القول في تأويل قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « سيقول السفهاء » ، سيقول الجهال « منَ الناس » , وهم اليهود وأهل النفاق.

وإنما سماهم الله عز وجل « سُفهاء » ، لأنهم سَفِهوا الحق. فتجاهلت أحبارُ اليهود, وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم, إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل, وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا.

وبما قلنا في « السفهاء » - أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل.

ذكر من قال: هم اليهود:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: « سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم » قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثت عن أحمد بن يونس, عن زهير, عن أبي إسحاق، عن البَراء: « سيقول السفهاء من الناس » قال، اليهود.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء: « سيقول السفهاء من الناس » قال، اليهود.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: « سيقول السفهاء من الناس » قال، أهل الكتاب

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: اليهودُ.

وقال آخرون: « السفهاء » ، المنافقون.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: نـزلت « سَيقول السفهاء من الناس » ، في المنافقين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ما ولاهم » : أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل: « ولاني فلان دُبُره » ، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله: « ما ولاهم » ؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟

وأما قوله: « عن قبلتهم » ، فإن « قبلة » كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي « فِعْلة » بمنـزلة « الجلسة والقِعْدة » ، من قول القائل. « قابلت فلانًا » ، إذا صرتُ قُبالته أقابله, فهو لي « قبلة » وأنا له « قبلة » , إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا - إذْ كان ذلك معناه - : سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله, - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام - : أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء, فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟

فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام, وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد, فقل لهم: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

وكان سببُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه, وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب.

ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟

اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا : حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة - شكّ محمد- ، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة - وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيس, وقَرْدَم بن عمرو, وكعبُ بن الأشرف, ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد, وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع - والحجاج بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف والربيعُ بن الربيعُ بن [ أبي ] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنـزل الله فيهم: « سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها » إلى قوله: إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, قال البراء: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا, وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم, فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا, وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا - شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نـزلَ على أجداده - أو أخواله- من الأنصار, وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا, وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت, وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه, فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب, فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك.

حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا, ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين.

وقال آخرون بما:-

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس, انصرف بوَجْهه إلى الكعبة, فقال السفهاء: « ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها » .

وقال آخرون بما:-

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي, عن عمرو بن مرة, عن ابن أبي ليلى, عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا.

حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة, عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج, وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد.

ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة.

اختلف أهلُ العلم في ذلك.

فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم

ذكرُ من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن عكرمة - وعن يزيد النحويّ, عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ, فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا, ليؤمنوا به ويتبعوه, ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ سورة البقرة: 115 ] .

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها » ، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية : إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء, فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب, فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا, وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام.

وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك - من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكان [ أكثرَ ] أهلها اليهودُ, أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة عَشر شَهرًا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام, وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنـزل الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ سورة البقرة: 144 ] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: « ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها » ؟ فأنـزل الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ .

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة, ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا, ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة.

ذكر السبب الذي من أجله قال من قال « ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها » ؟

اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:-

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه.

والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها » ؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس: « ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها » ؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنـزل الله في المنافقين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ، الآية كلها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 142 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد - لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها, إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟- : لله مُلك المشرق والمغرب يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس, وقُطرَيْ مغربها, وما بينهما من العالم يَهدي من يشاء من خلقه، فيُسدده, ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو « الصراط المستقيم » - ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق.

وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله: « يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » ، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم - أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وكذلك جَعلناكم أمة وسطًا » ، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله, فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته, وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.

وقد بينا أن « الأمة » ، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم.

وأما « الوسَط » ، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه: « فلان وَسَطُ الحسب في قومه » ، أي متوسط الحسب, إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه, و « هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ » ،

كما يقال: « شاة يابِسةُ اللبن ويَبَسةُ اللبن » , وكما قال جل ثناؤه: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا [ سورة طه: 77 ] ، وقال زُهير بن أبي سُلمى في « الوسط » :

هُـمُ وَسَـطٌ تَـرْضَى الأنـامُ بِحُكْمِهِمْ إذَا نـزلَتْ إحْـدَى الليَـالِي بِمُعْظَــمِ

قال أبو جعفر: وأنا أرى أن « الوسط » في هذا الموضع، هو « الوسط » الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين, مثل « وسَط الدار » محرَّك الوَسط مثقَّله, غيرَ جائز في « سينه » التخفيف.

وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم « وسَط » ، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك, إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها.

وأما التأويل، فإنه جاء بأن « الوسط » العدلُ. وذلك معنى الخيار، لأن الخيارَ من الناس عُدولهم.

ذكر من قال: « الوسطُ » العدلُ.

حدثنا سَلْم بن جُنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش, عن أبي صالح، عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا » قال، عُدولا.

حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا حدثنا جعفر بن عون, عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح, عن أبي سعيد الخدري: « وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا » قال، « عدولا » .

حدثني علي بن عيسى قال : حدثنا سعيد بن سليمان, عن حفص بن غياث, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « جعلناكم أمَّة وسطًا » قال، عدولا.

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد: « وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أمة وسَطًا » قال، عُدولا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « أمة وسَطًا » قال، عدولا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وكذلك جعلناكم أمة وَسَطًا » ، يقول: جعلكم أمةً عُدولا.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن رِشْد بن سعد قال، أخبرنا ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا » قال، الوسطُ العدل.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير: « أمة وَسَطًا » ، قالوا: عُدولا. قال مجاهد: عَدْلا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وكذلك جَعلناكم أمهً وسطًا » قال، هم وَسَطٌ بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

قال أبو جعفر: « والشهداء » جمع « شَهيد » .

فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا عُدولا [ لتكونوا ] شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أممها بالبلاغ، أنها قد بلغت ما أُمرَت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها, ويكونَ رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي، كما:-

حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ ما أرسِلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير! فيقال له: من يعلم ذاك؟ فيقول: محمد وأمته. فهو قوله: « وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا » .

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال, حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه - إلا أنه زاد فيه: فيُدعون ويَشهدون أنه قد بلَّغ.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد: « وكذلك جعلناكم أمة وسَطًا لتكونوا شُهداءَ عَلى الناس » - بأن الرسل قد بلَّغوا- « ويكونَ الرسول عليكم شهيدًا » . بما عملتم، أو فعلتم.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أبي مالك الأشجعي, عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس: أن مُكاتبًا لهم حَدّثهم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة، ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال: « ويكونَ الرسول عليكم شَهيدًا » .

حدثني عصام بن روَّاد بن الجرّاح العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير, عن عبد الله بن أبي الفضل, عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة, فلما صلى على الميت قال الناس: نِعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت! ثم خرجت مَعه في جنازة أخرى, فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت. فقام إليه أبيّ بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولك وجبت؟ قال: قول الله عز وجل: « لتكونوا شُهداء على الناس » .

حدثني عليّ بن سَهل الرملي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني أبو عمرو، عن يحيى قال، حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال، حدثني أبو هريرة قال: أُتي رَسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة, فقال الناس: نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصَام عن أبيه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع, عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها بثناء حَسن, فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى, فأثنِيَ عليها دون ذلك, فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ الآية [ سورة التوبة: 105 ] .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لتكونوا شهداء على الناس » ، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [ أبو ] عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح قال: يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة نَادِيَهُ ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، حدثني ابن أبي نجيح, عن أبيه قال، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, فذكر مثله, ولم يذكر عبيد بن عمير، مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة « لتكونوا شُهداء على الناس » ، أي أنّ رسلهم قد بلغت قومَها عن ربّها, « ويكون الرسول عليكم شَهيدًا » ، على أنه قد بلغ رسالات ربِّه إلى أمته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم: أنّ قوم نوح يَقولونَ يوم القيامة: لم يبلِّغنا نوحٌ! فيدعَى نوح عليه السلام فيسأل: هل بلغتهم؟ فيقول : نعم. فيقال: من شُهودك؟ فيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتُسألون فتقولون: نعم، قد بلّغهم. فتقول قوم نوح عليه السلام: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم, وأنـزل عليه أنه قد بلغكم, فصدَّقناه. قال: فيصدّق نوح عليه السلام ويكذبونهم. قال: « لتكونوا شُهداء على الناس ويَكونَ الرسول عليكم شهيدًا »

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « لتكونوا شُهداء على الناس » ، لتكون هذه الأمة شُهداء على الناس أنّ الرسل قد بلَّغتهم, ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدًا, أن قد بلَّغ ما أرسل به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم: أنّ الأمم يقولُون يوم القيامة: والله لقد كادت هذه الأمَّة أن تكون أنبياءَ كلهم! لما يرون الله أعطاهم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن رِشْدين بن سعد, قال أخبرني ابن أنعم المعافري, عن حبان بن أبي جبلة يُسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة, كان أوَّلَ من يدعى إسرافيلُ, فيقول له ربه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رَبّ، قد بلغته جبريل عليهما السلام, فيدعى جبريل، فيقال له: هل بَلغك إسرافيلُ عهدي! فيقول: نعم ربّ، قد بلغني. فيخلَّى عن إسرافيلُ, ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، قد بلغتُ الرسل. فتُدعى الرسل فيقال لهم: هل بلَّغكم جبريلُ عهدي؟ فيقولون: نعم ربَّنا. فيخلَّى عن جبريل, ثم يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلَّغنا أممنا. فتدعى الأمم، فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم المصدِّق, فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهودًا يَشهدون أنْ قد بلَّغنا مع شَهادتك. فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمَّة محمد. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فيقول : أتشهدون أنّ رسُلي هؤلاء قد بلَّغوا عهدي إلى من أرسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم ربَّنا شَهدنا أنْ قد بلَّغوا. فتقول تلك الأمم. كيف يشهد علينا من لم يُدركنا؟ فيقول لهم الرب تباركَ وتعالى: كيف تشهدون عَلى من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنـزلت إلينا عهدك وكتابك, وقصَصَت علينا أنّهم قد بلَّغوا, فشهدنا بما عهدْتَ إلينا. فيقول الرب : صدَقوا. فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا - والوسطُ العَدْل- « لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا » . قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من كان في قلبه حِنَةٌ على أخيه.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « لتكونوا شُهداء على الناس » ، يعني بذلك. الذين استقاموا على الهُدى, فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « لتكونوا شهداء على الناس » ، يقول: لتكونوا شهداء على الأمم الذين خَلَوا من قبلكم، بما جاءتهم رسلهم, وبما كذّبوهم, فقالوا يوم القيامة وعَجِبوا: إنّ أمة لم يكونوا في زماننا, فآمنوا بما جاءتْ به رسلنا, وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب. قوله: « ويكُون الرسولُ عليكم شهيدًا » ، يعني بإيمانهم به, وبما أنـزل عليه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس: « لتكونوا شُهداء على الناس » ، يعني: أنهم شَهدوا على القرون بما سمَّى الله عز وجل لَهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله: « لتكونوا شهداء على الناس » ؟ قال: أمة محمد، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمانُ والهدى، ممن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثير. قال: وقال عطاء: شهداء على مَنْ ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين, جاء ذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، « ويكون الرسولُ عليكمْ شهيدًا » على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصَدَّقوا به.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « لتكونوا شُهداء عل الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا » قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّته, وهم شهداء على الأمم, وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [ سورة غافر: 51 ] الأربعة: الملائكة الذين يُحصُون أعْمالنا، لنا وعلينا، وقرأ قوله: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ سورة ق: 21 ] ، وقال: هذا يوم القيامة. قال: والنبيون شُهداء على أممهم. قال: وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شُهداء على الأمم. قال: [ والأطوار ] الأجساد والجلود.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها » ، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه.

والقبلة التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها، التي عناها الله بقوله: « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها » ، هي القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها » ، يعني: بيت المقدس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: « وما جَعلنا القِبلة التي كنتَ عليها » . قال: القِبلة بيتُ المقدس.

قال أبو جعفر: وإنما ترك ذكر « الصرف عنها » ، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نَظائره.

وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في القِبلة، إنما كانت - فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة, حتى ارتدَّ - فيما ذكر- رجالٌ ممن كان قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأظهرَ كثيرٌ من المنافقين من أجل ذلك نفاقَهم, وقالوا: ما بَالُ محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا للمؤمنين.

فلذلك قال جل ثناؤه: « ومَا جَعلنا القِبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عَقبيه » ، أي: ومَا جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها, وتحويلك إلى غيرها, كما قال جل ثناؤه: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ سورة الإسراء: 60 ] بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنةٌ, وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنةٌ ولا محْنة.

ذكر الأخبار التي رُويت في ذلك بمعنى ما قلنا:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قَال: كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتمحيصٌ. صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حوْلين قَبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قُدومه المدينةَ مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعةَ عشر شهرًا, ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام, فقال في ذلك قائلون من الناس: مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ؟ لقد اشتاق الرجُل إلى مولده! قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . فقال أناسٌ - لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام- : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنـزل الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ . وقد يَبتلي الله العبادَ بما شَاءَ من أمره، الأمرَ بعدَ الأمر, ليعلم مَنْ يطيعه ممن يَعصيه، وكل ذلك مقبول، إذْ كان في [ ذلك ] إيمان بالله, وإخلاصٌ له, وتسليم لقضائه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس, فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، اختلف الناس فيها, فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده, ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ, فتوجه بقبلته إليكم, وعلم أنكم كنتم أهدى منه, ويوشك أنْ يدخل في دينكم! فأنـزل الله جل ثناؤه في المنافقين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إلى قوله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ، وأنـزل في الآخرين الآيات بعدها.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: « إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلبُ على عَقبيه » ؟ فقال عطاء: يبتليهم، ليعلم من يُسلم لأمره. قال ابن جريج: بلغني أنّ ناسًا ممن أسلم رَجعوا فقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا!

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، إلا بعد اتباع المتّبع, وانقلاب المنقلب على عقبيه, حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه؟

قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها، وليس قوله: « وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه » يخبر [ عن ] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجُوده.

فإن قال: فما معنى ذلك؟

قيل له : أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه: « إلا لنعلم » ، ومعناه: ليعلمَ رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤهُ من حزبه, وكان من شَأن العرب إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس, ومَا فعل بهم إليه، نحو قولهم: « فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق, وجَبى خَرَاجها » , وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك. وكالذي رُوي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي, واستقرضته فلم يقرضني, وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله: استقرضتُ عَبدي فلم يُقرضني, وشتمني ولم يَنبغ له أن يشتُمني! يقول: وادَهراه! وأنا الدهر، أنا الدهر.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه, وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.

وقد حكي عن العرب سماعًا: « أجوع في غَيْر بَطني, وأعرى في غير ظهْري » , بمعنى: جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم,

فكذلك قوله: « إلا لنعلم » ، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وما جَعلنا القبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه » ، قال ابن عباس: لنميّز أهلَ اليقين من أهل الشرك والريبة.

وقال بعضهم: إنما قيل ذلك، من أجل أن العرَب تَضع « العلم » مكان « الرؤية » , و « الرؤية » مكان « العلم » , كما قَال جلّ ذكره: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [ سورة الفيل: 1 ] ، فزعم أن معنى « ألم تر » ، ألم تعلم؟ وزعم أن معنى قوله: « إلا لنعلم » ، بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أنّ قول القائل: « رأيتُ، وعَلمت، وشَهدت » ، حروفٌ تتعاقب، فيوضَع بعضها موضع بعض, كما قال جرير بن عطية

كَــأَنَّكَ لَـمْ تَشْـهَدْ لَقِيطًـا وَحَاجِبًـا وَعَمْــرَو بـن عَمْــرٍو إذْ دَعَـا يَالَ دَارِمِ

بمعنى: كأنك لم تعلم لَقيطًا، لأنّ بين هُلْك لَقيط وحاجب وزمان جرير، ما لا يخفى بُعده من المدة. وذلك أنّ الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية, وجريرٌ كان بعد بُرْهة مَضَت من مجيء الإسلام.

قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيدٌ, من أجل أنّ « الرؤية » ، وإن استعملت في موضع « العلم » ، من أجل أنه مستحيلٌ أن يرى أحدٌ شيئًا, فلا توجب رؤيته إياه علمًا بأنه قد رآه، إذا كان صحيح الفطرة. فجاز من الوجه الذي أثبته رؤيةً، أن يُضَاف إليه إثباتُهُ إياه علمًا، وصحّ أن يدلّ بذكر « الرؤية » على معنى « العلم » من أجل ذلك. فليس ذلك، وإن كان [ جائزا ] في الرؤية - لما وصفنا- بجائز في العلم، فيدلّ بذكر الخبر عن « العلم » على « الرؤية » . لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يَرَى شيئًا إلا علمه, كما قد قدمنا البيان [ عنه ] . مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال: « علمت كذا » ، بمعنى رأيته. وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنـزله على محمد صلى الله عليه وسلم منَ الكلام، إلى ما كان موجودًا مثله في كلام العرب، دون ما لم يكن موجودًا في كلامها. فموجود في كلامها « رأيت » بمعنى: علمت, وغير موجود في كلامها « علمت » بمعنى: رأيت, فيجوز توجيه: « إلا لنعلم » إلى معنى: إلا لنرى.

وقال آخرون: إنما قيل: « إلا لنعلم » ، من أجل أنّ المنافقين واليهودَ وأهلَ الكفر بالله، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يَعلم الشيءَ قبل كونه. وقالوا - إذ قيل لهم: إن قومَا من أهل القبلة سيرتدُّون على أعقابهم, إذا حُوِّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة- : ذلك غير كائن! أو قالوا: ذلك باطل! فلما فَعل الله ذلك, وحوَّل القبلة, وكفر من أجل ذلك من كفر, قال الله جل ثناؤه: ما فعلتُ إلا لنعلم ما علمه غَيركم- أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه- : أنّي عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد.

فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله: « إلا لنعلم » : إلا لنبيّن لكم أنّا نعلمُ من يَتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. وهذا وإن كان وَجهًا له مَخرج, فبعيدٌ من المفهوم.

وقال آخرون: إنما قيل: « إلا لنعلم » ، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال, على وجه الترفّق بعباده, واستمالتهم إلى طاعته، كما قال جل ثناؤه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ سورة سبأ: 24 ] ، وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين, ولكنه رَفقَ بهم في الخطاب, فلم يقل: أنّا على هدى, وأنتم على ضلال. فكذلك قوله: « إلا لنعلم » ، معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالا به قبل أن يكونَ. فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم.

وقد بيَّنا القول الذي هو أوْلى في ذلك بالحقّ.

وأما قوله: « مَنْ يتَّبع الرسول » . فإنه يعني: الذي يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به, فيوجِّه نحو الوَجه الذي يتوَجَّه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: « ممن يَنقلب على عَقبيه » ، فإنه يعني: من الذي يرتدُّ عن دينه, فينافق, أو يكفر, أو مخالف محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذلك، ممن يظهر اتِّباعه، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما جَعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه » قال، مَنْ إذا دخلتْه شُبهة رجع عن الله, وانقلب كافرًا على عَقبيه.

وأصل « المرتد على عقبيه » ، هو: « المنقلب على عقبيه » ، الراجع مستدبرًا في الطريق الذي قد كان قطعه، منصرفًا عنه. فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه، من دين أو خير. ومن ذلك قوله: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [ سورة الكهف: 64 ] ، بمعنى: رَجعا في الطريق الذي كانا سَلكاه، وإنما قيل للمرتد: « مرتد » , لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها.

وإنما قيل: « رجع عَلى عقبيه » ، لرجوعه دُبُرًا على عَقبه، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مَرْجعه عنه. فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرًا وآخذٍ آخرَ غيره، إذا انصرف عما كان فيه، إلى الذي كان له تاركًا فأخذه. فقيل: « ارتد فلان على عَقِبه, وانقلب على عَقبيه » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت « كبيرة إلا على الذين هَدى الله » .

فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه ب « الكبيرة » ، التوليةُ من بيت المقدس شطرَ المسجد الحرام والتحويلُ. وإنما أنَّث « الكبيرة » ، لتأنيث « التولية » .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قال الله: « وإن كانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله » ، يعني: تحويلَها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: « وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله » قال، ما أمِروا به من التحوُّل إلى الكعبة من بيت المقدس.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لكبيرة إلا على الذين هَدى الله » قال، كبيرة، حين حُولت القبلة إلى المسجد الحرام, فكانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله.

وقال آخرون: بل « الكبيرة » ، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجَّه إليها من بيت المقدس قبلَ التحويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: « وإن كانت لكبيرة » ، أي: قبلةُ بيت المقدس - « إلا على الذين هدى الله » .

وقال بعضهم: بل « الكبيرة » هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى.

ذكر من قال ذلك.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله » قال، صلاتكم حتى يهديَكم اللهُ عز وجل القِبلةَ.

وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن كانت لَكبيرة » قال، صلاتك هاهنا - يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا- وانحرافُك هاهنا

وقال بعض نحويي البصرة: أنِّثت « الكبيرة » لتأنيث القبلة, وإياها عنى جل ثناؤه بقوله: « وإن كانت لكبيرة » .

وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت « الكبيرة » لتأنيث التولية والتحويلة

فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنتَ عليها وتوليتُناك عنها، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه, وإن كانت تحويلتُنا إياك عنها وتوليتُناكَ « لكبيرة إلا على الذين هدى الله » .

وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب. لأن القوم إنما كبُر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وَجْهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم. إلا أن يوجِّه موجِّه تأنيث « الكبيرة » إلى « القبلة » , ويقول: اجتُزئ بذكر « القبلة » من ذكر « التولية والتحويلة » ، لدلالة الكلام على معنى ذلك, كما قد وصفنا لك في نظائره. فيكون ذلك وجهًا صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا.

ومعنى قوله: « كبيرة » ، عظيمة، . كما:-

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وإن كانت لكبيرة إلا عَلى الذين هدى الله » قال، كبيرة في صدور الناس، فيما يدخل الشيطانُ به ابنَ آدم. قال: ما لهم صلُّوا إلى هاهنا ستةَ عشر شهرًا ثم انحرفوا! فكبُر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا، فثبَّت الله جل ثناؤه ذلك قي قلوبهم، وقرأ قول الله « وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله » قال، صَلاتكم حَتى يهديكم إلى القبلة.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « إلا على الذين هَدى الله » ، فإنه يعني به:

وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنتَ عليها، لعظيمة إلا على من وّفَّقه الله جل ثناؤه، فهداهُ لتصديقك والإيمان بك وبذلك, واتباعِك فيه، وفيما أنـزل الله تعالى ذكره عليك، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله » ، يقول: إلا على الخاشعين, يعني المصدِّقين بما أنـزل الله تبارك وتعالى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ

قال أبو جعفر: قيل: عنى ب « الإيمان » ، في هذا الموضع: الصلاةَ.

ذكر الأخبار التي رُويت بذلك، وذكر قول من قاله:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وعبيد الله - وحدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا عبيد الله بن موسى- جميعًا، عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال، لما وُجِّه رَسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنـزل الله جل ثناؤه: « وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم » .

حدثني إسماعيل بن موسى قال، أخبرنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء في قول الله عز وجل: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال، صلاتكم نحوَ بَيت المقدس.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء نحوه.

وحدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحرّاني قال، حدثنا زهير قال، حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: مات على القبلة قبلَ أن تحوّل إلى البيت رجالٌ وقُتلوا, فلم ندر ما نَقول فيهم. فأنـزل الله تعالى ذكره: « وما كان الله ليُضيع إيمانكم » .

حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال، قال أناسٌ من الناس - لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام- : كيف بأعمالنا التي كنا نَعملُ في قبلتنا؟ فأنـزل الله جل ثناؤه: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » .

حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: لما وُجِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَل المسجد الحرام، قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنـزل الله جل ثناؤه فيهم: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك طاعة وهذه طاعة.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال ناسٌ - لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام- : كيف بأعمالنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « وما كانَ الله ليضيع إيمانكم » الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم قال، لما صُرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة, قال المسلمون: هَلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس! فنـزلت: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » .

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » ، يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة. فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ صلاتهم.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » ، صلاتكم.

حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال، أخبرنا المؤمل قال، حدثنا سفيان, حدثنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب في هذه الآية: « وما كان الله ليضيع إيمانكم » قال، صلاتكم نحو بيت المقدس.

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على أن « الإيمان » التصديق. وأن التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا.

فمعنى قوله: « وما كان الله ليُضيع إيمانكم » - على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة- : وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي, واتِّباعًا لأمْري, وطاعةً منكم لي.

قال: « وإضاعته إياه » جل ثناؤه - لو أضاعه- : تركُ إثابة أصْحابه وعامليه عليه, فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة « إضاعة الرجل ماله » , وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا آجل.

فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه, وإن نُسخ ذلك الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله.

فإن قال قائل: وكيفَ قال الله جل ثناؤه: « وما كان الله ليُضيع إيمانكم » ، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين, والقومُ المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس, وفي ذلك من أمرهم أنـزلت هذه الآية؟

قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك, فإنهم أيضًا قد كانوا مشفقين من حُبُوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة, وظنّوا أنّ عملهم ذلك قد بطلَ وذهب ضياعًا؟ فأنـزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ, فوجّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم. لأن من شأن العرب - إذا اجتمع في الخبر المخاطبُ والغائبُ- أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب. فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر: « فعلنا بكما وصنعنا بكما » ، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران, ولا يستجيزون أن يقولوا: « فعلنا بهما » ، وهم يخاطبون أحدهما، فيردّوا المخاطب إلى عِدَاد الغَيَب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 143 )

قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه: « إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ رحيمٌ » : أن الله بجميع عباده ذُو رأفة.

و « الرأفة » ، أعلى مَعاني الرحمة, وهي عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة.

وأما « الرحيم » : فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينا فيما مضى قبل.

وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنّ الله عز وجل أرْحمُ بعباده منْ أن يُضيع لهم طاعةً أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها, وأرأفُ بهم من أن يُؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم - أيْ ولا تأسوا عَلى مَوْتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس- , فإني لهم على طاعتهم إياي بصَلاتهم التي صلوها كذلك مثيبٌ, لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي؛ ولا تحزنوا عليهم, فإني غيرُ مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة, لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم, وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله.

وفي « الرءوف » لغات. إحداها « رَؤُف » على مثال « فَعُل » ، كما قال الوليد بن عقبة:

وَشـــرُّ الطــالِبِينَ - وَلا تَكُنْــه- بقَــاتِلِ عَمِّــه, الــرَّؤُفُ الرَّحِــيم

وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة. والأخرى « رَؤوف » على مثال « فعول » , وهي قراءة عامة قراء المدينة، و « رَئِف » , وهي لغة غطفان, على مثال « فَعِل » مثل حَذِر. و « رَأْف » على مثال « فَعْل » بجزم العين, وهي لغة لبني أسد.

والقراءة على أحد الوجهين الأوَّلين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء.

ويعني: ب « التقلب » ، التحوُّل والتصرُّف.

ويعني بقوله: « في السماء » ، نحو السماء وقِبَلها.

وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا- لأنه كان قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء » قال، كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء » ، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي نحو بيتَ المقدس, يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام, فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها.

حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء » ، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس, وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام, فولاه الله قبلةً كان يهواها.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس, فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره, كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر, وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنـزل الله جل ثناؤه: « قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء » الآية.

ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.

قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس, من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه, ويَستفرض للقبلة، فنـزلت: « قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام » ، - وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا!- في صلاة الظهر، . فجعل الرجالَ مكانَ النساء, والنساءَ مكانَ الرجال.

حدثني يونس قال, أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله - لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا, فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, ورفع وجهه إلى السماء, فقال الله جل ثناؤه: « قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام » الآية.

وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ إبراهيم, فكان يدعو وينظر إلى السماء, فأنـزل الله عز وجل: « قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء » الآية.

فأما قوله: « فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها » ، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة « ترضاها » : تَهواها وتُحبها.

وأما قوله: « فوَلِّ وجهك » ، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله.

وقوله: « شَطرَ المسجد الحَرَام » ، يعني: ب « الشطر » ، النحوَ والقصدَ والتّلقاء, كما قال الهذلي:

إنَّ العَسِــيرَ بهَــا دَاء مُخَامِرُهَــا فَشَــطْرَهَا نَظَـــرُ العَيْنَيْـنِ مَحْسُـورُ

يعني بقوله: « شَطْرَها » ، نحوها. وكما قال ابن أحمر:

تَعْـدُو بِنَـا شَـطْر جَـمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ, قَـدْ كَارَبَ العَقْــدُ مِـنْ إيفَادِهَـا الحَقَبَـا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن داود بن أبي هند, عن أبي العالية: « شَطْرَ المسجد الحَرَام » ، يعني: تلقاءه.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « شطر المسجد الحرام » ، نحوَه.

حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام » ، نَحوَه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة: « فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام » ، أي تلقاءَ المسجد الحرام.

حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام » قال، نحو المسجد الحرام.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام » ، أي تلقاءَه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: « شطرَه » ، نحوَه.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قال، قِبَله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « شَطْره » ، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه: « شُطوره » .

ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام.

فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله: « فلنولينَّك قبلة تَرْضاها » ، حيالَ ميزاب الكعبة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة, عن يعلى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة, عن عبد الله بن عمرو: « فلنولينَّك قبلة ترضاها » ، حيالَ ميزاب الكعبة.

وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم, عن يعلى بن عطاء, عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب, وتلا هذه الآية: « فلنولينك قِبلة ترضاها » قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم - بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه: « فلنولينك قبلة تَرضاها » .

وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ, وقبلةُ البيت الباب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ, وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: « فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام » ، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه, كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه, وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره, بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة, وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها, أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي, عن علي: « فول وجهك شطر المسجد الحرام » قال، شطُره، قبله.

قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:-

حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ, هذه القبلة.

حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عبد الملك بن أبي سليمان, عن عطاء, قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت, فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة, فقال: هذه القبلةُ مرتين.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن عبد الملك, عن عطاء, عن أسامة بن زيد, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله, ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها, ولم يصلِّ حتى خرج, فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة.

قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ البيت هو القبلة, وأن قبلة البيت بابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه.

و « الهاء » التي في « شطرَه » ، عائدة إلى المسجد الحرام.

فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى.

وأدخلت « الفاء » في قوله: « فولوا » ، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله: « حيثما كنتم » جزاء, ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ

يعني بقوله جل ثناؤه: « وإنّ الذين أوتُوا الكتاب » أحبارَ اليهود وعلماء النصارى.

وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن الذين أوتوا الكتاب » ، أنـزل ذلك في اليهود.

وقوله: « ليعلمون أنه الحق من ربهم » ، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب, يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده.

ويعني بقوله: « من رَبِّهم » أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره, وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 144 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام, ولا هو ساه عنه، ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء, ويثيبكم عليه أفضل ثواب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي « الآية » - بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام, ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا - مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام.

قال أبو جعفر: وأجيبت « لئن » بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ بالمستقبل تشبيهًا لها ب « لو » , فأجيبت بما تجاب به « لو » ، لتقارب معنييهما. وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. وأجيبت « لو » بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم أوّله إلا بآخره, ولا يتمُّ وحده, ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت « اللام » الأولى بمنـزلة يَمين، والثانية بمنـزلة جواب لها, كما قيل: « لعمرك لتقومَنَّ » إذ كثرت « اللام » من « لعمرك » ، حتى صارت كحرف من حروفه, فأجيب بما يجاب به الأيمان, إذ كانت « اللام » تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. فشبهت « اللام » التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا, فأجيبت بأجوبَتها.

فكانَ مَعنى الكلام - إذ كان الأمر على ما وصفنا- : لو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.

وأما قوله: « وما أنتَ بتابع قِبلتهم » ، يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها, وأن النصارى تستقبل المشرقَ, فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها, ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها.

وأما قوله: « وما بعضهم بتابع قبلة بعض » ، فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعةٍ قبلةَ النصارى, ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وما بعضهم بتاع قبلة بعض » ، يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى, ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنـزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إلى الكعبة, قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنـزل الله عز وجل فيهم: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ إلى قوله: لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض » ، مثل ذلك.

وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تُشعر نفسك رضَا هؤلاء اليهود والنصارى, فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى, وإن اتّبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود, فدع ما لا سبيل إليه, وادعُهم إلى ما لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة, وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 145 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ولئن اتبعت أهواءهم » ، ولئن التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ، فاتبعتَ قبلتهم - يعني: فرَجعت إلى قبلتهم.

ويعني بقوله: « من بَعد مَا جَاءك من العلم » ، من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق, ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها، « إنك إذًا لمن الظالمين » ، يعني: إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي الظَّلمةِ أنفسَهم, المخالفين أمري, والتاركين طاعتي, وأحدُهم وفي عِدادِهم.