القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ( 6 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ويستعجلونك ) يا محمد، مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية, فيقولون: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ سورة الأنفال: 32 ] وهم يعلمون ما حَلَّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه, فمن بين أمة مسخت قردة وأخرى خنازير, ومن بين أمّة أهلكت بالرَّجْفة, وأخرى بالخسف, وذلك هو ( المثلات ) التي قال الله جل ثناؤه . ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) .

و ( المثلات ) ، العقوبات المنكِّلات, والواحدة منها: « مَثُلة » بفتح الميم وضم الثاء, ثم تجمع « مَثُلات » ، كما واحدة « الصَّدُقَات » « صَدُقَة » , ثم تجمع « صَدُقَات » . وذكر أن تميمًا من بين العرب تضم الميم والثاء جميعًا من « المُثُلات » , فالواحدة على لغتهم منها: « مُثْلة » , ثم تجمع « مُثُلات » , مثل « غُرْفة » وغُرُفات, والفعل منه: « مَثَلْت به أمْثُلُ مَثْلا » بفتح الميم وتسكين الثاء, فإذا أردت أنك أقصصته من غيره, قلت: « أمثلته من صاحبه أُمْثِلُه إمْثالا وذلك إذا أقصصته منه . »

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) ، وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم وقوله: ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) ، وهم مشركو العرب استعجلوا بالشرّ قبل الخير, وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، [ سورة الأنفال:32 ] .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) قال: بالعقوبة قبل العافية ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) قال: العقوبات .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد, قوله: ( المثلات ) قال: الأمْثَال .

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد

وحدثني المثنى: قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) قال: ( المثلات ) ، الذي مَثَل الله به الأممَ من العذاب الذي عذَّبهم، تولَّت المثلات من العذاب, قد خلت من قبلهم, وعرفوا ذلك, وانتهى إليهم ما مَثَلَ الله بهم حين عصَوه وعَصوا رُسُله .

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سليم قال: سمعت الشعبي يقول في قوله: ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) ، قال: القردة والخنازير هي المثلات .

وقوله: ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) ، يقول تعالى ذكره: وإن ربك يا محمد لذو سترٍ على ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس, فتاركٌ فضيحته بها في موقف القيامة, وصافحٌ له عن عقابه عليها عاجلا وآجلا ( على ظلمهم ) ، يقول: على فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذني لهم بفعله ( وإن ربك لشديد العقاب ) ، لمن هلك مُصِرًّا على معاصيه في القيامة، إن لم يعجِّل له ذلك في الدنيا, أو يجمعهما له في الدنيا والآخرة .

قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهرَ خبرٍ, فإنه وعيدٌ من الله وتهديدٌ للمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن هم لم ينيبوا ويتوبوا من كفرهم قبل حُلول نقمة الله بهم .

حدثني علي بن داود قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن ربك لذو مغفرة للناس ) ، يقول: ولكنّ ربَّك .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ( 7 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ويقول الذين كفروا ) يا محمد، من قومك ( لولا أنـزل عليه آية من ربه ) هلا أنـزل على محمد آية من ربه؟ يعنون علامةً وحجةً له على نبوّته وذلك قولهم: لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [ سورة هود: 12 ] يقول الله له: يا محمد ( إنما أنت منذر ) لهم, تنذرهم بأسَ الله أن يحلّ بهم على شركهم . ( ولكل قوم هاد ) . يقول ولكل قوم إمام يأتمُّون به وهادٍ يتقدمهم, فيهديهم إما إلى خيرٍ وإما إلى شرٍّ .

وأصله من « هادي الفرس » , وهو عنقه الذي يهدي سائر جسده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في المعنيِّ بالهادي في هذا الموضع.

فقال بعضهم: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه ) هذا قول مشركي العرب قال الله: ( إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد ) لكل قوم داعٍ يدعوهم إلى الله .

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع. عن سفيان. عن السدي. عن عكرمة ومنصور, عن أبي الضحى: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قالا محمد هو « المنذر » وهو « الهاد » .

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان, عن السدي, عن عكرمة, مثله .

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سفيان, عن أبيه, عن عكرمة, مثله .

وقال آخرون: عنى بـ « الهادي » في هذا الموضع: الله .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: محمد « المنذر » , والله « الهادي » .

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( وإنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال محمد « المنذر » , والله « الهادي » .

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( إنما أنت منذر ) قال: أنت يا محمد منذر, والله « الهادي » .

حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال: « المنذر » ، النبي صلى الله عليه وسلم ( ولكل قوم هاد ) قال: الله هادي كل قوم .

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) يقول: أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم .

حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، « المنذر » : محمد صلى الله عليه وسلم, و « الهادي » : الله عز وجل .

وقال آخرون: « الهادي » في هذا الموضع معناه نبيٌّ .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: « المنذر » محمد صلى الله عليه وسلم . ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيٌّ .

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهدٍ في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: نبيٌّ .

............ قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, مثله .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أسباط بن محمد, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال: لكل قوم نبي, والمنذر: محمد صلى الله عليه وسلم .

......... قال: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثني عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, في قول الله: ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيّ .

......... قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( ولكل قوم هاد ) يعني: لكل قوم نبيّ .

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيّ .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيّ يدعوهم إلى الله .

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ولكل قوم هاد ) قال: لكل قوم نبيّ. « الهادي » ، النبي صلى الله عليه وسلم, و « المنذر » أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [ سورة فاطر: 24 ] ، وقال: نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [ سورة النجم: 56 ] قال: نبي من الأنبياء .

وقال آخرون، بل عني به: ولكل قوم قائد .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا جابر بن نوح, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال: إنما أنت، يا محمد، منذر, ولكل قوم قادة .

......... قال: حدثنا الأشجعي قال: حدثني إسماعيل أو: سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: ( ولكل قوم هاد ) قال: لكل قوم قادة .

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: « الهادي » : القائد, والقائد: الإمام, والإمام: العمل .

حدثني الحسن قال: حدثنا محمد, وهو ابن يزيد عن إسماعيل, عن يحيى بن رافع, في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: قائد .

وقال آخرون: هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري قال: حدثنا معاذ بن مسلم,بيّاع الهرويّ، عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لما نـزلت ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، وضع صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر ( ولكل قوم هاد ) , وأومأ بيده إلى منكب عليّ, فقال: أنت الهادي يا عليّ, بك يهتدي المهتدون بَعْدي .

وقال آخرون: معناه: لكل قوم داع .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ولكل قوم هاد ) ، قال: داع .

وقد بينت معنى « الهداية » , وأنه الإمام المتبع الذي يقدُم القوم . فإذ كان ذلك كذلك, فجائز أن يكون ذلك هو الله الذي يهدي خلَقه ويتَّبع خلقُه هداه ويأتمون بأمره ونهيه.

وجائز أن يكون نَبِيَّ الله الذي تأتمُّ به أمته.

وجائز أن يكون إمامًا من الأئمة يُؤْتَمُّ به، ويتّبع منهاجَه وطريقته أصحابُه.

وجائزٌ أن يكون داعيًا من الدعاة إلى خيرٍ أو شرٍّ .

وإذ كان ذلك كذلك, فلا قول أولى في ذلك بالصواب من أن يقال كما قال جل ثناؤه: إن محمدًا هو المنذر من أرسل إليه بالإنذار, وإن لكل قوم هاديًا يهديهم فيتّبعونه ويأتمُّون به .

 

القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ( 8 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ منكرين قدرة الله على إعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم وبلائهم, ولا ينكرون قدرته على ابتدائهم وتصويرهم في الأرحام، وتدبيرهم وتصريفهم فيها حالا بعد حال فابتدأ الخبر عن ذلك ابتداءً, والمعنى فيه ما وصفت, فقال جل ثناؤه: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، يقول: وما تنقص الأرحام من حملها في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض ( وما تزداد ) في حملها على الأشهر التسعة لتمام ما نقص من الحمل في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض ( وكل شيء عنده بمقدار ) لا يجاوز شيء من قَدَره عن تقديره, ولا يقصر أمر أراده فَدَبَره عن تدبيره, كما لا يزداد حمل أنثى على ما قُدِّرَ له من الحمل, ولا يُقصِّر عما حُدّ له من القدر.

و « المقدار » , مِفْعال من « القدر » .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن ماهان قال: حدثنا القاسم بن مالك, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، قال: ما رأت المرأة من يوم دمًا على حملها زاد في الحمل يومًا .

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، يعني السِّقْط ( وما تزداد ) ، يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر, ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله, وكل ذلك بعلمه .

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال: حدثنا عبد السلام قال: حدثنا خصيف, عن مجاهد أو سعيد بن جبير في قول الله: ( وما تغيض الأرحام ) قال: غَيْضُها، دون التسعة والزيادة فوق التسعة .

حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر, عن مجاهد, أنه قال: « الغيض » ، ما رأت الحامل من الدم في حملها فهو نقصان من الولد, و « الزيادة » ما زاد على التسعة أشهر, فهو تمام للنقصان وهو زيادة .

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: ما ترى من الدم, وما تزداد على تسعة أشهر .

حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن مجاهد, أنه قال: ( يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، قال: ما زاد على التسعة الأشهر ( وما تغيض الأرحام ) ، قال: الدم تراه المرأة في حملها .

حدثني المثنى حدثنا عمرو بن عون، والحجاج بن المنهال قالا حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: الغيض: الحامل ترى الدم في حملها فهو « الغيض » , وهو نقصانٌ من الولد. وما زاد على تسعة أشهر فهو تمام لذلك النقصان, وهي الزيادة .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن مجاهد: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: إذا رأت دون التسعة، زاد على التسعة مثل أيام الحيض .

حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما تغيض الأرحام ) قال: خروج الدم ( وما تزداد ) قال: استمساك الدم .

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما تغيض الأرحام ) إراقة المرأة حتى يخِسّ الولد ( وما تزداد ) قال: إن لم تُهْرِق المرأةُ تَمَّ الولد وعَظُم .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا شعبة, عن جعفر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: المرأة ترى الدم، وتحمل أكثر من تسعة أشهر .

حدثنا الحسن قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( وما تغيض الأرحام ) ، قال: هي المرأة ترى الدم في حملها .

...... قال: حدثنا شبابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) إهراقُ الدم حتى يخسّ الولد و « تزداد » إن لم تهرق المرأة تَمَّ الولد وعَظُم .

...... قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا هقل, عن عثمان بن الأسود قال: قلت لمجاهد: امرأتي رأت دمًا, وأرجو أن تكون حاملا! قال أبو جعفر: هكذا هو في الكتاب فقال مجاهد: ذاك غيضُ الأرحام: ( يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ) ، الولد لا يزال يقع في النقصان ما رأت الدَّم, فإذا انقطعَ الدم وقع في الزيادة, فلا يزال حتى يتمّ, فذلك قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ) .

...... قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، قال: « الغيض » : الحامل ترى الدم في حملها, وهو « الغيض » وهو نقصان من الولد. فما زادت على التسعة الأشهر فهي الزيادة, وهو تمامٌ للولادة .

حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال: حدثنا داود, عن عكرمة في هذه الآية: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، قال: كلما غاضت بالدم، زاد ذلك في الحمل .

...... قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود, عن عكرمة نحوه.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عباد بن العوّام, عن عاصم, عن عكرمة: ( وما تغيض الأرحام ) قال: غيض الرحم: الدم على الحمل كلما غاض الرحم من الدم يومًا زاد في الحمل يومًا حتى تستكمل وهي طاهرةٌ .

...... قال: حدثنا عباد, عن سعيد, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, مثله .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا الوليد بن صالح قال: حدثنا أبو يزيد, عن عاصم, عن عكرمة في هذه الآية: ( وما تغيض الأرحام ) ، قال: هو الحيض على الحمل ( وما تزداد ) قال: فلها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداده في طهرها حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرًا .

...... قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عمران بن حدير, عن عكرمة في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: ما رأت الدم في حملها زاد في حملها .

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال: أخبرنا إسحاق, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ما « تغيض » : أقل من تسعة وما تزداد: أكثر من تسعة .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى قال: سمعت الضحاك يقول: قد يولد المولود لسنتين. قد كان الضحاك وُلد لسنتين, و « الغيض » : ما دون التسعة ( وما تزداد ) فوق تسعة أشهر .

...... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضحاك: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: دون التسعة, وما تزداد: قال: فوق التسعة .

...... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضَّحاك قال: ولدت لسنتين .

حدثني المثنى قال: حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى قال: حدثنا الضحاك: أن أمه حملته سنتين. قال: ( وما تغيض الأرحام ) قال: ما تنقص من التسعة ( وما تزداد ) قال: ما فوق التسعة .

... قال: حدثنا عمرو بن عون ; قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، قال: كل أنثى من خلق الله .

... قال: حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك ومنصور، عن الحسن قالا « الغيض » ما دون التسعة الأشهر .

... قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن جميلة بنت سعد, عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين, قدر ما يتحوَّل ظِلُّ مِغْزَل .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية العوفي: ( وما تغيض الأرحام ) قال: هو الحمل لتسعة أشهر وما دون التسعة ( وما تزداد ) قال: على التسعة .

... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه, عن سعيد بن جبير: ( وما تغيض الأرحام ) قال: حيضُ المرأة على ولدها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) . قال: « الغيض » ، السَّقْط ( وما تزداد ) ، فوق التسعة الأشهر .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن سعيد بن جبير: إذا رأت المرأة الدمَ على الحمل, فهو « الغيض » للولد . يقول: نقصانٌ في غذاء الولد, وهو زيادة في الحمل .

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: كان الحسن يقول: « الغيضوضة » ، أن تضع المرأة لستة أشهر أو لسبعة أشهر, أو لما دون الحدّ قال قتادة: وأما الزيادة, فما زاد على تسعة أشهر .

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير قال: غيض الرحم: أن ترى الدم على حملها. فكل شيء رأت فيه الدم على حملها، ازدادت على حملها مثل ذلك .

....قال حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: إذا رأت الحاملُ الدمَ كان أعظمَ للولد .

حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، « الغيض » : النقصان من الأجل, « والزيادة » : ما زاد على الأجل. وذلك أن النساء لا يلدن لعدّةٍ واحدة, يولد المولود لستة أشهر فيعيش, ويولد لسنتين فيعيش, وفيما بين ذلك . قال: وسمعت الضحاك يقول: ولدت لسنتين, وقد نبتت ثناياي .

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام ) قال: غيض الأرحام: الإهراقة التي تأخذ النساء على الحمل, وإذا جاءت تلك الإهراقة لم يعتدَّ بها من الحمل، ونقص ذلك حملها حتى يرتفع ذلك. وإذا ارتفع استقبلت عِدّةً مستقبلةً تسعة أشهر. وأما ما دامت ترى الدم، فإن الأرحام تغيض وتنقص، والولد يرقّ. فإذا ارتفع ذلك الدم رَبَا الولد واعتدّت حين يرتفع عنها ذلك الدم عدّة الحمل تسعة أشهر, وما كان قبله فلا تعتدُّ به، هو هِرَاقةٌ، يبطل ذلك أجمع أكتع .

وقوله: ( وكل شيء عنده بمقدار ) .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكل شيء عنده بمقدار ) إي والله, لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم, وجعل لهم أجلا معلومًا .

 

القول في تأويل قوله تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ( 9 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله عالم ما غاب عنكم وعن أبصاركم فلم تروه، وما شاهدتموه, فعاينتم بأبصاركم, لا يخفى عليه شيء, لأنهم خلقه وتدبيره « الكبير الذي كل شيء دونه » ، « المتعال » المستعلي على كل شيء بقدرته.

وهو « المتفاعل » من « العلو » مثل « المتقارب » من القرب و « المتداني » من الدنوّ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( 10 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: معتدلٌ عند الله منكم، أيها الناس، الذي أسر القول, والذي جهر به, والذي هو مستخفٍ بالليل في ظلمته بمعصية الله « وسارب بالنهار » ، يقول: وظاهر بالنهار في ضوئه, لا يخفى عليه شيء من ذلك. سواء عنده سِرُّ خلقه وعلانيتهم, لأنه لا يستسرّ عنده شيء ولا يخفى.

يقال منه: « سَرَبَ يَسْرَبُ سُرُوبًا » إذا ظهر, كما قال قيس بن الخطيم:

أَنَّـى سَـرَيْتِ وَكُـنْتِ غَـيْرَ سَـرُوبِ وَتُقَــرِّبُ الأحْــلامُ غَـيْر قَـرِيب

يقول: كيف سريت بالليل [ على ] بُعْد هذا الطريق، ولم تكوني تبرُزين وتظهرين؟

وكان بعضهم يقول: هو السَّالك في سَرْبه: أي في مذهبه ومكانه .

واختلف أهل العلم بكلام العرب في « السّرب » .

فقال بعضهم: « هو آمن في سَرْبه » , بفتح السين.

وقال بعضهم: « هو آمن في سِرْبه » بكسر السين .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار ) ، يقول: هو صاحبُ ريبة مستخف بالليل. وإذا خرج بالنهار أرَى الناس أنه بريء من الإثم .

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( وسارب بالنهار ) ، ظاهر .

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي, عن عوف, عن أبي رجاء, في قوله: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار ) قال: إن الله أعلم بهم, سواء من أسر القول ومن جهر به, ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا علي بن عاصم, عن عوف, عن أبي رجاء: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) قال: من هو مستخف في بيته ( وسارب بالنهار ) ، ذاهب على وجهه. علمه فيهم واحدٌ .

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ) ، يقول: السر والجهر عنده سواء ( ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) أما « المستخفي » ففي بيته, وأما « السارب » : الخارج بالنهار حيثما كان. المستخفي غَيْبَه الذي يغيب فيه والخارجُ، عنده سواء .

... قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا شريك, عن خصيف, في قوله: ( مستخف بالليل ) قال: راكب رأسه في المعاصي ( وسارب بالنهار ) قال: ظاهر بالنهار .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ) كل ذلك عنده تبارك وتعالى سواء، السر عنده علانية قوله: ( ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) ، أي: في ظلمة الليل, و « سارب » : أي: ظاهر بالنهار .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد وعكرمة: ( وسارب بالنهار ) قال: ظاهر بالنهار.

و « مَنْ » في قوله: ( من أسرّ القول ومَنْ جهر به ومَنْ هو مستخف بالليل ) رفع الأولى منهن بقوله: « سواء » . والثانية معطوفة على الأولى، والثالثة على الثانية .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ( 11 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معناه: لله تعالى ذكرهُ معقِّباتٌ قالوا: « الهاء » في قوله: « له » من ذكر اسم الله.

و « المعقبات » التي تعتقب على العبد. وذلك أن ملائكة الليل إذا صعدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار, فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل. وقالوا: قيل « معقبات » , و « الملائكة » : جمع « ملك » مذكر غير مؤنث, وواحد « الملائكة » « معقِّب » , وجماعتها « مُعَقبة » , ثم جمع جمعه أعني جمع « معقّب » بعد ما جمع « مُعَقّبة » وقيل « معقِّبات » , كما قيل: « سادات سعد » , « ورجالات بني فلان » ، جمع « رجال » .

وقوله: ( من بين يديه ومن خلفه ) ، يعني بقوله: ( من بين يديه ) ، من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ( ومن خلفه ) ، من وراء ظهره .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن منصور, يعني ابن زاذان, عن الحسن في هذه الآية: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: الملائكة .

حدثني المثنى قال: حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري قال: حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ملك على يمينك على حسناتك, وهو أمينٌ على الذي على الشمال, فإذا عملتَ حسنة كُتِبت عشرًا, وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: اكتب! قال: لا لعله يستغفر الله ويتوب! فإذا قال ثلاثًا قال: نعم اكتب أراحنا الله منه, فبئس القرين, ما أقل مراقبته لله, وأقل استحياءَه منّا! يقول الله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، [ سورة ق: 18 ] ، وملكان من بين يديك ومن خلفك, يقول الله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، وملك قابض على ناصيتك, فإذا تواضعت لله رفعك, وإذا تجبَّرت على الله قصمك . وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصَّلاة على محمد. وملك قائم على فيك لا يدع الحيّة تدخل في فيك، وملكان على عينيك. فهؤلاء عشرة أملاك على كلّ آدميّ, ينـزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار، [ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ] فهؤلاء عشرون ملكًا على كل آدمي, وإبليس بالنهار وولده بالليل.

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) الملائكة ( يحفظونه من أمر الله ) .

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

... قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه ) ، قال: مع كل إنسان حَفَظَةٌ يحفظونه من أمر الله .

... قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، فالمعقبات هن من أمر الله, وهي الملائكة .

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( يحفظونه من أمر الله ) قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه, فإذا جاء قدره خَلَّوا عنه .

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) فإذا جاء القدر خَلَّوا عنه .

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم في هذه الآية قال: الحَفَظَة .

حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: ملائكة .

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا يعلى قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: ( له معقبات ) قال: ملائكة الليل، يعقُبُون ملائكة النهار .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) هذه ملائكة الليل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار. وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح وفي قراءة أبيّ بن كعب: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أَمْرِ اللهِ ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: ( له معقبات من بين يديه ) ، قال: ملائكة يتعاقبونه .

حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: الملائكة قال ابن جريج: « معقبات » ، قال: الملائكة تَعَاقَبُ الليلَ والنهار.

وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح وقوله: ( يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ) ، قال ابن جريج: مثل قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، [ سورة ق: 17 ] . قال: الحسنات من بين يديه، والسيئات من خلفه. الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات .

حدثنا سوّار بن عبد الله قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت ليثًا يحدث، عن مجاهد أنه قال: ما من عبدٍ إلا له ملك موكَّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ, فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءَك! إلا شيئًا يأذن الله فيه فيصيبه .

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي: قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) ، قال: يعني الملائكة .

وقال آخرون: بل عني بـ « المعقبات » في هذا الموضع، الحرَس, الذي يتعاقب على الأمير .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا ابن يمان قال: حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: ذلك ملك من مُلوك الدنيا له حَرسٌ من دونه حرَس .

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) ، يعني: ولىَّ الشيطان، يكون عليه الحرس .

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن شَرْقيّ: أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: هؤلاء الأمراء .

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا عمرو بن نافع قال: سمعت عكرمة يقول: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: المواكب من بين يديه ومن خلفه .

حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: هو السلطان المحترس من الله, وهم أهل الشرك .

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب, قولُ من قال: « الهاء » ، في قوله: ( له معقبات ) من ذكر « مَنْ » التي في قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ « وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه » , هي حرسه وجلاوزته، كما قال ذلك من ذكرنا قوله .

وإنما قلنا: « ذلك أولى التأويلين بالصواب » ، لأن قوله: ( له معقبات ) أقرب إلى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ منه إلى عالم الغيب, فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره, وأن يكون المعنيَّ بذلك هذا, مع دلالة قول الله: ( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ) على أنهم المعنيُّون بذلك.

وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصيةٍ له وأهلَ ريبة, يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار, ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم, ومَنْعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله. ثم أخبر أنّ الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حَرَسهم, ولا يدفع عنهم حفظهم .

وقوله: ( يحفظونه من أمر الله ) اختلف أهل التأويل في تأويل هذا الحرف على نحو اختلافهم في تأويل قوله: ( له معقبات ) .

فمن قال: « المعقبات » هي الملائكة قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضًا الملائكة.

ومن قال: « المعقبات » هي الحرس والجلاوزة من بني آدم قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الحرس .

واختلفوا أيضًا في معنى قوله: ( من أمر الله ) .

فقال بعضهم: حفظهم إيّاه من أمره .

وقال بعضهم: ( يحفظونه من أمر الله ) بأمر الله .

*ذكر من قال: الذين يحفظونه هم الملائكة, ووجَّه قوله: ( بأمر الله ) إلى معنى أن حفظها إيّاه من أمر الله:

حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي عن ابن عباس قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) ، يقول: بإذن الله، فالمعقبات: هي من أمر الله, وهي الملائكة.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الملائكة: الحفظة, وحفظهم إياه من أمر الله .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثني عبد الملك, عن ابن عبيد الله, عن مجاهد في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الحفظة هم من أمر الله .

... قال: حدثنا علي يعني ابن عبد الله بن جعفر قال: حدثنا سفيان, عن عمرو, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ) ، رقباء ( ومن خلفه ) من أمر الله ( يحفظونه ) .

... قال: حدثنا عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الجارود, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ) ، رقيب ( ومن خلفه ) .

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الملائكة من أمر الله .

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الملائكة من أمر الله .

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) قال: الحفظة .

*ذكر من قال: عنى بذلك: يحفظونه بأمر الله:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يحفظونه من أمر الله ) : أي بأمر الله .

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يحفظونه من أمر الله ) , وفي بعض القراءات ( بِأَمْرِ اللهِ ) .

حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: مع كل إنسان حَفَظَة يحفظونه من أمر الله .

*ذكر من قال: تحفظه الحرس من بني آدم من أمر الله:

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( يحفظونه من أمر الله ) يعني: ولّى الشيطان، يكون عليه الحرس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه, يقول الله عز وجل: يحفظونه من أمري, فإني إذا أردت بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ .

حدثني أبو هريرة الضبعي قال: حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا شعبة ، عن شَرْقيّ, عن عكرمة: ( يحفظونه من أمر الله ) قال: الجلاوزة .

وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظونه من أمر الله, و « أمر الله » الجن, ومن يبغي أذاه ومكروهه قبل مجيء قضاء الله, فإذا جاء قضاؤه خَلَّوْا بينه وبينه .

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو هريرة الضبعي قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا ورقاء, عن منصور, عن طلحة, عن إبراهيم: ( يحفظونه من أمر الله ) قال: من الجن .

حدثنا سوّار بن عبد الله قال: حدثنا المعتمر قال: سمعت ليثًا يحدث، عن مجاهد أنه قال: ما من عبد إلا له ملك موكّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ, فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءَك إلا شيئًا يأذن الله فيصيبه .

حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا إسماعيل بن عياش, عن محمد بن زياد الألهاني, عن يزيد بن شريح، عن كعب الأحبار قال: لو تجلَّى لابن آدم كلّ سهلٍ وحزنٍ لرأى على كل شيء من ذلك شياطين. لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة يذبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذًا لتُخُطِّفتم .

حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا عمارة بن أبي حفصة, عن أبي مجلز قال: جاء رجل من مُرادٍ إلى عليّ رضي الله عنه وهو يصلي, فقال: احترس, فإنّ ناسًا من مراد يريدون قتلك! فقال: إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدَّر, فإذا جاء القدَرُ خلَّيا بينه وبينه, وإن الأجل جُنَّةٌ حصينة .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب, عن الحسن بن ذكوان, عن أبي غالب, عن أبي أمامة قال: ما من آدمي إلا ومعه ملك موكَّل يذود عنه حتى يسلمه للذي قُدِّر له .

وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظون عليه من الله .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال: يحفظون عليه من الله .

قال أبو جعفر: يعني ابن جريج بقوله: « يحفظون عليه » ، الملائكة الموكلة بابن آدم, بحفظ حسناته وسيئاته, وهي « المعقبات » عندنا, تحفظ على ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله.

قال أبو جعفر: وعلى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله: ( من أمر الله ) ، أنّ الحفظة من أمر الله, أو تحفظ بأمر الله ويجب أن تكون « الهاء » التي في قوله: ( يحفظونه ) وُحِّدت وذُكِّرت وهي مراد بها الحسنات والسيئات, لأنها كناية عن ذكر « مَنْ » الذي هو مستخف بالليل وسارب بالنهار وأن يكون « المستخفي بالليل » أقيم ذكره مقام الخبر عن سيئاته وحسناته, كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ، [ سورة يوسف: 82 ] .

وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك خلاف هذه الأقوال كلها:-

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ قال: أتى عامر بن الطفيل, وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عامر: ما تجعل لي إن أنا اتبعتك؟ قال: أنت فارس، أعطيك أعنة الخيل. قال: لا . قال: « فما تبغي؟ قال: لي الشرق ولك الغرب . قال: لا . قال: فلي الوَبَر ولك المَدَر . قال: لا. قال: لأملأنها عليك إذًا خيلا ورجالا. قال: يمنعك الله ذاك وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج . قال: فخرجا, فقال عامر لأربد: إن كان الرجل لنا لممكنًا لو قتلناه ما انتطحت فيه عنـزان، ولرضوا بأن نعقله لهم وأحبوا السلم وكرهوا الحرب إذا رأوا أمرًا قد وقع . فقال الآخر: إن شئت فتشاورا, وقال: ارجع وأنا أشغله عنك بالمجادلة, وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربةً واحدة. فكانا كذلك: واحدٌ وراء النبي صلى الله عليه وسلم, والآخر قال: اقصص علينا قصصك. قال: ما تقول؟ قال: قرآنك!‍ فجعل يجادله ويستبطئه ، حتى قال: مالك حُشِمت؟ قال: وضعت يدي على قائم سيفي [ فيبست ] , فما قدرتُ على أن أُحْلِي ولا أُمِرُّ ولا أحرّكها . قال: فخرجا، فلما كانا بالحَرة، سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير, فخرجا إليهما, على كل واحد منهما لأمته، ورمحه بيده، وهو متقلد سيفه. فقالا لعامر بن الطفيل: يا أعور [ حسا ] يا أبلخ, أنت الذي يشرط على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لولا أنك في أمانٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رِمْتَ المنـزل حتى نضرب عنقك, ولكن [ لا نستعين ] . وكان أشدّ الرجلين عليه أسيد بن الحضير، [ فقال: من هذا؟ فقالوا: أسيد بن حضير ] ؟ فقال: لو كان أبوه حيًا لم يفعل بي هذا! ثم قال لأربد: اخرج أنت يا أربد إلى ناحية عَدَنَة, وأخرج أنا إلى نجد, فنجمع الرجال فنلتقي عليه . فخرج أربد حتى إذا كان بالرَّقَم، بعث الله سحابة من الصيف فيها صاعقة!‍ فأحرقته . قال: وخرج عامر حتى إذا كان بوادٍ يقال له الجرير, أرسل الله عليه الطاعون, فجعل يصيح: يا آل عامر, أغُدَّة كغدَّة البكر تقتلني! يا آل عامر، أغدةٌ كغدة البكر تقتلني, وموتٌ أيضًا في بيت سلولية ! وهي امرأة من قيس. فذلك قول الله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ فقرأ حتى بلغ: ( يحفظونه ) تلك المعقبات من أمر الله, هذا مقدّم ومؤخّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، تلك المعقبات من أمر الله . وقال لهذين: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فقرأ حتى بلغ: ( يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) الآية, فقرأ حتى بلغ: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ . قال وقال لبيد في أخيه أربد, وهو يبكيه: »

أَخْشَــى عَـلَى أَرْبَـدَ الحُـتُوفَ وَلا أَرْهَــبُ نَــوْءَ السِّــمَاكِ وَالأسَـدِ

فَجّــعَنِي الرَّعْـدُ وَالصَّـوَاعِقُ بِـال فَــارِسِ يَــوْمَ الكَرِيهَــةِ النَّجُــدِ

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في تأويل هذه الآية، قولٌ بعيد من تأويل الآية، مع خلافِه أقوالَ من ذكرنا قوله من أهل التأويل.

وذلك أنه جعل « الهاء » في قوله: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ) من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يجر له في الآية التي قبلها ولا في التي قبل الأخرى ذكرٌ, إلا أن يكون أراد أن يردّها على قوله: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ، ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ) فإن كان ذلك, فذلك بعيدٌ ، لما بينهما من الآيات بغير ذكر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان ذلك, فكونها عائدة على « مَنْ » التي في قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أقربُ, لأنه قبلها والخبر بعدها عنه .

فإذا كان ذلك كذلك, فتأويل الكلام: سواء منكم، أيها الناس من أسرّ القول ومن جهر به عند ربكم, ومن هو مستخف بفسقه وريبته في ظلمة الليل, وساربٌ يذهب ويجيء في ضوء النهار ممتنعًا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بينه وبين ما يأتي من ذلك, وأن يقيموا حدَّ الله عليه, وذلك قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) .

*

وقوله: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) يقول تعالى ذكره: ( إن الله لا يغير ما بقوم ) ، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم ( حتى يغيروا ما بأنفسهم ) من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض, فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره .

وقوله: ( وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له ) يقول: وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستخفون بالليل ويسربون بالنهار, لهم جند ومنعة من بين أيديهم ومن خلفهم, يحفظونهم من أمر الله هلاكًا وخزيًا في عاجل الدنيا، ( فلا مردّ له ) يقول: فلا يقدر على ردّ ذلك عنهم أحدٌ غيرُ الله . يقول تعالى ذكره: ( وما لهم من دونه من وال ) يقول: وما لهؤلاء القوم و « الهاء والميم » في « لهم » من ذكر القوم الذين في قوله: ( وإذا أراد الله بقوم سوءًا ) . من دون الله ( من والٍ ) يعني: من والٍ يليهم ويلي أمرهم وعقوبتهم .

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: « السوء » : الهلكة, ويقول: كل جذام وبرص وعَمى وبلاء عظيم فهو « سوء » مضموم الأول, وإذا فتح أوله فهو مصدر: « سُؤْت » ، ومنه قولهم: « رجلُ سَوْءٍ » .

واختلف أهل العربية في معنى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ .

فقال بعض نحويي أهل البصرة: معنى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ومن هو ظاهر بالليل, من قولهم: « خَفَيْتُ الشيء » : إذا أظهرته, وكما قال أمرؤ القيس:

فَــإِنْ تَكْتُمُــوا الــدَّاء لا نَخْفِــه وإنْ تَبْعَثُـــوا الحَــرْبَ لا نَقْعُــدِ

وقال: وقد قرئ أَكَادُ أُخْفِيهَا [ سورة طه:15 ] بمعنى: أظهرها .

وقال في قوله: وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ، « السارب » : هو المتواري, كأنه وجَّهه إلى أنه صار في السَّرَب بالنهار مستخفيًا .

وقال بعض نحويي البصرة والكوفة: إنما معنى ذلك: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ ، أي مستتر بالليل من الاستخفاء وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ : وذاهبٌ بالنهار, من قولهم: « سَرَبت الإبل إلى الرَّعي, وذلك ذهابها إلى المراعي وخروجها إليها . »

وقيل: إن « السُّرُوب » بالعشيّ ، و « السُّروح » بالغداة .

واختلفوا أيضًا في تأنيث « معقبات » , وهي صفة لغير الإناث.

فقال بعض نحويي البصرة: إنما أنثت لكثرة ذلك منها, نحو: « نسّابة » ، و « علامة » , ثم ذكَّر لأن المعنيَّ مذكّر, فقال: « يحفظونه » .

وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هي « ملائكة معقبة » , ثم جمعت « معقبات » , فهو جمع جمع, ثم قيل: « يحفظونه » , لأنه للملائكة .

وقد تقدم قولنا في معنى: « المستخفي بالليل والسارب بالنهار » .

وأما الذي ذكرناه عن نحويي البصريين في ذلك، فقولٌ وإن كان له في كلام العرب وجهٌ، خلافٌ لقول أهل التأويل. وحسبه من الدلالة على فساده، خروجه عن قولِ جميعهم .

