القول
في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ
عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( 43 )
قال أبو
جعفر: يقول تعالى ذكره ويقول الذين كفروا بالله من قومك يا محمد لست مرسلا! تكذيبا
منهم لك, وجحودًا لنبوّتك، فقل لهم إذا قالوا ذلك: ( كفى بالله ) ، يقول: قل حَسْبي الله ( شهيدًا ) , يعني شاهدًا ( بيني وبينكم ) ، عليّ وعليكم، بصدقي وكذبكم
( ومن
عنده علمُ الكتاب )
فـ « مَنْ » إذا قرئ كذلك في موضع خفضٍ
عطفًا به على اسم الله, وكذلك قرأته قرَأَة الأمصار بمعنى: والذين عندهم علم
الكتاب أي الكتب التي نـزلت قبلَ القرآن كالتوراة والإنجيل . وعلى هذه القراءة
فسَّر ذلك المفسِّرون .
*ذكر الرواية بذلك:
حدثني علي
بن سعيد الكنْدي قال: حدثنا أبو مُحيَّاة يحيى بن يعلى, عن عبد الملك بن عمير, عن
ابن أخي عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سَلام: نـزلت فيَّ: ( كفى بالله شهيدًا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) .
حدثنا
الحسين بن علي الصُّدائي قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال، حدثنا شعيب بن صفوان
قال: حدثنا عبد الملك بن عمير, أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال عبد
الله بن سلام: أنـزل فيّ: ( قُلْ
كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
) .
حدثني
محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله:
( قل
كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) ، فالذين عندهم علم الكتاب:
هم أهل الكتاب من اليهود والنَّصارَى .
حدثنا
أبو كريب قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( ومن عنده علم الكتاب ) قال: هو عبد الله بن سلام .
حدثني
يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح,
في قوله: ( ومن
عنده علم الكتاب ) قال:
رجل من الإنس, ولم يُسمّه .
حدثنا
الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد
قوله: ( ومن
عنده علم الكتاب ) ، هو
عبد الله بن سلام .
... قال:
حدثنا يحيى بن عباد قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: ( ومن عنده علم الكتاب ) .
حدثنا
بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَسْتَ مُرْسَلا ) ، قال:
قول مشركي قريش: ( قُلْ
كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
) ، أناس
من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحقّ ويقرُّون به, ويعلمون أن محمدًا رسول الله, كما
يُحدَّث أن منهم عبد الله بن سَلام .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن قتادة: ( ومن عنده علم الكتاب ) قال: كان منهم عبدُ الله بن
سَلام, وسَلْمَان الفارسي, وتميمٌ الدَّاريّ .
حدثنا
الحسن قال: حدثنا عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة: ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ ) قال هو
عبد الله بن سَلام .
وقد ذُكر
عن جماعة من المتقدِّمين أنهم كانوا يقرأونَه: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، بمعنى: مِنْ عِند الله
عُلِمَ الكتاب .
*ذكر من
ذكر ذلك عنه:
حدثنا
الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن هارون, عن جعفر بن أبي وحشية, عن
سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، يقول:
مِنْ عند الله عُلِمَ الكتاب .
حدثني
محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ
الكِتَابُ » قال: من
عند الله .
... قال:
حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: من عند الله عُلِمَ
الكتاب وقد حدثنا هذا الحديثَ الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا شعبة, عن
الحكم, عن مجاهد: « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: هو
الله هكذا قرأ الحسن: « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » .
... قال:
حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن, مثله .
قال:
حدثنا علي يعني ابن الجعد قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ
الكِتَابُ » قال:
الله قال شعبة: فذكرت ذلك للحكم, فقال: قال مجاهد, مثله .
حدثنا
ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت منصور بن زاذان
يحدث عن الحسن, أنه قال في هذه الآية: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، قال: من عند الله .
... قال:
حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا هوذة قال: حدثنا عوف, عن الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ
الكِتَابُ » ، قال:
مِنْ عند الله عُلِم الكتاب .
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ
الكِتَابُ » قال: من
عند الله عِلْمُ الكِتَابِ هكذا قال ابن عبد الأعلى .
حدثنا
بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقرؤها: « قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، يقول: مِنْ عِنْد الله
عُلِمَ الكتابُ وجملته قال أبو جعفر: هكذا حدثنا به بشر: « عُلِمَ الكتابُ » وأنا أحسِبَه وَهِم فيه, وأنه:
« وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، لأن
قوله « وجملته
» ، اسم
لا يُعْطف باسم على فعل ماضٍ .
حدثنا
الحسن قال: حدثنا عبد الوهاب, عن هارون: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، يقول: مِنْ عند الله عُلِم
الكتاب .
حدثني
المثنى قال: حدثنا الحجاج بن المنهال قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر قال: قلت
لسعيد بن جبير: « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » أهو عبد
الله بن سَلام؟ قال: هذه السورة مكية, فكيف يكون عبد الله بن سلام! قال: وكان
يقرؤها: « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » يقول:
مِنْ عند الله .
حدثنا
الحسن قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر قال: سألت سعيد
بن جبير, عن قول الله (
وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) أهو عبد الله بن سلام؟ قال: فكيف وهذه السورة مكية؟ وكان
سعيد يقرؤها: « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » .
حدثنا
القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني عباد, عن عوف, عن الحسن وجُوَيبر, عن الضحاك بن
مزاحم قالا « وَمِنْ
عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، قال:
من عند الله .
قال أبو
جعفر: وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بتصحيح هذه القراءة وهذا
التأويل, غير أنّ في إسناده نظرًا, وذلك ما:-
حدثنا
القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني عباد بن العوّام, عن هارون الأعور, عن الزهري,
عن سالم بن عبد الله, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ
الكِتَابُ » ، عند
الله عُلِم الكتاب .
قال أبو
جعفر: وهذا خبرٌ ليس له أصلٌ عند الثِّقات من أصحاب الزهريّ . فإذْ كان ذلك كذلك
وكانت قراء الأمصار من أهل الحجاز والشأم والعراق على القراءة الأخرى, وهي: ( ومن عنده علم الكتاب ) ، كان التأويل الذي على
المعنى الذي عليه قرأة الأمصار أولى بالصواب ممّا خالفه , إذ كانت القراءة بما هم
عليه مجمعون أحقَّ بالصواب .
« آخر
تفسير سورة الرعد »
تفسير سورة إبراهيم
( تَفْسِير السُّورَة التي
يُذْكَر فيها إِبْرَاهِيمُ )
بسم الله الرحمن الرحيم
القول
في تأويل قوله جل ذكره الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ ( 1 )
قال أبو
جعفر الطَبَريّ : قد تقدم منا البيان عن معنى قوله : « الر » ، فيما مضى ، بما أغنى عن
إعادته في هذا الموضع .
وأما
قوله: ( كتاب
أنـزلناه إليك ) فإن
معناه: هذا كتاب أنـزلناه إليك ، يا محمد ، يعني القرآن ( لتخرج الناس من الظلمات إلى
النور ) يقول:
لتهديهم به من ظلمات الضلالة والكفرِ ، إلى نور الإيمان وضيائه ، وتُبصِّر به أهلَ
الجهل والعمَى سُبُل الرَّشاد والهُدَى.
وقوله: ( بإذن ربهم ) يعني: بتوفيق ربهم لهم بذلك
ولطفه بهم ( إلى
صراط العزيز الحميد ) يعني:
إلى طريق الله المستقيم ، وهو دينه الذي ارتضاه ، وشَرَعُه لخلقه.
و ( الحميد ) ، « فعيل » ، صُرِف من « مفعول » إلى « فَعيل » ، ومعناه: المحمود بآلائه .
وأضاف
تعالى ذكره إخراجَ الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربِّهم لهم بذلك ، إلى نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وهو الهادي خَلْقَه ، والموفقُ من أحبَّ منهم للإيمان ، إذ
كان منه دعاؤهم إليه ، وتعريفهُم ما لهم فيه وعليهم . فبيّنٌ بذلك صِحة قولِ أهل
الإثبات الذين أضافوا أفعال العباد إليهم كَسبًا ، وإلى الله جل ثناؤه إنشاءً
وتدبيرًا ، وفسادُ قول أهل القَدر الذين أنكرُوا أن يكون لله في ذلك صُنْعٌ.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله: ( لتخرج الناس من الظلمات إلى
النور ) ، أي
من الضلالة إلى الهدى.
القول
في تأويل قوله عز ذكره اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( 2 )
قال أبو
جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته
عامة قَرأة المدينة والشأم : « اللهُ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السماوات » برفع
اسم « الله » على الابتداء ، وتصيير قوله: ( الذي له ما في السماوات ) ،خبرَه.
وقرأته
عامة قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة: ( اللهِ الَّذِي ) بخفض اسم الله على إتباع ذلك الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، وهما
خفضٌ.
وقد
اختلف أهل العربية في تأويله إذ قرئ كذلك .
فذكر عن
أبي عمرو بن العَلاء أنه كان يقرؤه بالخفض. ويقول: معناه: بإذن ربهم إلى صرَاط [ الله ] العزيز الحميدِ الذي له ما في
السماوات . ويقول: هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم ، ويمثله بقول القائل: « مررتُ بالظَّريف عبد الله » ، والكلام الذي يوضع مكانَ
الاسم النَّعْتُ ، ثم يُجْعَلُ الاسمُ مكان النعت ، فيتبع إعرابُه إعرابَ النعت
الذي وُضع موضع الاسم ، كما قال بعض الشعراء:
لَــوْ
كُــنْتُ ذَا نَبْــلٍ وَذَا شَـزِيبِ مَـا خِـفْتُ شَـدَّاتِ الخَـبِيثِ
الـذِّيبِ
وأما
الكسائي فإنه كان يقول فيما ذكر عنه: مَنْ خفضَ أراد أن يجعلَه كلامًا واحدًا ،
وأتبع الخفضَ الخفضَ ، وبالخفض كان يَقْرأ.
قال أبو
جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي ، أنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة
منهما أئمة من القُرّاء ، معناهما واحدٌ ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقد يجوز أن
يكون الذي قرأه بالرفع أراد مَعْنَى مَنْ خفضَ في إتباع الكلام بعضِه بعضًا ،
ولكنه رفع لانفصاله من الآية التي قبله ، كما قال جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلى آخر الآية ثم قال:
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [
سورة التوبة : 111 ، 112 ] .
ومعنى
قوله: ( اللهِ
الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) اللهِ الذي يملك جميع ما في السماوات ومَا في الأرض .
يقول
لنييه محمد صلى الله عليه وسلم: أنـزلنا إليك هذا الكتاب لتدعُوَ عِبادي إلى
عِبَادة مَنْ هذه صفته ، وَيَدعُو عبادَةَ من لا يملك لهم ولا لنفسه ضَرًّا ولا
نفعًا من الآلهة والأوثان. ثم توعّد جل ثناؤه من كفر به ، ولم يستجب لدعاء رسوله
إلى ما دعاه إليه من إخلاص التوحيد له فقال: ( وويْلٌ للكافرين من عذاب شديد ) يقول: الوادِي الذي يسيلُ من
صديد أهل جهنم ، لمن جحد وحدانيته ، وعبد معه غيره ، مِن عَذَاب الله الشَّدِيد.
القول
في تأويل قوله عز ذكره : الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ( 3 )
قال أبو
جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( الذين
يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) ، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعها ومعاصي الله فيها ،
على طاعة الله وما يقرِّبهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الآخرة ( وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ ) ،
يقول: ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتّباعَ رسوله على ما جاء به من عند الله ،
من الإيمان به واتباعه (
وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) يقول:
ويلتمسون سَبِيل الله وهي دينه الذي ابتعث به رسوله ( عوجًا ) : تحريفًا وتبديلا بالكذب
والزّور.
«
والعِوَج » بكسر
العين وفتح الواو ، في الدين والأرض وكل ما لم يكن قائمًا ، فأما في كلِّ ما كان
قائمًا ، كالحائط والرمح والسنّ ، فإنه يقال بفتح العين والواو جميعًا « عَوَج » .
يقول
الله عز ذكره: ( أولئك
في ضلال بعيد ) يعني
هؤلاء الكافرين الذين يستحبُّون الحياة الدنيا على الآخرة . يقول: هم في ذهابٍ عن
الحق بعيد ، وأخذ على غير هُدًى ، وجَوْر عن قَصْد السبيل.
وقد
اختلف أهل العربية في وجه دخول « على » في قوله: ( على الآخرة ) ، فكان بعض نحويى البَصْرة
يقول: أوصل الفعل بـ « على » كما قيل: « ضربوه في السيف » ، يريد بالسيف ، وذلك أن هذه
الحروف يُوصل بها كلها وتحذَف ، نحو قول العرب: « نـزلتُ زيدًا » ، و « مررت
زيدًا » ،
يريدون: مررت به ، ونـزلت عليه.
وقال
بعضهم: إنما أدخل ذلك ، لأن الفعل يؤدِّي عن معناه من الأفعال ، ففي قوله: ( يستحبون الحياة الدنيا ) معناه يؤثرون الحياة الدنيا
على الآخرة ، ولذلك أدخلت « على » .
وقد
بيَّنت هذا ونظائره في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن الإعادة.
القول
في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 4 )
قال أبو
جعفر : يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم ، يا محمد، من قبلك ومن قبلِ
قومك ، رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم ( ليبين لهم ) يقول: ليفهمهم ما أرسله الله
به إليهم من أمره ونَهيه ، ليُثْبت حجة الله عليهم ، ثم التوفيقُ والخذلانُ بيد
الله ، فيخذُل عن قبول ما أتاه به رسُوله من عنده من شاء منهم ، ويوفّق لقبوله من
شاء ولذلك رفع «
فيُضلُّ » ، لأنه
أريد به الابتداء لا العطف على ما قبله ، كما قيل: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ
فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [
سورة الحج : 5 ] ( وهو العزيز ) الذي لا يمتنع مما أراده من
ضلال أو هداية من أرادَ ذلك به (
الحكيم ) ، في
توفيقه للإيمان من وفَّقه له ، وهدايته له من هداه إليه ، وفي إضلاله من أضلّ عنه
، وفي غير ذلك من تدبيره.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثنا
بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله: ( وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه ) ، أي
بلغة قومه ما كانت . قال الله عز وجلّ: ( ليبين لهم ) الذي أرسل إليهم ، ليتخذ بذلك الحجة . قال الله عز وجلّ: ( فيضل الله من يشاء ويهدي من
يشاء وهو العزيز الحكيم ) .
القول
في تأويل قوله عز ذكره وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 5 )
قال أبو
جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا وحُجَجنا من قبلك يا محمد ، كما
أرسلناك إلى قومك بمثلها من الأدلة والحجج كما:
حدثنا
محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ح وحدثني
الحارث قال ، حدثنا الحسن الأشيب ، قال ، حدثنا ورقاء ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد ح
وحدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن
مجَاهد ، في قول الله: ( ولقد
أرسلنا موسى بآياتنا ) قال:
بالبينات.
حدثني
المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ) قال: التسعُ الآيات ،
الطُّوفانُ وما معه.
حدثني
المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن
مجاهد : (
أرسلنا موسى بآياتنا ) قال:
التسعُ البَيِّناتُ.
حدثنا
القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
وقوله: ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى
النور ) ،كما
أنـزلنا إليك ، يا محمد ، هذا الكتاب لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم
. ويعني بقوله: ( أن
أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) ، أن
ادعهم ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ، كما:-
حدثني
محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن
عباس قوله: ( ولقد
أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) يقول: من الضلالة إلى الهدى.
حدثني
المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ،
مثله.
وقوله: ( وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ
اللَّهِ ) يقول عز
وجلّ: وعِظْهُم بما سلف من نِعَمِي عليهم في الأيام التي خلت فاجتُزِئ بذكر « الأيام » من ذكر النعم التي عناها ،
لأنها أيام كانت معلومة عندهم ، أنعم الله عليهم فيها نعمًا جليلةً ، أنقذهم فيها
من آل فرعون بعدَ ما كانوا فيما كانوا [ فيه ] من
العذاب المُهِين ، وغرَّق عدوَّهم فرعونَ وقومَه ، وأوْرَثهم أرضهم وديارَهم
وأموالَهم.
وكان بعض
أهل العربية يقول: معناه: خوَّفهم بما نـزل بعادٍ وثمودَ وأشباههم من العذاب ،
وبالعفو عن الآخرين: قال: وهو في المعنى كقولك: « خُذْهم بالشدة واللين » .
وقال
آخرون منهم: قد وجدنا لتسمية النّعم بالأيام شاهدًا في كلامهم. ثم استشهد لذلك
بقول عمرو بن كلثوم:
وَأَيَّـــامِ
لَنَـــا غُــرٍّ طِــوَالٍ عَصَيْنَــا الْمَلْــكَ فِيهَــا أَنْ نَدِينَـا
وقال:
فقد يكون إنما جَعَلها غُرًّا طِوالا لإنعامهم على الناس فيها. وقال: فهذا شاهدٌ
لمن قال: (
وذكرهم بأيام الله ) بنعم
الله. ثم قال: وقد يكون تَسْميتُها غُرًّا ، لعلوّهم على المَلِكِ وامتناعهم منه ،
فأيامهم غرّ لهم ، وطِوالٌ على أعدائهم.
قال أبو
جعفر: وليس للذي قال هذا القول ، من أنّ في هذا البيت دليلا على أن « الأيام » معناها النعم ، وجهٌ . لأنَّ
عمرو بن كلثوم إنما وصفَ ما وصف من الأيام بأنها « غُرّ » ، لعزّ
عشيرته فيها ، وامتناعهم على المَلِك من الإذعان له بالطاعة ، وذلك كقول الناس: « ما كان لفلان قطُّ يومٌ أبيض
» ، يعنون
بذلك: أنه لم يكن له يومٌ مذكورٌ بخير. وأمّا وصفه إياها بالطولِ ، فإنها لا توصف
بالطول إلا في حال شدَّة ، كما قال النابغة:
كِــلِينِي
لِهَــمٍّ يَـا أُمَيْمَـةَ نَـاصِبِ وَلَيْــلٍ أُقَاسِــيهِ بَطِـيء
الكَـوَاكِبِ
فإنما
وصفها عَمْرٌو بالطول ، لشدة مكروهها على أعداء قومه . ولا وجه لذلك غيرُ ما قلت.
وبنحو
الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر
من قال ذلك:
حدثني
يحيى بن طلحة اليربوعيّ قال ، حدثنا فُضَيْل بن عِيَاض ، عن ليث ، عن مجاهد: ( وذكرهم بأيام الله ) ، قال: بأنْعُم الله.
حدثني
إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن
عُبَيْدٍ المُكْتِب ، عن مجاهد: (
وذكرهم بأيام الله ) ، قال:
بنعم الله.
حدثنا
أحمد بن إسحاق قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن عبيدٍ المُكْتِب، عن
مجاهد ، مثله.
حدثنا
أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا عبثر ، عن حصين ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني محمد
بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ح وحدثني الحارث قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثنا ورقاء جميعًا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( بأيام الله ) قال: بنعم الله.
حدثنا
الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد
، مثله.
حدثنا
القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني
المثنى قال ، أخبرنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( وذكرهم بأيام الله ) قال: بالنعم التي أنعم بها
عليهم ، أنجاهم من آل فرعون ، وفَلَق لهم البحر ، وظلَّل عليهم الغمَام ، وأنـزل
عليهم المنَّ والسَّلوَى.
حدثنا
أحمد قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا حبيب بن حسان ، عن سعيد بن جبير: ( وذكرهم بأيام الله ) قال: بنعم الله.
حدثنا
بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة: ( وذكرهم بأيام الله ) يقول: ذكرهم بنعم الله عليهم.
حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: ( وذكرهم بأيام الله ) قال: بنعم الله.
حدثني
يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قول الله: ( وذكرهم بأيام الله ) قال: أيامُه التي انتقم فيها
من أهل مَعاصيه من الأمم خَوَّفهم بها ، وحذَّرهم إياها ، وذكَّرهم أن يصيبهم ما
أصابَ الذين من قبلهم.
حدثني
المثنى قال ، حدثنا الحِمَّاني قال ، حدثنا محمد بن أبان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس. عن أبيّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( وذكرهم بأيام الله ) ، قال: نعم الله .
حدثنا
الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله أو غيره ، عن
مجاهد: (
وذكرهم بأيام الله ) قال:
بنعم الله.
( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) ،
يقول: إن في الأيام التي سلفت بنِعَمِي عليهم يعني على قوم موسى ( لآيات ) ، يعني: لعِبرًا ومواعظ ( لكل صبار شكور ) ، : يقول: لكل ذي صبر على
طاعة الله ، وشكرٍ له على ما أنعم عليه من نِعَمه.
حدثني
المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ، في
قول الله عز وجلّ: ( إن في
ذلك لآيات لكل صبار شكور ) قال:
نعمَ العبدُ عَبْدٌ إذا ابتلى صَبَر ، وإذا أعْطِي شَكَر.