القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه » ، أحبارَ اليهود وعلماء النصارى: يقول: يعرف هؤلاء الأحبارُ من اليهود، والعلماءُ من النصارى: أن البيتَ الحرام قبلتُهم وقبلة إبراهيم وقبلةُ الأنبياء قبلك, كما يعرفون أبناءَهم، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يَعرفونه كما يَعرفون أبناءهم » ، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلةُ.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قول الله عز وجل: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونهُ كما يعرفونَ أبناءهم » ، يعني: القبلةَ.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، عرفوا أن قِبلة البيت الحرام هي قبلتُهم التي أمِروا بها, كما عرفوا أبناءهم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفونَ أبناءهم » ، يعني بذلك: الكعبةَ البيتَ الحرام.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء, كما يعرفون أبناءهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال، اليهود يعرفون أنها هي القبلة، مكة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال، القبلةُ والبيتُ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 146 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وإنّ طائفةً من الذين أوتوا الكتاب - وهُمُ اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل الكتاب.

حدثني محمد بن عمرو - يعني الباهلي- قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح مثله.

قال أبو جعفر: وقوله: « ليكتمون الحق » ، - وذلك الحق هو القبلة التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم. يقول: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ التي كانت الأنبياء من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها. فكتمتها اليهودُ والنصارى, فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو بيتَ المقدس, ورفضُوا ما أمرهم الله به, وكتموا مَعَ ذلك أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى, وخيانتهم عبادَه, وكتمانِهم ذلك, وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيرُه, وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافُه، فقال: « ليكتمونَ الحق وهم يعلمون » ، أنْ لَيس لَهم كتمانه, فيتعمَّدون معصية الله تبارك وتعالى، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: « وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهُمْ يعلمون » ، فكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليكتمون الحق وَهمْ يعلمون » قال، يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون » ، يعني القبلةَ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 147 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده, لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.

وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.

يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين.

يعني بقوله: « فلا تكونن من الممترين » ، أي: فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما:

حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام: « الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين » ، يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فلا تكونن من الممترين » قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك.

قال أبو جعفر: وإنما « الممتري » « مفتعل » ، من « المرْية » , و « المِرْية » هي الشك, ومنه قول الأعشى:

تَــدِرُّ عَــلَى أَسْــوُقِ المُمْـتَرِينَ رَكْضًـا, إِذَا مَـا السَّـرَابُ ارْجَحَـــنّ

ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه, أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له: « فلا تكونن من الممترين » ؟

قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره, كما قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [ سورة الأحزاب: 1 ] ، ثم قال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ سورة الأحزاب: 2 ] . فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له, والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « ولكلّ » ، ولكل أهل ملة، فحذف « أهل الملة » واكتفى بدلالة الكلام عليه، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولكلِّ وِجْهة » قال، لكل صاحب ملة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « ولكلٍّ وجهة هو موليها » ، فلليهوديّ وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها, وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال، قلت لعطاء قوله: « ولكل وجهة هو موليها » قال، لكل أهل دين، اليهودَ والنصارَى. قال ابن جريج، قال مجاهد: لكل صاحب مِلة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكل وجهة هو موليها » قال، لليهود قبلة, وللنصارى قبلة, ولكم قبلة. يريد المسلمين.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها » ، يعني بذلك أهلَ الأديان: يقول: لكلٍّ قبلةٌ يرضَونها, ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه حيثُ تَوَجَّه المؤمنون. وذلك أن الله تعالى ذكره قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ سورة البقرة: 115 ]

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولكلٍّ وجْهة هو موليها » ، يقول: لكل قوم قبلة قد ولَّوْها.

فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلةٌ هو مستقبلها، ومولٍّ وجهه إليها.

وقال آخرون بما:-

حدثنا به الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « ولكل وجهة هو موليها » قال، هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.

وتأويل قائل هذه المقالة: ولكلّ ناحية وجَّهك إليها ربّك يا محمد قبلة، اللهُ عز وجل مُولِّيها عبادَه.

وأما « الوِجهة » ، فإنها مصدر مثل « القِعدة » و « المِشية » ، من « التوجّه » . وتأويلها: مُتوَجِّهٌ، يتوجَّه إليه بوَجهه في صلاته، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وجهة » قبلةٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « ولكل وجهة » قال، وَجْه.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وِجْهة » ، قِبلة.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، قلت لمنصور: « ولكل وجْهة هو مولِّيها » قال، نحن نقرؤها، ولكلٍّ جَعلنا قِبلة يرضَوْنها.

وأما قوله: « هو مُولِّيها » ، فإنه يعني هو مولٍّ وجهه إليها ومستقبلها، كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « هو موليها » قال، هو مستقبلها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

ومعنى « التوْلية » هاهنا الإقبال, كما يقول القائل لغيره: « انصرِف إليّ » بمعنى: أقبل إليّ. « والانصراف » المستعمل، إنما هو الانصراف عن الشيء، ثم يقال: « انصرفَ إلى الشيء » ، بمعنى: أقبل إليه منصرفًا عن غيره. وكذلك يقال: « ولَّيت عنه » ، إذا أدبرت عنه. ثم يقال: « ولَّيت إليه » ، بمعنى أقبلت إليه مولِّيًا عن غيره.

والفعل - أعني « التولية » - في قوله: « هو موليها » لل « كل » . و « هو » التي مع « موليها » ، هو « الكل » ، وحُدَّت للفظ « الكل » .

فمعنى الكلام إذًا: ولكل أهل مِلة وجهة, الكلُّ. منهم مولُّوها وجُوهَهم.

وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها: « هو مُولاها » ، بمعنى أنه مُوجَّهٌ نحوها. ويكون « الكل » حينئذ غير مسمًّى فاعله، ولو سُمي فاعله، لكان الكلام: ولكلّ ذي ملة وجهةٌ، اللهُ مولِّيه إياها, بمعنى: موجِّهه إليها.

وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك: « ولكُلٍّ وِجهةٍ » بترك التنوين والإضافة. وذلك لحنٌ, ولا تجوز القراءةُ به. لأن ذلك - إذا قرئ كذلك- كان الخبرُ غير تامٍّ, وكان كلامًا لا معنى لَه. وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه.

والصواب عندنا من القراءة في ذلك: « ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُولِّيها » ، بمعنى: ولكلٍّ وجهةٌ وقبلةٌ، ذلك الكُلّ مُولّ وجهه نحوها. لإجماع الحجة من القرّاء على قراءة ذلك كذلك، وتصويبها إياها, وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره. وما جاءَ به النقلُ مستفيضًا فحُجة, وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، فغيرُ جائز الاعتراضُ به على الحجة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فاستبقوا » ، فبادروا وسَارعوا, من « الاستباق » , وهو المبادرة والإسراع، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فاستبقوا الخيرات » ، يقول: فسارعوا في الخيرات.

وإنما يعني بقوله: « فاستبقوا الخيرات » ، أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم, فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم, وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، فلا عذر لكم في التفريط, وحافظوا على قبلتكم, فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، فتضلُّوا كما ضلت؛ كالذي:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فاستبقوا الخيرات » ، يقول: لا تُغلَبُنَّ على قبلتكم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فاستبقوا الخيرات » قال، الأعمال الصالحة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 148 )

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا » ، في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة، إن الله على كل شيء قدير، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أينما تكونوا يَأت بكمُ الله جميعًا » ، يقول: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة.

2291م- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أينما تكونوا يَأت بكم الله جميعًا » ، يعني: يومَ القيامة.

قال أبو جعفر: وإنما حضَّ الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزوُّد في الدنيا للآخرة, فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم, ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه, فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث كنتُم من بقاع الأرض, حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه، والمسيء عقابه بإساءته, أو يتفضّل فيصفح.

وأما قوله: « إنّ الله على كل شيء قدير » ، فإنه تعالى ذكره يعني: إنّ الله تعالى على جَمْعكم - بعد مماتكم- من قبوركم إليه، من حيث كنتم وكانت قبوركم ، وعلى غير ذلك مما يشاء، قديرٌ. فبادروا خروجَ أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليومَ بعثكم وَحشركم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 149 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ومن حيث خرجت » ، ومن أيّ موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فولِّ يا محمد وَجهك - يقول: حوِّل وَجْهك. وقد دللنا على أن « التولية » في هذا الموضع شطر المسجد الحرام, إنما هي: الإقبالُ بالوجه نحوه. وقد بينا معنى « الشطر » فيما مضى.

وأما قوله: « وإنه للحق من ربك » ، فإنه يعني تعالى ذكره: وإنّ التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك, فحافظوا عليه, وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله.

وأما قوله: « ومَا الله بغافل عَما تَعملون » ، فإنه يقول: فإن الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها, ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة.

القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « ومن حَيثُ خرجت فول وَجهك شطر المسجد الحرام » : من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا محمد, فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام، وهو شَطره.

ويعني بقوله: « وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم » ، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم تُجاهه وقِبَله وقَصْدَه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي

قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى ب « الناس » في قوله: « لئلا يكون للناس » ، أهلَ الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « لئلا يكون للناس عليكم حجة » ، يعني بذلك أهلَ الكتاب. قالوا - حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام- : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « لئلا يكونَ للناس عليكم حجة » ، يعني بذلك أهلَ الكتاب, قالوا - حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة- : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!

فإن قال قائل: فأيّةُ حُجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحوَ بيت المقدس، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! فهي الحجة التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم, والتمويه منهم بها على الجهالّ وأهل الغباء من المشركين.

وقد بينا فيما مضى أن معنى حِجاج القوم إيَّاه، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه، إنّما هي الخصومات والجدال. فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وَحسمه، بتحويل قبلة نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام. وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه: « لئلا يكون للناس عليكم حجة » ، يعني ب « الناس » ، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت.

وأما قوله: « إلا الذين ظَلموا منهم » ، فإنهم مُشركو العرب من قريش، فيما تأوَّله أهلُ التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إلا الذين ظَلموا منهم » ، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي, قال: هم المشركون من أهل مكة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع: « إلا الذين ظلموا منهم » ، يعني مشركي قريش.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, وابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » قال، هم مشركو العرب.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » ، و « الذين ظلموا » : مشركو قريش.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء: هم مشركو قريش - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقولُ مثل قول عطاء.

فإن قال قائل: وأيّةُ حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين - فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه- حُجة؟

قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمتَ وذهبتَ إليه. وإنما « الحجة » في هذا الموضع، الخصومة والجدال. ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خُصُومةٌ ودعوى باطلٌ غيرَ مشركي قريش, فإن لهم عليكم دعوى بَاطلا وخصومةً بغير حق، بقيلهم لكم: « رَجَع محمدٌ إلى قبلتنا, وسيرجع إلى ديننا » . فذلك من قولهم وأمانيّهم الباطلة، هي « الحجة » التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره « الذين ظلموا » من قريش من سائر الناس غيرهم, إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجّههم إليها حُجة.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « لئلا يكون للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم » ، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حُجتهم, قولهم: قد راجعتَ قبلتنا!

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: قولهم: قد رَجَعت إلى قبلتنا!

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة وابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » ، قالا هم مشركو العرب, قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » ، و « الذين ظلموا » : مشركُو قريش. يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم انصرافَهُ إلى البيت الحرام أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنـزل الله تعالى ذكره في ذلك كله.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني, عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما صُرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحوَ الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة: تحيّر على محمد دينه! فتوجّه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويُوشك أن يدخل في دينكم! فأنـزل الله جل ثناؤه فيهم: « لئلا يَكونَ للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني » .

حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله: « لئلا يَكون للناس عَليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم » قال، قالت قريش - لما رَجَع إلى الكعبة وأمِر بها:- ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حُجتهم, وهم « الذين ظلموا » - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول مثل قول عطاء, فقال مجاهد: حُجتهم، قولهم: رجعت إلى قبلتنا!

فقد أبان تأويلُ من ذكرنا تأويلَه من أهل التأويل قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » ، عن صحّة ما قلنا في تأويله، وأنه استثناءٌ على مَعنى الاستثناء المعروف، الذي ثبتَ فيهم لما بعدَ حرف الاستثناء ما كان منفيًّا عما قبله. كما قولُ القائل « ما سَارَ من الناس أحدٌ إلا أخوك » ، إثباتٌ للأخ من السير ما هو مَنفيٌّ عن كل أحد من الناس. فكذلك قوله: « لئلا يكونَ للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم » ، نَفى عن أن يكون لأحد خُصومةٌ وجدلٌ قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطلٍ عليه وعَلى أصحابه، بسبب توجُّههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش, فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى باطلا بأن يقولوا: إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل.

وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل, فبيِّنٌ خطأُ قول من زعم أن معنى قوله: « إلا الذين ظلموا منهم » : ولا الذين ظلموا منهم, وأن « إلا » بمعنى « الواو » . لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفيُ الأول عن جميع الناس - أنْ يكون لهم حُجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوُّلهم نحو الكعبة بوجوههم - مبيِّنًا عن المعنى المراد, ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك: « إلا الذين ظَلموا منهم » إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يُضافَ إليه أو يوصف به.

هذا مع خروج معنى الكلام إذا وجّهت « إلا » إلى معنى « الواو » , ومعنى العطف من كلام العرب. وذلك أنه غيرُ موجودة « إلا » في شيء من كلامها بمعنى « الواو » ، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها. كقول القائل: « سار القوم إلا عمرًا إلا أخاك » , بمعنى: إلا عمرًا وأخاك, فتكون « إلا » حينئذ مؤدّية عما تؤدي عنه « الواو » ، لتعلق « إلا » الثانية ب « إلا » الأولى. ويجمع فيها أيضًا بين « إلا » و « الواو » فيقال: « سار القوم إلا عمرًا وإلا أخاك » , فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها, فيقال: « سار القوم إلا عمرًا وأخاك - أو إلا عمرًا إلا أخاك » , لما وصفنا قبل.

وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدَّعٍ من الناس أن يدَّعي أنّ « إلا » في هذا الموضع بمعنى « الواو » التي تأتي بمعنى العطف.

وواضحٌ فسادُ قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوْهم. كقول القائل في الكلام: « الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [ لك ] المعتدي عليك » , فإن ذلك لا يعتدّ بعُدوَانه ولا بتركه الحمد، لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له, وقد سُمي ظالمًا لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادَّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدًا على خطأ مقالته إجماعُهم على تخطئتها.

وظاهر بُطُول قول من زَعَم: أنّ « الذين ظلموا » هاهنا، ناسٌ من العرب كانوا يَهودًا ونصارَى, فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائرُ العرب، فلم تكن لهم حجة, وكانت حُجة من يحتجُّ منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تَكسِر عليه حجته: « إنّ لك عليّ حجة ولكنها منكسرة, وإنك لتحتج بلا حجة, وحجتك ضعيفة » . ووَجَّه معنى: « إلا الذين ظَلموا منهم » إلى معنى: إلا الذينَ ظلموا منهم، منْ أهل الكتاب, فإنّ لَهُم عليكم حُجة وَاهية أو حجة ضعيفة.

ووَهْيُ قَولِ من قال: « إلا » في هذا الموضع بمعنى « لكن » .

وضَعْفُ قولِ من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم.

لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأنّ ذلك من الله عز وجل خَبرٌ عن الذين ظلموا منهم: أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا, ولم يقصِد في ذلك إلى الخبر عن صفة حُجتهم بالضعف ولا بالقوة - وإن كانت ضعيفةً لأنها باطلة- وإنما قصد فيه الإثباتَ للذين ظلموا، ما قد نَفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه قال، قال الربيع: إنّ يهوديًّا خاصم أبا العالية فقال: إن مُوسَى عليه السلام كان يصلِّي إلى صخرة بيت المقدس. فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجدُ صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقِبلتُه إلى البيت الحرام. قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين، وقِبلتُه إلى الكعبة.

وأما قوله: ( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ) ، يعني: فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لَكم أمرهم من الظَّلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون في أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يَقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدِّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني, فخافوا عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه.

وذلك من الله جل ثناؤه تقدُّمٌ إلى عباده المؤمنين، بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها, وبالنهي عن التوجُّه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوْني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شَطرَ المسجد الحرام.

وقد حكي عن السدي في ذلك ما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فلا تخشوْهم واخشوْني » ، يقول: لا تخشوا أن أردَّكم في دينهم

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 150 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ولأتمَّ نعمتي عليكم » ، ومن حيث خرجتَ من البلاد والأرض، وإلى أيّ بقعة شخصت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام, وحيثُ كنت، يا محمد والمؤمنون, فولُّوا وجوهكم في صلاتكم شَطرَه, واتخذوه قبلة لكم, كيلا يكون لأحد من الناس - سوى مشركي قريش- حجةٌ, ولأتمّ بذلك من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم, وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه.

وقوله: « ولعلكم تهتدون » ، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. و « لعلكم » عطف على قوله: « ولأتم نعمتي عليكم » ، « ولأتم نعمتي عليكم » عطف على قوله: لِئَلا يَكُونَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( 151 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « كما أرسلنا فيكم رسولا » ، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية, وأهديَكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام, فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألنيها فقال: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ سورة البقرة: 128 ] ، كما جعلت لكُم دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ سورة البقرة: 129 ] ، فابتعثت منكم رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه من ذرّيتهما.

ف « كما » - إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ . ولا يكون قوله: « كما أرسلنا فيكم رسولا منكم » ، متعلقًا بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ .

وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، فأغرقوا النـزع، وبعدوا من الإصابة, وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم.

وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض: « كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن » - أن لا يَشترطوا للآخر, لأن « الكاف » في « كما » شرطٌ معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب: « اذكروني » بعده، وهو قوله: أَذْكُرْكُمْ ، أوضحُ دليل على أن قوله: « كما أرسلنا » من صلة الفعل الذي قبله, وأن قوله: « اذكروني أذكركم » خبرٌ مبتدأ منقطعٌ عن الأول, وأنه من سبب قوله: « كما أرْسلنا فيكم » بمعزل.

وقد زعم بعض النحويين أن قوله: فَاذْكُرُونِي - إذا جُعل قوله: « كما أرسلنا فيكم » جوابًا له، مع قوله: أَذْكُرْكُمْ - نظيرُ الجزاء الذي يجاب بجوابين, كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه « , فيصير قوله: » فأته « و » ترضه « جوابين لقوله: » إذا أتاك « , وكقوله: » إن تأتني أحسِن إليك أكرمك « . »

وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب, فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل.

ذكر من قَال: إنّ قوله: « كما أرسلنا » ، جوابُ قوله: « فاذكروني » .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل: « كما أرسلنا فيكم رسولا منكم » ، كما فعلتُ فاذكروني.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

قوله: « كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم » ، فإنه يعني بذلك العرب, قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي, وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها, لتنقطع حُجة اليهود عنكم, فلا تكون لهم عليكم حجَة, ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا, كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم » ، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.

وأمّا قوله: « يتلو عليكم آياتنا » ، فإنه يعني آيات القرآن, وبقوله: « ويزكيكم » ويطهّركم من دَنَس الذنوب, و « يعلمكم الكتاب » وهو الفرقان, يعني: أنه يعلمهم أحكامه. ويعني: ب « الحكمة » السننَ والفقهَ في الدين. وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده.

وأمّا قوله: « ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون » ، فإنه يعني: ويعلمكم من أخبار الأنبياء, وقَصَص الأمم الخالية, والخبر عما هو حادثٌ وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها, فعلِموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه, أذكرْكم برحمتي إياكم ومغفرَتي لكم، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة, عن عطاء بن دينار, عن سعيد بن جبير: « فاذكروني أذكركم » قال، اذكروني بطاعتي, أذكركم بمغفرتي.

وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون » ، إن الله ذاكرُ من ذكره, وزَائدُ من شكره, ومعذِّبُ من كفَره.

حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « اذكروني أذكركم » قال، ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ, ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ( 152 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي، « ولا تكفرون » ، يقول: ولا تجحدوا إحساني إليكم, فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم, ولكن اشكروا لي عليها, وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم, وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه من عبادي, فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته, ومن كفرني حَرمته وسلبته ما أعطيتُه.

والعرب تقول: « نَصحتُ لك وشكرتُ لك » , ولا تكاد تقول: « نصحتك » , وربما قالت: « شكرتك ونصحتك » , من ذلك قول الشاعر:

هُـمُ جَـمَعُوا بُؤْسَـى ونُعْمَـى عَلَيْكُـمُ فَهَــلا شَـكَرْتَ القَـوْمَ إذْ لَــمْ تُقَـاتِلِ

وقال النابغة في « نصحتك » :

نَصَحْـتُ بَنِـي عَـوَفٍ فَلَـمْ يَتَقَبَّلُـوا رَسُـولِي ولَـمْ تَنْجَـحْ لَـدَيْهِمْ وسَـائِلِي

وقد دللنا على أن معنى « الشكر » ، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة, وأن معنى « الكفر » تغطية الشيء, فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 153 )

قال أبو جعفر: وهذه الآية حضٌّ من الله تعالى ذكره على طاعته، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال, فقال: « يا أيها الذينَ آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة » على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عَما أنسخه منها إلى الذي أحدِثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي, والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه, والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه - وإن لحقكم في ذلك مكروهٌ من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل, أو مشقةٌ على أبدانكم في قيامكم به، أو نقصٌ في أموالكم- وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي, بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومَشقته عليكم, واحتمال عنائه وثقله, ثم بالفزع منكم فيما يَنوبكم من مُفظِعات الأمور إلى الصلاة لي, فإنكم بالصبر على المكاره تُدركون مرضاتي, وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبَلي، وتدركون حاجاتكم عندي, فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيَّ, أنصرهُم وأرعاهم وأكلَؤُهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأمَّلوا قِبَلي.

وقد بينت معنى « الصبر » و « الصلاة » فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته، كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: « واستعينوا بالصبر والصلاة » ، يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله, واعلموا أنهما من طاعة الله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة » ، اعلموا أنهما عَونٌ على طاعة الله.

وأما قوله: « إن الله مع الصابرين » ، فإن تأويله: فإن الله نَاصرُه وظَهيرهُ وراضٍ بفعله, كقول القائل: « افعل يَا فلان كذا وأنا معك » , يعني: إني ناصرُك على فعلك ذلك ومُعينك عليه.