وأما « المعقبات » ، فإن « التعقيب » في كلام العرب، العود بعد البدء، والرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، من قول الله تعالى: وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ، أي: لم يرجع, وكما قال سلامة بن جندل:

وَكَرُّنـا الخَـيْلَ فِـي آثَـارِهِمْ رُجُعًـا كُـسَّ السَّـنَابِكِ مِـنْ بَـدْءٍ وَتَعْقِيـبِ

يعني: في غزوٍ ثانٍ عقَّبُوا، وكما قال طرفة:

وَلَقَـــدْ كُــنْت عَلَيْكُــمْ عَاتِبًــا فَعَقَبْتُـــمْ بِذَنُــوبٍ غَــيْرِ مُــرّ

يعني بقوله: « عقبتم » ، رجعتم.

وأتاها التأنيث عندنا, وهي من صفة الحرس الذي يحرسون المستخفي بالليل والسارب بالنهار, لأنه عني بها « حرس مُعَقبّة » , ثم جمعت « المعقبة » فقيل: « معقبات » فذلك جمع جمع « المعقِّب » ، و « المعقِّب » ، واحد « المعَقِّبة » ، كما قال لبيد:

حَـتَّى تَهَجَّـرَ فِـي الـرّوَاحِ وَهَاجَـهُ طَلَــبَ المُعَقِّــبِ حَقَّــهُ المَظْلُـومُ

و « المعقبات » ، جمعها, ثم قال: « يحفظونه » ، فردّ الخبر إلى تذكير الحرَس والجند .

وأما قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) فإن أهل العربية اختلفوا في معناه.

فقال بعض نحويي الكوفة: معناه: له معقبات من أمر الله يحفظونه, وليس من أمره [ يحفظونه ] ، إنما هو تقديم وتأخير . قال: ويكون يحفظونه ذلك الحفظ من أمر الله وبإذنه, كما تقول للرجل: « أجبتك من دعائك إياي, وبدعائك إياي » .

وقال بعض نحويي البصريين، معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله, كما قالوا: « أطعمني من جوع، وعن جوع » و « كساني عن عري، ومن عُرْيٍ » .

وقد دللنا فيما مضى على أن أولى القول بتأويل ذلك أن يكون قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) ، من صفة حرس هذا المستخفي بالليل، وهي تحرسه ظنًّا منها أنها تدفع عنه أمرَ الله, فأخبر تعالى ذكره أن حرسه ذلك لا يغني عنه شيئًا إذا جاء أمره, فقال: ( وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ( 12 ) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ( 13 )

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ) ، يعني أن الرب هو الذي يري عباده البرق وقوله: ( هو ) كناية اسمه جلّ ثناؤه.

وقد بينا معنى « البرق » ، فيما مضى، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله: ( خوفًا ) يقول: خوفًا للمسافر من أذاه . وذلك أن « البرق » ، الماء، في هذا الموضع كما:-

حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم, مولى ابن عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن « البرق » , فقال: « البرق » ، الماء .

وقوله ( وطمعًا ) يقول: وطمعًا للمقيم أن يمطر فينتفع . كما:-

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا ) ، يقول: خوفًا للمسافر في أسفاره, يخاف أذاه ومشقته ( وطمعًا، ) للمقيم، يرجو بركته ومنفعته، ويطمع في رزق الله.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خوفا وطمعا ) خوفا للمسافر, وطمعا للمقيم .

وقوله: ( وينشئ السحاب الثقال ) : ويثير السحاب الثقال بالمطر ويبدؤه.

يقال منه: أنشأ الله السحاب: إذا أبدأه, ونشأ السحاب: إذا بدأ ينشأ نَشْأً .

و « السحاب » في هذا الموضع، وإن كان في لفظ واحد، فإنها جمعٌ، واحدتها « سحابة » , ولذلك قال: « الثقال » , فنعتها بنعت الجمع, ولو كان جاء: « السحاب » الثقيل كان جائزًا, وكان توحيدًا للفظ السحاب, كما قيل : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا [ سورة يس:80 ] .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وينشئ السحاب الثقال ) ، قال: الذي فيه الماء .

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وينشئ السحاب الثقال ) قال: الذي فيه الماء .

وقوله: ( ويسبح الرعد بحمده ) .

قال أبو جعفر: وقد بينا معنى الرعد فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال كما:

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا جعفر قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد قال: « اللهم لا تقتلنا بغضبك, ولا تهلكنا بعذابك, وعافنا قبل ذلك » .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن أبيه, عن رجل, عن أبي هريرة رفع الحديث: أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من يسبح الرعد بحمده » .

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا مسعدة بن اليسع الباهلي, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي رضي الله عنه, كان إذا سمع صوت الرعد قال: « سبحان من سَبَّحتَ له » .

... قال: حدثنا إسماعيل بن علية, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان الذي سَبَّحتَ له . »

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا يعلى بن الحارث قال: سمعت أبا صخرة يحدث عن الأسود بن يزيد, أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من سبَّحتَ له أو » سبحان الذي يسبح الرعد بحمده, والملائكة من خيفته « . »

...قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا ابن علية, عن ابن طاوس, عن أبيه وعبد الكريم, عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من سبحتَ له . »

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج, عن ميسرة, عن الأوزاعي قال: كان ابن أبي زكريا يقول: من قال حين يسمع الرعد: « سبحان الله وبحمده, لم تصبه صاعقةٌ. »

ومعنى قوله: ( ويسبح الرعد بحمده ) ، ويعظم اللهَ الرعدُ ويمجِّده, فيثنى عليه بصفاته, وينـزهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد, تعالى ربنا وتقدّس .

وقوله: ( من خيفته ) يقول: وتسبح الملائكة من خيفة الله ورَهْبته.

وأما قوله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) .

فقد بينا معنى الصاعقة، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته، بما فيه الكفاية من الشواهد, وذكرنا ما فيها من الرواية .

وقد اختلف فيمن أنـزلت هذه الآية.

فقال بعضهم: نـزلت في كافر من الكفّار ذكر الله تعالى وتقدَّس بغير ما ينبغي ذكره به, فأرسل عليه صاعقة أهلكته .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عفان قال: حدثنا أبان بن يزيد قال: حدثنا أبو عمران الجوني, عن عبد الرحمن بن صُحار العبدي: أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جَبَّار يدعوه, فقال: « أرأيتم ربكم, أذهبٌ هو أم فضةٌ هو أم لؤلؤٌ هو؟ » قال: فبينما هو يجادلهم, إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقِحْف رأسه فأنـزل الله هذه الآية: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي بكر بن عياش, عن ليث, عن مجاهد قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أخبرني عن ربّك من أيّ شيء هو, من لؤلؤ أو من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته, فأنـزل الله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

حدثني المثنى قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن ليث, عن مجاهد, مثله .

... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا سيف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني من هذا الذي تدعو إليه؟ أياقوت هو, أذهب هو, أم ما هو؟ قال: فنـزلت على السائل الصاعقة فأحرقته, فأنـزل الله: ( ويرسل الصواعق ) الآية .

حدثنا محمد بن مرزوق قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثني علي بن أبي سارة الشيباني قال: حدثنا ثابت البناني, عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرةً رجلا إلى رجل من فراعنة العرب, أن ادْعُه لي, فقال: يا رسول الله, إنه أعتى من ذلك!‍ قال: اذهب إليه فادعه. قال: فأتاه فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك! فقال: مَنْ رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو, أم من فضة, أم من نحاس؟ قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: ارجع إليه فادعه « قال: فأتاه فأعاد عليه وردَّ عليه مثل الجواب الأوّل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: ارجع إليه فادعه ! قال: فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما, إذ بعث الله سحابة بحيالِ رأسه فرَعَدت, فوقعت منها صاعقة فذهبت بقِحْفِ رأسه, فأنـزل الله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) . »

وقال آخرون: نـزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذب النبيّ صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن وكذّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم, فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته, فأنـزل الله عز وجل فيه: ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

وقال آخرون: نـزلت في أربد أخي لبيد بن ربيعة, وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت يعني قوله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) في أربد أخي لبيد بن ربيعة, لأنه قدم أربدُ وعامرُ بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال عامر: يا محمد أأسلم وأكون الخليفة من بعدك؟ قال: لا!‍‍‍ قال: فأكون على أهل الوَبَر وأنتَ على أهل المدَرِ؟ قال: لا! قال: فما ذاك؟ قال: « أعطيك أعنة الخيل تقاتل عليها, فإنك رجل فارس. قال: أوليست أعِنّة الخيل بيدي؟ أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا من بني عامر ! قال لأربد: إمّا أن تكفينيه وأضربه بالسيف, وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف. »

قال أربد: اكفنيه وأضربه. فقال ابن الطفيل: يا محمد إن لي إليك حاجة. قال: ادْنُ! فلم يزل يدنو ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: « ادن » حتى وضع يديه على ركبتيه وحَنَى عليه, واستلّ أربد السيف, فاستلَّ منه قليلا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بَريقه تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها, فيبِسَت يدُ أربد على السيف, فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته, فذلك قول أخيه:

أَخْشَــى عَـلَى أَرْبَـدَ الحُـتُوف وَلا أَرْهَــبُ نَــوْءَ السِّــمَاك وَالأسَـدِ

فَجَّــعنِي الْـبَرْقُ والصّـوَاعِقُ بـال فَــارِس يَــوْمَ الكَرِيهَــةِ النَّجُــدِ

وقد ذكرت قبل خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة .

وقوله: ( وهم يجادلون في الله ) ، يقول: وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خُصومتهم في الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله: ( وهو شديد المحال ) يقول تعالى ذكره: والله شديدةٌ مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره .

و « المحال » : مصدر من قول القائل: ماحلت فلانًا فأنا أماحله مماحلةً ومِحَالا و « فعلت » منه: « مَحَلت أمحَلُ محْلا إذا عرّض رجلٌ رجلا لما يهلكه ; ومنه قوله: » وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ « ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: »

فَـرْعُ نَبْـعِ يَهْـتَزُّ فِـي غُصُـنِ المَجْ دِ غَزِيــرُ النّــدَى شَـديدُ المِحَـالِ

هكذا كان ينشده معمر بن المثنى فيما حُدِّثت عن علي بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه:

فَـرْعُ فَـرْعٍ يَهْـتَزُّ فِـي غُصُنِ المَجْ دِ كِثــيرُ النَّــدَى عَظِيـمُ المِحَـال

وفسّر ذلك معمر بن المثنى, وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنَّكال ; ومنه قول الآخر:

وَلَبْسٍ بَيْــــنَ أَقْـــوَاٍم فَكُـــلٌ أَعَــدَّ لَــهُ الشَّــغَازِبَ وَالمِحَـالا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا سيف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي رضي الله عنه: ( وهو شديد المحال ) قال: شديد الأخذ .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد: ( وهو شديد المحال ) قال: شديد القوة .

حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وهو شديد المحال ) أي القوة والحيلة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( شديد المحال ) يعني: الهلاك قال: إذا محل فهو شديد وقال قتادة: شديد الحيلة.

حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا رجل, عن عكرمة: ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) ، قال: جدال أربد ( وهو شديد المحال ) قال: ما أصاب أربد من الصاعقة .

حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وهو شديد المحال ) قال: قال ابن عباس: شديد الحَوْل .

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وهو شديد المحال ) قال: شديد القوة، « المحال » : القوة .

قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل « المحال » أنه الحيلة, والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : « ( وهُوَ شَدِيدُ المَحَالِ ) بفتح الميم, لأن الحيلة لا يأتي مصدرها » مِحَالا « بكسر الميم, ولكن قد يأتي على تقدير » المفعلة « منها, فيكون محالة, ومن ذلك قولهم: » المرء يعجزُ لا مَحالة، و « المحالة » في هذا الموضع، « المفعلة » من الحيلة، فأما بكسر الميم, فلا تكون إلا مصدرًا, من « ماحلت فلانًا أماحله محالا » ، و « المماحلة » بعيدة المعنى من « الحيلة » .

قال أبو جعفر: ولا أعلم أحدًا قرأه بفتح الميم. فإذا كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .