القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 46 )

قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( ليس من أهلك ) .

فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك ، هو من غيرك. وقالوا: كان ذلك من حِنْثٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لم يكن ابنه.

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: ابن امرأته.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم ، [ عن ] الحسن قال: لا والله ، ما هو بابنه.

. . . . قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه، كان ابن امرأته.

حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم، عن عوف، ومنصور، عن الحسن في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لم يكن ابنه. وكان يقرؤها: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: « نادى نوح ابنه » ، لعمْر الله ما هو ابنه ! قال: قلت : يا أبا سعيد يقول: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وتقول: ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: سمعت الحسن يقرأ هذه الآية: ( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) ، فقال عند ذلك: والله ما كان ابنه . ثم قرأ هذه الآية: فَخَانَتَاهُمَا ، [ سورة التحريم: 10 ] قال سعيد: فذكرت ذلك لقتادة، قال: ما كان ينبغي له أن يحلف.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قال: تبيّن لنوح أنه ليس بابنه.

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه.

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

قال ابن جريج في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لو كان من أهله لنجا.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عبيد بن عمير يقول: نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم « الولد للفراش » ، من أجل ابن نوح.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن قال: لا والله ما هو بابنه.

وقال آخرون: معنى ذلك: ( ليس من أهلك ) الذين وعدتك أن أنجيهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: هو ابنه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان قال ، حدثنا أبو عامر، عن الضحاك قال: قال ابن عباس: هو ابنه، ما بغت امرأة نبيٍّ قطُّ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا الثوري، عن أبي عامر الهمدانيّ، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال، ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، الذين وعدتك أن أنجيهم معك.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هو ابنه: غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض الحروف: ( إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ ) ، والخيانة تكون على غير بابٍ.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان عكرمة يقول: كان ابنه، ولكن كان مخالفًا له في النية والعمل، فمن ثم قيل له: ( إنه ليس من أهلك ) .

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى: فَخَانَتَاهُمَا ، [ سورة التحريم: 10 ] ، قال: أما إنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل ، على الأضياف. ثم قرأ: ( إنه عملٌ خير صالح ) قال ابن عيينة: وأخبرني عمار الدُّهني : أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كانَ ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: وقال بعض العلماء: ما فجرت امرَأة نبيٍّ قط.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير قال: قال الله ، وهو الصادق، وهو ابنه: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ .

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبن يمان، عن سعيد، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: ما بَغَت امرأة نبي قط.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، قال: سألت أبا بشر عن قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: ليس من أهل دينك، وليس ممن وعدتك أن أنجيهم قال يعقوب: قال هشيم: كان عامة ما كان يحدِّثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبيد، عن يعقوب بن قيس قال: أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، الذي ذكر الله في كتابه « ابن نوح » أبنُه هو؟ قال: نعم، والله إن نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى، فقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ، قال: ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) ، لمعصية نبي الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير : أنه جاء إليه رجل فسأله . فقال: أرأيتك ابن نُوح أبنه؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال: لا إله إلا الله، يحدِّث الله محمدًا: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول ليس منه ؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن.

حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: أشهد أنه ابنه، قال الله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا هو ابنه.

حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال، قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح ، فقال: ألا تعجبون إلى هذا الأحمق ! يسألني عن ابن نوح، وهو ابن نوح كما قال الله: قال نوح لابنه.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد، عن الضحاك أنه قرأ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وقوله: ( ليس من أهلك ) ، قال: يقول: ليس هو من أهلك. قال: يقول: ليس هو من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: يقول كان عمله في شرك.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك قال، هو والله ابنه لصُلْبه.

حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: ( ليس من أهلك ) ، قال: ليس من أهل دينك، ولا ممن وعدتك أن أنجيه، وكان ابنه لصلبه.

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك ) ، يقول: ليس ممن وعدناه النجاة.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، يقول: ليس من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك ( إنه عمل غير صالح ) ، يقول: كان عمله في شرك.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون، وثابت بن الحجاج قالا هو ابنه ، ولد على فراشه.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفًا ، وبي كافرًا وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: ( ليس من أهلك ) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف « الدين » فيقال: ( إنه ليس من أهلك ) ، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ، [ سورة يوسف: 82 ] .

وأما قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، فإن القراء اختلفت في قراءته.

فقرأته عامة قراء الأمصار: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) بتنوين « عمل » ورفع « غير » .

واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله.

فقال بعضهم: معناه: إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنه عمل غير صالح ) ، أي سوء ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) .

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، يقول: سؤالك عما ليس لك به علم.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مجاهد قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: سؤالك إياي، عمل غير صالح ( فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ ) .

وقال آخرون: بل معناه: إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن أنجيه ، عملٌ غير صالح، أي : أنه لغير رشدة . وقالوا: « الهاء » ، في قوله: « إنه » عائدة على « الابن » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أنه قرأ: ( عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ، قال: ما هو والله بابنه.

وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا ذلك: ( إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) ، على وجه الخبر عن الفعل الماضي، وغير منصوبة. وممن روي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ، ابنُ عباس.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة، عن ابن عباس أنه قرأ: ( عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) .

ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما:-

حدثنا به ابن وكيع قال ، حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) ، قال: كان مخالفًا في النية والعمل.

قال أبو جعفر: ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار ، إلا بعض المتأخرين، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك ، غيرِ صحيح السند. وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب، فمرة يقول : « عن أم سلمة » ، ومرة يقول : « عن أسماء بنت يزيد » ، ولا نعلم أبنت يزيد [ يريد ] ؟ ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أمّ سلمة.

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وذلك رفع ( عَمَلٌ ) بالتنوين، ورفع ( غَيْرُ ) ، يعني: إن سؤالك إياي ما تسألنيه في أبنك المخالفِ دينَك ، الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم عملٌ غير صالح، لأنَّه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدّم مني القول بأني أفعله ، في إجابتي مسألتك إياي فعله. فذلك هو العمل غير الصالح.

وقوله: ( لا تسألن ما ليس لك به علم ) ، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم « إني أعظك أن تكون من الجاهلين » في مسألتك إياي عن ذلك.

وكان ابن زيد يقول في قوله: ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، ما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، أنْ تبلغ الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك ، حتى تسألني ما ليس لك به علم وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

واختلفت القراء في قراءة قوله: ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) ، بكسر النون وتخفيفها ونحْوًا بكسرها إلى الدلالة على « الياء » التي هي كناية اسم الله [ في ] : فلا تسألني.

وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام: ( فَلا تَسْأَلَنَّ ) ، بتشديد النون وفتحها بمعنى: فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به علم.

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، تخفيفُ النون وكسرها، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 47 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته ، في مسألته التي سألَها ربَّه في ابنه : ( قال ربّ إني أعوذ بك ) ، أي : أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم، مما قد استأثرت بعلمه ، وطويت علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في مسألتي إياك ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك ( أكن من الخاسرين ) ، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم حظوظَها وهلكوا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 48 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى الأرض

( بسلام منا ) ، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا ( وبركات عليك ) ، يقول: وببركات عليك ( وعلى أمم ممن معك ) ، يقول: وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته، فقال له: ( وأمم ) ، يقول: وقرون وجماعة ( سنمتعهم ) في الحياة في الدنيا ، يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم ( ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا علينا عذابًا مؤلمًا موجعًا.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، إلى آخر الآية، قال: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، قال: دخل في الإسلام كل مؤمن ومؤمنة، وفي الشرك كل كافر وكافرة.

حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك ، قراءةً عن ابن جريج: ( وعلى أمم ممن معك ) ، يعني : ممن لم يولد. قد قضى البركات لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة ( وأمم سنمتعهم ) ، من سبق له في علم الله وقضائه الشِّقوة.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج بنحوه إلا أنه قال: ( وأمم سنمتعهم ) ، متاع الحياة الدنيا، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه الشقوة. قال: ولم يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم ، كالطير والسباع، ولكن جاء أجلهم مع الغرق.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ) ، قال: هبطوا والله عنهم راض، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلا بعد ذلك أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: ( وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ) ، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، الآية، يقول: بركات عليك وعلى أمم ممن معك لم يولدوا، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة ( وأمم سنمتعهم ) ، يعني: متاع الحياة الدنيا ( ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.

حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ « سورة هود » ، فأتى على: ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك ) ، حتى ختم الآية، قال الحسن: فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك المتمتعون ! حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، قال: بعد الرحمة.

حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، اخبرنا عبد الله بن شوذب قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن الحسن : أنه أتى على هذه الآية: ( اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، قال: فكان ذلك حين بعث الله عادًا، فأرسل إليهم هودًا، فصدقه مصدقون ، وكذبه مكذبون ، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين، ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحًا، فصدقه مصدقون وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا ، على نحو من هذا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( 49 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه ( من أنباء الغيب ) ، يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها ( نوحيها إليك ) ، يقول: نوحيها إليك نحن ، فنعرفكها ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ، الوحي الذي نوحيه إليك، ( فاصبر ) ، على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته ، وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح ( إن العاقبة للمتقين ) ، يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله ، فأدَّى فرائضه، واجتنب معاصيه ، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من النعيم في الآخرة ، والظفر في الدنيا بالطلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله ، أنْ نجَّاه من الهلكة مع من آمن به ، وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرَّق المكذبين به فأهلكهم جميعهم.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ، القرآن، وما كان عَلم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوحٌ وقومه، لولا ما بيَّن الله في كتابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ( 50 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودًا، فقال لهم: « يا قوم اعبدوا الله » وحده لا شريك له ، دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان. ( ما لكم إله غيره ) ، يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالألوهة ( إن أنتم إلا مفترون ) ، يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل فرية مكذبون، تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 51 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها، جزاءً وثوابًا ( إن أجري إلا على الذي فطرني ) ، يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى الله، إلا على الذي خلقني ( أفلا تعقلون ) ، يقول: أفلا تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم ، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة ، لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا ، وطلبت منكم الأجر والثواب؟

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إن أجري إلا على الذي فطرني ) ، أي خلقني

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ( 52 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: ( ويا قوم استغفروا ربكم ) ، يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم.

والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودًا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ سورة نوح : 3 : 4 ]

وقوله: ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به ( يرسل السماء عليكم مدرارا ) ، يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( مدرارا ) ، يقول: يتبع بعضها بعضا.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يرسل السماء عليكم مدرارًا ) قال: يدر ذلك عليهم قطرًا ومطرًا.

وأما قوله: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، فإن مجاهدًا كان يقول في ذلك ما:-

حدثني به محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، قال: شدة إلى شدتكم

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وإسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، فذكر مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ويزدكم قوة إلى قوّتكم ) ، قال: جعل لهم قوة، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، قال: إنه قد كان انقطع النسل عنهم سنين، فقال هود لهم: إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد، لأن ذلك من القوة.

وقوله: ( ولا تتولوا مجرمين ) ، يقول: ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله، والبراءة من الأوثان والأصنام ( مجرمين ) ، يعني : كافرين بالله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 53 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم هود لهود، يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول، فنسلم لك، ونقر بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك ( وما نحن بتاركي آلهتنا ) ، يقول: وما نحن بتاركي آلهتنا ، يعني : لقولك: أو من أجل قولك. ( ما نحن لك بمؤمنين ) ، يقول: قالوا: وما نحن لك بما تدعي من النبوة والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين.