القول في تأويل قوله تعالى : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ( 98 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( يقدم ) ، فرعون ( قومه يوم القيامة ) ، يقودهم، فيمضي بهم إلى النار ، حتى يوردهموها ، ويصليهم سعيرها، ( وبئس الورد ) ، يقول: وبئس الورد الذي يردونه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يقدم قومه يوم القيامة ) ، قال: فرعون يقدم قومه يوم القيامة ، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( يقدم قومه يوم القيامة ) يقول: يقود قومه « فأوردهم النار » .

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: ( يقدم قومه يوم القيامة ) ، يقول: أضلهم فأوردهم النار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: ( فأوردهم النار ) ، قال: « الورد » ، الدُّخول.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فأوردهم النار ) ، كان ابن عباس يقول: « الورد » في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: ( وبئس الورد المورود ) وفي مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا [ سورة مريم: 71 ] ، وورد في « الأنبياء » : حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ، [ سورة الأنبياء: 98 ] ، وورد في « مريم » أيضًا: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [ سورة مريم: 86 ] كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ، [ سورة مريم: 72 ] .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ( 99 )

قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وأتبعهم الله في هذه يعني في هذه الدنيا مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه ( ويوم القيامة ) ، يقول: وفي يوم القيامة أيضًا يلعنون لعنةً أخرى، كما:-

حدثنا بن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال: لعنةً أخرى.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال : زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى، فتلك لعنتان.

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، اللعنةُ في إثر اللعنة.

. . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال: زيدوا لعنة أخرى، فتلك لعنتان.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( في هذه ) ، قال: في الدنيا ( ويوم القيامة ) ، أردفوا بلعنة أخرى ، زيدوها، فتلك لعنتان.

وقوله: ( بئس الرفد المرفود ) ، يقول: بئس العَوْن المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها.

وأصل « الرفد » ، العون، يقال منه: « رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا » بكسر الراء وإذا فتحت، فهو السَّقي في القدح العظيم، و « الرَّفد » : القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى:

رُبَّ رَفْــدٍ هَرَقْتَــهُ ذَلِــكَ الْيَـوْ مَ وَأسْــرَى مِــنْ مَعْشَــرٍ أَقْتَـالِ

ويقال: « رَفد فلان حائطه » ، وذلك إذا أسنده بخشبة ، لئلا يسقط. و « الرَّفد » ، بفتح الراء المصدر. يقال منه: « رَفَده يَرفِده رَفْدًا » ، و « الرِّفْد » ، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان ، وهو « المَرْفَد » .

وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنة الدنيا والآخرة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنهم الله في الدنيا، وزيد لهم فيها اللعنة في الآخرة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا فيها لعنةً في الآخرة .

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، يقول: ترادفت عليهم اللعنتان من الله ، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أصابتهم لعنتان في الدنيا، رفدت إحداهما الأخرى، وهو قوله: ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ( 100 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه السورة، ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها ، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله ( نقصه عليك ) فنخبرك به ( منها قائم ) ، يقول: منها قائم بنيانه ، بائدٌ أهله هالك ، ومنها قائم بنيانه عامر، ومنها حصيدٌ بنيانه ، خرابٌ متداعٍ، قد تعفى أثرُه دارسٌ.

من قولهم: « زرع حصيد » ، إذا كان قد استؤصل قطعه، وإنما هو محصود، ولكنه صرف إلى « فعيل » ، كما قد بينا في نظائره.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) ، يعني ب « القائم » قُرًى عامرة. و « الحصيد » قرى خامدة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( قائم وحصيد ) ، قال: « قائم » على عروشها و « حصيد » مستأصَلة.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( منها قائم ) ، يرى مكانه، ( وحصيد ) لا يرى له أثر.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( منها قائم ) ، قال: خاوٍ على عروشه ( وحصيد ) ، ملزقٌ بالأرض.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن الأعمش: ( منها قائم وحصيد ) ، قال: خرَّ بنيانه.

حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( منها قائم وحصيد ) ، قال: « الحصيد » ، ما قد خرَّ بنيانه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( منها قائم وحصيد ) ، منها قائم يرى أثره، وحصيدٌ بَادَ لا يرى أثره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( 101 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك ، يا محمد ، بغير استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا إياهُمْ في غير موضعها ( ولكن ظلموا أنفسهم ) ، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبتَه وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها ( فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ) ، يقول: فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله ، ويدعونها أربابًا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء ، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه ( لما جاء أمر ربك ) ، يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ عليهم عقابه ، ونـزل بهم سَخَطه ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، يقول: وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك.

يقال منه: « تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا » ، ومنه قولهم للرجل: « تبًّا لك » ، قال جرير:

عَــرَادَةُ مِــنْ بَقِيَّــةِ قَـوْمِ لُـوطٍ أَلا تَبًّـــا لِمَـــا فَعَلُــوا تَبَابًــا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثني قال ، حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري قال ، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن ابن عمر في قوله: ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، قال: غير تخسير.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( غير تتبيب ) ، قال: تخسير.

حدثنا المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: ( غير تتبيب ) ، يقول: غير تخسير.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( غير تتبيب ) ، قال: غير تخسير.

قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره، وإن كان خبرًا عمَّن مَضَى من الأمم قبلنا، فإنه وعيدٌ من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة ، أنا إن سلكنا سبيلَ الأمم قبلَنا في الخلاف عليه وعلى رسوله، سلك بنا سبيلهم في العُقوبة وإعلام منه لما أنه لا يظلم أحدًا من خلقه، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم، كما:-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال، اعتذر يعني ربنا جل ثناؤه إلى خلقه فقال: ( وما ظلمناهم ) ، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم ، ( ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم ) ، حتى بلغ: ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، قال: ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( 102 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أخذت، أيها الناس ، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب، على خلافهم أمري ، وتكذيبهم رسلي ، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا أخذتهم بعقابي ، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله ، وإشراكهم به غيره ، وتكذيبهم رسله ( إنَّ أخذه أليم ) ، يقول: إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه ( أليم ) ، يقول: موجع ( شديد ) الإيجاع.

وهذا من الله تحذيرٌ لهذه الأمة ، أن يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة، فيحل بهم ما حلَّ بهم من المثُلات، كما:-

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن بريد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُمْلي ورُبَّما ، قال: يمهل الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) .

وكان عاصم الجحدريّ يقرأ ذلك: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين ، وما عليه قراء الأمصار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ( 103 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن في أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية، يقول: لعبرة وعظة لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده، وحجةً عليه لربه، وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه.

وقيل: بل معنى ذلك: إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ، بأن الله سيفي له بوَعْده.

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ) ، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة ، كما وفينا للأنبياء : أنا ننصرهم.

وقوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس ) ، يقول تعالى ذكره: هذا اليوم يعني يوم القيامة ( يوم مجموع له الناس ) ، يقول: يحشر الله له الناس من قبورهم، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب ( وذلك يوم مشهود ) ، يقول: وهو يوم تَشهده الخلائق ، لا يتخلَّف منهم أحدٌ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد في قوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) ، قال: يوم القيامة.

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عكرمة، مثله.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال، « الشاهد » ، محمد، و « المشهود » ، يوم القيامة. ثم قرأ: ( ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود ) .

حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن ابن عباس قال: « الشاهد » ، محمد و « المشهود » ، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) .

حدثت عن المسيب ، عن جويبر، عن الضحاك قوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) ، قال: ذلك يوم القيامة، يجتمع فيه الخلق كلهم ، ويشهدُه أهل السماء وأهل الأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( 104 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى، فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه، فلا يأتي إلا لأجله ذلك، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا يتأخر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ( 105 ) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( 106 ) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ( 107 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: يوم يأتي يوم القيامة ، أيها الناس، وتقوم الساعة ، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها.

واختلفت القراء في قراءة قوله: ( يَوْمَ يَأْتِي ) .

فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ) .

وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف.

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ) .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: ( يَوْمَ يَأْتِ ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعًا لخط المصحف، وأنها لغة معروفة لهذيل، تقول: « مَا أدْرِ مَا تَقول » ، ومنه قول الشاعر:

كَفَّــاكَ كَــفٌّ مَـا تُلِيـقُ دِرْهَمَـا جُـودًا وأُخْـرَى تُعْـطِ بِالسَّـيْفِ الدَّمَا

وقيل: ( لا تَكَلَّمُ ) ، وإنما هي « لا تتكلم » ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.

وقوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقيٌّ وسعيد وعاد على « النفس » ، وهي في اللفظ واحدة ، بذكر الجميع في قوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) .

يقول: تعالى ذكره: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ) وهو أوّل نُهاق الحمار وشبهه ( وَشَهِيقٌ ) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نُهاقه، كما قال رؤبة بن العجاج:

حَشْـرَجَ فِـي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ شَهَقْ حَــتَّى يُقَــالَ نَـاهِقٌ وَمَـا نَهَـقْ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، يقول: صوت شديدٌ وصوت ضعيف.

. . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية في قوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، قال: « الزفير » في الحلق، و « الشهيق » في الصدر.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية ، بنحوه.

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله زفير وآخره شهيق

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، ومحمد بن معمر البحراني ، ومحمد بن المثني ، ومحمد بن بشار قالوا، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سليمان بن سفيان قال ، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر قال، لما نـزلت هذه الآية : ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله، فعلام عَمَلُنا؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فُرِغ منه ، يا عمر ، وجرت به الأقلام، ولكن كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له اللفظ لحديث ابن معمر.

وقوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، يعني تعالى ذكره بقوله: ( خالدين فيها ) ، لابثين فيها ويعني بقوله: ( ما دامت السماوات والأرض ) ، أبدًا .

وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: « هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار » . و « ما سمر ابنا سَمِير » ، و « ما لألأت العُفْرُ بأذنابها » يعنون بذلك كله « أبدا » . فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا.

وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، قال: ما دامت الأرض أرضًا، والسماءُ سماءً.

ثم قال: ( إلا ما شاء ربك ) ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل التوحيد ، أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، قال: الله أعلم بثُنَياه.

وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الجنة.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، والله أعلم بثَنيَّته . ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم : « الجهنَّميُّون » .

حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا شيبان بن فروخ قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة، وتلا هذه الآية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، إلى قوله: ( لما يريد ) ، فقال عند ذلك: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يَخْرج قومٌ من النار قال قتادة: ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. »

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، قال: استثناء في أهل التوحيد.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك بن مزاحم: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ) ، إلى قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، فهم الذين استثنى لهم.

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن عامر بن جشيب، عن خالد بن معدان في قوله: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ، [ سورة النبأ: 23 ] ، وقوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، أنهما في أهل التوحيد.

وقال آخرون: الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد، إلا أنهم قالوا: معنى قوله: ( إلا ما شاء ربك ) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار. ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ) ( إلا ما شاء ربك ) ، لا من « الخلود » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو: أبي سعيد يعني الخدري أو : عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول: حيث كان في القرآن ( خالدين فيها ) ، تأتي عليه قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوَزَ عن عذابه.

وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها.

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن المسيب عمن ذكره، عن ابن عباس: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض، ( إلا ما شاء ربك ) ، قال: استثناءُ الله. قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ أبوابُها ، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا.

وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض .قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، فقرأ حتى بلغ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، كما قد بينا في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها ، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: « لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار مؤمن » ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث.

ولأهل العربية في ذلك مذهبٌ غير ذلك، سنذكره بعدُ، ونبينه إن شاء الله . .

وقوله: ( إن ربك فعال لما يريد ) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك ، يا محمد ، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره ، من الانتقام منه، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه ، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعلُه وقضاؤهُ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( 108 )

قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا ) ، بفتح السين.

وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ) ، بضم السين، بمعنى: رُزِقوا السعادة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.

فإن قال قائل: وكيف قيل: ( سُعِدُوا ) ، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل: « أسعدوا » ، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله : « سعده الله » ، بل إنما تقول: « أسعده الله » ؟

قيل ذلك نظير قولهم: « هو مجنون » و « محبوب » ، فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل: « أجنه الله » ، و « أحبه » ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا.

وتأويل ذلك: وأما الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، يقول: أبدًا ( إلا ما شاء ربك ) .

فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: ( إلا ما شاء ربك ) ، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا: وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك في قوله: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول: خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة.

وقال آخرون: معنى ذلك: ( إلا ما شاء ربك ) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا: وذلك هو الخلود فيها أبدًا.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال: ( عطاء غير مجذوذ ) .

واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع.

فقال بعضهم في ذلك معنيان:

أحدهما : أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك: « والله لأضربنَّك إلا أن أرى غير ذلك » ، وعزمُك على ضربه. قال: فكذلك قال: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، ولا يشاؤه، [ وهو أعلم ] .

قال: والقول الآخر: أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله ، ومع ما هو أكثر منه ، كان معنى « إلا » ومعنى « الواو » سواء. فمن كان قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) سوى ما شاء الله من زيادة الخلود، فيجعل « إلا » مكان « سوى » فيصلح، وكأنه قال: « خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد » . ومثله في الكلام أن تقول: لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [ مِنْ قِبَل فلان « ، أفلا ترى أنه في المعنى : لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين ] ؟ قال: وهذا أحبُّ الوجهين إليّ ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. وقد وصل الاستثناء بقوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم. »

وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا: جائز فيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد. يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ.

وقال آخر منهم: جائز أن يكون دوام السموات والأرض ، بمعنى : الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وتستثنى المشيئة من داومها ، لأنَّ أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات والأرض في الدنيا ، لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة ، وخالدين في النار ، دوامَ السماء، والأرض ، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، من قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في « إلا » توجيهها إلى معنى الاستثناء ، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها ، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام أعني في قوله: ( إلا ما شاء ربك ) تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه.

وأما قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، فإنه يعني : عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم.

من قولهم: « جذذت الشيء أجذّه جذًّا » ، إذا قطعته، كما قال النابغة:

تَجــذُّ السَّـلُوقِيَّ المُضَـاعَفَ نَسْـجُهُ وَيوقِــدْنَ بِالصُّفَّـاحِ نَـارَ الحُبَـاحِبِ

يعني بقوله: « تجذ » : تقطع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: غير مقطوع.

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، يقول: غير منقطع.

حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( عطاء غير مجذوذ ) ، يقول: عطاء غير مقطوع.

حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مجذوذ ) ، قال: مقطوع.

حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: غير مقطوع.

. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

.... قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

. . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: أما هذه فقد أمضَاها. يقول: عطاء غير منقطع.

حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، غير منـزوع منهم.