 84، 85 ] ، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.

وأما قوله: ( وملئهم ) ، فإن « الملأ » : الأشراف. وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم.

واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله: ( وملئهم ) ، فقال بعض نحويي البصرة: عُني بها الذرية. وكأنّه وجَّه الكلام إلى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون ) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل.

وقال بعض نحويي أهل الكوفة:

عني بهما فرعون. قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر ، ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: « قدم الخليفة فكثر الناس » ، تريد ، بمن معه « وقدم فغلت الأسعار » ، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه.

قال: وقد يكون أن تريد أن بـ « فرعون » آل فرعون، وتحذف « الآل » ، فيجوز، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، يريد أهل القرية، والله أعلم. قال: ومثله قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، [ سورة الطلاق: 1 ] .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: « الهاء والميم » عائدتان على « الذرية » . ووجَّه معنى الكلام إلى أنه : على خوف من فرعون، وملأ الذرية لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن كان كذلك منهم، كان مع فرعون على موسى.

وقوله: ( أن يفتنهم ) ، يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون « أن يفتنهم » بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله.

وقال: ( أن يفتنهم ) ، فوحَّد ولم يقل: « أن يفتنوهم » ، لدليل الخبر عن فرعون بذلك : أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه ، لما قد تقدم من قوله: ( على خوف من فرعون وملئهم ) .

وقوله: ( وإن فرعون لعال في الأرض ) ، يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه « وإنه لمن المسرفين » ، وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به ، وجحودُه وحدانية الله ، وادّعاؤه لنفسه الألوهة ، وسفكه الدماء بغير حِلِّها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ( 84 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته ( فعليه توكلوا ) ، يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلموا،

فإنه لن يخذل وليّه، ولن يسلم من توكل عليه ( إن كنتم مسلمين ) ، يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 85 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال قوم يا موسى لموسى: ( على الله توكلنا ) ، أي به وثقنا، وإليه فوَّضنا أمرنا.

وقوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا‍‍! يعنون قوم فرعون.

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم.

فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم ، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا يظهروا علينا ، فيروا أنهم خير منا.

حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبى مجلز في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خيرٌ منّا.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تسلّطهم علينا ، فيزدادوا فتنة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تسلطهم علينا فيفتنونا.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله وقال أيضًا : فيفتنونا.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: « لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا » ، فيفتتنوا بنا.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: « لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا » ، فيفتتنوا بنا.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم ، فيفتتنوا ويقولوا: « لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تبتلنا ربنا فتجهدنا ، وتجعله فتنة لهم ، هذه الفتنة. وقرأ: فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ، [ سورة الصافات: 63 ] ، قال المشركون ، حين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم، أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم، وهي بلية للمؤمنين؟.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به ، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم « فتنة » ، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ في أنفسهم ، من بلية تنـزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 86 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونجِّنا يا ربنا برحمتك، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين ، قوم فرعون، لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 87 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا.

يقال منه: « تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا » ، إذا اتخذه. وكذلك تبوَّأ مصْحفًا « ، إذا اتخذه ، » وبوأته أنا بيتًا « : إذا اتخذته له. »

( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) .

فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان ، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: مساجد.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.

. . . . قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا زهير قال ، حدثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا يَفْرَقُون من فرعون وقومه أن يصلُّوا، فقال لهم: ( اجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: خافوا ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شبل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا لا يصلون إلا في البِيَع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

. . . . قال، حدثنا جرير عن ليث، عن مجاهد قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: مساجد.

. . . . قال، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان، عن الضحاك: ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) ، قال: مساجد.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قال أبي اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك « القبلة » .

وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يعني الكعبة.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) ، قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: وجِّهوا بيوتكم ، « مساجدكم » نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [ سورة النور: 36 ] .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قِبَل القبلة.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( بيوتكم قبلة ) ، قال: نحو الكعبة، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، ثم ذكر مثله سواء.

. . . . قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) ، مساجد.

. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: في قوله: ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا ) ، قال: مصر، « الإسكندرية » .

حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم ، وأن يوجهوا نحو القبلة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بيوتكم قبلة ) ، قال: نحو القبلة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن الضحاك: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) قال: مساجد ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قبل القبلة.

وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: يقابل بعضها بعضًا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني « البيوت » وإن كانت المساجد بيوتًا البيوت المسكونة ، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن « المساجد » لها اسم هي به معروفة ، خاصٌّ لها، وذلك « المساجد » . فأمّا « البيوت » المطلقة بغير وصلها بشيء ، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة.

وكذلك « القبلة » الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات.

فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نـزل به ، دون الخفيّ المجهول ، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك ولم يكن على قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا.

وكذلك القول في قوله ( قبلة )

( وأقيموا الصلاة ) ، يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. . وقوله: ( وبشر المؤمنين ) ، يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله ، يا محمد ، المؤمنين بالثواب الجزيل منه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 88 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم وهم « الملأ » « زينة » ، من متاع الدنيا وأثاثها ( وأموالا ) من أعيان الذهب والفضة ( في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) ، يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك.

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأه بعضهم: ( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى: ليضلوا الناسَ، عن سبيلك ، ويصدّوهم عن دينك.

وقرأ ذلك آخرون: ( لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك، فيجورُوا عن طريق الهدى.

فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه ، أعطَى فرعون وقومه ، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ، ليضلوا الناس عن دينه أو ليضلُّوا هم عنه؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك، فلا عتب عليهم في ذلك؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت.

وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه « اللام » التي في قوله: ( ليضلوا ) .

فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فَضَلوا عن سبيلك، كما قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ، [ سورة القصص: 8 ] ، أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه « اللام » تجيء في هذا المعنى.

وقال بعض نحويي الكوفة: هذه « اللام » ، « لام كي » ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم ، كي يضلوا ثم دعا عليهم.

وقال آخر: هذه اللامات في قوله : ( ليضلوا ) و لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم والتقطوه لكونه لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل « لام كي » ، في معنى « لام الخفض » ، و « لام الخفض » في معنى « لام كي » ، لتقارب المعنى، قال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [ سورة التوبة: 95 ] أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال الشاعر:

سَــمَوْتَ وَلَـمْ تَكُـنْ أَهْـلا لِتَسْـمُو وَلَكِــنَّ المُضَيِّــعَ قَــدْ يُصَــابُ

قال: وإنما يقال: « وما كنت أهلا للفعل » ، ولا يقال « لتفعل » إلا قليلا. قال: وهذا منه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنها « لام كي » ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادَك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، [ سورة الجن: 16- 17 ] .

وقوله: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ، [ سورة النساء: 47 ] . يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها.

يقال منه: « طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا وطُمُوسا » . وقد تستعمل العرب « الطمس » في العفوّ والدثور ، وفي الاندقاق والدروس، كما قال كعب بن زهير:

مِـنْ كُـلِّ نَضَّاحَـةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَـا طَـامِسُ الأَعْـلامِ مَجْهُول

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: بلغنا عن القرظي في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: اجعل سُكّرهم حجارة.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن كعب القرظي قال: اجعل سكرهم حجارة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ( اطمس على أموالهم ) قال: اجعلها حجارة.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله: ( اطمس على أموالهم ) ، قال: صارت حجارة.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن زروعهم تحوَّلت حجارة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن حَرْثًا لهم صارت حجارة.

حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: يقولون: صارت حجارة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى الحماني قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: صارت حجارة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: جعلها الله حجارةً منقوشة على هيئة ما كانت.

حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم ذلك، طمَس على أموالهم، فصارت حجارةً، ذهبهم ودراهمهم وعَدَسهم ، وكلُّ شيء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أهلكها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: أهلكها.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم.

وأما قوله: ( واشدد على قلوبهم ) ، فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان، كما:-

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: « ربنَا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم » ، فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الإيمان.

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول: واطبع على قلوبهم ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، وهو الغرق.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واشدد على قلوبهم ) ، بالضلالة.

. . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واشدد على قلوبهم ) ، قال: بالضلالة.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول: أهلكهم كفارًا.

وأما قوله: ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإن معناه: فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته ، حتى يروا العذاب الموجع، كما:-

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا يؤمنوا ) ، بالله فيما يرون من الآيات ( حتى يروا العذابَ الأليم ) .

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

. .. . قال ، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري يقول: ( فلا يؤمنوا ) ، يقول: دعا عليهم.

واختلف أهل العربية في موضع: ( يؤمنوا ) .

فقال بعض نحويي البصرة: هو نصبٌ، لأن جواب الأمر بالفاء ، أو يكون دُعاء عليهم إذ عصوا . وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصبٌ ، عطفًا على قوله: ( ليضلوا عن سبيلك ) .

وقال آخر منهم، وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزمٌ ، على الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر:

فَـلا يَنْبَسِـطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى وَلا تَلْقَنِـــي إِلا وَأَنْفُــكَ رَاغِــمُ

بمعنى: « فلا انبسط من بين عينيك ما انـزوى » ، « ولا لقيتني » ، على الدعاء.

وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته إياه، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل : ( فلا يؤمنوا ) ، في موضع نصب على الجواب، وليس يسهل. قال: ويكون كقول الشاعر:

يَــا نَــاقُ سِـيرِي عَنَقًـا فَسِـيحَا إِلَـــى سُـــلَيْمَانَ فَنَسْـــتَريحَا

قال: وليس الجواب يسهلُ في الدعاء ، لأنه ليس بشرط.

قال أبو جعفر:والصواب من القول في ذلك ، أنه في موضع جزم على الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاءٌ، وذلك قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، فإلحاق قوله: ( فلا يؤمنوا ) ، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى.

وأما قوله: ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإنّ ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى.

حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، قال: الغرق.