القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 170 )

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.

أحدهما: أن تكون « الهاء والميم » من قوله: « وإذا قيلَ لهم » عائدة على مَنْ في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا, وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنـزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.

والآخر: أن تكون « الهاء والميم » اللتان في قوله: « وإذا قيل لهم » ، من ذكر النَّاسُ الذين في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا ، فيكون ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ]

قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية أن تكون « الهاء والميم » في قوله: « لهم » ، من ذكر النَّاسُ , وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ . فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها وأنها نـزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه, وحذرهم عقاب الله ونقمته, فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنـزل الله في ذلك من قولهما « وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنـزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف.

وأما تأويل قوله: « اتبعوا ما أنـزلَ الله » ، فإنه: اعملوا بما أنـزل الله في كتابه على رسوله, فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه, واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به, وقائدًا تَتبعون أحكامه.

وقوله: « ألفينا عَليه آباءنا » ، يعني وَجدنا, كما قال الشاعر:

فَأَلْفَيْتُــــهُ غَـــيْرَ مُسْـــتَعْتِبٍ وَلا ذَاكِـــرِ اللــهَ إلا قَلِيــــلا

يعني: وجدته، وكما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا » ، أي: ما وجدنا عليه آباءنا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع مثله.

قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.

قال الله تعالى ذكره: « أوَ لو كانَ آباؤهم » - يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم- « لا يعقلون شيئًا » من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه, فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم - « ولا يَهتدون » لرشد، فيهتدي بهم غيرهم, ويَقتدي بهم من طَلب الدين, وأراد الحق والصواب؟

يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه, فأما الجاهل فلا يتبعه - فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة، في قوله: « ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً » قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.

حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع » قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً » ، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها « كُلْ » - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعق بما لا يسمع » قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعِق » ، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل, كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً » ، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً » قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له : يقال: لا تعقل - يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها, فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد: « الذي ينعِق » ، الراعي « بما لا يسمع » من البهائم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كمثل الذي ينعق » الراعي « بما لا يسمع » من البهائم.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط, عن السدي: « كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً » ، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما « الذي ينعق » ، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له, إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [ سورة البقرة: 18 ]

قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم - : ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه ونعيقِه بها. فأضيف « المثل » إلى الذين كفروا, وترك ذكر « الوعظ والواعظ » ، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال: « إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان » , يراد به: كما تعظم السلطانَ, وكما قال الشاعر:

فَلَسْــتُ مُسَــلِّمًا مَـا دُمْـتُ حَيًّـا عَــــلَى زَيْـــدٍ بِتَسْـــلِيمِ الأمِـــير

يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.

وقد يحتمل أن يكون المعنى - على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء- : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له: « اعتلف، أو رِدِ الماء » ، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر, مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه - بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق, كما قال نابغة بني ذبيان:

وَقَـدْ خِـفْتُ, حَـتَّى مَـا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَـلَى وَعِــلٍ فِــي ذِي المَطَـارَة عَاقِلِ

والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي, وكما قال الآخر:

كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـولُ, كَمَـا كَــانَ الزِّنَــاءُ فَرِيضَــةَ الرَّجْـــمِ

والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:

إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُه تَحْـلَى بِــهِ العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ

والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه, فتقول: « اعرِض الحوضَ على الناقة » , وإنما تعرض الناقة على الحوض, وما أشبه ذلك من كلامها.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل, كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً, وذلك الصدى الذي يسمع صوته, ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.

فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم - في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً, أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً » قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له « الصَّدى » . فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء, فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها, ولا ينفعه شيء.

قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه, فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.

فأما وَجه جَواز حذف « وعظ » اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [ سورة البقرة: 17 ] ، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. .

وإنما اخترنا هذا التأويل, لأن هذه الآية نـزلت في اليهود, وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها, ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه - إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.

فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟

قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها, فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نـزلت, والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نـزلت فيهم. وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود، كان عطاء يقول:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنـزل الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا إلى قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [ سورة البقرة: 174- 175 ] .

وأما قوله: « يَنعِق » ، فإنه: يُصوِّت بالغنم، « النَّعيق، والنُّعاق » , ومنه قول الأخطل:

فَـانْعِقْ بِضَـأْنِكَ يَـا جَـرِيرُ, فَإِنَّمَـا مَنَّتْـكَ نَفْسَـكَ فِـي الخَــلاءِ ضَــلالا

يعني: صوِّت به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 171 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ » ، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً « صُمٌ » عن الحق فهم لا يسمعون - « بُكمٌ » يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس, فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس - , « عُميٌّ » عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، . كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: « صُمٌ بكم عمي » ، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « صم بكم عمي » يقول: عن الحق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « صم بكم عمي » ، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.

وأما الرفع في قوله: « صم بكم عمي » ، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف, يدل على ذلك قوله: « فهم لا يعقلون » ، كما يقال في الكلام: « هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 172 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله, وأقروا لله بالعبودية, وأذعنوا له بالطاعة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، يقول: صدَّقوا.

« كلوا من طيبات ما رَزَقناكم » ، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم, فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم والمشارب. « واشكروا لله » ، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم. « إن كنتم إياه تعبدون » ، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين, فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم, ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.

وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم, وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه, إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم, وفصَّله لهم مُفسَّرًا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك, بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنـزير، ومَا أهلّ به لغيري.

ومعنى قوله: « إنما حَرَّم عليكم الميتة » ، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.

« وإنما » : حرف واحدٌ, ولذلك نصبت « الميتة والدم » , وغير جائز في « الميتة » إذا جعلت « إنما » حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت « إنما » حرفين، وكانت منفصلة من « إنّ » ، لكانت « الميتة » مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنـزير، لا غير ذلك.

وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.

ولو قرئ في « حرّم » بضم الحاء من « حرّم » ، لكان في « الميتة » وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى, « وإنما » حرفٌ واحد.

والآخر: « إن » و « ما » في معنى حرفين, و « حرِّم » من صلة « ما » , « والميتة » خبر « الذي » مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت.

وأما « الميتة » ، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد, ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في: « هو هيّن ليّن » « الهيْن الليْن » ، كما قال الشاعر:

لَيْسَ مَــنْ مَـاتَ فَاسْـتَرَاحَ بِمَيْـتٍ إِنَّمَــا المَيْــتُ مَيِّــتُ الأحْيَـــاءِ

فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد.

وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل, وقالوا: إنما هو « مَيْوِت » , « فيعل » ، من الموت. ولكن « الياء » الساكنة و « الواو » المتحركة لما اجتمعتا، « والياء » مع سكونها متقدمة، قلبت « الواو » « ياء » وشددت، فصارتا « ياء » مشددة, كما فعلوا ذلك في « سيد وجيد » . قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في « ياء » « الميتة » لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب, فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.

وأما قوله: « وَمَا أهِلَّ به لغير الله » ، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.

وإنما قيل: « وما أهِلَّ به » ، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم, فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر- : « مُهِلٌّ » . فرفعهم أصواتهم بذلك هو « الإهلال » الذي ذكره الله تعالى فقال: « وما أهِلَّ به لغير الله » . ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة « مُهِلّ » , لرفعه صوته بالتلبية. ومنه « استهلال » الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه, « واستهلال » المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض, كما قال عمرو بن قميئة:

ظَلَـمَ البِطَـاحَ لَـهُ انْهِـلالُ حَرِيصَـةٍ فَصَفَـا النِّطَـافُ لَـــهُ بُعَيْــدَ المُقْلَــعِ

واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله: « وما أهِلَّ به لغير الله » ، ما ذبح لغير الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، ما ذبح لغير الله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما أهلّ به لغير الله » قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما أهلّ به لغير الله » ، ما ذبح لغير الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال ابن عباس في قوله: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، ما أهِلّ به للطواغيت.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك قال: « وما أُهلّ به لغير الله » قال، ما أهل به للطواغيت.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما أهِلّ به لغير الله » ، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء في قول الله: « وما أهِلّ به لغير الله » قال، هو ما ذبح لغير الله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « وما أهلّ به لغير الله » ، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قوله الله: « وما أهلّ به لغير الله » - قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون: « باسم فلان » , كما تقول أنت: « باسم الله » قال، فذلك قوله: « وما أهلّ به لغير الله » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس, وما أهدي لها من خبز أو لحم, فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله: « وما أهِلّ به لغير الله » ؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فمن اضطر » ، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله - وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله.

وقوله: فمن « اضطر » « افتعل » من « الضّرورة » .

و « غيرَ بَاغ » نُصِب على الحال مِنْ « مَنْ » , فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله, فهو له حلال.

وقد قيل : إن معنى قوله: « فمن اضطر » ، فمن أكره على أكله فأكله, فلا إثم عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل, عن سالم الأفطس, عن مجاهد قوله: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.

وأما قوله: « غيرَ بَاغ ولا عَاد » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.

فقال بعضهم: يعني بقوله: « غير باغ » ، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور, ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد: « فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد » قال، غيرَ قاطع سبيل, ولا مفارق جماعة, ولا خارج في معصية الله, فله الرخصة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » ، يقول: لا قاطعًا للسبيل, ولا مفارقًا للأئمة, ولا خارجًا في معصية الله, فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله, فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: « غير باغ ولا عاد » قال، هو الذي يقطع الطريق, فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك, عن شريك، عن سالم - يعني الأفطس- عن سعيد في قوله: « فمن اضطُر غير باغ ولا عاد » قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد في قوله: « فمن اضطُر غير باغ ولا عاد » قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب, وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث, عن الحجاج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: « غيرَ باغ » على الأئمة، « ولا عاد » قال، قاطع السبيل.

حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » قال، غير قاطع السبيل, ولا مفارق الأئمة, ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الحكم, عن مجاهد : « فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد » قال، غير باغ على الأئمة, ولا عاد على ابن السبيل.

وقال آخرون في تأويل قوله: « غيرَ باغ ولا عاد » : غيرَ باغ الحرامَ في أكله, ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.

ذكر من قال ذلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد » قال، غير باغ في أكله, ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن في قوله: « فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد » قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عمن سمع الحسن يقول ذلك.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة قوله: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » ، « غير باغ » يَبتغيه, « ولا عادٍ » : يتعدى على ما يُمسك نفسه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » ، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه, ألا ترى أنه يقول: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ سورة المؤمنون: 7\ سورة المعارج: 31 ]

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ » قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام, ويترك الحلال وهو عنده, ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين, ويقول: هذا وهذا واحد!

وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اضطر غير باغ ولا عاد » . أمَّا « باغ » ، فيبغي فيه شهوته. وأما « العادي » ، فيتعدى في أكله, يأكل حتى يشبع, ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله, وله عن ترك أكله - بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى.

وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما : من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض, فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما - ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا ] . فإذ كان ذلك كذلك, فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة, الأوبةُ إلى طاعة الله, والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه, والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة, فيزدادان إلى إثمهما إثمًا, وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا.

وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة, فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك - مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله, وإن كان للفظه مخالفًا.

فأما توجيه تأويل قوله: « ولا عاد » ، و لا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه.

فإذ كان ذلك كذلك, فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.

وأما تأويل قوله: « فلا إثم عليه » ، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 173 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « إنّ الله غَفور رحيم » ، « إنّ الله غَفورٌ » إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية, فصافحٌ عنكم, وتارك عقوبتكم عليه, « رحيم » بكم إن أطعتموه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنّ الذينَ يَكتمون ما أنـزل الله من الكتاب » ، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته, وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنّ الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب » الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنـزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن الربيع في قوله: ( إنّ الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب ويَشترون به ثمنًا قليلا ) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنـزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الذين يكتمون مَا أنـزل الله منَ الكتاب » ، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « إنّ الذين يكتمونَ ما أنـزل الله من الكتاب » ، والتي في « آل عمران إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا [ سورة آل عمران: 77 ] نـزلتا جميعًا في يهود. »

وأما تأويل قوله: « ويَشترون به ثمنًا قليلا » ، فإنه يعني: يبتاعون به. « والهاء » التي في « به » ، من ذكر « الكتمان » . فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويشترون به ثمنًا قليلا » قال، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم, وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.

وقد بينت فيما مضى صفة « اشترائهم » ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 174 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنـزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها, فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها « ما يأكلون في بطونهم » - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، وما أخذوا عليه من الأجر « إلا النار » - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها, كما قال تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [ سورة النساء: 10 ] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر « النار » وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر « ما يوردهم، أو يدخلهم » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار » ، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.

فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال: « ما يأكلون في بطونهم » ؟

قيل: قد تقول العرب: « جُعت في غير بطني, وشَبعتُ في غير بطني » , فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال: « فعل فُلان هذا نفسُه » . وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى.

وأما قوله: « ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة » ، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون, فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ الآيتين [ سورة المؤمنون: 107- 108 ] .

وأما قوله: « ولا يُزكِّيهم » ، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، « ولهم عذاب أليم » ، يعني: مُوجع

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى » ، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى, وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر « العذاب » و « المغفرة » ، من ذكر السبب الذي يُوجبهما, لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. وكذلك بينا وجه « اشتروا الضلالة بالهدى » باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( 175 )

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فما أصْبَرهم على النار » ، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فما أصْبَرهم على النار » ، يقول: فما أجرأهم عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن بشر، عن الحسن في قوله: « فما أصْبرهم على النار » قال، والله ما لهم عليها من صبر, ولكن ما أجرأهم على النار.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر ، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه: « فما أصبرهم على النار » ، ما أجرأهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فما أصبرهم على النار » ، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « فما أصْبرهم على النار » قال، ما أعملهم بالباطل.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

واختلفوا في تأويل « ما » التي في قوله: « فما أصبرهم على النار » . فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فما أصبرَهم على النار » ، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟

حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء: « فما أصبرهم على النار » قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟

حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش: « فما أصبرهم على النار » قال، هذا استفهام, ولو كانت من الصبر قال: « فما أصبرُهم » ، رفعًا. قال: يقال للرجل: « ما أصبرك » , ما الذي فعل بك هذا؟

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فما أصبرهم على النار » قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟

وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد : « فما أصبرهم على النار » قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!

وهو قول الحسن وقتادة, وقد ذكرناه قبل.

فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ، فما أشد جراءتهم - بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [ سورة عبس: 17 ] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.

فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار - والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار, بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب: « ما أصبرَ فلانًا على الله » , بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنـزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته, واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.

وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم على عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر « النار » من ذكر « عذابها » ، كما يقال: « ما أشبه سخاءك بحاتم » , بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم, « وما أشبه شَجاعتك بعنترة » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَـزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ( 176 )

قال أبو جعفر: أما قوله: « ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق » ، فإنه اختلف في المعنيِّ ب « ذلك » .

فقال بعضهم: معنيُّ « ذلك » ، فعلُهم هذا الذي يفعلون من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما أنـزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه من أجل أن الله تبارك تعالى « نـزل الكتاب بالحق » ، وتنـزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ سورة البقرة: 6- 7 ] فهم - مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.

وقال آخرون: معناه: « ذلك » معلومٌ لهم، بأن الله نـزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم، والكتابُ حَق.

كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنـزيله أن النار للكافرين, وتنـزيله حق, فالخبر عن « ذلك » عندهم مُضمر.

*

وقال آخرون: معنى « ذلك » ، أن الله وصف أهل النار، فقال: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و « هذا » هاهنا عندهم، هي التي يجوز مكانها « ذلك » ، كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون « ذلك » - إذا كان ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله: « ذلك » ، إلى جميع ما حواه قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ، إلى قوله: « ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق » ، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك, فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس - وبخلافهم أمري وطاعتي وذلك - من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم, وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنـزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.

فيكون في « ذلك » حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع ب « الباء » , والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنـزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر « فكفروا به واختلفوا » ، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.

وأما قوله: « وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد » ، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه, وكفروا جميعًا بما أنـزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنـزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب, كما قال الله تعالى ذكره: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [ سورة البقرة: 137 ] كما:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي : « وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد » ، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى « الشقاق » ، فيما مضى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها, ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل المشرق والمغرب » ، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا, فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة, ونـزلت الفرائض, وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.

حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن عباس قال: هذه الآية نـزلت بالمدينة: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد: « ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب » ، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها, قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة, فأنـزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.

وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب, والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق, فأنـزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنـزلت: « ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر » ، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنـزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنـزل الله: « ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب » . وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق - « ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر » الآية.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب, والنصارى قبل المشرق, فنـزلت: « ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » .

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس : أن يكون عنى بقوله: « ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب » ، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها, إذْ كان الأمر كذلك, - « ليس البر » ، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب, « ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب » الآية.

فإن قال قائل: فكيف قيل: « ولكن البر من آمن بالله » ، وقد علمت أن « البر » فعل, و « مَنْ » اسم, فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟

قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته, وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، فوضع « مَنْ » موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة, فتقول: « الجود حاتم، والشجاعة عنترة » ، و « إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة » , ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر « حاتم » إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر « الجود » بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع « جوده » ، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [ سورة يوسف: 82 ] والمعنى: أهل القرية, وكما قال الشاعر, وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:

حَسِــبْتَ بُغَــامَ رَاحِـلَتِي عَنَاقًـا! وَمَـا هـي, وَيْـبَ غَـيْرِكَ بالعَنَـاقِ

يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [ عناق ] ، كما يقال: « حسبت صياحي أخاك » , يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.

وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله, فيكون « البر » مصدرًا وُضع موضعَ الاسم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وآتى المالَ على حُبه » ، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، . كما:-

حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا, عن زبيد, عن مرة بن شراحيل البكيلي, عن عبد الله بن مسعود: « وآتَى المالَ على حُبه » ، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا, عن سفيان, عن زُبيد الياميّ, عن مرة, عن عبد الله: « وآتى المالَ على حُبه » قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن زبيد اليامي, عن عبد الله أنه قال في هذه الآية: « وآتى المال على حبه » قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.

حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين, عن شعبة بن الحجاج, عن زبيد اليامي, عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله: « وآتى المال على حبه ذوي القربى » , قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر.

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم, عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية: « وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة » .

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلى « وآتى المال على حُبه » إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر, عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو, وطُروق الفحل, والحلَب.

حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي, ذكره عن مرة الهمداني في: « وآتى المالَ على حُبه » قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله, عن أبي حمزة, عن عامر, عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « في المال حق سوى الزكاة » ، وتلا هذه الآية: « ليس البر » إلى آخر الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن زبيد اليامي, عن مرة بن شراحيل, عن عبد الله في قوله: « وآتى المالَ على حُبه » قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.

قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه, شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.

وإنما قلت عنى بقوله: « ذوي القرْبى » ، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس

وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح.

وأما « اليتامى » « والمساكين » ، فقد بينا معانيهما فيما مضى.

وأما « ابن السبيل » ، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: « وابن السبيل » قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت » . قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال, فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة.

وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن جابر, عن أبي جعفر: « وابن السبيل » قال، المجتاز من أرض إلى أرض.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وقتادة في قوله: « وابن السبيل » قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عمن ذكره, عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.

وإنما قيل للمسافر « ابن السبيل » ، لملازمته الطريق - والطريق هو « السبيل » - فقيل لملازمته إياه في سفره: « ابنه » ، كما يقال لطير الماء « ابن الماء » لملازمته إياه, وللرجل الذي أتت عليه الدهور « ابن الأيام والليالي والأزمنة » , ومنه قول ذي الرمة:

وَرَدْتُ اعْتِسَــافًا وَالثُّرَيَّــا كَأَنَّهَــا عَـلَى قِمَّـةِ الـرَّأْسِ ابْـنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ

وأما قوله: « والسائلين » ، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس, عن حصين, عن عكرمة في قوله: « والسائلين » قال، الذي يسألك.

وأما قوله: « وفي الرقاب » ، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة, وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وأقامَ الصلاة » ، أدام العمل بها بحدودها, وبقوله « وآتى الزكاة » ، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه.

فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:

فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية, وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ، ومن سمى الله معهم, ثم قال بعد: « وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة » ، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى, ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له, علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة, وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.

وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة, ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده - بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك: « وآتى الزكاة » ، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ كانت عليهم, إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.

وأما قوله: « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا » ، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة, ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا » قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.

وقد بينت « العهد » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل « الصبر » فيما مضى قبل.

فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم - في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى « البأساء والضراء » بما:-

حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي, عن مرة الهمداني, عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر, وأما الضراء فالسقم .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قوله: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البأساء الجوع, والضراء المرضُ.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن السدي, عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة, والضراءُ المرضُ.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر, وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ سورة الأنبياء: 83 ] .

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البؤس: الفاقة والفقر, والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « البأساء والضراء » قال، البأساء: البؤس, والضراء: الزمانة في الجسد.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: « البأساء والضراء » ، المرض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « والصابرين في البأساء والضراء » قال، البأساء: البؤس والفقر, والضراء: السقم والوجع.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية: « والصابرين في البأساء والضراء » ، أما البأساء: الفقر, والضراء: المرض.

قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: « البأساء والضراء » ، مصدر جاء على « فعلاء » ليس له « أفعل » لأنه اسم, كما قد جاء « أفعل » في الأسماء ليس له « فعلاء » ، نحو « أحمد » . وقد قالوا في الصفة « أفعل » ، ولم يجئ له « فعلاء » , فقالوا: « أنت من ذلك أوْجل » , ولم يقولوا: « وجلاء » .

وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن « البأساء » ، البؤس, « والضراء » الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:

فَتُنْتَــجْ لَكُـمْ غِلْمَـانَ أَشْـأَمَ, كُـلُّهُمْ كَـأَحْمَرِ عَـادٍ, ثُـمَّ تُـرْضِعْ فَتَفْطِـمِ

يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.

وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء « أفعل » في النكرة, ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله: « لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ » ، بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.

وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير, ولو وَقَع بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب « أفعل » لم يصرف إلى « فُعلى » , ومن سُمي ب « فُعلى » لم يصرف إلى « أفعل » , لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره, ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر « أشأم » , وإذا وقع « البأساء والضراء » ، وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على « الضراء » ، « الأضر » ، ولا على « الأشأم » ، « الشأماء » . لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث, كما قالوا: « امرأة حسناء » , ولم يقولوا: « رجل أحسن » . وقالوا: « رجل أمرد » , ولم يقولوا: « امرأة مرداء » . فإذا قيل: « الخصلة الضراء » و « الأمر الأشأم » ، دل على المصدر, ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا, وإن كان قد كَفَى من المصدر.

وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل « البأساء والضراء » ، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا « البأساء » بمعنى: البؤس, « والضراء » بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا « البأساءَ والضراء » إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب « البأساء والضراء » ، على قول أهل التأويل، أن تكون « البأساء والضراء » أسماء أفعال, فتكون « البأساء » اسمًا « للبؤس » , و « الضراء » اسمًا « للضر » .

وأما « الصابرين » فنصبٌ, وهو من نعت « مَن » على وجه المدح. لأن من شأن العرب - إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، كما قال الشاعر:

إلَــى المَلِـكِ القَـرْمِ وَابْـنِ الهُمَـامِ وَلَيْــثَ الكَتِيبَــةِ فِــي المُزْدَحَـمْ

وَذَا الــرَّأْيِ حِــينَ تُغَــمُّ الأمُـورُ بِـــذَاتِ الصَّلِيــلِ وذَاتِ اللُّجُــمْ

فنصب « ليث الكتيبة » وذا « الرأي » على المدح, والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر:

فَلَيْـتَ الَّتِـي فِيهَـا النُّجُـومُ تَوَاضَعَت عَــلَى كُــلِّ غَـثٍّ مِنْهُـمُ وسَـمِينِ

غيُـوثَ الـوَرَى فِـي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ أُسُـودَ الشَّـرَى يَحْـمِينَ كُـلَّ عَـرِينِ

وقد زعم بعضهم أن قوله: « والصابرين في البأساء » ، نُصب عطفًا على « السائلين » . كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول, وذلك أنّ « الصابرين في البأساء والضراء » ، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء - مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله: وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ ، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل « البأساء والضراء » , لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء, وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة « المساكين » الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله: « والصابرين في البأساء » . وإذا كان كذلك، ثم نصب « الصابرين في البأساء » بقوله وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر, والموفون بعهدهم إذا عاهدوا, والصابرين في البأساء والضراء. « وَالْمُوفُونَ » رفعٌ لأنه من صفة « مَنْ » , و « مَنْ » رفعٌ، فهو معرب بإعرابه. « والصابرين » نصب - وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ الْبَأْسِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وحين البأس » ، والصابرين في وقت البأس, وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله في قول الله: « وحين البأس » قال، حين القتال.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وحين البأس » القتال.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: « وحين البأس » ، أي عندَ مواطن القتال.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وحين البأس » ، القتال.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، « وحين البأس » ، عند لقاء العدو.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك: « وحين البأس » ، القتال

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: « وحين البأس » قال، القتال.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك الذين صدقوا » ، من آمن بالله واليوم الآخر, ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.

وأما قوله: « وأولئك هُم المتقون » ، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه, فقاموا بأداء فرائضه.

وبمثل الذي قلنا في قوله: « أولئك الذين صَدقوا » ، كان الربيع بن أنس يقول:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أولئك الذين صدقوا » قال، فتكلموا بكلام الإيمان, فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل, فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، فُرض عليكم.

فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟

قيل: لا ولكنه مباح له ذلك, والعفو, وأخذُ الدية.

فإن قال قائل: وكيف قال: « كتب عليكم القصاص » ؟

قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه, وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ, فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل, والقصاصُ منه دون غيره من الناس, فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.

والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ .

وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نـزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا, فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين, ودياتُ رجالهم بديات رجالهم, وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى « القصاص » في هذه الآية.

فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال: « كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » ، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر, ولا للأنثى إلا من الأنثى؟

قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ سورة الإسراء: 33 ] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

« المسلمون تتكافأ دماؤهم. »

فإن قال: فإذ كان ذلك, فما وجه تأويل هذه الآية؟

قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة, حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنـزل الله هذه الآية, فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره, وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال, وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار, فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله : « الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، نـزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة, فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان, وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنـزل الله: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » .

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان, فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة, فقتل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم, قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنـزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى, فنهاهم عن البغي. ثم أنـزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ سورة المائدة: 45 ] .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنـزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم, فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنـزل الله: « الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » .

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود, عن عامر في هذه الآية: « كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، إنما ذلك في قتال عُمية، إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ, وفي المرأتين كذلك, وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره: « الحر بالحر » ، الرجل بالمرأة, والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء, فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر, وديات الرجال بالرجال, وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى » .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر, فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر, والعبد دية العبد, والأنثى دية الأنثى, فقاصَّهم بعضَهم من بعض.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان, عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ, كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم, فنـزلت هذه الآية: « الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر، والعبد بالعبد, والأنثى بالأنثى .

حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية: « كتب عليكم القصاص في القتلى » قال، نـزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، نـزلت في قتال عُمية ، قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل, والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى » قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به, فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه, وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ, وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ, فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ, وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ, فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ, فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية, وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن قتادة, عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته, قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سعيد, عن عوف, عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك, عن الشعبي, قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا, فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه, ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.

وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في حال مَا نـزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ سورة المائدة: 45 ] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « والأنثى بالأنثى » ، وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة, ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة, فأنـزل الله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس, رجالهم ونساؤُهم.

قال أبو جعفر: فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نـزلت فيه هذه الآية, فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك, وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة - على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه - مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.

وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ, وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني, فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون الآية نـزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض, كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.

وقد أجمع الجميع - لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة, وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك, وكان قوله تعالى ذكره: « كُتب عليكم القصَاص » ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا, فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.

فإن قال قائل: إذْ ذكرتَ أن معنى قوله: « كتب عليكم القصاص » - بمعنى: فُرض عليكم القصاص : لا يعرف لقول القائل: « كتب » معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا, فما برهانك على أن معنى قوله: « كتب » فُرِض؟

قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ, وفي أشعارهم مستفيض, ومنه قول الشاعر:

كُــتِبَ القَتْــلُ وَالقِتَــالُ عَلَيْنَــا وَعَــلَى المُحْصَنَـاتِ جَـرُّ الذُّيُـولِ

وقولُ نَابغةَ بني جعدة:

يَـا بِنْـتَ عَمِّـي, كِتَـابُ اللهِ أَخْرَجَنِي عَنْكُـم, فَهَـلْ أَمْنَعَـنَّ اللـهَ مَـا فَعَلا!

وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض, فإنه عندي مأخوذ من « الكتاب » الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ, فقال تعالى ذكره في القرآن: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ سورة البروج: 21- 22 ] وقال: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [ سورة الواقعة: 77- 78 ] . فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.

فمعنى قوله: - إذ كان ذلك كذلك- « كُتب عليكم القصاص » ، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.

وأما « القصاص » فإنه من قول القائل: « قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي, قصاصًا ومُقاصَّة » . فقتل القاتل بالذي قتله « قصاص » , لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله, وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه, فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا, إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله, فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه.

وأما « القتلى » فإنها جمع « قتيل » كما « الصرعى » جمع « صريع » , والجرحى جمع « جريح » . وإنما يجمع « الفعيل » على « الفعلى » , إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، نحو القتلى في معاركهم, والصرعى في مواضعهم, والجرحى، وما أشبه ذلك.

فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد, والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر « أن يقتص » اكتفاءً بدلالة قوله: « كُتب عليكم القصاص » عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص - وهو الشيء الذي قال الله: « فمن عُفي له من أخيه شيء » - فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن مجاهد, عن ابن عباس : « فمن عفي له من أخيه شيء » ، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس أنه قال في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب وأداء إليه بإحسان من المطلوب.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك, عن محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار, عن مجاهد, عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف, ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان » ، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء » قال، الدية.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن يزيد, عن إبراهيم, عن الحسن: « وأداء إليه بإحسان » قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف, وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف » ، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم, ويأخذ الدية.

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن داود, عن الشعبي مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه, وقبلت منه الدية. يقول: « فاتباع بالمعروف » ، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف, وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص, لا عَقل فيه، إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف, ويؤدي المطلوب بإحسان.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية, يقول: « فاتباع بالمعروف » ، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف, وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ.

حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص, فذلك قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك, وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف, وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.

حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « وأداء إليه بإحسان » قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.

حدثني محمد بن سعد, قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، وهو الدية، أن يحسن الطالب وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء.

وقال آخرون معنى قوله: « فمن عُفي » ، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا : معنى قوله: « من أخيه شيء » : من دية أخيه شيء, أو من أرْش جراحته، فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.

وهذا قول من زعم أن الآية نـزلت - أعني قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل « العفو » - في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: حَتَّى عَفَوْا [ سورة الأعراف: 95 ] . فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمنَ عُفي له من أخيه شيء » ، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته, فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.

والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى, والعبد من الحر, والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله: « فمنْ عُفي له من أخيه شيء » ، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول, فاتباع من الوليّ بالمعروف, وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله: « فمن عُفي له من أخيه شيء » : فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه, فاتباعٌ بالمعروف من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك « العفو » أيضًا عن ذلك.

وأما معنى قَوله: « فاتباع بالمعروف » ، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:-

حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من زاد أو ازداد بعيرًا » - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية.

وأما إحسان الآخر في الأداء, فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك, أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.

فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان » ، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ [ سورة محمد: 4 ] ؟ قيل: لو كان التنـزيل جاء بالنصب, وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر, كما يقال: « ضربًا ضَربًا وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا » ، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان, أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف.

وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب, والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ سورة المائدة: 95 ] ، وقوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ سورة البقرة: 229 ] . وأما قوله: فَضَرْبَ الرِّقَابِ ، فإن الصواب فيه النصب, وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال: « إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا » , على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم - أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة « تخفيف من ربكم » ، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم « ورحمة » ، مني لكم. كما:-

حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية, فقال الله في هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ إلى قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد « ذلك تخفيف من ربكم » . يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان.

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك, عن محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار، عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية, فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ إلى آخر الآية، « ذلك تخفيفٌ من ربكم » ، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل, فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح, وذلك قول الله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الآية كلها [ سورة المائدة: 45 ] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة, وذلك قوله تعالى: « ذلك تخفيفٌ من ربكم » بينكم.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » ، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية, وأحلَّها لهم, ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو, وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم, ولم تكن لأمة قبلهم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بمثله سواء, غير أنه قال: ليس بينهما شيء.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى قال، لم يكن لمن قبلنا دية, إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنـزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار, عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص, وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار: « ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة » .

وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 178 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه, فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم.

وقد بينت معنى « الاعتداء » فيما مضى بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فقتل, « فله عذابٌ أليم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمن اعتدى » ، بعد أخذ الدية، « فله عذاب أليم » .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل, فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي, عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه, فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية, فذلك « الاعتداء » .

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه, وأُخِذ من أوليائه الدية, ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول: « فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم » ؟

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل « فلا عذابٌ أليم » .

حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم.

واختلفوا في معنى « العذاب الأليم » الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.

فقال بعضهم: ذلك « العذابُ » هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » قال، يقتل, وهو العذاب الأليم يقول: العذاب المُوجع.

حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان, عن عكرمة: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » قال، القتلُ.

وقال بعضهم: ذلك « العذابُ » عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.

ذكر من قال ذلك:

حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث غير أنه لم ينسبه, وقال: ثقة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، و « الاعتداء » الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ, أو يقضي السلطان فيما بين الجراح, ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى, والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [ يعفو ] لأن هذا من الأمر الذي أنـزل الله فيه قوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [ سورة النساء: 59 ] .

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد, عن يونس, عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية, ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم » ، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية, فَقتلَ قاتلَ وليه, فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه, فقال تعالى ذكره وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [ سورة الإسراء: 33 ] . فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه, لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة, على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول, فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه, ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب » ، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب » قال، نكالٌ, تَناهٍ.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، نكالٌ, تَناهٍ.

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: « ولكم في القصاص حياة » ، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها, ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين, والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب » قال، قد جعل الله في القصاص حياة, إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع قوله: « ولكم في القصاص حياة » الآية, يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، نكالٌ, تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، حياةٌ، بقية. إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني, لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي, فيذكر أن يُقْتَل في القصاص, فيخشى أن يقتل بي, فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.

حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل, عن أبي صالح في قوله: « ولكم في القصاص حياة » قال، بقاء.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر, وبالعبد الحرّ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولكم في القصاص حياة » ، يقول: بقاء, لا يقتل إلا القاتل بجنايته.

وأما تأويل قوله: « يا أولي الألباب » ، فإنه: يا أولي العقول. « والألباب » جمع « اللب » , و « اللب » العقل.

وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول, لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 179 )

قال أبو جعفر: وتأويل قوله: « لعلكم تتقون » ، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:-

حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لعلكم تتقون » قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )

قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: « كُتب عليكم » ، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه, بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث, ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته حقًّا على المتقين يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه, وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.

فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟

قيل: نعم.

فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟

قيل : نعم.

فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟

قيل: قول الله تعالى ذكره: « كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين » ، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه, كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [ سورة البقرة: 183 ] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه, مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.

فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟

قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها, إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.

وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.

حدثني سَلم بن جنادة. قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش, عن مسلم, عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي, فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم, وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه, أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك, ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة, فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن رجل, عن الشعبي قال: لم يكن له [ مَوَال ] ، ولا كرامة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.

حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.

حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.

واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.

فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها, وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب, والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع, وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله, وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.

ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون, قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم, وثلث الثلث لمن أوصى له به.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة, وثلث الثلث لمن أوصى له به.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد, عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث, وثلثا الثلث لقرابته.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.

وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه, وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ, فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون, وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم, ولا تجوز وصية لوارث.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نسخ الوالدان منها, وترك الأقربون ممن لا يرث.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج, عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.

حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين, فلما نـزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. .

حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن إسماعيل المكي, عن الحسن في قوله: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية: « الوصية للوالدين والأقربين » قال، للوالدين منسوخة, والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين، فأنـزل الله بعد هذا: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ [ سورة النساء: 11 ] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين, وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله : « إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: « كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف » قال، كان هذا من قبل أن تُنـزل « سورة النساء » , فلما نـزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين, فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار, والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى: « إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، قالا في القرابة.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.

وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين » الآية, قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن ابن سيرين, عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا, فقرأ عليهم « سورة البقرة » ليبين لهم منها, فأتى على هذه الآية: « إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين » قال، نُسخت هذه.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.

حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن جهضم, عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله: « إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا « إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » ، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.

حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة, عن شريح في هذه الآية: « إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين » قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نـزلت آية الميراث.

حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في « سُورة النساء » ، الآيةَ في « سُورة البقرة » في شأن الوصية.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله : « إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين, وهي منسوخة.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: كان الميراث للولد, والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في « سورة النساء » : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [ سورة النساء: 11 ]

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين » ، أما الوالدان والأقربون، فيوم نـزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ, إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها « النساء » ، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب, عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة, وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.

حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان, عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة - يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ سورة الأنفال: 75 ] .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد, عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية, فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ, وأوصَى أبو بكر, أيَّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن الحسن بن عبد الله, عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.

وأما « الخير » الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « إن تَرك خيرًا » ، يعني مالا.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « إن ترك خيرًا » ، مالا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن أبي نجيح, عن مجاهد: « إن تَرَك خيرًا » ، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ سورة العاديات: 8 ] ، الخير: المال - إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ سورة ص: 32 ] ، المال - فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [ سورة النور: 33 ] ، المال و ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) ، المالُ.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إن ترك خيرًا الوصية » ، أي: مالا.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: « إن تَرك خيرًا الوصية » ، أما « خيرًا » ، فالمالُ.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « إن ترك خيرًا » قال، إن ترك مالا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج، عن عكرمة, عن ابن عباس قوله: « إن ترك خيرًا » قال، الخيرُ المال.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى, عن الضحاك في قوله: « إن ترك خيرًا الوصية » قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ [ سورة هود: 84 ] يعني الغني.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي, عن ابن جريج, عن عطاء بن أبي رباح، تلا « كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا » ، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.

ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.

فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة في هذه الآية: « إن تَرَك خيرًا الوصية » قال، الخيرُ ألف فما فوقه.

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة, عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده, فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.

قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض, فذكر لهُ الوصية, فقال: لا تُوص، إنما قال الله: « إن تَرك خيرًا » ، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور بن صفية, عن عبد الله بن عيينة - أو: عتبة, الشك مني- : أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير, وترك أربعمئة دينار, فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم, فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله: « إن ترك خيرًا » ، وليس لك كثير مال.

وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة, عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله: « إن ترك خيرًا » قال، ألف درهم إلى خمسمئة.

وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: « كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية » ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه « خيرٌ » , ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف, كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي - من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.

فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت « الهاء » التي في قوله: « فمن بدّله » ؟

قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.

ومعنى الكلام: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم, فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.

وإنما قلنا إن « الهاء » في قوله: « فمن بدله » عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ من قول الله, وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون « الهاء » في قوله: « فمن بدله » عائده على « الوصية » .

وأما « الهاء » في قوله: « بعد ما سمعه » ، فعائدة على « الهاء » الأولى في قوله: « فمن بَدَّله » .

وأما « الهاء » التي في قوله: « فإنما إثمه » ، فإنها مكنيُّ « التبديل » ، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فمن بدَّله بَعد ما سمعه » قال، الوصية.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه » ، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه, وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته, كما قال الله: غَيْرَ مُضَارٍّ [ سورة النساء: 12 ]

حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه » ، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه.

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه » ، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف, فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله: « فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه » ، قال: يُمضَى كما قال.

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم, عن الحسن: « فمن بدّله بعد ما سمعه » ، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم, عن الحسن في هذه الآية: « فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه » ، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها, فإنما إثمه على من بَدَّله.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي, عن قتادة, عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى, وزاد ابن بشار في حديثه قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته, وما يعجبني أن أنـزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به, قال الله عز وجل: « فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 181 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « إن الله سميع » لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها, أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف, أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ « عليمٌ » بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل, أم الجور والحيْف.