القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 6 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: ( وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، وما تدبّ دابّة في الأرض .

و « الدابّة » « الفاعلة » ، من دبّ فهو يدبّ، وهو دابٌّ، وهي دابّة.

( إلا على الله رزقها ) ، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها ، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، في قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال: كل دابة

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، يعني: كلّ دابة ، والناسُ منهم.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ فهو « دابة » وأن معنى الكلام: وما دابة في الأرض وأن « من » زائدة.

وقوله: ( ويعلم مستقرها ) ، حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلا أو نهارًا ( ومستودعها ) الموضع الذي يودعها، إما بموتها ، فيه ، أو دفنها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن التيمي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: ( مستقرها ) حيث تأوي ( ومستودعها ) ، حيث تموت.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ويعلم مستقرها ) ، يقول: حيث تأوى ( ومستودعها ) ، يقول: إذا ماتت.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: ( يعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: « المستقر » ، حيث تأوي و « المستودع » ، حيث تموت.

وقال آخرون: ( مستقرّها ) ، في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويعلم مستقرها ) ، في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب، مثل التي في « الأنعام » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، فالمستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ويعلم مستقرها ) ، يقول: في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب.

وقال آخرون: « المستقر » في الرحم و « المستودع » ، حيث تموت.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ويعلى، وابن فضيل، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: « مستقرها » ، الأرحام و « مستودعها » : الأرض التي تموت فيها.

. . . . قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، « المستقر » الرحم، و « المستودع » المكان الذي تموت فيه.

وقال آخرون : ( مستقرها ) ، أيام حياتها ( ومستودعها ) ، حيث تموت فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قوله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: ( مستقرها ) ، أيام حياتها، و ( مستودعها ) : حيث تموت ، ومن حيث تبعث.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام.

ويعني بقوله: ( كل في كتاب ) ، [ مبين ] ، عدد كل دابة، ومبلغ أرزاقها ، وقدر قرارها في مستقرها، ومدة لبثها في مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب ( مبين ) ، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها.

وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، أنه قد علم الأشياء كلها، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها ، يقول لهم تعالى ذكره: فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثنوا به صدورهم ، واستغشوا عليه ثيابهم؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعًا ، ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) ، يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياءً بعد أن يميتكم؟

وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في الأيام الستة، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض ، من ذكر خلق ما فيهنّ.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل .

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( في ستة أيام ) ، قال: بدأ خلق الأرض في يومين، وقدّر فيها أقواتها في يومين.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وفرغ منها يوم الجمعة ، فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة . قال : فجعل مكان كل يوم ألف سنة.

وحدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) ، قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة . ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق يوم الجمعة ، فسميت « الجمعة » ، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا

وقوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، يقول: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن ، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قبل أن يخلق شيئًا .

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وكان عرشه على الماء ) ، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض.

حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عَمَاءٍ ،

ما فوقه هواء ، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء.

حدثنا ابن وكيع ، ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عَماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء .

حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا المسعودي قال، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، فجعل يبشِّرهم ويقولون: أعطنا ! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه، فقالوا: جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر؟ قال: فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا ! قالوا: قبلنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سماوات . ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب ، ولوددتُ أنّي تركتها.

حدثنا محمد بن منصور قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: كان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ لنفسه جنّةً، ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ، [ سورة الرحمن: 62 ] ، قال: وهي التي ( لا تعلم نفس ) أو قال: وهما التي لا تعلم نفس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، [ سورة السجدة: 17 ] . قال: وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها أو : ما فيهما يأتيهم كل يوم منها أو : منهما تحفة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد، عن ابن عباس، مثله.

. . . . قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا مبَشّر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله كان عرشه على الماء، وخلق السموات والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض، ثم قبض من صَفاة الماء [ قبضة ] ، ثم فتح القبضة فارتفع دخانًا ، ثم قضاهُنّ سبع سماوات في يومين. ثم أخذ طينة من الماء فوضعها مكان البيت، ثم دحا الأرض منها، ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين وخلق الأرض في يومين، ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع.

وقوله: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، يقول تعالى ذكره: وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام ( ليبلوكم ) ، يقول: ليختبركم ( أيكم أحسن عملا ) ، يقول: أيكم أحسن له طاعة ، كما:-

حدثنا عن داود بن المحبر قال ، حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا هذه الآية: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ؟

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، يعني الثقلين.

وقوله: ( ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنـزيلي ووحيي ( ليقولن إن هذا إلا سحر مبين ) ، أي : ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول ، إلا سحر لسامعه، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر.

وهذا على تأويل من قرأ ذلك: ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ،

وأما من قرأ: ( إِنْ هَذَا إِلا سَاحِرٌ مُبِينٌ ) ، فإنه يوجّه الخبر بذلك عنهم إلى أنهم وَصَفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه فيما أتاهم به من ذلك ساحرٌ مبين.

قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره ، فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته ههنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 8 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك ، يا محمد ، العذابَ فلم نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم إلى ( أمة معدودة ) ، ووقت محدود وسنين معلومة.

وأصل « الأمة » ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت. وإنما قيل للسنين « المعدودة » والحين ، في هذا الموضع ونحوه : أمة، لأن فيها تكون الأمة.

وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها.

وبنحو الذي قلنا من أن معنى « الأمة » في هذا الموضع، الأجل والحين ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، قال: إلى أجل محدود.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، بمثله.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( إلى أمة معدودة ) ، قال: أجل معدود.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: إلى أجل معدود.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إلى أمة معدودة ) ، قال: إلى حين.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

. . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، يقول: أمسكنا عنهم العذاب ( إلى أمة معدودة ) ، قال ابن جريج، قال مجاهد: إلى حين.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، يقول: إلى أجل معلوم.

وقوله: ( ليقولن ما يحبسه ) ، يقول: « ليقولن » هؤلاء المشركون « ما يحبسه » ؟ أي شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به؟ تكذيبًا منهم به، وظنًّا منهم أن ذلك إنَّما أخر عنهم لكذب المتوعّد كما:-

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال قوله: ( ليقولن ما يحبسه ) ، قال: للتكذيب به، أو أنه ليس بشيء.

وقوله: ( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم ) ، يقول تعالى ذكره تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره: ( ألا يوم يأتيهم ) العذابُ الذي يكذبون به ( ليس مصروفًا عنهم ) ، يقول: ليس يصرفه عنهم صارف، ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحل بهم فيهلكهم ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ، يقول: ونـزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله. وكان استهزاؤُهم به الذي ذكره الله ، قيلهم قبل نـزوله ( ما يحبسه ) ،و « هلا تأتينا » ؟.

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ، قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نـزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ( 9 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء وسعةً في الرزق والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا وهي « الرحمة » التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع ( ثم نـزعناها منه ) ، يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به ( إنه ليئوس كفور ) ، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله ، آيسًا من الخير.

وقوله: « يئوس » ، « فعول » ، من قول القائل: « يئس فلان من كذا ، فهو يئوس » ، إذا كان ذلك صفة له. .

وقوله: « كفور » ، يقول: هو كفُور لمن أنعم عليه، قليل الشكر لربّه المتفضل عليه ، بما كان وَهَب له من نعمته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور ) ، قال: يا ابن آدم ، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية ، فكفور لما بك منها، وإذا نـزعت منك نبتغي قَدْعك وعقلك فيئوس من روح الله، قنوطٌ من رحمته، كذلك المرء المنافق والكافر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( 10 ) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 11 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه، ورزقناه رخاءً في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه ، وذلك هي النّعم التي قال الله جل ثناؤه: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ ) وقوله: ( بعد ضراء مسته ) ، يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه ، وعسرة كان يعالجها ( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ) ، يقول تعالى ذكره: ليقولن عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد والمكاره ( إنه لفرح فخور ) ، يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لفرح بالنعم التي يعطاها مسرور بها

( فخور ) ، يقول: ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا ، وما بسط له فيها من العيش، وينسى صُرُوفها ، ونكدَ العَوَائص فيها، ويدع طلب النعيم الذي يبقى ، والسرور الذي يدوم فلا يزول.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ذهب السيئات عني ) ، غِرَّةً بالله وجراءة عليه ( إنه لفرح ) ، والله لا يحب الفرحين ( فخور ) ، بعد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله.

ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين: « الذين صبروا وعملوا الصالحات » . وإنما جاز استثناؤهم منه لأن « الإنسان » بمعنى الجنس ومعنى الجمع. وهو كقوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، [ سورة العصر: 1- 3 ] ،

فقال تعالى ذكره: ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) ، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها ، لم يثنهم ذلك عن طاعة الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها رخاء وسعةً ، شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله: ( أولئك لهم مغفرة ) يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم ( وأجر كبير ) ، يقول: ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم ، ثوابٌ على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا، جزيلٌ، وجزاءٌ عظيم.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إلا الذين صبروا ) ، عند البلاء ، ( وعملوا الصالحات ) ، عند النعمة ( أولئك لهم مغفرة ) ، لذنوبهم ( وأجر كبير ) ، قال: الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 12 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلعلك يا محمد ، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك، وضائقٌ بما يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم ، مخافة ( أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك ) ، له مصدّق بأنه لله رسول ! يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك، فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي ، وتحذرهم بأسي على كفرهم بي، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني ، أنـزلها إذا شئت، وليس عليك ، إلا البلاغ والإنذار ( والله على كل شيء وكيل ) ، يقول: والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات، من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال الله لِنبيه: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أن تفعل فيه ما أمرت ، وتدعو إليه كما أرسلت. قالوا: ( لولا أنـزل عليه كنـز ) ، لا نرى معه مالا أين المال؟ ( أو جاء معه ملك ) ، ينذر معه؟ ( إنما أنت نذير ) ، فبلغ ما أمرت.