القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ ( 31 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما سمعت امرأة العزيز بمكر النسوة اللاتي قلن في المدينة ما ذكره الله عز وجل عنهن

وكان مكرهنَّ ما: -

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( فلما سمعت بمكرهن ) ، يقول: بقولهن.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: لما أظهر النساء ذلك، من قولهن « : تراود عبدها! » مكرًا بها لتريهن يوسف , وكان يوصف لهن بحُسنه وجماله ; ( فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ ) .

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( فلما سمعت بمكرهن ) : ، أي بحديثهن , ( أرسلت إليهن ) ، يقول: أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدثن بشأنها وشأن يوسف.

( وأعتدت ) ، « أفعلت » من العتاد , وهو العدَّة، ومعناه: أعدّت لهن « متكأ » ، يعني: مجلسًا للطعام , وما يتكئن عليه من النمارق والوَسائد:

وهو « مفتعل » من قول القائل: « اتَّكأت » , يقال: « ألق له مُتَّكأ » , يعني: ما يتكئ عليه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا يحيى بن اليمان , عن أشعث , عن جعفر , عن سعيد: ( وأعتدت لهن متكأ ) قال: طعامًا وشرابًا ومتكأ.

.... قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: يتكئن عليه.

حدثني المثنى , قال: حدثنا عبد الله بن صالح , قال: حدثني معاوية عن علي , عن ابن عباس: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: مجلسًا.

.... قال: حدثنا عمرو بن عون , قال: أخبرنا هشيم , عن أبي الأشهب , عن الحسن أنه كان يقرأ: ( مُتَّكَآءً ) ، ويقول: هو المجلس والطعام.

.... قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: « مُتْكَأً » ، خفيفة , يعني طعامًا. ومن قرأ ( مُتَّكَأً ) ، يعني المتكأ.

فهذا الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه تأويل هذه الكلمة , هو معنى الكلمة، وتأويل « المتكأ » , وأنها أعدّت للنسوة مجلسًا فيه متكأ وطعام وشراب وأترج . ثم فسر بعضهم « المتكأ » بأنه الطعام على وجه الخبر عن الذي أعدّ من أجله المتكأ وبعضهم عن الخبر عن الأترج. إذ كان في الكلام: ( وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، لأن السكين إنما تعد للأترج وما أشبهه مما يقطع به وبعضهم على البزماورد.

حدثني هارون بن حاتم المقرئ , قال: حدثنا هشيم بن الزبرقان , عن أبي روق , عن الضحاك , في قوله: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: البزماورد.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: « المتكأ » : هو النُّمْرُق يتكأ عليه. وقال: زعم قوم أنه الأترج. قال: وهذا أبطل باطل في الأرض , ولكن عسى أن يكون مع « المتكأ » أترج يأكلونه.

وحكى أبو عبيد القاسم بن سلام قول أبي عبيدة , ثم قال: والفقهاء أعلم بالتأويل منه . ثم قال: ولعله بعضُ ما ذهب من كلام العرب , فإنّ الكسائي كان يقول: قد ذهب من كلام العرب شيء كثير انقرض أهله.

قال أبو جعفر: والقول في أن الفقهاء أعلم بالتأويل من أبي عبيدة، كما قال أبو عبيد لا شك فيه , غير أن أبا عبيدة لم يُبْعد من الصواب في هذا القول , بل القول كما قال: مِن أن مَن قال للمتكأ: هو الأترج، إنما بيَّن المعدَّ في المجلس الذي فيه المتكأ، والذي من أجله أعطين السكاكين , لأن السكاكين معلومٌ أنها لا تعدُّ للمتكأ إلا لتخريقه! ولم يعطين السكاكين لذلك.

ومما يبين صحة ذلك القول الذي ذكرناه عن ابن عباس , من أن « المتكأ » هو المجلس .

ثم رُوي عن مجاهد عنه، ما: -

حدثني به سليمان بن عبد الجبار , قال، حدثنا محمد بن الصلت , قال: حدثنا أبو كدينة , عن حصين , عن مجاهد , عن ابن عباس: ( وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، قال: أعطتهن أترجًّا , وأعطت كل واحدة منهن سكّينًا.

فبيّن ابن عباس في رواية مجاهد هذه، ما أعطت النسوة , وأعرض عن ذكر بيان معنى « المتكأ » , إذ كان معلومًا معناه.

* ذكر من قال في تأويل « المتكأ » ما ذكرنا:

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي , قال: حدثنا فضيل بن عياض , عن حصين , عن مجاهد , عن ابن عباس: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: التُّرُنْج.

حدثني المثنى , قال: حدثنا عمرو بن عون , قال: حدثنا هشيم , عن عوف , قال: حدثت عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « مُتْكًا » مخففة , ويقول: هو الأترُجّ.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا ابن إدريس , عن أبيه , عن عطية: « وأعتدت لهن متكأ » ، قال الطعام.

حدثني يعقوب والحسن بن محمد , قالا حدثنا ابن علية , عن أبي رجاء , عن الحسن , في قوله: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: طعامًا.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا ابن علية , عن أبي رجاء , عن الحسن , مثله .

حدثنا ابن بشار وابن وكيع , قالا حدثنا غندر , قال: حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير , في قوله: ( وأعتدت لهن مُتَّكأ ) ، قال: طعامًا.

حدثنا ابن المثنى , قال: حدثنا وهب بن جرير , قال: حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير، نحوه .

حدثنا محمد بن بشار , قال: حدثنا عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , قال: من قرأ ( مُتَّكَأ ) فهو الطعام , ومن قرأها « مُتْكًأ » فخففها , فهو الأترجّ.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قوله: ( متكأ ) ، قال: طعامًا

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد

وحدثني المثنى , قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا أبو خالد القرشي , قال: حدثنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , قال: من قرأ: « مُتْكًا » ، خفيفة , فهو الأترجّ.

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , بنحوه .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا جرير , عن ليث , قال سمعت بعضهم يقول: الأترج .

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ( وأعتدت لهن متكأ ) : ، أي طعامًا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة , مثله .

.... قال: حدثنا يزيد , عن أبي رجاء , عن عكرمة , في قوله: ( متكأ ) ، قال: طعامًا.

حدثني محمد بن سعد , قال: حدثني أبي , قال: حدثني عمي , قال: حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس: ( وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتْكًا ) ، يعني الأترج.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، والمتكأ، الطعام.

.... قال: حدثنا جرير عن ليث , عن مجاهد: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: الطعام.

حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد , في قوله: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، قال: طعامًا.

حدثت عن الحسين , قال: سمعت أبا معاذ , قال: حدثنا عبيد بن سليمان , قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( مُتَّكَأً ) ، فهو كل شيء يجزّ بالسكين.

قال أبو جعفر: قال الله تعالى ذكره، مخبرًا عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي تحدَّثن بشأنها في المدينة: ( وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، يعني بذلك جل ثناؤه: وأعطت كل واحدة من النسوة اللاتي حضرنها، سكينًا لتقطع به من الطعام ما تقطع به. وذلك ما ذكرت أنَّها آتتهن إما من الأترج , وإما من البزماورد , أو غير ذلك مما يقطع بالسكين، كما:-

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي: ( وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، وأترجًّا يأكلنه.

حدثنا سليمان بن عبد الجبار , قال: حدثنا محمد بن الصلت , قال: حدثنا أبو كدينة , عن حصين , عن مجاهد , عن ابن عباس: ( وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، قال: أعطتهن أترجًّا , وأعطت كل واحدة منهن سكينًا.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: ( وآتت كل واحدة منهن سكينًا ) ، ليحتززن به من طعامهنّ.

حدثني يونس بن عبد الأعلى , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد , في قوله: ( وآتت كل واحدة منهن سكينا ) ، وأعطتهن تُرنجًا وعسلا فكن يحززن الترنج بالسكين , ويأكلن بالعسل.

قال أبو جعفر: وفي هذه الكلمة بيانُ صحة ما قلنا واخترنا في قوله ( وأعتدت لهن متكأ ) . وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن إيتاء امرأة العزيز النسوةَ السكاكينَ , وترك ما لَهُ آتتهن السكاكين , إذ كان معلومًا أن السكاكين لا تدفع إلى من دعي إلى مجلس إلا لقطع ما يؤكل إذا قطع بها. فاستغني بفهم السامع بذكر إيتائها صواحباتها السكاكين، عن ذكر ما له آتتهن ذلك. فكذلك استغني بذكر اعتدادها لهنّ المتكأ، عن ذكر ما يعتدُّ له المتكأ مما يحضر المجالس من الأطعمة والأشربة والفواكه وصنوف الالتهاء ; لفهم السامعين بالمراد من ذلك , ودلالة قوله: ( وأعتدت لهن متكأ ) ، عليه . فأما نفس « المتكأ » فهو ما وصفنا خاصةً دون غيره.

وقوله: ( وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه ) ، يقول تعالى ذكره: وقالت امرأة العزيز ليوسف: ( اخرج عليهن ) ، فخرج عليهن يوسف ( فلما رأينه أكبرنه ) ، يقول جل ثناؤه: فلما رأين يوسف أعظمنه وأجللْنه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد , قال، حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله: ( أكبرنه ) ، أعظمنه.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله .

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح . قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ( فلما رأينه أكبرنه ) : ، أي: أعظمنه.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي: ( وقالت اخرج عليهن ) ، ليوسف ( فلما رأينه أكبرنه ) : ، عظَّمنه.

حدثنا إسماعيل بن سيف العجلي , قال: حدثنا علي بن عابس , قال: سمعت السدي يقول في قوله: ( فلما رأينه أكبرنه ) ، قال: أعظمنه.

حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد , في قوله: ( اخرج عليهن ) ، فخرج، فلما رأينه أعظمنه وبُهِتن.

حدثنا إسماعيل بن سيف . قال: حدثنا عبد الصمد بن علي الهاشمي , عن أبيه , عن جده , في قوله: ( فلما رأينه أكبرنه ) ، قال: حِضْن.

حدثنا علي بن داود , قال: حدثنا عبد الله , قال: حدثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , في قوله: ( فلما رأينه أكبرنه ) ، يقول: أعظمنه.

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا يحيى بن أبي زائدة , عن ابن جريج , عن مجاهد، مثله.

قال أبو جعفر: وهذا القول أعني القول الذي روي عن عبد الصمد , عن أبيه , عن جده , في معنى ( أكبرنه ) ، أنه حِضْن إن لم يكن عَنَى به أنهن حضن من إجلالهن يوسف وإعظامهن لما كان الله قسم له من البهاء والجمال , ولما يجد من مثل ذلك النساءُ عند معاينتهن إياه فقولٌ لا معنى له. لأن تأويل ذلك: فلما رأين يوسف أكبرنه , فالهاء التي في « أكبرنه » ، من ذكر يوسف , ولا شك أن من المحال أن يحضنَ يوسف. ولكن الخبر، إن كان صحيحًا عن ابن عباس على ما روي , فخليقٌ أن يكون كان معناه في ذلك أنهن حضن لِمَا أكبرن من حسن يوسف وجماله في أنفسهن، ووجدن ما يجد النساء من مثل ذلك.

وقد زعم بعض الرواة أن بعض الناس أنشده في « أكبرن » بمعنى حضن , بيتًا لا أحسب أنَّ له أصلا لأنه ليس بالمعروف عند الرواة , وذلك:

نَـأْتِي النِّسَـاءَ عَـلَى أَطْهَـارِهِنَّ وَلا نَــأْتِي النِّسَــاءَ إِذَا أَكْـبَرْنَ إِكْبَـارَا

وزعم أن معناه: إذا حضن .

وقوله: ( وقطعن أيديهن ) ، اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: معناه: أنهن حَززن بالسكين في أيديهن، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترُجّ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله: ( وقطعن أيديهن ) ، حزًّا حزًّا بالسكين.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , قال: حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وقطعن أيديهن ) ، قال: حزًّا حزًّا بالسكاكين.

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد

.... قال: وحدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وقطعن أيديهن ) ، قال: حزًّا حزًّا بالسكين.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( وقطعن أيديهن ) قال: جعل النسوة يحززن أيديهن , يحسبن أنهن يقطعن الأترج.

حدثنا إسماعيل بن سيف , قال: حدثنا علي بن عابس , قال: سمعت السدي يقول: كانت في أيديهن سكاكين مع الأترج , فقطعن أيديهنّ , وسالت الدماء , فقلن: نحن نلومك على حبّ هذا الرجل , ونحن قد قطعنا أيدينا وسالت الدماء !

حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد: جعلن يحززن أيديهن بالسكين , ولا يحسبن إلا أنهن يحززن الترنج , قد ذهبت عقولهن مما رأين‍!

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ( وقطعن أيديهن ) ، وحززن أيديهن.

حدثني سليمان بن عبد الجبار , قال: حدثنا محمد بن الصلت , قال: حدثنا أبو كدينة , عن حصين , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال: جعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( وقطعن أيديهن ) ، قال: جعلن يحززن أيديهن , ولا يشعرن بذلك.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: قالت ليوسف: ( اخرج عليهن ) ، فخرج عليهن ( فلما رأينه أكبرنه ) , وغلبت عقولهن عجبًا حين رأينه، فجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن، ما يعقلن شيئًا مما يصنعن ( وقلن حاش لله ما هذا بشرًا ) .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهن قطعن أيديهن حتى أبنَّها، وهن لا يشعرن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال: قطعن أيديهن حتى ألقينَها.

حدثني المثنى , قال: حدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الرزاق , قال: أخبرنا معمر , عن قتادة , في قوله: ( وقطعن أيديهن ) ، قال: قطعن أيديهن حتى ألقينها.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عنهن أنهن قطَّعن أيديهن وهن لا يشعرن لإعظام يوسف، وجائز أن يكون ذلك قطعًا بإبانة وجائز أن يكون كان قطع حزّ وخدش ولا قول في ذلك أصوب من التسليم لظاهر التنـزيل.

حدثنا محمد بن بشار , قال: حدثنا عبد الرحمن , قال: حدثنا سفيان , عن أبي إسحاق , عن أبي الأحوص , عن عبد الله , قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن.

حدثنا محمد بن المثنى , قال: حدثنا محمد بن جعفر , قال: حدثنا شعبة , عن أبي إسحاق , عن أبي الأحوص , عن عبد الله , مثله .

.... وبه عن أبي الأحوص , عن عبد الله , قال: قسم ليوسف وأمه ثلث الحسن.

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي , عن سفيان , عن أبي إسحاق , عن أبي الأحوص , عن عبد الله , قال: أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الخلق.

حدثني أحمد بن ثابت , وعبد الله بن محمد الرازيّان , قالا حدثنا عفان , قال: أخبرنا حماد بن سلمة , قال: أخبرنا ثابت , عن أنس , عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: أعطي يوسف وأمه شَطْرَ الحسن .

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا حكام , عن أبي معاذ , عن يونس , عن الحسن , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطي يوسف وأمه ثلث حُسن أهل الدنيا , وأعطي الناس الثلثين أو قال: أعطي يوسف وأمه الثلثين , وأعطي الناس الثلث.

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع ; وحدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي , عن سفيان , عن منصور , عن مجاهد , عن ربيعة الجرشي , قال: قسم الحسن نصفين , فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن , والنصف الآخر بين سائر الخلق.

حدثنا ابن بشار , قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال: حدثنا سفيان , عن منصور , عن مجاهد , عن ربيعة الجرشي , قال: قسم الحسن نصفين: فقسم ليوسف وأمه النصف , والنصف لسائر الناس.

حدثنا ابن وكيع وابن حميد , قالا حدثنا جرير , عن منصور , عن مجاهد , عن ربيعة الجرشي , قال: قسم الحسن نصفين , فجعل ليوسف وسارَة النصف , وجعل لسائر الخلق نصف.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا حكام , عن عيسى بن يزيد , عن الحسن: أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا , وأعطي الناس الثلثين.

وقوله: ( وقلن حاش لله ) ، اختلفت القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة قرأة الكوفيين: ( حَاشَ لِلّهِ ) بفتح الشين وحذف الياء.

وقرأه بعض البصريين بإثبات الياء « حَاشَى لله » .

وفيه لغات لم يقرأ بها: « حَاشَى اللهِ » ، كما قال الشاعر:

حَاشَــى أَبِــي ثَوْبَــانَ إِنَّ بِــهِ ضَنًّــا عَــنِ المَلْحَــاةِ وَالشَّــتْمِ

وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بهذه اللغة: « حَشَى اللهَ » ، و « حاشْ اللهَ » ، بتسكين الشين والألف، يجمع بين الساكنين.

وأما القراءة فإنما هي بإحدى اللغتين الأوليين , فمن قرأ: ( حَاشَ لله ) بفتح الشين وإسقاط الياء، فإنه أراد لغة من قال: « حاشى لله » , بإثبات الياء , ولكنه حذف الياء لكثرتها على ألسن العرب , كما حذفت العرب الألف من قولهم: « لا أب لغيرك » , و « لا أب لشانيك » , وهم يعنون: « لا أبا لغيرك » . و « لا أبا لشانيك » .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يزعم أن لقولهم: « حاشى لله » , موضعين في الكلام:

أحدهما: التنـزيه.

والآخر: الاستثناء. وهو في هذا الموضع عندنا بمعنى التنـزيه لله , كأنه قيل: معاذ الله.

قال أبو جعفر: وأما القول في قراءة ذلك. فإنه يقال: للقارئ الخيار في قراءته بأي القراءتين شاء , إن شاء بقراءة الكوفيين، وإن شاء بقراءة البصريين , وهو: ( حَاشَ لله ) و « حَاشَى لله » ، لأنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان معروفتان بمعنى واحد , وما عدا ذلك فلغات لا تجوز القراءة بها , لأنا لا نعلم قارئًا قرأ بها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا ابن نمير , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وقلن حاش لله ) ، قال: معاذ الله.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , في قوله: ( حاش لله ) ، معاذ الله.

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وقلن حاش لله ) : معاذ الله.

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله: ( حاش لله ) : معاذ الله.

.... قال: حدثنا عبد الوهاب , عن عمرو , عن الحسن: ( حاش لله ) : معاذ الله.

حدثني الحارث , قال: حدثنا عبد العزيز , قال: حدثنا يحيى , عن ابن جريج , عن مجاهد , مثله.

وقوله: ( ما هذا بشرًا ) ، يقول: قلن ما هذا بشرًا , لأنهن لم يرين في حسن صورته من البشر أحدًا , فقلن: لو كان من البشر، لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر , ولكنه من الملائكة لا من البشر، كما:-

حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد , في قوله: ( وقلن حاش لله ما هذا بشرا ) : ما هكذا تكون البشر!

وبهذه القراءة قرأ عامة قرأة الأمصار . وقد: -

حدثت عن يحيى بن زياد الفراء , قال: حدثني دعامة بن رجاء التيمي وكان غَزَّاءً عن أبي الحويرث الحنفي أنه قرأ: « ما هذا بِشِرًى » ، أي ما هذا بمشتري.

يريد بذلك أنهن أنكرن أن يكون مثلُه مستعبدًا يشترى ويُبَاع.

قال أبو جعفر: وهذه القراءة لا أستجيز القراءة بها، لإجماع قرأة الأمصار على خلافها. وقد بينا أن ما أجمعت عليه، فغير جائز خلافُها فيه.

وأما « نصب » البشر , فمن لغة أهل الحجاز إذا أسقطوا « الباء » من الخبر نصبوه , فقالوا: « ما عمرو قائمًا » . وأما أهل نجد , فإن من لغتهم رفعه , يقولون: « ما عمرو قائم » ; ومنه قول بعضهم حيث يقول:

لَشَـتَّانَ مَـا أَنْـوِي وَيَنْـوِي بَنُـو أَبِي جَمِيعًــا , فَمَــا هَـذَانِ مُسْـتَوِيَانِ

تَمَنَّـوْا لِـيَ المَـوْتَ الَّذِي يَشْعَبُ الفَتَى وَكُــلُّ فَتًــى وَالمَــوْتُ يَلْتَقِيَـانِ

وأما القرآن , فجاء بالنصب في كل ذلك , لأنه نـزل بلغة أهل الحجاز.

وقوله: ( إن هذا إلا مَلَك كريمٌ ) ، يقول: قلن ما هذا إلا ملك من الملائكة، كما: -

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( إن هذا إلا ملك كريم ) ، قال: قلن: ملك من الملائكة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ( 32 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطعن أيديهن , فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه، وفي نظرة منكن نظرتن إليه ما أصابكن من ذهاب العقل وعُزوب الفهم وَلَهًا، ألِهتُنّ حتى قطعتن أيديكن، هو الذي لمتنني في حبي إياه، وشغف فؤادي به، فقلتنّ: قد شغف امرأة العزيز فتاها حُبًّا، إنا لنراها في ضلال مبين! ثم أقرّت لهن بأنها قد راودته عن نفسه , وأن الذي تحدثن به عنها في أمره حق فقالت: ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) ، مما راودته عليه من ذلك كما: -

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي , قالت: ( فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) : ، تقول: بعد ما حلّ السراويل استعصى , لا أدري ما بَدَا له.

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( فاستعصم ) ، أي: فاستعصى.

حدثني علي بن داود , قال: حدثنا عبد الله بن صالح , قال: حدثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قوله: ( فاستعصم ) ، يقول: فامتنع.

وقوله: ( ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونَن من الصاغرين ) ، تقول: ولئن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه من حاجتي إليه ( ليسجنن ) ، تقول: ليحبسن وليكونًا من أهل الصغار والذلة بالحبس والسجن , ولأهينَنَّه

والوقف على قوله: « ليسجنن » ، بالنون، لأنها مشددة , كما قيل: لَيُبَطِّئَنَّ ، [ سورة النساء: 72 ]

وأما قوله: ( وليكونَن ) فإن الوقف عليه بالألف، لأنها النون الخفيفة , وهي شبيهةُ نون الإعراب في الأسماء في قول القائل: « رأيت رجلا عندك » , فإذا وقف على « الرجل » قيل: « رأيتُ رجلا » , فصارت النون ألفًا. فكذلك ذلك في: « وليكونًا » , ومثله قوله: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ ، [ سورة العلق: 15، 16 ] الوقف عليه بالألف لما ذكرت ; ومنه قول الأعشي:

وَصَـلِّ عَـلَى حَينِ العَشَيَّاتِ والضُّحَى وَلا تَعْبُــدِ الشَّـيْطَانَ وَاللـهَ فَـاعْبُدَا

وإنما هو: « فاعبدن » , ولكن إذا وقف عليه كان الوقف بالألف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 33 )

قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله يدلُّ على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه , وتوعَّدته بالسّجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه , فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ; لأنها لو لم تكن عاودته وتوعَّدته بذلك , كان محالا أن يقول: ( ربّ السجن أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه ) ، وهو لا يدعَى إلى شيء، ولا يخوَّف بحبس.

و « السجن » هو الحبس نفسه , وهو بيت الحَبْس.

وبكسر السين قرأه قرأة الأمصار كلها. والعرب تضع الأماكن المشتقة من الأفعال مواضع الأفعال . فتقول: « طلعت الشمس مطلعًا , وغربت مغربًا » , فيجعلونها، وهي أسماء، خلفًا من المصادر , فكذلك « السجن » , فإذا فتحت السين من « السَّجن » كان مصدرًا صحيحًا.

وقد ذكر عن بعض المتقدمين أنه يقرأه: « السَّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ » ، بفتح السين . ولا أستجيز القراءة بذلك، لإجماع الحجة من القرأة على خلافها.

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قال يوسف: يا رب، الحبس في السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه من معصيتك، ويراودنني عليه من الفاحشة، كما: -

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , قال: حدثنا أسباط , عن السدي: ( قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ) : من الزنا.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: قال يوسف، وأضاف إلى ربه، واستغاثه على ما نـزل به ( رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ) ، أي: السجن أحبّ إليّ من أن آتي ما تكره.

وقوله: ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ) ، يقول: وإن لم تدفع عني، يا رب، فعلهن الذي يفعلن بي، في مراودتهن إياي على أنفسهن « أصب إليهن » , يقول: أمِلْ إليهن , وأتابعهن على ما يُرِدن مني ويهوَيْن.

من قول القائل: « صَبا فلان إلى كذا » , ومنه قول الشاعر:

إِلَـــى هِنْـــدٍ صَبَـــا قَلْبِــي وَهِنْــــدٌ مِثْلُهَــــا يُصْبِـــي

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ( أصب إليهن ) ، يقول: أتابعهن.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: ( وإلا تصرف عني كيدهن ) ، أي: ما أتخوَّف منهن ( أصب إليهن ) .

حدثني يونس , قال: أخبرنا ابن وهب , قال: قال ابن زيد , في قوله: ( وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) ، قال: إلا يكن منك أنت العون والمنعة , لا يكن منّي ولا عندي.

وقوله: ( وأكن من الجاهلين ) ، يقول: وأكن بصبوتي إليهن، من الذين جهلوا حقك، وخالفوا أمرك ونهيك، كما: -

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: ( وأكن من الجاهلين ) ، أي: جاهلا إذا ركبت معصيتك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 34 )

قال أبو جعفر: إن قال قائل: وما وجه قوله: ( فاستجاب له ربه ) ، ولا مسألةَ تقدَّمت من يوسف لربّه، ولا دعا بصَرْف كيدهنَّ عنه , وإنما أخبر ربه أن السجن أحب إليه من معصيته؟

قيل: إن في إخباره بذلك شكايةً منه إلى ربه مما لقي منهنَّ، وفي قوله: وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ، معنى دعاءٍ ومسألةٍ منه ربَّه صرفَ كيدهِنَّ , ولذلك قال الله تعالى ذكره: ( فاستجاب له ربه ) ، وذلك كقول القائل لآخر: « إن لا تزرني أهنك » , فيجيبه الآخر: « إذن أزورَك » ، لأن في قوله: « إن لا تزرني أهنك » , معنى الأمر بالزيارة.

قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فاستجاب الله ليوسف دعاءه , فصرف عنه ما أرادت منه امرأة العزيز وصواحباتها من معصية الله، كما: -

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: ( فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ) ، أي: نجاه من أن يركب المعصية فيهن , وقد نـزل به بعض ما حَذر منهنَّ.

وقوله: ( إنه هو السميع ) ، دعاءَ يوسف حين دعاه بصرف كيد النسوة عنه، ودعاءَ كل داع من خلقه ( العليم ) ، بمطلبه وحاجته , وما يصلحه , وبحاجة جميع خلقه وما يُصْلحهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( 35 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بدا للعزيز، زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه.

وقيل: « بدا لهم » , ، وهو واحد , لأنه لم يذكر باسمه ويقصد بعينه , وذلك نظير قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، [ سورة آل عمران: 173 ] ، وقيل: إن قائل ذلك كان واحدًا.

وقيل: معنى قوله: ( ثم بدا لهم ) في الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقًا , ورأوا أن يسجنوه ( من بعد ما رأوا الآيات ) ببراءته مما قذفته به امرأة العزيز.

وتلك « الآيات » ، كانت قدَّ القميص من دُبُر , وخمشًا في الوجه , وقَطْعَ أيديهن , كما:-

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع , عن نصر بن عوف , عن عكرمة , عن ابن عباس: ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ) ، قال: كان من الآيات: قدٌّ في القميص، وخمشٌ في الوجه.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي وابن نمير , عن [ نصر ] , عن عكرمة , مثله.

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا شبابة , قال: حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ) ، قال: قدُّ القميص من دبر.

حدثني محمد بن عمرو , قال: حدثنا أبو عاصم , عن عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( من بعد ما رأوا الآيات ) ، قال: قدُّ القميص من دبر.

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد

.... قال: وحدثنا إسحاق , قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( من بعد ما رأوا الآيات ) ، قال: « الآيات » : حزُّهن أيديهن , وقدُّ القميص.

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , قال: قدُّ القميص من دبر.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه ) ، ببراءته مما اتهم به، من شق قميصه من دُبر ( ليسجننه حتى حين ) .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي: ( من بعد ما رأوا الآيات ) ، القميصُ , وقطع الأيدي.

وقوله: ( ليسجننه حتى حين ) ، يقول: ليسجننه إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم.

وجعل الله ذلك الحبس ليوسف، فيما ذكر، عقوبةً له من همِّه بالمرأة، وكفارة لخطيئته .

حدثت عن يحيى بن أبي زائدة , عن إسرائيل , عن خصيف , عن عكرمة , عن ابن عباس: ( ليسجننه حتى حين ) ، عثر يوسف عليه السلام ثلاثَ عثرات: حين همَّ بها فسجن. وحين قال: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ، فلبث في السجن بضع سنين، وأنساه الشيطان ذكر ربه. وقال لهم: إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ، فقالوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ .

وذكر أن سبب حبسه في السجن، كان شكوى امرأة العزيز إلى زوجها أمرَه وأمرَها، كما: -

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي: ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) ، قال: قالت المرأة لزوجها: إن هذا العبدَ العبرانيَّ قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم، ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري , فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر , وإما أن تحبسه كما حبستَني. فذلك قول الله تعالى: ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) .

وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول هذه « اللام » في: ( ليسجننه ) .

فقال بعض البصريين: دخلت ههنا، لأنه موضع يقع فيه « أيّ » , فلما كان حرف الاستفهام يدخل فيه دخلته النون , لأن النون تكون في الاستفهام , تقول: « بدا لهم أيّهم يأخذنّ » ، أي: استبان لهم.

وأنكر ذلك بعض أهل العربية فقال: هذا يمين، وليس قوله: « هل تقومن » بيمين , و « لتقومن » ، لا يكون إلا يمينًا.

وقال بعض نحويي الكوفة: « بدا لهم » , بمعنى « : القول » , و « القول » يأتي بكل الكلام، بالقسم وبالاستفهام , فلذلك جاز: « بدا لهم قام زيد » , و « بدا لهم ليقومن » .

وقيل: إن « الحين » في هذا الموضع معنِيٌّ به سبع سنين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا المحاربي , عن داود , عن عكرمة: ( ليسجننه حتى حين ) ، قال: سبع سنين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( 36 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودخل مع يوسف السجن فتيان فدل بذلك على متروكٍ قد ترك من الكلام، وهو: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ، فسجنوه وأدخلوه السجن ودخل معه فتيان , فاستغنَى بدليل قوله: ( ودخل معه السجن فتيان ) ، على إدخالهم يوسف السجن، من ذكره.

وكان الفتيان، فيما ذكر، غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر، أحدهما صاحبُ شرابه , والآخر صاحبُ طعامه، كما: -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: فطرح في السجن يعني يوسف ( ودخل معه السجن فتيان ) , غلامان كانا للملك الأكبر الرّيان بن الوليد , كان أحدهما على شرابه , والآخر على بعض أمره , في سَخْطَةٍ سخطها عليهما , اسم أحدهما « مجلث » والآخر « نبو » , و « نبو » الذي كان على الشراب.

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة: ( ودخل معه السجن فتيان ) ، قال: كان أحدهما خبازًا للملك على طعامه , وكان الآخر ساقيه على شرابِه.

وكان سبب حبس الملك الفتيين فيما ذكر، ما: -

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي , قال: إن الملك غضب على خبَّازه , بلغه أنه يريد أن يسمّه , فحبسه وحبس صاحب شرابه , ظنَّ أنه مالأه على ذلك. فحبسهما جميعًا ; فذلك قول الله: ( ودخل معه السجن فتيان ) .

وقوله: ( قال أحدهما إني أراني أعصر خمرًا ) ، ذكر أن يوسف صلوات الله عليه لما أدخل السجن , قال لمن فيه من المحبَّسين , وسألوه عن عمله: إني أعبُرُ الرؤيا: فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه: تعال فلنجربه، كما: -

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي , قال: لما دخل يوسف السجن قال: أنا أعبُرُ الأحلام . فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلمَّ نجرّب هذا العبد العبرانيّ فتراءَيَا له ! فسألاه، من غير أن يكونا رأيا شيئًا . فقال الخباز: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه؟ وقال الآخر: إني أراني أعصر خمرًا؟

حدثنا ابن وكيع وابن حميد , قالا حدثنا جرير , عن عمارة بن القعقاع , عن إبراهيم , عن عبد الله , قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئًا , وإنما كانا تحالما ليجرِّبا علمه.

وقال قوم: إنما سأله الفَتَيان عن رؤيا كانا رأياها على صحةٍ وحقيقةٍ , وعلى تصديق منهما ليوسف لعلمه بتعبيرها .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: لما رأى الفتيان يوسف , قالا والله، يا فتى لقد أحببناك حين رأيناك.

.... قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن عبد الله , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك: أنشدكما الله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحدٌ قط إلا دخل عليَّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء , ثم لقد أحبني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء , ثم لقد أحبتني زوجةُ صاحبي هذا فدخل عليَّ بحبها إياي بلاء , فلا تحباني بارك الله فيكما ! قال: فأبيا إلا حبه وإلفه حيث كان , وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله. وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا , فرأى « مجلث » أنه يحمل فوق رأسه خبزًا تأكل الطير منه , ورأى « نبو » أنه يعصر خمرًا , فاستفتياه فيها، وقالا له: ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) ، إن فعلت.

وعني بقوله: ( أعصر خمرًا ) ، أي: إني أرى في نومي أني أعصر عنبًا . وكذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه .

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي , عن أبي سلمة الصائغ , عن إبراهيم بن بشير الأنصاري , عن محمد بن الحنفية قال في قراءة ابن مسعود: « إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ عِنَبًا. »

وذكر أن ذلك من لغة أهل عمان , وأنهم يسمون العنب خمرًا .

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن الحسين , قال: سمعت أبا معاذ , يقول: حدثنا عبيد , قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إني أراني أعصر خمرًا ) ، يقول: أعصر عنبًا , وهو بلغة أهل عمان، يسمون العنب خمرًا.

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع ; وثنا ابن وكيع , قال: حدثنا أبي عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك: ( إني أراني أعصر خمرًا ) ، قال: عنبًا , أرضُ كذا وكذا يدعُون العنب « خمرًا » .

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: ثني حجاج , عن ابن جريج , قال: قال ابن عباس: ( إني أراني أعصر خمرًا ) ، قال: عنبًا.

حدثت عن المسيب بن شريك , عن أبي حمزة , عن عكرمة , قال: أتاه فقال: رأيت فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب، فنبتت , فخرج فيه عناقيد فعصرتهنّ , ثم سقيتهن الملك، فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام , ثم تخرج فتسقيه خمرًا.

وقوله: ( وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله ) ، يقول تعالى ذكره: وقال الآخر من الفَتيين: إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزًا ; يقول: أحمل على رأسي فوضعت « فوق » مكان « على » ( تأكل الطير منه ) ، يعني: من الخبز.

وقوله: ( نبئنا بتأويله ) ، يقول: أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنَّا رأيناه في منامنا، ويرجع إليه، كما: -

حدثني الحارث , قال: حدثنا القاسم , قال: حدثنا يزيد , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( نبئنا بتأويله ) ، قال: به قال الحارث , قال أبو عبيد: يعني مجاهد أن « تأويل الشيء » ، هو الشيء . قال: ومنه: « تأويل الرؤيا » ، إنما هو الشيء الذي تؤول إليه.

وقوله: ( إنا نراك من المحسنين ) اختلف أهل التأويل في معنى « الإحسان » الذي وصف به الفتيان يوسف.

فقال بعضهم: هو أنه كان يعود مريضهم , ويعزي حزينهم , وإذا احتاج منهم إنسان جَمَع له .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد , قال: حدثنا سعيد بن منصور , قال: حدثنا خلف بن خليفة , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك بن مزاحم , قال: كنت جالسًا معه ببلخ , فسئل عن قوله: ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) ، قال: قيل له: ما كان إحسان يوسف؟ قال: كان إذا مرض إنسان قام عليه , وإذا احتاج جمع له , وإذا ضاق أوْسَع له.

حدثنا إسحاق , عن أبي إسرائيل , قال: حدثنا خلف بن خليفة , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك , قال: سأل رجل الضحاك عن قوله: ( إنا نراك من المحسنين ) ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن قامَ عليه , وإذا احتاج جمع له , وإذا ضاق عليه المكان وسَّع له.

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني حجاج , عن أبي بكر بن عبد الله , عن قتادة , قوله: ( إنا نراك من المحسنين ) ، قال: بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم , ويعزِّي حزينهم , ويجتهد لربه . وقال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قومًا قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم , فطال حزنهم , فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجَروا , إن لهذا أجرًا , إن لهذا ثوابًا. فقالوا: يا فتى، بارك الله فيك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك , لقد بورك لنا في جوارك , ما نحبُّ أنَّا كنا في غير هذا منذ حبسنا، لما تخبرنا من الأجر والكفَّارة والطَّهارة , فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف، ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله. وكانت عليه محبَّة. وقال له عامل السجن: يا فتى، والله لو استطعت لخلَّيت سبيلك , ولكن سأحسن جِوارك، وأحسن إسارك , فكن في أيِّ بيوت السجن شئت.

حدثنا أبو كريب , قال: حدثنا وكيع , عن خلف الأشجعي , عن سلمة بن نبيط , عن الضحاك في: ( إنا نراك من المحسنين ) ، قال: كان يوسع للرجل في مجلسه , ويتعاهد المرضى.

وقال آخرون: معناه: ( إنا نراك من المحسنين ) ، إذا نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: استفتياه في رؤياهما , وقالا له: ( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ) ، إن فعلت.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة.

فإن قال قائل: وما وجهُ الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت , وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما، ليست من الخبَر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه، ويحسن إلى من احتاج في شيء , وإنما يقال للرجل: « نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم » , وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم، لا بغيره؟

قيل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويل رؤيانا محسنًا إلينا في إخبارك إيانا بذلك , كما نراك تحسن في سائر أفعالك: ( إنا نراك من المحسنين ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 37 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( قال ) يوسف للفتيين اللذين استعبراه الرؤيا: ( لا يأتيكما ) ، أيها الفتيان في منامكما ( طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله ) ، في يقظتكما ( قبل أن يأتيكما ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي , قال: قال يوسف لهما: ( لا يأتيكما طعام ترزقانه ) ، في النوم ( إلا نبأتكما بتأويله ) ، في اليقظة.

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: قال يوسف لهما: ( لا يأتيكما طعام ترزقانه ) ، يقول: في نومكما ( إلا نبأتكما بتأويله ) .

ويعنى بقوله ( بتأويله ) : ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه.

وقوله: ( ذلكما مما علمني ربي ) ، يقول: هذا الذي أذكر أني أعلمه من تعبير الرؤيا، مما علمني ربى فعلمته ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) وجاء الخبر مبتدأ، أي: تركت ملة قوم , والمعنى: ما ملت، وإنما ابتدأ بذلك، لأن في الابتداء الدليل على معناه.

وقوله: ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) ، يقول: إني برئت من ملة من لا يصدق بالله , ويقرّ بوحدانيته ( وهم بالآخرة هم كافرون ) ، يقول: وهم مع تركهم الإيمان بوحدانية الله ، لا يقرّون بالمعاد والبعث، ولا بثواب ولا عقاب.

وكُررت « هم » مرتين , فقيل: ( وهم بالآخرة هم كافرون ) ، لما دخل بينهما قوله: ( بالآخرة ) ، فصارت « هم » الأولى كالملغاة , وصار الاعتماد على الثانية , كما قيل: وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [ سورة النمل: 3/ سورة لقمان: 4 ] ، وكما قيل: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [ سورة المؤمنون: 35 ]

فإن قال قائل: ما وجه هذا الخبر ومعناه من يوسف؟ وأين جوابه الفتيين عما سألاه من تعبير رؤياهما، من هذا الكلام؟

قيل له: إن يوسف كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما، لما علم من مكروه ذلك على أحدهما , فأعرض عن ذكره، وأخذ في غيره، ليعرضا عن مسألته الجوابَ عما سألاه من ذلك.

وبنحو ذلك قال أهل العلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم , قال: حدثنا الحسين , قال: حدثني حجاج , عن ابن جريج , في قوله: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ، قال: فكره العبارة لهما , وأخبرهما بشيء لم يسألاه عنه ليريهما أن عنده علمًا . وكان الملك إذا أراد قتل إنسان , صنع له طعامًا معلومًا , فأرسل به إليه , فقال يوسف: ( لا يأتيكما طعام ترزقانه ) ، إلى قوله: يَشْكُرُونَ ، فلم يدَعَاه , فعدل بهما , وكره العبارة لهما. فلم يدعاه حتى يعبر لهما , فعدل بهما وقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، إلى قوله: يَعْلَمُونَ ، فلم يدعاه حتى عبر لهما , فقال: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ . قالا ما رأينا شيئًا , إنما كنا نلعب ! قال: قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ .

قال أبو جعفر: وعلى هذا التأويل الذي تأوله ابن جريج، فقوله: ( لا يأتيكما طعام ترزقانه ) ، في اليقظة لا في النوم، . وإنما أعلمهما على هذا القول أنَّ عنده علم ما يؤول إليه أمر الطعام الذي يأتيهما من عند الملك ومن عند غيره , لأنه قد علم النوعَ الذي إذا أتاهما كان علامةً لقتل من أتاه ذلك منهما , والنوع الذي إذا أتاه كان علامة لغير ذلك , فأخبرهما أنه عنده علم ذلك .