القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 53 )

قال أبو جعفر : يقول يوسف صلوات الله عليه: وما أبرئ نفسي من الخطأ والزلل فأزكيها ( إن النفس لأمارة بالسوء ) ، يقول: إن النفوسَ نفوسَ العباد، تأمرهم بما تهواه، وإن كان هواها في غير ما فيه رضا الله ( إلا ما رحم ربي ) يقول: إلا أن يرحم ربي من شاء من خلقه ، فينجيه من اتباع هواها وطاعتها فيما تأمرُه به من السوء ( إن ربي غفور رحيم ) .

و « ما » في قوله: ( إلا ما رحم ربي ) ، في موضع نصب ، وذلك أنه استثناء منقطع عما قبله ، كقوله: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلا رَحْمَةً مِنَّا [ سورة يس : 43 ، 44 ] بمعنى: إلا أن يرحموا . و « أن » ، إذا كانت في معنى المصدر، تضارع « ما » .

ويعني بقوله: ( إن ربي غفور رحيم ) ، أن الله ذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه ، بتركه عقوبته عليها وفضيحته بها « رحيم » ، به بعد توبته، أن يعذبه عليها .

وذُكر أن يوسف قال هذا القول، من أجل أن يوسف لما قال: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال ملك من الملائكة: ولا يومَ هممت بها! فقال يوسفُ حينئذ: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

وقد قيل: إن القائل ليوسف: « ولا يومَ هممت بها، فحللت سراويلك » ! هو امرأة العزيز ، فأجابها يوسف بهذا الجواب .

وقيل: إن يوسف قال ذلك ابتداءً من قبل نفسه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: لما جمع الملك النسوة فسألهن: هل راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن حَاشَ لله، ما علمنا عليه من سوء! قالت امرأة العزيز: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ الآية . قال يوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال فقال له جبريل: ولا يوم هممت بما هممت! فقال: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: لما جمع الملك النسوة ، قال لهن: أنتن راودتن يوسف عن نفسه؟ ثم ذكر سائر الحديث ، مثل حديث أبي كريب ، عن وكيع.

حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو قال ،أخبرنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال: لما جمع فرعون النسوة، قال: أنتن راودتن يوسف عن نفسه؟ ثم ذكر نحوه غير أنه قال: فغمزه جبريل ، فقال: ولا حين هممت بها! فقال يوسف: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير قال: لما قال يوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ . قال جبريل ، أو مَلَك: ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا وكيع قال ، حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير، بنحوه إلا أنه قال: قال له المَلَك: ولا حين هممت بها؟ ولم يقل: « أو جبريل » ، ثم ذكر سائر الحديث مثله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بشر، وأحمد بن بشير ، عن مسعر ، عن أبى حصين ، عن سعيد بن جبير: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال فقال له الملك أو: جبريل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل قال: لما قال يوسف: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال له جبريل: ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل ، بمثله .

حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا عمرو قال ،أخبرنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، مثل حديث ابن وكيع ، عن محمد بن بشر وأحمد بن بشير سواءً .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، وزيد بن حباب ، عن حماد بن سلمة، عن ثابت ، عن الحسن: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال له جبريل: اذكر همَّك ! فقال: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا الحسن قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن الحسن: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال جبريل: يا يوسف اذكر همك ! قال: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، في قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال: هذا قول يوسف قال: فقال له جبريل: ولا حين حللت سراويلك؟ قال فقال يوسف: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) ، الآية.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ،أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، بنحوه .

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ذُكر لنا أن الملك الذي كان مع يوسف ، قال له: اذكر ما هممت به. قال نبي الله: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال: بلغني أن الملك قال له حين قال ما قال: أتذكر همك؟ فقال: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) .

حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال الملك ، وطَعَن في جنبه: يا يوسف ، ولا حين هممت؟ قال: فقال: ( وما أبرئ نفسي ) .

*ذكر من قال: قائل ذلك له المرأة.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، قال: قاله يوسف حين جيء به، ليعلم العزيز أنه لم يخنه بالغيب في أهله، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. فقالت امرأة العزيز: يا يوسف، ولا يوم حللت سراويلك؟ فقال يوسف: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) .

* ذكر من قال: قائل ذلك يوسف لنفسه ، من غير تذكير مذكّر ذكره ولكنه تذكّر ما كان سلف منه في ذلك .

حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ، هو قول يوسف لمليكه، حين أراه الله عذره ، فذكر أنه قد همَّ بها وهمت به ، فقال يوسف: ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ) ، الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ( 54 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وقال الملك » ، يعني ملك مصر الأكبر ، وهو فيما ذكر ابن إسحاق: الوليد بن الرّيان .

حدثنا بذلك ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عنه.

حين تبين عذر يوسف ، وعرف أمانته وعلمه، قال لأصحابه: ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) ، يقول: أجعله من خُلصائي دون غيري.

وقوله: ( فلما كلمه ) ، يقول: فلما كلم الملك يوسفَ ، وعرف براءته وعِظَم أمانته قال له: إنك يا يوسف، « لدينا مكين أمين » ، أي: متمكن مما أردت، وعرض لك من حاجة قبلنا ، لرفعة مكانك ومنـزلتك، لدينا أمين على ما أؤتمنت عليه من شيء .

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال: لما وجد الملك له عذرًا قال: ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) .

حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ( أستخلصه لنفسي ) ، يقول: أتخذه لنفسي.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل قال الملك: ( ائتوني به أستخلصه لنفسي ) قال: قال له الملك: إني أريد أن أخلصك لنفسي ، غير أني آنَفُ أن تأكُل معي.

فقال يوسف: أنا أحق أن آنفَ ، أنا ابن إسحاق أو: أنا ابن إسماعيل أبو جعفر شكَّ ، وفي كتابي: ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله.

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثني أبي ، عن سفيان ، عن أبي سنان ، عن ابن أبي الهذيل بنحوه غير أنه قال: أنا ابن إبراهيم خليل الله، ابن إسماعيل ذبيح الله.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: قال العزيز ليوسف: ما من شيء إلا وأنا أحبُّ أن تشركني فيه ، إلا أني أحب أن لا تشركني في أهلي ، وأن لا يأكل معي عَبْدي ! قال: أتأنف أن آكل معك؟ فأنا أحق أن آنف منك ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وابن إسحاق الذبيح ، وابن يعقوب الذي ابيضت عيناه من الحزن.

حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا سفيان بن عقبة ، عن حمزة الزيات ، عن ابن إسحاق ، عن أبي ميسرة قال: لما رأى العزيز لَبَقَ يوسف وكيسه وظَرْفه ، دعاه فكان يتغدى ويتعشى معه دون غلمانه. فلما كان بينه وبين المرأة ما كان ، قالت له: تُدْنِي هذا! مُرْهُ فليتغدَّ مع الغلمان. قال له: اذهب فتغدَّ مع الغلمان. فقال له يوسف في وجهه: ترغب أن تأكل معي أو تَنْكَف أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( 55 )

قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن أرضك.

وهي جمع « خِزَانة » .

و « الألف واللام » دخلتا في « الأرض » خلفًا من الإضافة ، كما قال الشاعر:

والأَحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ

وهذا من يوسف صلوات الله عليه، مسألة منه للملك أن يولّيه أمر طعام بلده وخراجها ، والقيام بأسباب بلده ، ففعل ذلك الملك به، فيما بلغني، كما:-

حدثني يونس قال ،أخبرنا ابن وهب قال ،قال ابن زيد في قوله: ( اجعلني على خزائن الأرض ) ، قال: كان لفرعون خزائن كثيرة غير الطعام قال: فأسلم سلطانه كُلَّه إليه ، وجعل القضاء إليه ، أمرُه وقضاؤه نافذٌ.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي ، في قوله: ( اجعلني على خزائن الأرض ) ، قال: على حفظ الطعام .

وقوله: ( إني حفيظ عليم ) اختلف أهل التأويل في تأويله.

فقال بعضهم: معنى ذلك: إني حفيظ لما استودعتني، عليم بما وليتني .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق: ( إني حفيظ عليم ) ، إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما وليتني . قال: قد فعلت.

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله: ( إني حفيظ عليم ) ، يقول: حفيظ لما وليت ، عليم بأمره.

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن شيبة الضبي في قوله: ( إني حفيظ عليم ) يقول: إني حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني المجاعة.

وقال آخرون: إني حافظ للحساب ، عليم بالألسن .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن الأشجعي: ( إني حفيظ عليم ) ، حافظ للحساب ، عليم بالألسن.

قال أبو جعفر : وأولى القولين عندنا بالصواب ، قولُ من قال: معنى ذلك: « إني حافظ لما استودعتني ، عالم بما أوليتني » ، لأن ذلك عقيب قوله: ( اجعلني على خزائن الأرض ) ، ومسألته الملك استكفاءه خزائن الأرض ، فكان إعلامه بأن عنده خبرةً في ذلك وكفايته إياه ، أشبه من إعلامه حفظه الحساب، ومعرفته بالألسن .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 56 )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وهكذا وطَّأنا ليوسف في الأرض يعني أرض مصر ( يتبوأ منها حيث يشاء ) ، يقول: يتخذ من أرض مصر منـزلا حيث يشاء، بعد الحبس والضيق ( نصيب برحمتنا من نشاء ) ، من خلقنا، كما أصبنا يوسف بها ، فمكنا له في الأرض بعد العبودة والإسار، وبعد الإلقاء في الجبّ ( ولا نضيع أجر المحسنين ) ، يقول: ولا نبطل جزاء عمل من أحسن فأطاع ربه، وعمل بما أمره، وانتهى عما نهاه عنه ، كما لم نبطل جزاء عمل يوسف إذ أحسن فأطاع الله .

وكان تمكين الله ليوسف في الأرض كما:-

حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال: لما قال يوسف للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قال الملك: قد فعلت ! فولاه فيما يذكرون عمل إطفير وعزل إطفير عما كان عليه ، يقول الله: ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ) ، الآية. قال: فذكر لي، والله أعلم أن إطفير هَلَك في تلك الليالي ، وأن الملك الرَّيان بن الوليد، زوَّج يوسف امرأة إطفير راعيل ، وأنها حين دخلت عليه قال: أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين؟ قال: فيزعمون أنها قالت: أيُّها الصديق، لا تلمني ، فإني كنت امرأة كما ترى حسنًا وجمالا ناعمةً في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنتَ كما جعلك الله في حسنك وهيئتك ، فغلبتني نفسي على ما رأيت . فيزعمون أنه وجدَها عذراء ، فأصابها ، فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف ، وميشا بن يوسف.

حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ) قال: استعمله الملك على مصر ، وكان صاحب أمرها ، وكان يلي البيعَ والتجارة وأمرَها كله ، فذلك قوله: ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ) .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال ،قال ابن زيد في قوله: ( يتبوأ منها حيث يشاء ) قال: ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا ، يصنع فيها ما يشاء ، فُوِّضَتْ إليه . قال: ولو شاء أن يجعَل فرعون من تحت يديه ، ويجعله فوقه لفعل.

حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو قال ،أخبرنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن مجاهد قال: أسلم الملك الذي كان معه يوسف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 57 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولثواب الله في الآخرة ( خير للذين آمنوا ) يقول: للذين صدقوا الله ورسوله، مما أعطى يوسف في الدنيا من تمكينه له في أرض مصر ( وكانوا يتقون ) ، يقول: وكانوا يتقون الله، فيخافون عقابه في خلاف أمره واستحلال محارمه ، فيطيعونه في أمره ونهيه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ( 58 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم ) ، يوسف، ( وهم ) ليوسف ( منكرون ) لا يعرفونه .

وكان سبب مجيئهم يوسفَ ، فيما ذكر لي , كما:-

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: لما اطمأن يوسف في ملكه , وخرج من البلاء الذي كان فيه , وخلت السنون المخصبة التي كان أمرهم بالإعداد فيها للسنين التي أخبرهم بها أنها كائنة , جُهد الناس في كل وجه , وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كل بلدة . وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد , قد آسى بينهم , وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرًا واحدًا , ولا يحمل للرجل الواحد بعيرين , تقسيطًا بين الناس , وتوسيعًا عليهم , فقدم إخوته فيمن قدم عليه من الناس , يلتمسون الميرة من مصر , فعرفهم وهم له منكرون , لما أراد الله أن يبلغ ليوسف عليه السلام فيما أراد.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي , قال: أصاب الناس الجوعُ , حتى أصاب بلادَ يعقوب التي هو بها , فبعث بنيه إلى مصر , وأمسك أخا يوسف بنيامين ; فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون ; فلما نظر إليهم , قال: أخبروني ما أمركم , فإني أنكر شأنكم ! قالوا: نحن قوم من أرض الشأم . قال: فما جاء بكم قالوا: جئنا نمتار طعامًا . قال: كذبتم , أنتم عيون، كم أنتم؟ قالوا: عشرة . قال: أنتم عشرة آلاف , كل رجل منكم أمير ألف , فأخبروني خبركم. قالوا: إنّا إخوة بنو رجل صِدِّيق , وإنا كنا اثنى عشر , وكان أبونا يحبّ أخًا لنا , وإنه ذهب معنا البرية فهلك منا فيها , وكان أحبَّنا إلى أبينا . قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه . قال: فكيف تخبروني أن أباكم صدِّيق، وهو يحب الصغير منكم دون الكبير؟ ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ، قال: فضعُوا بعضكم رهينة حتى ترجعوا. فوضعوا شمعون.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة: ( وهم له منكرون ) قال: لا يعرفونه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ( 59 )

قال أبو جعفر: يقول: ولما حمَّل يوسف لإخوته أبا عرهم من الطعام , فأوقر لكل رجل منهم بعيرَه , قال لهم: ( ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) كيما أحمل لكم بعيرًا آخر، فتزدادوا به حمل بعير آخر، ( ألا ترون أني أوفي الكيل ) ، فلا أبخسه أحدًا ( وأنا خير المنـزلين ) , وأنا خير من أنـزل ضيفًا على نفسه من الناس بهذه البلدة , فأنا أضيفكم . كما:

حدثني المثنى , قال: حدثنا أبو حذيفة , قال: حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: ( وأنا خير المنـزلين ) ، يوسف يقوله: أنا خيرُ من يُضيف بمصر.

حدثني ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: لما جهز يوسف فيمن جهَّز من الناس , حَمَل لكل رجل منهم بعيرًا بعدّتهم , ثم قال لهم: ( ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) ، أجعل لكم بعيرًا آخر , أو كما قال ( ألا ترون أني أوفي الكيل ) ، أي: لا أبخس الناس شيئًا ( وأنا خير المنـزلين ) : ، أي خير لكم من غيري , فإنكم إن أتيتم به أكرمت منـزلتكم وأحسنت إليكم , وازددتم به بعيرًا مع عدّتكم , فإني لا أعطي كلّ رجل منكم إلا بعيرًا فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ، لا تقربوا بلدي.

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) ، يعني بنيامين , وهو أخو يوسف لأبيه وأمه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ( 60 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل يوسف لإخوته: ( فإن لم تأتوني به ) ، بأخيكم من أبيكم ( فلا كيل لكم عندي ) ، يقول: فليس لكم عندي طعام أكيله لكم ( ولا تقربون ) ، يقول: ولا تقربوا بلادي .

وقوله: ( ولا تقربون ) ، في موضع جزم بالنهي , و « النون » في موضع نصب , وكسرت لما حذفت ياؤها , والكلام: ولا تقربُوني .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ( 61 ) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 62 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال إخوة يوسف ليوسف إذ قال لهم: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ : قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ، ونسأله أن يخليّه معنا حتى نجيء به إليك وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ يعنون بذلك: وإنا لفاعلون ما قلنا لك إنا نفعله من مراودة أبينا عن أخينا منه ولنجتهدنَّ كما:-

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق: وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ، لنجتهدنّ.

وقوله: ( وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ) ، يقول تعالى ذكره: وقال يوسف « لفتيانه » , وهم غلمانه، كما:-

حدثنا بشر , قال: حدثنا يزيد , قال: حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله: ( وقال لفتيانه ) ، أي: لغلمانه.

( اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ) ، يقول: اجعلوا أثمان الطعام التي أخذتموها منهم « في رحالهم » .

و « الرحال » ، جمع « رَحْل » , وذلك جمع الكثير , فأما القليل من الجمع منه فهو: « أرْحُل » , وذلك جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة .

وبنحو الذي قلنا في معنى « البضاعة » ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد , قال، حدثنا سعيد , عن قتادة: ( اجعلوا بضاعتهم في رحالهم ) : أي: أوراقهم

حدثنا ابن حميد , قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال: ثم أمر ببضاعتهم التي أعطاهم بها ما أعطاهم من الطعام , فجعلت في رحالهم وهم لا يعلمون.

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي قال: وقال لفتيته وهو يكيل لهم: « اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون » إليّ.

فإن قال قائل: ولأيّةِ علة أمر يوسف فتيانه أن يجعلوا بضاعة إخوته في رحالهم؟

قيل: يحتمل ذلك أوجهًا:

أحدها: أن يكون خَشي أن لا يكون عند أبيه دراهم , إذ كانت السَّنة سنة جَدْب وقَحْط , فيُضِرُّ أخذ ذلك منهم به، وأحبّ أن يرجع إليه .

أو: أرادَ أن يتسع بها أبوه وإخوته، مع [ قلّة ] حاجتهم إليه , فردَّه عليهم من حيث لا يعلمون سبب ردّه ، تكرمًا وتفضُّلا.

والثالث: وهو أن يكون أراد بذلك أن لا يخلفوه الوعد في الرجوع , إذا وجدوا في رحالهم ثمن طعام قد قبضوه وملَكهُ عليهم غيرهم، عوضًا من طعامه , ويتحرّجوا من إمساكهم ثمن طعام قد قبضوه حتى يؤدُّوه على صاحبه , فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه .

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( 63 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رجع إخوة يوسف إلى أبيهم ( قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل ) ، يقول: منع منا الكيل فوق الكيل الذي كِيلَ لنا , ولم يكل لكل رجُلٍ منّا إلا كيل بعير- ( فأرسل معنا أخانا ) ، بنيامين يكتلَ لنفسه كيلَ بعير آخر زيادة على كيل أباعِرِنا ( وإنا له لحافظون ) ، من أن يناله مكروه في سفره .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع , قال: حدثنا عمرو , عن أسباط , عن السدي: فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا إن ملك مصر أكرمنا كرامةَ ما لو كان رجل من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته , وإنه ارتهن شمعون , وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عكف عليه أبوكم بعد أخيكم الذي هلك , فإن لم تأتوني به فلا تقربوا بلادي . قال يعقوب: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ؟ قال: فقال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك مصر فاقرءوه مني السلام , وقولوا: إن أبانا يصلِّي عليك , ويدعو لك بما أوليتنا.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق قال: خرجوا حتى قدموا على أبيهم , وكان منـزلهم، فيما ذكر لي بعض أهل العلم بالعرَبات من أرض فلسطين بِغَوْرِ الشأم وبعض يقول: بالأولاج من ناحية الشّعب، أسفل من حِسْمى وكان صاحب بادية له شاءٌ وإبل , فقالوا: يا أبانا، قدمنا على خير رجُلٍ، أنـزلنا فأكرم منـزلنا، وكال لنا فأوفانا ولم يبخسنا , وقد أمرنا أن نأتِيَه بأخ لنا من أبينا، وقال: إن أنتم لم تفعلوا، فلا تقربُنِّي ولا تدخلُنّ بلدي. فقال لهم يعقوب: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ؟

واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( نكتل ) .

فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة، وبعض أهل مكة والكوفة ( نَكْتَلْ ) ، بالنون , بمعنى: نكتل نحن وهو .

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: « يَكْتَلْ » ، بالياء؛ بمعنى يكتل هو لنفسه، كما نكتال لأنفسنا .

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متفقتا المعنى , فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ . وذلك أنهم إنما أخبروا أباهم أنه منع منهم زيادةَ الكيل على عدد رءوسهم , فقالوا: ( يا أبانا مُنع منا الكيل ) ثم سألوه أن يرسل معهم أخاهم ليكتال لنفسه , فهو إذا اكتال لنفسه واكتالوا هم لأنفسهم , فقد دخل « الأخ » في عددهم . فسواءٌ كان الخبر بذلك عن خاصة نفسه , أو عن جميعهم بلفظ الجميع , إذ كان مفهوما معنى الكلام وما أريد به .