القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ( 20 )

قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله: ( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) ، هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله، يقول جل ثناؤه: إنهم لم يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم، ولكنهم في قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربًا إذا طلبهم ( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) ، يقول: ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصارٌ ينصرونهم من الله ، ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذبهم، وقد كانت لهم في الدنيا مَنْعَة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء وقوله: ( يضاعف لهم العذاب ) ، يقول تعالى ذكره: يزاد في عذابهم، فيجعل لهم مكان الواحد اثنان.

وقوله: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، فإنه اختلف في تأويله.

فقال بعضهم: ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرون حجج الله ، سَمَاعَ منتفع ، ولا إبصارَ مهتدٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، صم عن الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه، ولا ينتفعون به

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به، ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك ، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا ، فإنه قال: ( ما كانوا يستطيعون السمع ) ، وهي طاعته ( وما كانوا يبصرون ) . وأما في الآخرة ، فإنه قال: فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً ، [ سورة القلم: 42، 43 ] .

وقال آخرون: إنما عنى بقوله: ( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) ، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله. وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم ، ( لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، يعني الآلهة ، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده.

وقال آخرون: معنى ذلك: يُضَاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها. قالوا: و « الباء » كان ينبغي لها أن تدخل، لأنه قد قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ، [ سورة البقرة: 10 ] ، بكذبهم ، في غير موضع من التنـزيل أدخلت فيه « الباء » ، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في الكلام : « لأجزينَّك ما علمت ، وبما علمت » ، وهذا قول قاله بعض أهل العربية.

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما قاله ابن عباس وقتادة، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 21 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) ، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله ، بادعائهم له شركاء، فسلك ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله غير مسلكهم، وأخذ طريقًا غير طريقهم، فضَلّ عنهم، لأنه سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلهتهم عدمًا لا شيء، لأنها كانت في الدنيا حجارة أو خشبًا أو نحاسًا أو كان لله وليًّا، فسلك به إلى الجنة، وذلك أيضًا غير مسلكهم، وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 22 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو الخسران المبين.

وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم: « جَرمتُ » ، كسبت الذنب و « جرمته » ، وأن العرب كثر استعمالها إياه في مواضع الأيمان، وفي مواضع « لا بد » كقولهم: « لا جرم أنك ذاهب » ، بمعنى: « لا بد » ، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق ، فقالوا: « لا جَرَم لتقومن » ، بمعنى: حَقًّا لتقومن. فمعنى الكلام: لا منع عن أنهم، ولا صدّ عن أنهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 23 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا في الدنيا بطاعة الله و « أخبتوا إلى ربهم » .

واختلف أهل التأويل في معنى « الإخبات » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلى ربهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ) ، قال: « الإخبات » ، الإنابة.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، يقول: وأنابوا إلى ربهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: وخافوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، يقول: خافوا.

وقال آخرون: معناه: اطمأنوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، قال: اطمأنوا.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقال آخرون: معنى ذلك: خشعوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وأخبتوا إليهم ربهم ) ، « الإخبات » ، التخشُّع والتواضع

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني ، وإن اختلفت ألفاظها، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة، والطمأنينة إليه من الخشوع له، غير أن نفس « الإخبات » ، عند العرب : الخشوع والتواضع.

وقال: ( إلى ربهم ) ، ومعناه: وأخبتوا لربهم. وذلك أن العرب تضع « اللام » موضع « إلى » و « إلى » موضع « اللام » كثيًرا، كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ، [ سورة الزلزلة: 5 ] بمعنى: أوحى إليها. وقد يجوز أن يكون قيل ذلك كذلك، لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله.

وقوله: ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم ، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 24 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا ، والأصم الذي لا يسمع شيئًا ، فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به، لشغله بكفره بالله ، وغلبة خذلان الله عليه، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد، فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به، فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في حيرته. والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان ، أبصر حجج الله، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله ، والبراءة من الآلهة والأنداد ، ونبوة الأنبياء عليهم السلام ، وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله، كما:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، قال: « الأعمى » و « الأصم » : الكافر و « البصير » و « السميع » ، المؤمن

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، الفريقان الكافران، والمؤمنان، فأما الأعمى والأصم فالكافران، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، الآية، هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به ، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به.

يقول تعالى: ( هل يستويان مثلا ) ، يقول: هل يستوي هذان الفريقان على اختلاف حالتيهما في أنفسهما عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا يستويان عندكم، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان عند الله ( أفلا تذكرون ) ، يقول جل ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون، ، فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما، فتنـزجروا عما أنتم عليه من الضلال إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان؟

فالأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، في اللفظ أربعة، وفي المعنى اثنان. ولذلك قيل: ( هل يستويان مثلا ) .

وقيل: ( كالأعمى والأصم ) ، والمعنى: كالأعمى الأصمّ، وكذلك قيل ( والبصير والسميع ) ، ، والمعنى: البصير السميع، كقول القائل: « قام الظريف والعاقل » ، وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 25 ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 26 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه : إني لكم ، أيها القوم ، نذير من الله، أنذركم بأسَه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره.

ويعني بقوله: ( مبين ) ، يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه.

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إني ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة وبعض المدنيين بكسر « إنّ » على وجه الابتداء إذ كان في « الإرسال » معنى « القول » .

وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح « أن » على إعمال الإرسال فيها، كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال إنهما قراءتان متفقتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ كان مصيبًا للصواب في ذلك.

وقوله: ( أن لا تعبدوا إلا الله ) فمن كسر الألف في قوله: ( إني ) جعل قوله: ( أرسلنا ) عاملا في « أنْ » التي في قوله: ( أن لا تعبدوا إلا الله ) ، ويصير المعنى حينئذ: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، أن لا تعبدوا إلا الله، وقل لهم : إني لكم نذير مبين ومن فتحها ردّ « أنْ » في قوله: ( أن لا تعبدوا ) عليها. فيكون المعنى حينئذ: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين، بأن لا تعبدوا إلا الله.

ويعني بقوله: [ بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناس ] ، عبادة الآلهة والأوثان ،

وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله بالتوحيد ، وأخلصوا له العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه.

وقوله: ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) ، يقول: إني أيها القوم ، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد ، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان أخاف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عقابُه وعذابُه لمن عُذِّب فيه.

وجعل « الأليم » من صفة « اليوم » وهو من صفة « العذاب » ، إذ كان العذاب فيه ، كما قيل: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ، [ سورة الأنعام: 96 ] ، وإنما « السكن » من صفة ما سكن فيه دون الليل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( 27 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم وهم ( الملأ ) ، الذين كفروا بالله وجحدوا نبوة نبيهم نوح عليه السلام ( ما نراك ) ، يا نوح، ( إلا بشرًا مثلنا ) ، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة والجنس، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا إلى خلقه.

وقوله: ( وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس ، دون الكبراء والأشراف ، فيما نرَى ويظهر لنا.

وقوله: ( بادي الرأي ) ، اختلفت القرأة في قراءته.

فقرأته عامة قرأة المدينة والعراق: ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) ، بغير همز « البادي » وبهمز « الرأي » ، بمعنى: ظاهر الرأي، من قولهم: « بدا الشيء يبدو » ، إذا ظهر، كما قال الراجز:

أَضْحَـى لِخَـالِي شَـبَهِيَ بَـادِي بَدِي وَصَــارَ لِلْفَحْــلِ لِسَــانِي وَيَـدِي

« بادي بدي » بغير همز، وقال آخر:

وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي

وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: ( بَادِئَ الرَّأْيِ ) ، مهموزًا أيضًا، بمعنى: مبتدأ الرأي، من قولهم: « بدأت بهذا الأمر » ، إذا ابتدأت به قبل غيره.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأ: ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) بغير همز « البادي » ، وبهمز « الرأي » ، لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا ، في ظاهر الرأي ، وفيما يظهر لنا.

وقوله: ( وما نرى لكم علينا من فضل ) ، يقول: وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم طلبَ ذلك الفضل ، وابتغاءَ ما أصبتموه بخلافكم إيانا ( بل نظنكم كاذبين ) .

وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام، وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج الخطابَ وهو واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ سورة الطلاق: 1 ] .

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: بل نظنك ، يا نوح ، في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا.

وبنحو ما قلنا في تأويل قوله ( بادي الرأي ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، قال: فيما ظهر لنا

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ( 28 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه ، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: ( يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها ( وآتاني رحمة من عنده ) ، يقول: ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني ( فعميت عليكم ) .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: ( فَعَمِيَتْ ) بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى: فعَمِيت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها ، فتقرّوا بها ، وتصدّقوا رسولكم عليها.

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم، اعتبارًا منهم ذلك بقراءة عبد الله، وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله: ( فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ ) .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكَروا من العلة لمن قرأ به، ولقربه من قوله: ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده ) ، فأضَاف « الرحمة » إلى الله، فكذلك « تعميته على الآخرين » ، بالإضافة إليه أولى.

وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق، إذ يعمى عن إبصاره، و « الحق » لا يوصف بالعمى ، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم: « دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي » ، ومعلوم أن الرجل هي التي تدخل في الخفّ، والإصبع في الخاتم، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك ، لما كان معلومًا المرادُ فيه.

وقوله: ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، يقول: أنأخذكم بالدخول في الإسلام ، وقد عماه الله عليكم ( وأنتم لها كارهون ) ، يقول: وأنتم لإلزامناكُموها « كارهون » ، يقول: لا نفعل ذلك، ولكن نكل أمركم إلى الله ، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال نوح: ( يا قوم إن كنت على بينة من ربي ) ، قال: قد عرفتها ، وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو ( وآتاني رحمة من عنده ) ، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، الآية، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) .

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، أخبرنا عمرو بن دينار قال، قرأ ابن عباس: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا ) ، قال ، عبد الله: « من شَطْر أنفسنا » ، من تلقاء أنفسنا.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس ، مثله.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ ) .