القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( 72 ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ( 73 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قالت سَارة لما بُشِّرت بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء

وقيل: إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ.

وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما:-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانت سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم ، ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة.

( يَا وَيْلَتَا ) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء، فيقولون عند التعجب: « ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله » !

وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في: ( يا ويلتا ) .

فقال بعض نحويي البصرة: هذه ألف حقيقة، إذا وقفت قلت: « يا ويلتاه » ، وهي مثل ألف الندبة، فلطفت من أن تكون في السكت، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها ، وأبعد في الصوت . ذلك لأن الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدًى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردد فيه، فتكون أكثر وأبين.

وقال غيره: هذه ألف الندبة، فإذا وقفت عليها فجائز، وإن وقفت على الهاء فجائز ، وقال: ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله: وَيَدْعُ الإِنْسَانُ ، [ سورة الإسراء: 11 ] ، فحذفوا الواو وأثبتوها، وكذلك: مَا كُنَّا نَبْغِ ، [ سورة الكهف: 64 ] ، بالياء، وغير الياء؟ قال: وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها.

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم.

وقوله: ( أألد وأنا عجوز ) ، تقول: أنى يكون لي ولد ( وأنا عجوز وهذا بعلي شيْخًا ) ، والبعل في هذا الموضع: الزوج ، وسمي بذلك لأنه قيم أمرها، كما سموا مالك الشيء « بعله » ، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون « البعل » ، لأن مالك الشيء القيم به، والنخل البعل ، بماء السمَاء حياتُه.

وقوله ( إن هذا لشيء عجيب ) ، يقول: إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب ( قالوا أتعجبين من أمر الله ) ، يقول الله تعالى ذكره: قالت الرسل لها: أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون ، وقضاء قضاه الله فيك وفي بعلك.

وقوله: ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) ، يقول: رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة وقوله: ( إنه حَميدٌ مجيد ) ، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه ( مجيد ) ، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم.

يقال في « فعل » منه: « مجد الرجل يمجد مجادة » إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: « مجّدته تمجيدًا » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( 74 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ( 75 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ظلّ ( يجادلنا في قوم لوط ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) يقول: ذهب عنه الخوف، ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف ، قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ، [ سورة إبراهيم: 39 ] .

وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وجاءته البشرى ) ، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون.

وقال آخرون: بشّر بإسحاق.

وأما « الروع » : فهو الخوف، يقال منه: « راعني كذا يَرُوعني روعًا » إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: « كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن » ؟ ومنه قول عنترة:

مَــا رَاعَنــي إلا حَمُوَلُــة أَهْلِهَـا وَسْـطَ الدِّيـارِ تَسَـفُّ حَـبَّ الخِمْخِمِ

بمعمى: ما أفزعني.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « الروع » ، الفَرَق.

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد

. . . . قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: الفَرَق.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: الفَرَق.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: ذهب عنه الخوف.

وقوله: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، يقول: يخاصمنا. كما:-

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يجادلنا ) ، يخاصمنا.

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: ( يجادلنا ) يكلمنا. وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه.

قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل: « إبراهيم لا يجادل » ، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: ( يجادلنا ) ، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه ، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: « وجاءته البشرى يجادل رسلنا » ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف « الرسل » .

وكان جدالُه إيَّاهُم ، كما:-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر، عن سعيد: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه .

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا: لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا: لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة! قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك.

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي، ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، قال : ما خطبُكم أيها المرسلون ؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: « يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين » هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره: ( يجادلنا في قوم لوط ) . فقالت الملائكة: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ .

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا:، لا! قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا؟ قالوا: لا! قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ، يدفع به عنهم العذاب قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ سورة العنكبوت: 32 ] ، قالوا يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ .

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.

حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا ( لما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، إلى آخر الآية قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي ، ولا خمسين ! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ سورة الذاريات:36 ] ، أي لوطًا وابنتيه ، قال: فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ سورة الذاريات:37 ] ، وقال: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ) .

والعرب لا تكاد تَتَلقَّى « لمَّا » إذا وليها فعل ماض إلا بماض، يقولون: « لما قام قمت » ، ولا يكادون يقولون: « لما قام أقوم » . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل « الجدال » « والخصومة » والقتال، فيقولون في ذلك: « لما لقيته أقاتله » ، بمعنى: جعلت أقاتله.

وقوله: ( إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب ) ، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب ، متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره ( منيب ) ، رَجَّاع إلى طاعته، كما:-

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: ( أوّاه منيب ) ، قال: القانت: الرَّجاع.

وقد بينا معنى « الأوّاه » فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول ، بما أغنى عن إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( 76 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم: ( يا إبراهيم أعرض عن هذا ) ، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط، فقالوا: دع عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه فإنه ( قد جاء أمر ربكَ ) يقول : قد جاء أمر ربك بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء ( وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) ، يقول: وإن قوم لوط ، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع.

وقد [ مضى ] ذكر الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( 77 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطًا، ساءَه مَجيئهم وهو « فعل » من « السوء » ( وضاق بهم ) ، بمجيئهم ( ذَرْعًا ) ، يقول: وضاقت نفسه غما بمجيئهم . وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: ( هذا يوم عصيب ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا ) ، يقول: ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه قال: لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم ، والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط . قال: فأتوه فقالوا: إنا مُتَضيِّفوك الليلة، فانطلق بهم، فلما مضى ساعةً التفت فقال: أما تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم ! قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء امرأته، انطلقَت فأنذرتهم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، قال حذيفة، فذكر نحوه.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له، وقال الله للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم. فقالوا: يا لوط ، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال: وما بلغكم من أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا ! يقول ذلك أربع مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منـزله.

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان، اسم الكبرى « ريثا » ، والصغرى « زغرتا » ، فقالوا لها: يا جارية، هل من منـزل؟ قالت: نعم، فَمكانَكم لا تدخُلوا حتى آتيكم ! فَرِقَتْ عليهم من قَوْمها . فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسنَ منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ! وقد كان قومه نهوه أن يُضيف رجلا فقالوا: خَلّ عنَّا فلنضِف الرجال ! فجاء بهم، فلم يعلم أحدٌ إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، قالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قَطّ ! فجاءه قومه يُهْرَعون إليه.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه، فقال: ( هذا يوم عصيبٌ ) .

وأما قوله: ( وقال هذا يوم عصيب ) ، فإنه يقول: وقال لوط: هذا اليوم يوم شديد شره، عظيم بلاؤه،

يقال منه: عصب يومنا هذا يعصب عصبًا، ومنه قول عدي بن زيد:

وَكُـنْتُ لِـزَازَ خَـصْمِكَ لـمْ أُعَـرِّدْ وَقَــدْ سَـلَكُوكَ فِـي يَـوْمٍ عَصِيـب

وقول الراجز:

يَــوْمٌ عَصِيــبٌ يَعْصِـبُ الأَبْطَـالا عَصْــبَ القَــوِيِّ السَّـلَمَ الطِّـوَالا

وقول الآخر:

وَإنَّـكَ إنْ لا تُـرْضِ بَكْـرَ بـنَ وَائِلٍ يَكُـنْ لَـكَ يَـوْمٌ بـالعِرَاقِ عَصِيـبِ

وقال كعب بن جعيل:

ومُلَبُّـــونَ بِـــالحَضِيضِ فِئــامٌ عَارِفــاتٌ مِنْــهُ بِيَــوْمٍ عَصِيـبِ

ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( عصيب ) ، : شديد

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ( هذا يوم عصيب ) ، يقول شديد.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( هذا يوم عصيب ) ، أي يوم بلاء وشدة.

حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يوم عصيب ) ، شديد.

حدثني علي قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( وقال هذا يوم عصيب ) ، أي : يوم شديد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( 78 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه ، يُرْعَدون مع سرعة المشي ، مما بهم من طلب الفاحشة.

يقال: « أهْرِعَ الرجل » ، من برد أو غضب أو حمَّى، إذا أرعد، « وهو مُهْرَع » ، إذا كان مُعْجلا حريصًا، كما قال الراجز:

* بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع *

ومنه قول مهلهل:

فجــاؤوا يُهْرَعُـونَ وهـمْ أُسـارَى تَقُــودُهُمُ عــلى رَغــمِ الأُنُـوفِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( يُهْرَعون إليه ) ، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي.

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قال: يسعون إليه.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : قال : فأتوه يهرعون إليه، يقول: سراعًا إليه.

حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يهرعون إليه ) ، قال: يسرعون إليه.

حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، يقول: يسرعون المشي إليه.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قال: يهرولون في المشي قال سفيان: ( يهرعون إليه ) ، يسرعون إليه.

حدثنا سوار بن عبد الله قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: ( يهرعون إليه ) ، قال: كأنهم يدفعون.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب قال ، حدثنا حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز.

حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، يقول: مسرعين.

وقوله: ( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) ، يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط ، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، كما:-

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) ، قال: يأتون الرجال.

وقوله: ( قال يا قوم هؤلاء بناتي ) ، يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي يعني نساء أمته فانكحوهن فهنّ أطهر لكم، كما:-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: ( هن أطهر لكم ) .

حدثنا محمد قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد.

حدثنا ابن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: لم تكن بناته، ولكن كنَّ من أمّته، وكل نبي أبُو أمَّته.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا أبو بشر، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: ( هن أطهر لكم ) ، قال: ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يَقي أضيافه ببناته.

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر عن الربيع، في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني التزويج حدثني أبو جعفر، عن الربيع في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني التزويج.

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا محمد بن شبيب الزهراني ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قول لوط: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني: نساءهم ، هنّ بَنَاته ، هو نبيّهم وقال في بعض القراءة: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ) [ سورة الأحزاب: 6 ] .

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قالوا: أو لم ننهك أن تضيف العالمين؟ قال: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، إن كنتم فاعلين ، أليس منكم رجل رشيد؟

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون ، والله أعلم ، أن امرأة لوط هي التي أخبرتهم بمكانهم، وقالت: إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم ! وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء، فاحشةٌ ، لم يسبقهم بها أحد من العالمين. فلما جاؤوه قالوا: أو لم ننهك عن العالمين؟ أي : ألم نقل لك: لا يقربنَّك أحدٌ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة؟ قال : « يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم » ، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال من النكاح.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( هؤلاء بناتي ، قال: النساء.

واختلفت القراء في قراءة قوله: ( هن أطهر لكم ) .

فقرأته عامة القراء برفع : ( أَطْهَرُ ) ، على أن جعلوا « هن » اسمًا، « وأطهر » خبره، كأنه قيل: بناتي أطهرُ لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال.

وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ ) ، بنصب « أطهر » .

وكان بعض نحويي البصرة يقول: هذا لا يكون، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة.

وكان بعض نحويي الكوفة يقول: من نصبه جعله نكرةً خارجة من المعرفة، ويكون قوله: « هن » عمادًا للفعل فلا يُعْمِله.

وقال آخر منهم: مسموع من العرب: « هذا زيد إيَّاه بعينه » ، قال: فقد جعله خبرًا لـ « هذا » مثل قولك: « كان عبد الله إياه بعينه » . قال: وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا ، لأن التقريب ردُّ كلام ، فلم يجتمعا ، لأنه يتناقض، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو فيه: « ها أنا ذا حاضر » ، أو : « زيد هو العالم » ، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر، فلذلك لم يجُزْ.

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك، الرفع : ( هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه ، مع صحته في العربية، وبعد النصب فيه من الصحة.

وقوله: ( فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ) ، يقول: فاخشوا الله ، أيها الناس، واحذروا عقابه ، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها ( ولا تخزون في ضيفي ) ، يقول: ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم.

و « الضيف » ، في لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع « ضيفًا » بلفظ واحدٍ. كما قالوا: « رجل عَدْل، وقوم عَدْل » .

وقوله: ( أليس منكم رجل رشيد ) ، يقول: أليس منكم رجل ذو رُشد ، ينهى من أراد ركوبَ الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم وبين ذلك؟ كما:-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ) ، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر؟

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال قوم لوط للوط: ( لقد علمت ) ، يا لوط ( ما لنا في بناتك من حق ) ، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا، كما:-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ) ، أي من أزواج ( وإنك لتعلم ما نريد ) .

وقوله: ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، يقول: قالوا: وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك، وأن الذي نُريد هو ما تنهانَا عنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، إنا نريد الرجال.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، أي : إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا، ولم يردَّهم قوله، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته، قال : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة ، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: ( لو أن لي بكم قوة ) ، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي وحذف جواب « لو » لدلالة الكلام عليه، وأن معناه مفهوم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لوط: ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، يقول: إلى جُنْد شديد ، لقاتلتكم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: العشيرة.

حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( إلى ركن شديد ) ، قال: العشيرة.

حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: إلى ركن من الناس.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال قوله: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوَة من قومه ، حتى النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، أي : عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) قال: يعني به العشيرة.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن: أن هذه الآية لما نـزلت: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد‍ !

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أخي لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فلأيّ شيء استكان !

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمة الله على لوط ، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، ما بعث الله بعدَه من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه قال محمد: و « الثروة » ، الكثرة والمنعة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سليمان بن بلال، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.

حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا سعيد بن تليد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال، حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، فذكر مثله.

حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قد كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه.

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا بن لهيعة، عن أبي يونس، سمع أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد .

. . . . قال، حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، ذكر لنا أنَّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية أو : أتى على هذه الآية قال: رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد! وذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثَرْوة من قومه، حتى بعث الله نبيكم في ثروة من قومه.

يقال: من ( آوي إلى ركن شديد ) ، « أويت إليك » ، فأنا آوي إليك أوْيًا « ، بمعنى : صرت إليك وانضممت، كما قال الراجز: »

يَــأْوِي إِلَـى رُكْـنٍ مِـنَ الأَرْكَـانِ فِــي عَــدَدَ طَيْسٍ وَمجْــدٍ بَـانِ

وقيل: إن لوطًا لما قال هذه المقالة ، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك.

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال لوط: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، فوجد عليه الرسلُ وقالوا: إنَّ ركنَك لشديد!

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ( 81 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: ( يا لوط إنا رسل ربك ) ، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ) ، يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل.

يقال منه: « أسرى » و « سرى » ، وذلك إذا سار بليل ( ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) .

واختلفت القراءة في قراءة قوله: ( فأسر ) .

فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين: « فَاسْرِ » ، وصلٌ بغير همز الألف ، من « سرى » .

وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة: ( فَأَسْرِ ) بهمز الألف ، من « أسرى » .

قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، وهما لغتان مشهورتان في العرب ، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.

وأما قوله: ( إلا امرأتك ) ، فإن عامَّة القراء من الحجاز والكوفة، وبعض أهل البصرة، قرأوا بالنصب ( إلا امْرَأَتَكَ ) ، بتأويل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطًا أمر أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نهي أن يسري بها، وأمر بتخليفها مع قومها.

وقرأ ذلك بعض البصريين: ( إلا امْرَأَتُكَ ) ، رفعًا بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد ، إلا امرأتك فإن لوطًا قد أخرجها معه، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت فهلكت لذلك.

وقوله: ( إنه مصيبها ما أصابهم ) ، يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب ( إن موعدهم الصبح ) ، يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم لوط وقال لهم: بلى عجِّلوا لهم الهلاك ! فقالوا: ( أليس الصبح بقريب ) أي عند الصبح نـزولُ العذاب بهم، كما:-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( أليس الصبح بقريب ) ، أي : إنما ينـزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا، وكان من أمرهم ما ذكر الله، قال جبريل للوط: يا لوط ، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ، فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة ! فقال له جبريل عليه السلام: ( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ؟ فأنـزلت على لوط: ( أليس الصبح بقريب ) ، قال: فأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته، قال: فسار، فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها ، أدخل جبريل جناحَه فرفعها ، حتى سمع أهلُ السماء صياح الديكة ونباحَ الكلاب، فجعل عاليها سافلَها، وأمطر عليها حجارة من سجِّيل. قال: وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه ! فأدركها حَجَرٌ فقتَلها.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه. قال: فلما دخل عليه جبريل ومن معه، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ ، فانطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط ، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل: ( يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، قال: فقال بيده، فطمس أعينهم، فجعلوا يطلبونهم، يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة قال: لما بَصُرت بهم يعني بالرسل عجوزُ السَّوء امرأتُه، انطلقت فأنذرتهم، فقالت: قد تضيَّف لوطًا قوم، ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا ! قال: ولا أعلمه إلا قالت: ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا ! قال: فأتوه يُهْرعون إليه، كما قال الله، فأصْفق لوط البابَ. قال: فجعلوا يعالجونه. قال: فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم، فأذن له، فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ .

فأخبروه : ( إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ) ، قال: ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت، فالتفتت، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها. وقوله: ( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ، فأراد نبيُّ الله ما هو أعجل من ذلك، فقالوا : ( أليس الصبح بقريب ) ؟

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: انطلقت امرأته يعني امرأة لوط حين رأتهم يعني حين رأت الرسل إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط، أحسنَ وجوهًا ولا أطيبَ ريحًا ! فجاؤوا يُهرعون إليه، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب، فقال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، فقالوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ، فدخلوا على الملائكة، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم، فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا، كما أنت حتى تصبح ! قال: واحتمل جبريل قَرْيات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض، حتى سمع أهل السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم، ثم قلبَهم، فجعل الله عاليها سافَلها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال حذيفة: لما دخلوا عليه، ذهبت عَجُوزه عجوزُ السوء، فأتت قومها فقالت: لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ أحسنَ وجوهًا منهم ! قال: فجاؤوا يسرعون، فعاجلَهم إلى لوط، فقام ملك فلزَّ الباب يقول: فسدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن له، فضربهم جبريل بجناحه، فتركهم عميانًا، فباتوا بشرّ ليلة، ثم قالوا ( إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) ، قال: فبلغنا أنها سمعت صوتًا، فالتفتت فأصابها حجر، وهى شاذَّة من القوم معلومٌ مكانها.

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حذيفة بنحوه، إلا أنه قال: فعاجلهم لوط.

حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما قال لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: « النَّجَاءَ النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض » ! فذلك قوله: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ، [ سورة القمر: 37 ] . وقالوا للوط: ( إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ) ، وَاتبع أدبارَ أهلك يقول: سرْ بهم وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ فأخرجهم الله إلى الشام. وقال لوط: أهلكوهم الساعة! فقالوا: إنا لم نؤمر إلا بالصُّبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما أن كان السَّحَر ، خرج لوط وأهله معه امرأته، فذلك قوله: إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ، [ سورة القمر: 34 ] .

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط ، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال ، فلما رأى الله ذلك [ منهم ] ، بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، وكان من أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد، قاموا وقام معهم إبراهيم يمشي، قال: أخبروني لم بعثتم ؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى أهل سدوم لندمرها، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: [ أرأيتم ] إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا؟ قالوا: إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل بَيْت ؟ قالوا: فإن كان فيها بيت صالح! قال: فلوط وأهل بيته؟ قالوا: إن امرأته هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف . ومضوا إلى أهل سدوم، فدخلوا على لوط ، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نـزل بنا قومٌ لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل ! فتسامعوا بذلك، فغشُوا دار لُوط من كل ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. فلقيهم لوط فقال: يا قوم لا تفضحون في ضيفي، وأنا أزوّجكم بناتي ، فهن أطهر لكم ! فقالوا: لو كنَّا نُريد بناتك ، لقد عرفنا مكانهن! فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ! فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ! فمسح أحدهم أعينهم بجناحيه، فطمس أبصارَهم فقالوا: سُحِرْنا، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه ! فكان من أمرهم ما قد قصَّ الله تعالى في القرآن. فأدخل ميكائيل وهو صاحبُ العذاب جناحه حتى بلغ أسفل الأرض، فقلبها، ونـزلت حجارة من السماء، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية حيث كانُوا، فأهلكهم الله، ونجّى لوطًا وأهله، إلا امرأته.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وعن أبي بكر بن عبد الله وأبو سفيان، عن معمر عن قتادة، عن حذيفة، دخل حديث بعضهم في بعض قال: كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول: ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا ، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه ، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال: فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة، فقالوا: إنَّا مُضيِّفوك الليلة ! وكان الله تعالى عهد إلى جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات . فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام، فمشى معهم ساعةً، ثم التفت إليهم، فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرضِ شرًّا منهم! أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله ! فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال: احفظوا هذه واحدة ! ثم مشى ساعةً ، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم، قال: أما تعلمون ما يعملُ أهل هذه القرية؟ وما أعلم على وجه الأرض شرًّا منهم، إن قومي شر خلق الله ! فالتفت جبريل إلى الملائكة، فقال: احفظوا ، هاتان ثنتان ! فلما انتهى إلى باب الدار بكَى حياءً منهم وشفقة عليهم ، وقال: إن قومي شرُّ خلق الله، أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم ! فقال جبريل للملائكة: احفظوا هذه ثلاثٌ، قد حُقَّ العذاب! فلما دخلوا ذهبت عجوزُه، عجُوز السَّوء، فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يهرعون سراعًا، قالوا: ما عندك؟ قالت: ضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت أحسنَ وجوهًا منهم ولا أطيب ريحًا منهم ! فهُرِعوا يسارعون إلى الباب، فعاجلهم لوط على الباب، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ، فقام الملك فلزَّ الباب يقول: فسَدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه، ولجبريل جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا أجلَى الجبين، ورأسه حُبُك، مثل المرجان ، وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لوط ، ( إنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، أمِطْ ، يا لوط ، من الباب ودعني وإياهم . فتنحى لوط عن الباب، فخرج عليهم ، فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربةً شَدَخ أعينهم ، فصاروا عميًا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم. ثم أمر لوطًا فاحتمل بأهله من ليلته، قال: ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ) .

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال لوط لقومه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، والرسل تسمع ما يقول وما يُقال له ، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا : ( يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، أي : بشيء تكرهه ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ، أي إنما ينـزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.

. . . . قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه، فرجعوا عميانًا. قال: يقول الله: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ [ سورة القمر: 37 ] .

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بقطع من الليل ) ، قال: بطائفة من الليل.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بقطع من الليل ) ، بطائفة من الليل.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس قوله: ( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ، قال: جوف الليل وقوله: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ، يقول: واتبع أدبار أهلك ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) [ سورة الحجر: 65 ] .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ولا يلتفت منكم أحد ) ، قال: لا ينظر وراءَه أحد ( إلا امرأتك ) .

وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ ) .

حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج، عن هارون، قال في حرف ابن مسعود: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ ) .

قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب.