القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ( 63 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال صالح لقومه من ثمود: ( يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، يقول : إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته وأيقنته ( وآتاني منه رحمة ) ، يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة والإسلام

( فمن ينصرني من الله إن عصيته ) ، يقول: فمن الذي يدفع عنِّي عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته، فيخلصني منه ( فما تزيدونني ) ، بعذركم الذي تعتذرون به ، من أنكم تعبدون ما كان يعبدُ آباؤكم، ( غير تخسير ) ، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله، كما:-

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فما تزيدونني غير تخسير ) ، يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( 64 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من ثمود ، إذ قالوا له : وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، وسألوه الآية على ما دعاهم إليه: ( يا قوم هذه ناقة الله لكم آية ) ، يقول: حجة وعلامة، ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه ( فذروها تأكل في أرض الله ) ، فليس عليكم رزقها ولا مئونتها ( ولا تمسوها بسوء ) ، يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعَقْر ( فيأخذكم عذاب قريب ) ، يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فيهلككم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( 65 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله وفي الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه ، استغناءً بدلالة الظاهر عليه، وهو: « فكذبوه » « فعقروها » فقال لهم صالح: ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) ، يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام ( ذلك وعد غير مكذوب ) ، يقول: هذا الأجل الذي أجَّلتكم ، وَعْدٌ من الله، وعدكم بانقضائه الهلاكَ ونـزولَ العذاب بكم ( غير مكذوب ) ، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسُوا الأنطاع والأكسية، وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرَّ ألوانكم أوَّل يوم، ثم تحمرَّ في اليوم الثاني، ثم تسودَّ في اليوم الثالث . وذكر لنا أنهم لما عقرُوا الناقة ندموا ، وقالوا: « عليكم الفَصيلَ » ؟ فصعد الفصيل القارَة و « القارة » الجبل حتى إذا كان اليوم الثالث، استقبل القبلة ، وقال: « يا رب أمي ، يا رب أمي » ، ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك.

وكان ابن عباس يقول: لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل. وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) ، قال: بقية آجالهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن ابن عباس قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظَام الفصيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 66 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابُنا « نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة منا » ، يقول: بنعمة وفضل من الله ( ومن خزي يومئذ ) ، يقول: ونجيناهم من هوان ذلك اليوم ، وذلِّه بذلك العذاب ( إن ربك هو القوي ) ، في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطَش بها « العزيز » ، فلا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء ويقهره.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( برحمة منا ومن خزي يومئذ ) ، قال: نجاه الله برحمة منه، ونجاه من خزي يومئذ.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن خارجة قال: قلنا له: حدّثنا حديثَ ثمود . قال: أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود: كانت ثمودُ قومَ صالح، أعمرهم الله في الدنيا فأطال أعْمَارهم ، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر، فينهدم ، والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك ، اتخذوا من الجبال بيوتًا فَرِهين، فنحتوها وجَابُوها وجوَّفوها . وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله ، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يومًا ، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنًا، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء، فلم تشرب منه شيئًا ، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك ! فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل ! فقال: إلا تعقروها أنتم ، يوشكُ أن يولد فيكم مولود [ يعقرها ] . قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه ! قال: فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ، أحمر. قال: وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فجمع بينهما مجلس، فقال أحدهما لصاحبه: ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤًا. قال: فإن ابنتي كفؤ له، وأنا أزوجك. . فزوّجه، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح: « إنما يعقرها مولود فيكم » ، اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية، وجعلوا معهن شُرَطًا كانوا يطوفون في القرية، فإذا وجدُوا المرأة تمخَضُ، نظروا ما ولدُها إن كان غلامًا قلَّبنه فنظرن ما هو وإن كانت جارية أعرضن عنها. فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة وقلن: « هذا الذي يريد رسول الله صالح » ، فأراد الشرط أن يأخذوه، فحال جدّاه بينهم وبينه ، وقالا لو أن صالحًا أراد هذا قتلناه ! فكان شرَّ مولود، وكان يشبُّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، ويشبّ في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة. فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وفيهم الشيخان، فقالوا : « استعمل علينا هذا الغلام » لمنـزلته وشرَف جديه، فكانوا تسعة. وكان صالح لا ينام معهم في القرية، كان في مسجد يقال له : « مسجد صالح » ، فيه يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه.

قال حجاج: وقال ابن جريج: لما قال لهم صالح: « إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه » ، قالوا : فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم ! فقتلوهم إلا واحدًا. قال: فلما بلغ ذلك المولود ، قالوا: لو كنا لم نقتل أولادَنا، لكان لكل رجل منا مثل هذا، هذا عملُ صالح ‍! فأتمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين والناس يروننا علانيةً، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا ، فنرصده عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنَّا مسافرون ، كما نحن ! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضَخَتهم، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضْخٌ، فرجعوا يصيحون في القرية: أي عباد الله، أما رضي صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادَهم حتى قتلهم؟ ! فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعون، وأحجموا عنها إلا ذلك الابن العاشر.

ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق صالح، فاختبأ فيه ثمانية، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله ، فبيَّتْناهُمْ ! فأمر الله الأرض فاستوت عنهم . قال: فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة، فقال الشقيُّ لأحدهم: ائتها فاعقرها ! فأتاها ، فتعاظَمَه ذلك، فأضرب عن ذلك، فبعث آخر فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه أمرُها ، حتى مشوا إليها، وتطاول فضرب عرقوبيها، فوقعت تركُضُ، وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: « أدرك الناقةَ فقد عقرت » ! فأقبل، وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه: « يا نبيّ الله، إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا » ! قال: فانظروا هل تدركون فصيلها؟ ، فإن أدركتموه، فعسَى الله أن يرفعَ عنكم العذابَ ! فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب ، أتى جبلا يقال له « القارَة » قصيرًا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطالَ في السماء حتى ما تَناله الطير. قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سألت دموعه، ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً، ثم رغَا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح لقومه: لكل رغوة أجلُ يوم ، تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، ألا إن أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة، واليوم الثاني محمرّة، واليوم الثالث مسودّة ! فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طليت بالخلوق، صغيرُهم وكبيرُهم، ذكرهم وأنثَاهم. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: « ألا قد مضى يوم من الأجل ، وحضركم العذاب » ! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة ، كأنها خُضِبت بالدماء، فصاحوا وضجُّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلما أمسوا صاحُوا بأجمعهم: « ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب » ! فلما أصبحوا اليوم الثالث ، فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار، فصاحوا جميعا: « ألا قد حضركم العذاب » ! فتكفَّنُوا وتحنَّطوا، وكان حنوطهم الصَّبر والمقر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض، فجعلوا يقلبون أبصارهم، فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم من الأرض ، خَشَعًا وفَرَقًا. فلما أصبحوا اليومَ الرابع أتتهم صيحةٌ من السماء فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كلّ شيء له صوتٌ في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدُورهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: حُدِّثت أنَّه لما أخذتهم الصيحة ، أهلك الله مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل: ومن هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أتى على قرية ثمود ، لأصحابه: لا يدخلنَّ أحدٌ منكم القرية ، ولا تشربوا من مائهم . وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في القارَة.

قال ابن جريج، وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أنْ يُصيبكم ما أصابهم.

قال ابن جريج، قال جابر بن عبد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى على الحِجْر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فلا تسألوا رسُولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث لهم الناقة، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ ، وتصدر من هذا الفَجّ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بوادي ثمود، وهو عامد إلى تبوك قال: فأمر أصحابه أن يسرعوا السير، وأن لا ينـزلوا به، ولا يشربوا من مائه، وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال: وذكر لنا أن الرجل المُوسِر من قوم صالح كان يعطي المعسر منهم ما يتكَفّنون به، وكان الرجل منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته، لميعاد نبي الله صالح الذي وعدهم . وحدَّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت، فيهم شبان وشيوخ ، أبقاهم الله عبرة وآية.

حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال ، حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال ، حدثنا أبو الطفيل، قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم َغَزاة تبُوك، نـزل الحجر فقال: يا أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيَّهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله لهم الناقة آيةً، فكانت تَلج عليهم يوم [ ورودها من هذا الفجّ، فتشربُ ماءهم ، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه ] ، ثم يحلبونها مثل ما كانوا يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفجّ. فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدًا من الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدًا ، كان في حرم الله، فمنعه حَرَمُ الله من عذاب الله . قالوا: ومن ذلك الرجل يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 67 ) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ ( 68 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من عقر ناقة الله وكفرهم به ( الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، قد جثمتهم المنايا، وتركتهم خمودًا بأفنيتهم، كما:-

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، يقول: أصبحوا قد هلكوا.

( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول: كأن لم يعيشوا فيها، ولم يعمروا بها، كما:-

حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، كأن لم يعيشوا فيها.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.

وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته.

وقوله: ( ألا إن ثمود كفروا ربهم ) ، يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها ( ألا بعدًا لثمود ) ، يقول: ألا أبعد الله ثمود ! لنـزول العذاب بهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( 69 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( ولقد جاءت رسلنا ) ، من الملائكة وهم فيما ذكر ، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل : إن الملكين الآخرين كان ميكائيل وإسرافيل معه ( إبراهيم ) ، يعني: إبراهيم خليل الله ( بالبشرى ) ، يعني: بالبشارة.

واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها.

فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق.

وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط.

( قالوا سلاما ) ، يقول: فسلموا عليه سلامًا.

ونصب « سلامًا » بإعمال « قالوا » فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.

( قال سلام ) ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام فرفع « سلامٌ » ، بمعنى : عليكم السلام أو بمعنى : سلام منكم .

وقد ذكر عن العرب أنها تقول: « سِلْمٌ » بمعنى السلام ، كما قالوا: « حِلٌّ وحلالٌ » ، « وحِرْم وحرام » . وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده:

مَرَرْنَــا فَقُلْنَـا إِيـهِ سِـلْمٌ فَسَـلَّمَتْ كَمَـا اكْتَـلَّ بِـالَبْرقِ الغَمَـامُ الَّلـوَائِحُ

بمعنى سلام. وقد روي « كما انكلّ » .

وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم من « المسالمة » التي هي خلاف المحاربة.

وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين.

وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة ، ( قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم، بنحو تسليمهم: عليكم السلام.

والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن « السلم » قد يكون بمعنى « السلام » على ما وصفت، و « السلام » بمعنى « السلم » ، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم ، ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.

وقوله: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) .

وأصله « محنوذ » ، صرف من « مفعول » إلى « فعيل » .

وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم معنى « المحنوذ » : المشويّ، قال: ويقال منه: « حَنَذْتُ فرسي » ، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز:

*ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا*

وقال آخر منهم: « حنذ فرسه » : أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه.

وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض ، إذا خَدَدت له فيه ، فدفنته وغممته ، فهو « الحنيذ » و « المحنوذ » . قال: والخيل تُحْنَذ ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال: ويقال: « إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ » ، يعني : أخْفِسْ، يريد: أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ.

وأما [ أهل ] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:-

حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بعجل حنيذ ) ، يقول: نضيج

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بعجل حنيذ ) قال: « بعجل » ، حَسِيل البقر، و « الحنيذ » : المشوي النضيج.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) إلى ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج ، سُخِّن ، أنضج بالحجارة.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، و « الحنيذ » : النضيج.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج. قال: [ وقال الكلبي ] : و « الحنيذ » : الذي يُحْنَذُ في الأرض.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله: ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال: « الحنيذ » : الذي يقطر ماء ، وقد شوى وقال حفص: « الحنيذ » : مثل حِنَاذ الخيل.

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه في الرَّضْف ، فهو « الحنيذ » حين شواه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال: المشويّ الذي يقطر.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: « الحنيذ » الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج.

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بعجل حنيذ ) ، الذي أنضج بالحجارة.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، قال: مشويّ.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: « حينذ » ، يعني: شُوِي.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، « الحِناذ » : الإنضاج.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض.

وموضع « أن » في قوله: ( أن جاء بعجل حنيذ ) نصبٌ بقوله: ( فما لبث أن جاء ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( 70 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيديَهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدّم إليهم ، نكرهم، وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم ، فيما ذكر، كفّوا عن أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن أكله ، عند إبراهيم ، وهم ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم معرفةٌ، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة.

وكان قتادة يقول: كان إنكاره ذلك من أمرهم ، كما:-

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) ، وكانت العرب إذا نـزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرَهم ) ، قال : كانوا إذا نـزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم، ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدَّثوه عند ذلك بما جاؤوا.

*وقال غيره في ذلك ما:-

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: لما دخل ضيف إبراهيم عليه السلام ، قرّب إليهم العجل، فجعلوا ينكتُون بقِداح في أيديهم من نبْل، ولا تصل أيديهم إليه، نكرهم عند ذلك.

يقال منه: « نكرت الشيء أنكره » ، و « أنكرته أنكره » ، بمعنى واحد، ومن « نكرت » و « أنكرت » ، قول الأعشى:

وَأَنْكَـرَتْنِي وَمَـا كَـانَ الَّـذِي نَكِـرَتْ مِـنَ الحَـوَادِثِ , إلا الشَّـيْبَ وَالصَّلَعَا

فجمع اللغتين جميعا في البيت. وقال أبو ذؤيب:

فَنَكِرْنَــهُ , فَنَفَـرْنَ, وامْتَرَسَـتْ بِـهِ هَوْجَــاءُ هَادِيَــةٌ وَهَــادٍ جُرْشُـعُ

وقوله: ( وأوجس منهم خيفة ) ، يقول: أحسَّ في نَفسه منهم خيفة وأضمرها. ( قالوا لا تخف ) ، يقول: قالت الملائكة ، لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنًا، فإنا ملائكة ربّك ( أرسلنا إلى قوم لوط ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وامرأته ) ، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ، وهي ابنة عم إبراهيم ( قائمة ) ، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدُم الرسل ، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل.

وقوله: ( فضحكت ) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( فضحكت ) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت.

فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف ، تعجبًا من أنَّها وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما ، تكرمةً لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط ، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نـزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف، فهو « الحنيذ » حين شواه. وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارَة تخدمُهم. فذلك حين يقول: ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ ) وَهُوَ جَالِسٌ في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم ، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن . قال: فإن لهذا ثمنًا! قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله ، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه يقول: لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمةً لهم، وهم لا يأكلون طعامنا !

وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب ، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب.

وقال آخرون: بل ضحكت ظنًّا منها بهم أنهم يريدون عَمَل قوم لوط.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس، في قوله: ( وامرأته قائمة فضحكت ) ، قال: لما جاءت الملائكة ظنَّت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط.

وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الرَّوع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: ( فضحكت ) ، قال: ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع، بإبراهيم.

وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم، راعه هيئتهم وجمالهم، فسلموا عليه، وجلسوا إليه، فقام فأمر بعجل سمين، فحُنِذَ له، فقرّب إليهم الطعام فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ، وسارة وراء البيت تسمع ، قالوا: لا تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك ! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز ، وهو شيخ كبير! فقالوا: أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم ، فأبشروا به .

وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل: إن هذا من المقدَّم الذي معناه التأخير، كأنّ معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟

وقال آخرون: بل معنى قوله: « فضحكت » في هذا الموضع: فحاضت.

ذكر من قال ذلك:

حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد في قوله: ( فضحكت ) ، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة.

وقال آخرون: بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم، لما قالوا لإبراهيم: لا تخف، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم . فلما أمِنَت ضحكت، فأتبعوها البشارة بإسحاق.

وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع « ضحكت » ، بمعنى : حاضت ، من ثقة.

وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول « ضحكت المرأة » ، حاضت . قال: وقد قال: « الضحك » ، الحيض، وقد قال بعضهم: « الضحك » : الثَّغْرُ ، وذكر بيت أبي ذؤيب:

فَجَـاءَ بِمِـزْجٍ لَـمْ يَـرَ النَّـاسُ مِثْلَهُ هُـوَ الضَّحْـكُ إلا أَنَّـهُ عَمـلُ النَّحْلِ

وذكر أنَّ بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض:

وَضِحْــكُ الأرَانِــبِ فَـوْقَ الصَّفَـا كَمِثْــل دَمِ الجَــوْفِ يَــوْمَ اللِّقَـا

قال: وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت:

فَـأضْحَكَتِ الضِّبَـاعُ سُـيُوفُ سَـعْدٍ بِقَتْــلَى مَــا دُفِــنَّ وَلا وُدِينَــا

وقال: يريد الحيض. قال: وبلحرث بن كعب يقولون: « ضحكت النخلة » ، إذا أخرجت الطَّلع أو البُسْر. وقالوا: « الضَّحك » الطلع. قال: وسمعنا من يحكي: « أضحكت حوضًا » أي ملأته حتى فاض. قال: وكأن المعنى قريبٌ بعضه من بعض كله، لأنه كأنه شيءٌ يمتلئُ فيفيض.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قولُ من قال: معنى قوله: « فضحكت » فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه.

وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: ( لا تخف ) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( 71 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط ( بإسحاق ) ، ولدًا لها ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب ، من ابنها إسحاق.

و « الوراء » في كلام العرب، ولد الولد، وكذلك تأوَّله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود، عن عامر قال: ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: الوراء: ولد الولد.

حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قال كلّ واحد منهما، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري، قال: كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران ، في مسجد عليّ بن زيد، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال: يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال: ابني من ورائي، فقال الحسن: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) .

حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: ولد الولد هو « الوراء » .

حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر في قوله: ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: « الوراء » ، ولد الولد.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، مثله.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال: سمعت الشعبي يقول: ولد الولد: هم الولد من الوَراء.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا ابن ابني. قال: هذا ولدُك من الوراء! قال: فكأنه شقَّ على ذلك الرجل، فقال ابن عباس: إن الله يقول: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، فولد الولد هم الوراء.

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ضحكت سارَة . وقالت: « عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا » ! قال لها جبريل: أبشري بولد اسمُه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب. فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا، فذلك قوله: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ، [ سورة الذاريات : 29 ] . وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، قالت سارة: ما آية ذلك؟ قال: فأخذ بيده عودًا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هُو لله إذا ذبيحًا.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فَضَحِكَتْ يعني سارَة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وبابن ابن. فقالت وصكت وجهها يقال: ضربت على جبينها : يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، إلى قوله: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز: ( وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ ) ، برفع « يعقوب » ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير.

وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، ( وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب ) نصبًا .

فأما الشامي منهما ، فذكر أنه كان ينحو ب « يعقوب » نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر « وهبنا » عمل فيه « التبشير » وعطف به على موضع « إسحاق » ، إذ كان « إسحاق » وإن كان مخفوضًا ، فإنه بمعنى المنصوب بعمل « بشرنا » ، فيه، كما قال الشاعر:

جِــئْنِي بِمِثْـلِ بَنِـي بَـدْرٍ لِقَـوْمِهِمِ أَوْ مِثْـلِ أُسَْـرِة مَنْظُـورِ بـنِ سَـيَّارِ

أَوْ عَـامِرَ بْـنَ طُفَيْـلٍ فِـي مُرَكَّبِـهِ أَوْ حَارِثًـا , يَـوْمَ نَادَى القَوْمُ: يَا حَارِ

وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم . وقالوا: خطأ أن يقال: « مررت بعمرٍو في الدَّار وفي الدار زيد » وأنت عاطف ب « زيد » على « عمرو » ، إلا بتكرير الباء وإعادتها، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع، وجاز النصب، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض، وذلك إذا قلت: « مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت » . وقد أجاز الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم ، بعضُ نحويي البصرة.

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب الله نـزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نـزل به من الفصاحة.