القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( 15 )

قال أبو جعفر : وفي الكلام متروكٌ حذف ذكره، اكتفاءً بما ظهر عما ترك ، وهو: أَرْسِلْهُ مَعَنَا ، ( فلما ذهبوا به وأجمعوا ) ، يقول: وأجمع رأيهم، وعزموا على ( أن يجعلوه في « غيابة الجب » ) . كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قوله: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ، الآية ، قال، قال: لن أرسله معكم ، إني أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ، فأرسله معهم ، فأخرجوه وبه عليهم كرامة، فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه ، فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيمًا ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه! يا يعقوب! لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء ! فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا أليس قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجبّ ليطرحوه ، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلّق بشَفير البئر.

فربطوا يديه، ونـزعوا قميصه ، فقال: يا إخوتاه! ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ ! فقالوا: ادعُ الشمسَ والقمرَ والأحد عشر كوكبًا تؤنسك ! قال: إني لم أر شيئًا ، فدلوه في البئر، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادةَ أن يموت. وكان في البئر ماءٌ فسقط فيه ، ثم أوَى إلى صخرة فيها فقام عليها . قال: فلما ألقوه في البئر، جعل يبكي ، فنادوه ، فظنّ أنها رحمة أدركتهم ، فلبَّاهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه ، فقام يهوذا فمنعهم ، وقال: قد أعطيتموني موثقًا أن لا تقتلوه! وكان يهوذا يأتيه بالطعام.

وقوله: ( فلما ذهبوا به وأجمعوا ) فأدخلت « الواو » في الجواب ، كما قال امرؤ القيس:

فَلَمَّـا أجَزْنَـا سَـاحَةَ الحَـيِّ وانْتَحَـى بِنـا بَطْـنُ خَـبْتٍ ذِي قِفـاف عَقَنْقَل

فأدخل الواو في جواب « لما » ، وإنما الكلام: فلما أجزنا ساحة الحي، انتحى بنا ، وكذلك: ( فلما ذهبوا وأجمعوا ) ، لأن قوله: « أجمعوا » هو الجواب.

وقوله: ( وأوحينا إليه لتنبِّئنهم بأمرهم ) ، يقول: وأوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك ( بأمرهم هذا ) يقول: بفعلهم هذا الذي فعلوه بك ( وهم لا يشعرون ) يقول: وهم لا . يعلمون ولا يدرُون .

ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله عز وجل بقوله: ( وهم لا يشعرون ) .

فقال بعضهم: عنى بذلك: أن الله أوحى إلى يوسف أنّ يوسف سينبئ إخوته بفعلهم به ما فعلوه: من إلقائه في الجب ، وبيعهم إياه ، وسائر ما صنعوا به من صنيعهم ، وإخوته لا يشعرون بوحي الله إليه بذلك .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( وأوحينا إليه ) إلى يوسف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا ) قال: أوحينا إلى يوسف: لتنبئن إخوتك.

...قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله: ( وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) قال: أوحى إلى يوسف وهو في الجبّ أنْ سينبئهم بما صنعوا ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال مجاهد: ( وأوحينا إليه ) ، قال: إلى يوسف.

وقال آخرون: معنى ذلك: وأوحينا إلى يوسف بما إخوته صانعون به ، وإخوته لا يشعرون بإعلام الله إيّاه بذلك .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) ، بما أطلع الله عليه يوسف من أمرهم، وهو في البئر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال: حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: ( وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) ، قال: أوحى الله إلى يوسف وهو في الجب أن ينبئهم بما صنعوا به ، وهم لا يشعرون بذلك الوحي.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد ، قال: أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة، بنحوه إلا أنه قال: أن سينبئهم .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يوسف سينبئهم بصنيعهم به، وهم لا يشعرون أنه يوسف .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله: ( وهم لا يشعرون ) يقول: وهم لا يشعرون أنه يوسف.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي، عن أبيه، قال: سمعت ابن عباس يقول: لما دخل إخوة يوسف فعرفهم وهم له منكرون ، قال: جيء بالصُّوَاع، فوضعه على يده، ثم نقره فطنَّ، فقال: إنه ليخبرني هذا الجامُ أنه كان لكم أخٌ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم ، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب! قال: ثم نقره فطنَّ فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدَمٍ كذب! قال: فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم! قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية نـزلت إلا فيهم: ( لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ( 16 ) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ( 17 )

قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه: وجاء إخوة يوسف أباهم، بعد ما ألقوا يوسف في غيابة الجبّ عشاء يبكون.

وقيل: إن معنى قوله: ( نستبق ) ننتضل من « السباق » كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد قال، حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال: أقبلوا على أبيهم عشاء يبكون ، فلما سمع أصواتهم فزع وقال: ما لكم يا بنيّ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا ! قال: فما فعل يوسف؟ قالوا: ( يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ) ! فبكى الشيخ وصاح بأعلى صوته، وقال: أين القميص؟ فجاءوه بالقميص عليه دمٌ كذب ، فأخذ القميص فطرحه على وجهه ، ثم بكى حتى تخضَّب وجهه من دم القميص.

وقوله: ( وما أنت بمؤمن لنا ) ، يقولون: وما أنت بمصدّقنا على قِيلنا: إن يوسف أكله الذئب، ولو كنا صادقين! كما:-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي: ( وما أنت بمؤمن لنا ) قال: بمصدق لنا!

[ فإن قال قائل : ( ولو كنا صادقين ) وقوله ] : ( ولو كنا صادقين ) ، إما خبرٌ عنهم أنهم غير صادقين ، فذلك تكذيب منهم أنفسَهم أو خبرٌ منهم عن أبيهم أنه لا يصدِّقهم لو صدَقوه، فقد علمت أنهم لو صَدَقوا أباهم الخبرَ صَدَّقهم؟

قيل: ليس معنى ذلك بواحد منهما ، وإنما معنى ذلك: وما أنت بمصدِّق لنا ولو كنا من أهل الصدق الذين لا يُتَّهمون، لسوء ظنك بنا، وتُهمَتك لنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( 18 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) ، وسماه الله « كذبًا » لأن الذين جاؤوا بالقميص وهو فيه، كذَبوا ، فقالوا ليعقوب: « هو دم يوسف » ، ولم يكن دمه، وإنما كان دم سَخْلةٍ، فيما قيل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، في قوله: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) قال: دم سخلة.

حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) قال: دم سخلة، شاة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( بدم كذب ) قال: دم سخلة يعني: شاة .

حدثني المثنى ، قال: حدثنا أبو حذيفة ، قال: حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله: ( بدم كذب ) قال: دم سخلةٍ، شاة.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله: ( بدم كذب ) قال: كان ذلك الدم كذبًا ، لم يكن دمَ يوسف.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين ، قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: ( بدم كذب ) قال: دم سخلة، شاة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله: ( بدم كذب ) قال: بدم سخلة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السدي ، قال: ذبحوا جديًا من الغنم ، ثم لطَّخوا القميص بدمه ، ثم أقبلوا إلى أبيهم ، فقال يعقوب: إن كان هذا الذئبُ لرحيما! كيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟ يا بني، يا يوسف ما فعل بك بنو الإماء!

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن سماك بن حرب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) قال: لو أكله السبع لخرق القميص.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال، حدثنا أبو خالد ، قال، حدثنا سفيان بإسناده عن ابن عباس، مثله إلا أنه قال: لو أكله الذئب لخرَّق القميص.

حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) ، قال: لو كان الذئب أكله لخرَّقه.

حدثني عبيد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان بن عمرو قال، حدثنا قرة ، عن الحسن ، قال: جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، فجعل ينظر إليه فيرى أثر الدم، ولا يرى فيه خَرْقًا ، قال: يا بني ما كنت أعهدُ الذئب حليمًا؟

حدثنا أحمد بن عبد الصمد الأنصاري ، قال، حدثنا أبو عامر العقدي ، عن قرة ، قال: سمعت الحسن يقول: لما جاؤوا بقميص يوسف ، فلم ير يعقوب شقًّا ، قال: يا بني ، والله ما عهدت الذئب حليمًا؟

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عمران بن مسلم ، عن الحسن ، قال: لما جاء إخوة يوسف بقميصه إلى أبيهم ، قال: جعل يقلبه فيقول: ما عهدت الذئب حليمًا؟ أكل ابني، وأبقى على قميصه !

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) قال: لما أتوا نبيَّ الله يعقوب بقميصه ، قال: ما أرى أثرَ سبع ولا طعْنٍ، ولا خرْق.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: ( بدم كذب ) الدم الكذب ، لم يكن دم يوسف.

حدثنا القاسم ، قال: حدثنا الحسين ، قال: حدثنا هشيم ، قال: أخبرنا مجالد ، عن الشعبي قال: ذبحوا جديًا ولطخوه من دمه. فلما نظر يعقوب إلى القميص صحيحًا ، عرف أن القوم كذبوه. فقال لهم: إن كان هذا الذئب لحليمًا ، حيث رَحم القميص ولم يرحم ابني ! فعرف أنهم قد كذبوه.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة ، عن سيفان ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس: ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ) قال: لما أتي يعقوب بقميص يوسف ، فلم ير فيه خرقًا ، قال: كذبتم ، لو أكله السبع لخرق قميصه !

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الأزرق ، ويعلى ، عن زكريا ، عن سماك ، عن عامر قال: كان في قميص يوسف ثلاث آيات :حين جاؤوا على قميصه بدم كذب . قال: وقال يعقوب: لو أكله الذئب لخرقَ قميصه.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال: حدثنا محمد قال، حدثنا زكريا ، عن سماك ، عن عامر قال: إنه كان يقول: في قميص يوسف ثلاث آيات: حين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرًا ، وحين قُدَّ منْ دُبُر ، وحين جاؤوا على قميصه بدم كذب.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عامر قال: كان في قميص يوسف ثلاث آيات: الشقُّ ، والدم ، وألقاه على وجه أبيه فارتدَّ بصيرًا.

حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة ، عن الحسن ، قال: لما جيء بقميص يوسف إلى يعقوب ، فرأى الدم ولم ير الشق قال: ما عهدت الذئب حليمًا؟

..... قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا قرة ، عن الحسن ، بمثله .

* * * *

فإن قال قائل: كيف قيل: ( بدم كذب ) وقد علمت أنه كان دمًا لا شك فيه ، وإن لم يكن كان دم يوسف؟

قيل: في ذلك من القول وجهان:

أحدهما: أن يكون قيل ( بدم كذب ) لأنه كُذِب فيه كما يقال « : الليلة الهلالُ » ، وكما قيل: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ [ سورة البقرة 16 ] . وذلك قولٌ كان بعض نحويي البصرة يقوله.

والوجه الآخر: وهو أن يقال: هو مصدر بمعنى « مفعول » . وتأويله: وجاؤوا على قميصه بدم مكذوب كما يقال: « ما له عقل ولا معقول » ، و « لا له جَلَد ولا له مجْلود » . والعرب تفعل ذلك كثيرًا ، تضع « مفعولا » في موضع المصدر ، والمصدر في موضع مفعول ، كما قال الراعي:

حَــتَّى إذَا لــم يَــتْرُكُوا لِعِظَامِـهِ لَحْمًـــا وَلا لِفـــؤادِهِ مَعْقــول

وذلك كان يقوله بعض نحويي الكوفة .

وقوله: ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا ) يقول تعالى ذكره: قال يعقوب لبنيه الذين أخبروه أن الذئب أكل يوسف مكذبا لهم في خبرهم ذلك: ما الأمر كما تقولون، ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا ) يقول: بل زيَّنت لكم أنفسكم أمرًا في يوسف وحسنته، ففعلتموه كما:-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: قال ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا ) ، قال: يقول: بل زينت لكم أنفسكم أمرًا.

وقوله: ( فصبر جميل ) يقول: فصبري على ما فعلتم بي في أمر يوسف صبرٌ جميل أو فهو صبر جميل.

وقوله ( والله المستعان على ما تصفون ) يقول: واللهَ أستعين على كفايتي شرّ ما تصفون من الكذب .

وقيل « : إن الصبر الجميل » ، هو الصبر الذي لا جزع فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( فصبر جميل ) قال: ليس فيه جزع.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة ، قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم ، قال: حدثنا سفيان ، عن مجاهد: ( فصبر جميل ) في غير جزع.

.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

..... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة ، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( فصبر جميل ) قال: صبر لا شكوى فيه. قال: من بثّ فلم يصبر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله: ( فصبر جميل ) قال: صبر لا شكوى فيه.

... قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد: ( فصبر جميل ) : ليس فيه جزع.

حدثنا الحسن بن محمد قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن رجل ، عن مجاهد في قوله: ( فصبر جميل ) : قال: في غير جزع.

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن بعض أصحابه قال: يقال: ثلاث من الصبر: أن لا تحدِّث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكّي نفسك

قال أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت: أن يعقوب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد سقط حاجبَاه ، فكان يرفعهما بخرقةٍ ، فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان ، وكثرة الأحزان! فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: يا يعقوب، أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها ، فاغفرها لي.

وقوله: ( والله المستعان على ما تصفون ) .

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( والله المستعان على ما تصفون ) أي على ما تكذبون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 19 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين ( فأرسلوا واردهم ) وهو الذي يرد المنهل والمنـزل , و « وروده إياه » ، مصيره إليه ودخوله . ( فأدلى دلوه ) يقول: أرسل دلوه في البئر.

يقال: « أدليت الدلو في البئر » إذا أرسلتها فيه , فإذا استقيت فيها قلت: « دلوْتُ أدْلُو دلوًا » .

وفي الكلام محذوف، استغنى بدلالة ما ذكر عليه، فترك , وذلك: ( فأدلى دلوه ) فتعلق به يُوسف، فخرج , فقال المدلي: ( يا بشرى هذا غلام ) .

وبالذي قلنا في ذلك , جاءت الأخبار عن أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي: ( وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ) فتعلق يوسف بالحبل، فخرج , فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه يقال له « بُشرى » : ( يا بشرى هذا غلامٌ ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ) فتشبث الغلام بالدلو , فلما خرج قال: ( يا بشرى هذا غلام ) .

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( فأرسلوا واردهم ) يقول: أرسلوا رسولهم , فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ( ( قال يا بشرى هذا غلام ) .

واختلفوا في معنى قوله: ( يا بشرى هذا غلام ) .

فقال بعضهم: ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ( قال يا بشرى هذا غلام ) تباشروا به حين أخرجوه . وهي بئر بأرض بيت المقدس معلومٌ مكانها

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( يا بشرى هذا غلام ) قال: بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف.

وقال آخرون: بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( يا بشرى هذا غلام ) قال: نادى رجلا من أصحابه يقال له « بشرى » , فقال: ( يا بشرى هذا غلام ) .

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا خلف بن هشام , قال: حدثنا يحيى بن آدم , عن قيس بن الربيع , عن السدي , في قوله: ( يا بشرى هذا غلام ) قال: كان اسم صاحبه « بشرى » .

حدثني المثنى , قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد , قال: حدثنا الحكم بن ظهير , عن السدي , في قوله: ( يا بشرى هذا غلام ) قال: اسم الغلام « بشرى » ; قال: « يا بشرى » , كما تقول « : يا زيد » .

واختلفت القراء في قراءة ذلك:

فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة: « يا بُشْرَيَّ » بإثبات ياء الإضافة , غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم، في قولهم « : غلامي » و « جاريتي » ، في كل حال , وذلك من لغة طيئ , كما قال أبو ذؤيب:

سَــبَقوا هَــوَيَّ وأَعْنَقُـوا لِهَـوَاهُمُ فَتُخِــرِّمُوا وَلِكُــلِّ جَـنْبٍ مَصْـرَعُ

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( يا بُشْرَى ) بإرسال الياء وترك الإضافة .

وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل:

أحدهما ما قاله السدي , وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه , كما يقال: « يا زيد » , و « يا عمرو » , فيكون « بشرى » في موضع رفع بالنداء.

والآخر: أن يكون أرادَ إضافة البشرى إلى نفسه , فحذف الياء وهو يريدها , فيكون مفردًا وفيه نيَّة الإضافة , كما تفعل العرب في النداء فتقول: « يا نفس اصبري » , و « يا نفسي اصبري » , و « يا بُنَيُّ لا تفعل » , و « يا بُنَيِّ لا تفعل » , فتفرد وترفع، وفيه نية الإضافة. وتضيف أحيانًا فتكسر , كما تقول: « يا غلامِ أقبل » , و « يا غلامي أقبل » .

قال أبو جعفر: وأعجب القراءة في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ; لأنه إن كان اسم رجل بعينِه كان معروفًا فيهم كما قال السدي , فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها . وإن كان من التبشير فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بيَّنت.

وأما التشديد والإضافة في الياء، فقراءة شاذة، لا أرى القراءة بها , وإن كانت لغة معروفة ; لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .

وأما قوله: ( وأسروه بضاعة ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم , وقالوا لهم « : هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر » ; لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وأسرو بضاعة ) قال: صاحب الدلو ومن معه , قالوا لأصحابهم: « إنما استبضعناه » , خيفةَ أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه. وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثق منه لا يأبَقْ ! حتى وَقَفوه بمصر , فقال: من يبتاعني ويُبَشَّر؟ فاشتراه الملك , والملك مُسلم.

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه غير أنه قال: خيفة أن يستشركوهم إن علموا به , واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه: استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد

.... قال: وحدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , بنحوه غير أنه قال: خيفة أن يشاركوهم فيه، إن علموا بثمنه .

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , بنحوه إلا أنه قال: خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه . وقال أيضًا: حتى أوقفوه بمصر.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( وأسروه بضاعة ) قال: لما اشتراه الرجلان فَرَقًا من الرفقة أن يقولوا: « اشتريناه » فيسألونهم الشركة , فقالا إن سألونا ما هذا؟ قلنا بضاعة استبضَعَناه أهل الماء . فذلك قوله: ( وأسروه بضاعة ) بينهم

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأسرّه التجار بعضهم من بعض .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع , عن سفيان , عن رجل , عن مجاهد: ( وأسروه بضاعة ) قال: أسرّه التجار بعضهم من بعض.

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو نعيم الفضل , قال: حدثنا سفيان , عن مجاهد: ( وأسروه بضاعة ) قال: أسرّه التجار بعضهم من بعض.

وقال آخرون: معنى ذلك: أسرُّوا بيعَه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى , قال: أخبرنا عبد الرزاق , قال: أخبرنا معمر , عن قتادة: ( وأسروه بضاعة ) قال: أسروا بيعه.

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا قيس , عن جابر , عن مجاهد: ( وأسروه بضاعة ) قال: قالوا لأهل الماء: إنما هو بضاعة .

وقال آخرون: إنما عني بقوله: ( وأسروه بضاعة ) إخوة يوسف، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم , قالوا: هو عبدٌ لنا .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد , قال: حدثني أبي , قال: حدثني عمي , قال: حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله: ( وأسروه بضاعة ) يعني: إخوة يوسف أسرُّوا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم , فكتم يوسف شأنه مخافةَ أن تقتله إخوته , واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم , فنادى أصحابه قال: يا بشرى‍! هذا غلامٌ يباع . فباعه إخوته.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب: قولُ من قال: « وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه، من رفقته السيارة، أمرَ يوسف أنهم أشتروه، خيفةً منهم أن يستشركوهم , وقالوا لهم: هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء وذلك أنه عقيب الخبر عنه , فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه , أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل . »

وقوله: ( والله عليم بما يعملون ) يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره، لا يخفى عليه من ذلك شيء , ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه , وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه.

وهذا , وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه صلى الله عليه وسلم , فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه , يقول : فاصبر، يا محمد، على ما نالك في الله , فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون , كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا , ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته , فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ , ولكن لسابق علمي فيك وفيهم , ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم، وإذعانهم لك , كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم، وعلوِّ يوسف عليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ( 20 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( وشروه ) به: وباع إخوة يوسف يوسف.

فأما إذا أراد الخبر عن أنه ابتاعه , قال: « اشتريته » ، ومنه قول ابن مفرّغ الحميري:

وَشَــــرَيْتُ بُـــرْدًا لَيْتَنِـــي مِــنْ قَبْــلِ بُــرْدٍ كـنْتُ هَامَـهْ

يقول: « بعت بردًا » , وهو عبدٌ كان له.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب , قال: حدثنا إبراهيم , قال: حدثنا هشيم , عن مغيرة , عن أبي معشر , عن إبراهيم , أنه كره الشراء والبيع للبدويّ. قال: والعرب تقول: « اشر لي كذا وكذا » ، أي: بع لي كذا وكذا وتلا هذه الآية ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) يقول: باعوه , وكان بيعه حرامًا.

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: إخوة يوسف أحد عشر رجلا باعوه حين أخرجَه المدلي بدلوه.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بمثله .

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن أبي نجيح , عن مجاهد

وحدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , مثله .

.... قال: حدثني حجاج , عن ابن جريج ( وشروه ) قال: قال ابن عباس: فبيع بينهم.

حدثني المثنى , قال: حدثنا عمرو بن عون , قال: أخبرنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك , في قوله: ( وشروه بثمن بخس ) قال: باعوه.

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك , مثله .

حدثني محمد بن سعد , قال: ثني أبي , قال: حدثني عمي , قال: حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس: فباعه إخوته بثمن بخس.

وقال آخرون: بل عني بقوله: ( وشروه بثمن بخس ) السيارةَ أنهم باعوا يوسف بثمن بخس .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( وشروه بثمن بخس ) وهم السيارة الذين باعوه.

قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: تأويل ذلك: وشَرى إخوةُ يوسف يوسف بثمن بخس وذلك أن الله عز وجل قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسرُّوا شراء يوسف من أصحابهم، خيفة أن يستشركوهم، بادّعائهم أنَّه بضاعة. ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلُص لهم دونهم، واسترخاصًا لثمنه الذي ابتاعوه به , لأنهم ابتاعوه كما قال جل ثناؤه ( بثمن بخس ) . ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين، لم يكن لقيلهم لرفقائهم: « هو بضاعة » ، معنى ولا كان لشرائهم إياه، وهم فيه من الزاهدين وجهٌ , إلا أن يكونوا كانوا مغلوبًا على عقولهم ; لأنه محال أن يشتري صحيح العقل ما هو فيه زاهدٌ من غير إكراهِ مكرِهٍ له عليه , ثم يكذب في أمرِه الناس بأن يقول: « هو بضاعة لم أشتره » ، مع زهده فيه. بل هذا القولُ من قول من هو بسلعته ضنينٌ لنفاستها عنده , ولما يرجُو من نفيس الثَّمن لها وفضلِ الربح.

وأما قوله: ( بخس ) فإنه يعني: نَقْص.

وهو مصدر من قول القائل: « بخست فلانًا حقه » : إذا ظلمته , يعني: ظلمه فنقصه عما يجبُ له من الوفاء: « أبخَسُه بَخْسًا » ، ومنه قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [ سورة هود: 85 ] ، وإنما أريد: بثمن مبخوس منقوصٍ , فوضع « البخس » وهو مصدر مكان « مفعول » , كما قيل: بِدَمٍ كَذِبٍ وإنما هو « بدم مكذوب فيه » .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: قيل ( بثمن بخس ) لأنه كان حرامًا عليهم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا المحاربي , عن جويبر عن الضحاك : ( وشروه بثمن بخس ) قال: « البخس » : الحرام.

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا علي بن عاصم , عن جويبر , عن الضحاك: ( وشروه بثمن بخس ) ، قال: حرام.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: كان ثمنه بخسًا، حرامًا، لم يحلّ لهم أن يأكلوه .

حدثني المثنى , قال: حدثنا عمرو بن عون , قال: حدثنا هشيم , عن جويبر , عن الضحاك , في قوله: ( وشروه بثمن بخس ) قال: باعوه بثمن بخس , قال: كان بيعه حرامًا وشراؤه حرامًا.

حدثني القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثنا هشيم , قال: أخبرنا جويبر , عن الضحاك: ( بثمن بخس ) قال: حرام .

حدثني محمد بن سعد , قال: حدثني أبي , قال: حدثني عمي , قال: حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس: ( بثمن بخس ) يقول: لم يحلّ لهم أن يأكلوا ثمنَه.

وقال آخرون: معنى البخس هنا: الظلم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( وشروه بثمن بخس ) قال « : البخس » : هو الظلم . وكان بيع يوسف وثمنه حرامًا عليهم

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , قال: قال قتادة: ( وشروه بثمن بخس ) قال: ظلم.

وقال آخرون: عني بالبخس في هذا الموضع: القليل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا يحيى بن آدم , عن قيس , عن جابر , عن عكرمة , قال: « البخس » : القليل.

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا قيس , عن جابر , عن عكرمة , مثله.

قال أبو جعفر: وقد بينا الصحيح من القول في ذلك.

وأما قوله ( دراهم معدودة ) ، فإنه يعني عز وجل أنهم باعوه بدراهم غير موزونة، ناقصة غير وافية، لزهدهم كان فيه.

وقيل: إنما قيل « معدودة » ليعلم بذلك أنها كانت أقلّ من الأربعين , لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقلّ من أربعين درهمًا , لأن أقل أوزانهم وأصغرها كان الأوقية , وكان وزن الأوقية أربعين درهمًا . قالوا: إنما دلَّ بقوله: ( معدودة ) على قلة الدراهم التي باعُوه بها.

فقال بعضهم: كان عشرين درهمًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن , عن زهير , عن أبي إسحاق , عن أبي عبيدة , عن عبد الله , قال: إن ما اشتري به يوسف عشرون درهمًا.

حدثني المثنى , قال: حدثنا الحماني , قال: حدثنا شريك , عن أبي إسحاق , عن أبي عبيدة , عن عبد الله: ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) قال: عشرون درهمًا.

حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن أبي إسحاق , عن نوف البكالي , في قوله: ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) قال: عشرون درهمًا.

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي عن سفيان , عن أبي إسحاق , عن نوف الشاميّ: « بخس دراهم » قال: كانت عشرين درهمًا .

حدثني المثنى , قال: حدثنا الحماني , قال: حدثنا شريك , عن أبي إسحاق , عن نوف , مثله .

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال: قال ابن عباس , في قوله: ( بثمن بخس دراهم معدودة ) قال: عشرون درهمًا .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي: ( دراهم معدودة ) قال: كانت عشرين درهمًا.

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ذكر لنا أنه بيع بعشرين درهمًا ( وكانوا فيه من الزاهدين ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة , مثله .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أبي إدريس , عن عطية , قال: كانت الدراهم عشرين درهمًا، اقتسموها درهمين درهمين.

وقال آخرون: بل كان عددها اثنين وعشرين درهمًا , أخذ كل واحد من إخوة يوسف، وهم أحد عشر رجلا درهمين درهمين منها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا أسباط , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( دراهم معدودة ) قال: اثنين وعشرين درهمًا.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قول الله: ( دراهم معدودة ) قال: اثنان وعشرون درهمًا لإخوة يوسف، [ وكان إخوة ] أحد عشر رجلا .

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قول الله: ( دراهم معدودة )

.... قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , بنحوه .

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال:حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , بنحوه.

وقال آخرون: بل كانت أربعين درهمًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا قيس , عن جابر , عن عكرمة: ( دراهم معدودة ) قال: أربعين درهمًا.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: باعوه ولم يبلغ ثمنه الذي باعوه به أوقية , وذلك أن الناس كانوا يتبايعون في ذلك الزمان بالأواقي , فما قصَّر عن الأوقية فهو عَدد ; يقول الله: ( وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ) أي لم يبلغ الأوقية.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعُوه بدراهم معدودة غير موزونة , ولم يحدَّ مبلغَ ذلك بوزن ولا عدد , ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد يحتمل أن يكون كان عشرين ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين وأن يكون كان أربعين , وأقل من ذلك وأكثر , وأيُّ ذلك كان، فإنها كانت معدودة غير موزونة ; وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه . والإيمان بظاهر التنـزيل فرضٌ , وما عَداه فموضوعٌ عنا تكلُّفُ علمه.

وقوله: ( وكانوا فيه من الزاهدين ) يقول تعالى ذكره: وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين , لا يعلمون كرامته على الله , ولا يعرفون منـزلته عنده , فهم مع ذلك يحبّون أن يحولوا بينه وبين والده، ليخلو لهم وجهه منه , ويقطعوه عن القرب منه، لتكون المنافع التي كانت مصروفة إلى يوسف دونهم، مصروفةً إليهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أبي مرزوق , عن جويبر , عن الضحاك: ( وكانوا فيه من الزاهدين ) قال: لم يعلموا بنبوّته ومنـزلته من الله.

حدثت عن الحسين بن الفرج , قال: سمعت أبا معاذ , يقول: حدثنا عبيد بن سليمان , قال: سمعت الضحاك , في قوله: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فنـزلت على الجب , فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فاستقى من الماء فاستخرج يوسف , فاستبشروا بأنهم أصابوا غلامًا لا يعلمون علمه ولا منـزلته من ربه , فزهدوا فيه، فباعوه. وكان بيعه حرامًا , وباعوه بدراهم معدودة.

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني هشيم , قال: أخبرنا جويبر , عن الضحاك: ( وكانوا فيه من الزاهدين ) قال إخوته زهدوا , فلم يعلموا منـزلته من الله ونبوته ومكانه.

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال: إخوته زهدوا فيه , لم يعلموا منـزلته من الله .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 21 )

قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقال الذي اشترى يوسف من بائعه بمصر .

وذكر أن اسمه: « قطفير » .

حدثني محمد بن سعد , قال:حدثني أبي , قال:حدثني عمي , قال:حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال: كان اسم الذي اشتراه قطفير.

وقيل: إن اسمه إطفير بن روحيب , وهو العزيز , وكان على خزائن مصر , وكان الملك يومئذ الريَّان بن الوليد , رجل من العماليق، كذلك: -

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق .

وقيل: إن الذي باعه بمصر كان مالك بن ذعر بن بُويب بن عفقان بن مديان بن إبراهيم، كذلك: -

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن السائب , عن أبي صالح , عن ابن عباس .

( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته ) ، واسمها فيما ذكر ابن إسحاق: راعيل بنت رعائيل.

حدثنا بذلك ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق.

( أكرمي مثواه ) ، يقول: أكرمي موضع مقامه، وذلك حيث يَثوِي ويُقيم فيه.

يقال: « ثوى فلان بمكان كذا » : إذا أقام فيه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( أكرمي مثواه ) منـزلته , وهي امرأة العزيز .

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال:حدثني حجاج , عن ابن جريج , قوله: ( وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ) ، قال: منـزلته.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد اشتراه الملك , والملك مسلم.

وقوله: ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا ) ذكر أن مشتري يوسف قال هذا القول لامرأته، حين دفعه إليها , لأنه لم يكن له ولد، ولم يأت النساء , فقال لها: أكرميه عسَى أن يكفينا بعض ما نعاني من أمورنا إذا فهم الأمور التي يُكلَّفها وعرفها ( أو نتخذه ولدًا ) ، يقول: أو نتبنَّاه .

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: كان إطفير فيما ذكر لي رجلا لا يأتي النساء، وكانت امرأته راعيل امرأةً حسناء ناعمةً طاعمة، في مُلك ودُنْيا.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي , عن سفيان , عن أبي إسحاق , عن أبي الأحوص , عن عبد الله , قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرّس في يوسف فقال لامرأته: ( أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا ) وأبو بكر حين تفرَّس في عمر والتي قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [ سورة القصص: 26 ] .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي , قال: انطُلِق بيوسف إلى مصر , فاشتراه العزيز ملك مصر , فانطلق به إلى بيته فقال لامرأته: ( أكرمي مثْواه عسى أن ينفعنا أو نتخذهُ ولدًا ) .

حدثنا أحمد بن إسحاق , قال: حدثنا أبو أحمد , قال: حدثنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن أبي عبيدة , عن عبد الله , قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: ( أكرمي مثواه ) ، والقوم فيه زاهدون وأبو بكر حين تفرَّس في عمر فاستخلفه والمرأة التي قالت: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ .

وقوله: ( وكذلك مكنَّا ليوسف في الأرض ) يقول عز وجل : وكما أنقذنا يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله , وأخرجناه من الجبّ بعدَ أن ألقي فيه , فصيرناه إلى الكرامة والمنـزلة الرفيعة عند عزيز مصر , كذلك مكنّا له في الأرض، فجعلناه على خزائنها .

وقوله: ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) يقول تعالى ذكره: وكي نعلم يوسف من عبارة الرؤيا، مكنا له في الأرض، كما: -

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( من تأويل الأحاديث ) قال: عبارة الرؤيا.

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) قال: تعبير الرؤيا.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبو أسامة , عن شبل , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: ( ولنعلمه من تأويل الأحاديث ) قال: عبارة الرؤيا.

وقوله: ( والله غالب على أمره ) يقول تعالى ذكره: والله مستولٍ على أمر يوسف، يسوسه ويدبّره ويحوطه.

و « الهاء » في قوله: ( على أمره ) عائدة على يوسف.

وروي عن سعيد بن جبير في معنى « غالب » , ما: -

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا إسرائيل , عن أبي حصين , عن سعيد بن حبير: ( والله غالب على أمره ) قال: فعالٍ.

وقوله ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) يقول: ولكن أكثر الناس الذين زهدوا في يوسف، فباعوه بثمن خسيس , والذين صَار بين أظهرهم من أهل مصر حين بيع فيهم , لا يعلمون ما الله بيوسف صانع، وإليه يوسف من أمره صائرٌ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 22 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لما بلغ يوسف أشده , يقول: ولما بلغ منتهى شدته وقوته في شبابه وحَدِّه، وذلك فيما بين ثماني عشرة إلى ستين سنة , وقيل إلى أربعين سنة.

يقال منه: « مضت أشُدُّ الرجل » : أي شدته , وهو جمع مثل « الأضُرّ » و « الأشُرّ » ، لم يسمع له بواحد من لفظه. ويجب في القياس أن يكون واحده « شدَّ » , كما واحد « الأضر » « ضر » , وواحد « الأشُر » « شر » , كما قال الشاعر :

هَـلْ غَـيْرُ أَنْ كَـثُرَ الأشُـرُّ وَأَهْلَكَتْ حَــرْبُ المُلُــوكِ أَكَـاثِرَ الأَمْـوَالِ

وقال حُميد:

وَقَــدْ أَتَــى لَـوْ تُعْتِـبُ الْعَـوَاذِلُ بَعْـــدَ الأشُــدّ أَرْبَــعٌ كَــوَامِلُ

وقد اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله به في هذا الموضع من « مبلغ الأشد » .

فقال بعضهم: عني به ثلاث وثلاثون سنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع والحسن بن محمد , قالا حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا سفيان , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( ولما بلغ أشده ) ، قال: ثلاثًا وثلاثين سنة.

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا جرير , عن ليث , عن مجاهد , مثله .

حدثت عن علي بن الهيثم , عن بشر بن المفضل , عن عبد الله بن عثمان بن خثيم , عن مجاهد , قال: سمعت ابن عباس يقول في قوله: ( ولما بلغ أشده ) قال: بضعًا وثلاثين سنة.

وقال آخرون: بل عني به عشرون سنة .

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن علي بن المسيب , عن أبي روق , عن الضحاك , في قوله: ( ولما بلغ أشده ) قال: عشرين سنة.

وروي عن ابن عباس من وجه غير مرضيّ أنه قال: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين . وقد بينت معنى « الأشُدّ » .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه آتى يوسف لما بلغ أشدهُ حكمًا وعلمًا و « الأشُدّ » : هو انتهاء قوته وشبابه وجائز أن يكون آتاه ذلك وهو ابن ثماني عشرة سنة وجائز أن يكون آتاه وهو ابن عشرين سنة وجائز أن يكون آتاه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ولا دلالة له في كتاب الله، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في إجماع الأمة، على أيّ ذلك كان . وإذا لم يكن ذلك موجودًا من الوجه الذي ذكرت , فالصوابُ أن يقال فيه كما قال عز وجل , حتى تثبت حجة بصحة ما قيل في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له، فيسلم لها حينئذ .

وقوله: ( آتيناه حكمًا وعلمًا ) يقول تعالى ذكره: أعطيناه حينئذ الفهم والعلم، كما: -

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( حكمًا وعلمًا ) قال: العقل والعلم قبل النبوة.

وقوله: ( وكذلك نجزي المحسنين ) يقول تعالى ذكره: وكما جزيت يوسف فآتيته بطاعته إيّاي الحكمَ والعلمَ , ومكنته في الأرض , واستنقذته من أيدي إخوته الذين أرادوا قتله , كذلك نجزي من أحسن في عمله , فأطاعني في أمري، وانتهى عما نهيته عنه من معاصيّ .

وهذا، وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن , فإن المرادَ به محمدٌ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم . يقول له عز وجل : كما فعلت هذا بيوسف من بعد ما لقي من إخوته ما لقي، وقاسى من البلاء ما قاسى , فمكنته في الأرض، ووطَّأتُ له في البلاد , فكذلك أفعل بك فأنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة , وأمكن لك في الأرض، وأوتيك الحكم والعلم , لأنّ ذلك جزائي أهلَ الإحسان في أمري ونهيي.

حدثني المثنى , قال: حدثنا عبد الله بن صالح , قال: ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس: ( وكذلك نجزي المحسنين ) يقول: المهتدين.