القول في المعنى الذي من أجله أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال بعضهم: أنـزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنـزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ فتلا ذلك عَلى أصحابه, وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك, ونحن نـزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنـزل الله عند ذلك: « إن في خَلق السموات والأرض » ، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نـزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، إلى قوله: لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ, وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آية ] ، فأنـزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله, وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبيه, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنـزل الله تعالى ذكره: « إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنـزل الله تعالى ذكره: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, قال، حدثني سعيد بن مسروق, عن أبي الضحى قال: لما نـزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ‍, فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنـزل الله: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، الآية.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنـزلت هذه الآية: « إنّ في خلق السموات والأرض » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر, عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات, فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنـزداد يقينًا, ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه, فأوحى إليه: إنّي مُعطيهم, فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا, ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنـزل الله عليه: « إنّ في خَلق السموات والأرض » ، الآية: إن في ذَلك لآية لهم, إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا, فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار » ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك, أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نـزلت فيما قاله عطاء, وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى, ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ في خَلق السموات والأرض » ، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.

ومعنى « خلق » الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.

وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل: « الأرض » ، ولم تجمع كما جُمعت السموات, فأغنى ذلك عن إعادته

فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال: « إنّ في خلق السموات والأرض » ؟

قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية, وبالتي في سورة: الكهف: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [ سورة الكهف: 51 ] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله, والإرادة خلق لها.

وقال آخرون: خلق الشيء صفة له, لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا - بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.

وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق, هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.

فمعنى قوله: « إن في خلق السموات والأرض » : إنّ في السموات والأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « واختلاف الليل والنهار » ، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.

وإنما « الاختلاف » في هذا الموضع « الافتعال » من « خُلوف » كل واحد منهما الآخر، كما قال تعالى ذكره: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ سورة الفرقان: 62 ] .

بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده, وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل: « خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء » , ومنه قول زهير:

بِهَــا العِيـنُ وَالآرَامُ يَمْشِـينَ خِلْفَـةً وَأَطْلاؤُهَــا يَنْهَضْــنَ مِــنْ كُــلِّ مَجْـثَم

وأما « الليل » . فإنه جَمْع « ليلة » , نظيرُ « التمر » الذي هو جمع « تمرة » . وقد يجمع « ليالٍ » ، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم « الياء » في ذلك نظير زيادتهم إياها في « ربَاعية وثَمانية وكرَاهية » .

وأما « النهار » ، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنـزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه « النُّهُر » ، قال الشاعر:

لَــوْلا الــثّرِيدانِ هَلَكْنَـا بِـالضُّمُرْ ثَرِيــدُ لَيْـــلٍ وثَرِيــدٌ بِـــالنُّهُرْ

ولو قيل في جمع قليله « أنهِرَة » كان قياسًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.

و « الفلك » هو السُّفن, واحدُه وجمعه بلفظ واحد, ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [ سورة يس: 41 ] ، فذكَّره.

وقد قال في هذه الآية: « والفلك التي تجري في البحر » ، وهي مُجْراة، لأنها إذا أجريت فهي « الجارية » , فأضيف إليها من الصفة ما هو لها.

وأما قوله: « بما ينفع الناس » ، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وما أنـزل اللهُ من السماء من مَاء » ، وفيما أنـزلهُ الله من السماء من ماء, وهو المطر الذي يُنـزله الله من السماء.

وقوله: « فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها » ، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و « الهاء » التي في « به » عائدة على « الماء » و « الهاء والألف » في قوله: « بعد موتها » على الأرض.

و « موت الأرض » ، خرابها، ودُثور عمارتها, وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ

قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله: « وبث فيها منْ كلّ دَابة » ، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.

ومعنى قوله: « وبَث فيها » ، وفرَّقَ فيها, من قول القائل: « بث الأميرُ سراياه » ، يعنى: فرَّق.

و « الهاء والألف » في قوله: « فيها » ، عائدتان على الأَرْضَ .

« والدابة » « الفاعلة » ، من قول القائل: « دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة » . « والدابة » ، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتصريف الرياح » ، وفي تصريفه الرياح, فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول, كما تقول: « يعجبني إكرام أخيك » , تريد: إكرامُك أخَاك.

« وتصريف » الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ, ومرة يجعلها عَقيما, ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وتصريف الرياح والسحاب المسخر » قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك, إذا شَاء [ جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء ] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح, إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه.

وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: « وتصريف الرياح » ، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها, لأن « تصريفها » تصريفُ الله لها, « وتصرفها » اختلافُ هُبوبها.

وقد يجوز أن يكون معنى قوله: « وتصريف الرياح » ، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 164 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « والسحاب المسخر » ، وفي السحاب، جمع « سحابة » . يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [ سورة الرعد: 12 ] فوحّد المسخر وذكره, كما قالوا: « هذه تَمرة وهذا تمر كثير » . في جمعه, « وهذه نخلة وهذا نخل » .

وإنما قيل للسحاب « سحاب » إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه, من قول القائل: « مرّ فلان يَجر ذَيله » ، يعني: « يسحبه » .

فأما معنى قوله: « لآيات » ، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ.

« لقوم يعقلون » ، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق, إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي, والمكلفين بالطاعة والعبادة, ولهم الثواب، وعليهم العقاب.

فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟

قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه, وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [ شيء ] , وبارئًا لا مِثْل له. وذلك وإن كان كذلك, فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم, غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. فحاجَّهم تعالى ذكره فقال - إذ أنكروا قوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة- : [ إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر ] وذلك هو معنى قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - وأنـزل إليكم الغيثَ من السماء, فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه, وأمرعه بعد دُثوره, فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم - ، وذلك هو معنى قوله: وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل, ومنها جمالٌ ومراكبُ, ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله: وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودْقِه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله: « وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض » .

فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم, وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي, وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء, ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري, وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.

والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة, المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له

وقد بينا فيما مضى أن « الندّ » ، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته.

وأن الذين اتخذوا هذه « الأنداد » من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.

واختلف أهل التأويل في « الأنداد » التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟

فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله » ، من الكفار لأوثانهم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى ذكره: « يحبونهم كحب الله » ، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد، « والذين آمنوا أشد حبًا لله » ، من الكفار لأوثانهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله، « والذين آمنوا أشد حبًا لله » , أي من الكفار لأوثانهم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتَهم.

وقال آخرون: بل « الأنداد » في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله » قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله.

فإن قال قائل: وكيف قيل: « كحب الله » ؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال: « يُحبونهم كحب الله » ؟

قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما ذلك نظير قول القائل: « بعت غُلامي كبيع غلامِك » , بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك غُلامَك, « واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك » , بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في « الغلام » و « الحق » , كما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيَّـا عَـــلَى زَيْــدٍ بِتَسْــلِيم الأمِــيرِ

يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.

فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ( 165 )

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم: « ولوْ ترى الذين ظَلموا » بالتاء « إذ يَرون العذابَ » بالياء « أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب » بفتح « أنّ » و « أنّ » كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه « أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب » .

ثم في نصَبْ « أنّ » و « أنّ » في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه, فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا - ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا, وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ - إذا فتحت « أن » على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح « أن » ، على قراءة من قرأ: « ولو ترى » ب « التاء » .

والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ يَرى الذين ظلموا عذابَ الله, لأن القوة لله جميعًا, وأن الله شديد العذاب, لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف « اللام » ، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.

وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء: « ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب » . بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال: « إن القوة لله جميعًا » في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة, « وإن الله شديد العذاب » لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.

وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر « إن » في « ترى » بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ « القول » وتَكتفي منه بالمقول.

وقرأ ذلك آخرون: « ولو يَرَى الذين ظلموا » بالياء « إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب » بفتح « الألف » من « أنّ » « وأنّ » , بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, إذ يرون العذاب. فتكون « أن » الأولى منصوبة لتعلقها بجواب « لو » المحذوف، ويكون الجواب متروكًا, وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.

وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ: « ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب » بالياء في « يرى » وفتح « الألفين » في « أن » « وأن » - : ولو يعلمون، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم, فإذا قال: « ولو ترى » , فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.

ولو كسر « إنّ » على الابتداء، إذا قال: « ولو يرى » جاز, لأن « لو يرى » ، لو يعلم.

وقد تكون « لو » في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. تقول للرجل: « أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم » كما قال الشاعر:

إنْ يكُــنْ طِبَّـكِ الـدّلالُ, فلَـوْ فِـي سَـالِفِ الدَّهْــرِ والسِّـنِينَ الخَــوَالِي!

هذا ليس له جواب إلا في المعنى, وقال الشاعر

وَبِحَـــــظٍّ مِمَّــــا نَعِيشُ, وَلا تَــذْهَبْ بِـكَ التُّرَّهَـاتُ فِــي الأهْـوَالِ

فأضمر: فعيشي.

قال: وقرأ بعضهم: « ولو تَرى » ، وفتح « أن » على « ترى » . وليس بذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم, ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ [ سورة السجدة: 3 ] ، ليخبر الناس عن جهلهم, وكما قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة البقرة: 107 ] .

قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون « أنّ » عاملا فيها قوله: « ولو يرى » . وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا, فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في « أن » جواب « لو » الذي هو بمعنى « العلم » , لتقدم « العلم » الأول.

وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب: « أن القوة لله وأن الله شديد العذاب » ممن قرأ: « ولو يَرَى » بالياء، فإنما نصبها بإعمال « الرؤية » فيها, وجعل « الرؤية » واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ: « ولو ترى » بالتاء, فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا, ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.

وقال آخرون منهم: فتح « أنّ » في قراءة من قرأ: « ولو يَرَى الذين ظلموا » بالياء، بإعمال « يرى » , وجوابُ الكلام حينئذ متروك, كما ترك جواب: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ [ سورة الرعد: 31 ] ، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. وقالوا: جائز كسر « إن » ، في قراءة من قرأ ب « الياء » , وإيقاع « الرؤية » على « إذ » في المعنى, وأجازوا نصب « أن » على قراءة من قرأ ذلك ب « التاء » ، لمعنى نية فعل آخر, وأن يكون تأويل الكلام: « ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب » ، [ يرَون ] أنّ القوة لله جميعا، وزعموا أن كسر « إنّ » الوجهُ، إذا قرئت: « ولو تَرَى » ب « التاء » على الاستئناف, لأن قوله: « ولو ترى » قد وَقع على « الذين ظلموا » .

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك: « ولو تَرَى الذين ظلموا » - بالتاء من « ترى » - « إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب » بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله: « لرأيت » الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله: « ولو ترى الذين ظلموا » ، عن ذكره, وإن كان جوابًا ل « لو » .

ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [ سورة البقرة: 107 ] وقد بيناه في موضعه.

وإنما اخترنا ذلك على قراءة « الياء » ، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب, فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال: « لو رأيت » ، لمن لم يرَ, فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له: « لو رأيت » .

ومعنى قوله: « إذ يَرون العذاب » ، إذ يُعاينون العذاب، كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب » ، يقول: لو عاينوا العذاب.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: « ولو تَرَى الذين ظلموا » ، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي, حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم, لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة, وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا, ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم, وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.

القول في تأويل قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب » ، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم.

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله: « إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » ، فقال بعضهم بما:-

حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إذ تبرأ الذين اتُّبعوا » ، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك, « من الذين اتَّبعوا » ، وهم الأتباع الضعفاء, « ورأوا العذاب » .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا » قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء: « إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.

وقال آخرون بما:-

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا » ، أما « الذين اتُّبعوا » ، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.

قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض, بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.

وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله: « إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا » ، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.

وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، أن « الأنداد » في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر, ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم, كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره وفسد تأويل قول من قال: « إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا » ، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ( 166 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا, وإذ تَقطعت بهم الأسباب.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الأسباب » . فقال بعضهم بما:-

حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير,- عن عبيد المكتب, عن مجاهد: « وتَقطعت بهمُ الأسباب » قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا.

حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد: « وتقطَّعت بهم الأسباب » قال، تواصلهم في الدنيا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان, عن عبيد المكتب, عن مجاهد بمثله.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، المودّة.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد, عن عطاء, عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: « وتقطّعت بهم الأسباب » قال، المودة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وتقطعت بهم الأسباب » ، أسبابُ الندامة يوم القيامة, وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها, فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ [ سورة الزخرف: 67 ] ، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وتقطعت بهم الأسباب » ، يقول: الأسبابُ، الندامة.

وقال بعضهم: بل معنى « الأسباب » ، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وتقطعت بهم الأسباب » ، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، الأسباب المنازل.

وقال آخرون: « الأسباب » ، الأرحام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, وقال ابن عباس: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، الأرحام.

وقال آخرون : « الأسباب » ، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « وتقطعت بهم الأسباب » ، فالأعمال.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » قال، أسباب أعمالهم, فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون, والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.

قال أبو جعفر: « والأسباب » ، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و « السبب » الحبل. « والأسباب » جمع « سَبب » , وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل « سبب » ، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق « سبب » ، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة « سبب » ، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة « سَبب » ، للوصول بها إلى الحاجة, وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو « سبب » لإدراكها.

فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم - من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ عند معاينتهم عذابَ الله المتبوعُ من التابع, وتتقطع بهم الأسباب.

وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا, وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [ سورة إبراهيم: 22 ] ، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين, وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا, فقال تعالى ذكره: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [ سورة الصافات:24- 25 ] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه, وإن كان نسيبه لله وليًّا, فقال تعالى ذكره في ذلك: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [ سورة التوبة: 114 ] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.

وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب, فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم،

ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم, ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.

فلا مَعْنِىَّ أبلغُ - في تأويل قوله: « وتقطعت بهم الأسباب » - من صفة الله [ ذلك ] وذلك ما بيَّنا من [ تقطّع ] جَميع أسبابهم دون بَعضها، على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه, وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « وقَال الذين اتَّبعوا » ، وقال أتباع الرجال - الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله, ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم, إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة- : « لو أن لنا كرة » .

يعني « بالكرة » ، الرجعةَ إلى الدنيا, من قول القائل: « كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا » , و « الكرَّة » المرة الواحدة, وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:

وَلَقَـدْ عَطَفْـنَ عَـلَى فَـزَارَةَ عَطْفَـةً كَـرَّ الْمَنِيـحِ, وَجُـلْنَ ثَــمَّ مَجَــالا

وكما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا » ، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة » قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.

وقوله: « فنتبرأ منهم » منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب « الفاء » . لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم, و يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة الأنعام: 27 ]

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: « كذلك يُريهمُ الله أعمالهم » ، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله: وَرَأَوُا الْعَذَابَ ، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا, فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله « حسرات عليهم » يعني: نَدامات.

« والحسرات » جَمع « حَسْرة » . وكذلك كل اسم كان واحده على « فَعْلة » مفتوح الأول ساكن الثاني, فإن جمعه على « فَعَلات » مثل « شَهوة وتَمرة » تجمع « شَهوات وتَمرات » مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل « ضخمة » ، تجمعها « ضخْمات » و « عَبْلة » تجمعها « عَبْلات » , وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر:

عَــلَّ صُـرُوفَ الدَّهْـرِ أوْ دُولاتِهَـا يُدِلْنَنَـــا اللَّمَّــة مِــنْ لَمَّاتِهَــا

فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا

فسكنّ الثاني من « الزفرات » ، وهي اسم. وقيل: إن « الحسرة » أشد الندامة.

فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم, وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه, فيريهم الله قليلَه! بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله, ولا حسرةَ عليهم في ذلك, وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟

قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون, فنذكر في ذلك ما قالوا, ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.

فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم غيرُهمْ بطاعته ربَّه. فصار ما فاتهم من الثواب - الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم » ، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله, فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين, فيرثونهم. فذلك حين يندمون.

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء, عن عبد الله - في قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار, وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة, فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار, فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم!

فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟

قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [ له ] قبل أن يعمله: هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله, كما يقال للرجل يَحضُر غَداؤه قبل أن يَتغدى به: هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.

وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم » ، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أعمالهم حسرات عليهم » قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [ فجعلها ] حسرات عليهم. قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم, وقرأ قول الله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [ سورة الحاقة: 24 ]

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله: « كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم » ، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.

فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية, فإنه مَنـزع بعيد. ولا أثر - بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنـزيل إلى باطن تأويل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( 167 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله, فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة, وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها, ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا, ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ, ولكنهم فيها مخلدون.

وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ, وأنه إلى نهاية, ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية, ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 168 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنـزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها, إنه يعني بقوله: « إنه » إنّ الشيطان, و « الهاء » في قوله: « إنه » عائدة على الشيطان لكم أيها الناس « عدو مُبين » ، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة, وأكل من الشجرة.

يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة, ودعوا ما يأمركم به, والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم, دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.

ومعنى قوله: « حَلالا » ، طِلْقًا. وهو مصدر من قول القائل: « قد حَلَّ لك هذا الشيء » , أي صار لك مُطلقًا، « فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا » ، ومن كلام العرب: « هو لك حِلٌّ » , أي: طِلْق. .

وأما قوله: « طيبًا » فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.

وأما « الخطوات » فإنه جمع « خُطوة » , و « الخطوة » بعد ما بين قدمي الماشي. و « الخطوة » بفتح « الخاء » « الفعلة » الواحدة من قول القائل: « خَطوت خَطوة واحدةً » . وقد تجمع « الخُطوة » « خُطًا » و « الخَطْوة » تجمع « خَطوات » ، « وخِطاء » .

والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته, النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.

واختلف أهل التأويل في معنى « الخطوات » . فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « خطوات الشيطان » ، يقول: عمله.

وقال بعضهم: « خطوات الشيطان » ، خَطاياه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « خُطُوات الشيطان » قال، خطيئته.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان » قال، خطاياه.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك قوله: « خطوات الشيطان » قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.

وقال آخرون: « خطوات الشيطان » ، طاعته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ولا تتبعوا خطوات الشيطان » ، يقول: طاعته.

وقال آخرون: « خطوات الشيطان » ، النذورُ في المعاصي.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن سليمان, عن أبي مجلز في قوله: « ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان » قال، هي النذور في المعاصي.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله: « خطوات الشيطان » ، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها « بعد ما بين قَدميه » ، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 169 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنما يأمرُكم » ، الشيطانَ، « بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون » .

« والسوء » : الإثم، مثل « الضُّرّ » ، من قول القائل: « ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا » ، وهو ما يَسوء الفاعل.

وأما « الفحشاء » ، فهي مصدر مثل « السراء والضراء » ، وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.

وقيل: إن « السوء » الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك, فإنما سَمَّاها الله « سوءًا » لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن « الفحشاء » ، الزنا: فإن كان ذلك كذلك, فإنما يُسمى [ كذلك ] ، لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنما يأمركم بالسوء والفحشاء » ، أمّا « السوء » ، فالمعصية, وأما « الفحشاء » ، فالزنا.

وأما قوله: « وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون » ، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي, ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى ذكره لهم: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة المائدة: 103 ] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، أنّ قيلهم: « إنّ الله حرم هذا! » من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان, وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه, ولم يحرم أكله عليهم, ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان, واتباعًا منهم خطواته, واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال, الذين كانوا بالله وبما أنـزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم, كما أنـزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .