القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 34 )

يقول تعالى ذكره: وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كل شيء سألتموه ، ورغبتم إليه شيئا ، وحذف الشيء الثاني اكتفاء بما التي أضيفت إليها كلّ ، وإنما جاز حذفه ، لأن من تُبعِّض ما بعدها ، فكفت بدلالتها على التبعيض من المفعول ، فلذلك جاز حذفه ، ومثله قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يعني به: وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا ، وقد قيل: إن ذلك إنما قيل على التكثير ، نحو قول القائل: فلان يعلم كل شيء ، وأتاه كل الناس ، وهو يعني بعضهم ، وكذلك قوله فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ . وقيل أيضا: إنه ليس شيء إلا وقد سأله بعض الناس ، فقيل ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) أي قد أتى بعضكم منه شيئا ، وأتى آخر شيئا مما قد سأله. وهذا قول بعض نحويّي أهل البصرة.

وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول: معناه: وآتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه ، كأنه قيل: وآتاكم من كلّ سؤلكم ، وقال: ألا ترى أنك تقول للرجل ، لم يسألك شيئا: والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك ، وإن لم يسأل .

فأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم: معناه: وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء ، وحدثني الحسن بن محمد ، قال : ثنا شبابة ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) ورغبتم إليه فيه.

حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) قال: من كلّ الذي سألتموه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا خلف ، يعني ابن هشام ، قال : ثنا محبوب ، عن داود بن أبي هند ، عن رُكانة بن هاشم ( مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) وقال: ما سألتموه وما لم تسألوه.

وقرأ ذلك آخرون « وآتاكُمْ مِنْ كُلٍّ ما سألْتُمُوهُ » بتنوين كلّ وترك إضافتها إلى « ما » بمعنى: وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه ، وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار . وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو حُصَين ، عبد الله بن أحمد بن يونُس ، قال : ثنا بَزِيع ، عن الضحاك بن مُزاحم في هذه الآية: « وآتاكم من كلّ ما سألتموه » قال: ما لم تسألوه.

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد ، عن الضحاك أنه كان يقرأ: « مِنْ كُلِّ ما سألْتُمُوه » ويفسره: أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها ، ولكن أعطيتكم برحمتي وسعتي. قال الضحاك: فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه ولا طلبناه.

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله: « وآتاكم من كلّ ما سألتموه » يقول: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، صدق الله كم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطر لنا على بال.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: « وآتاكم من كلّ ما سألتموه » قال: لم تسألوه من كلّ الذي آتاكم.

والصواب من القول في ذلك عندنا ، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وذلك إضافة « كلّ » إلى « ما » بمعنى: وآتاكم من سؤلكم شيئا . على ما قد بيَّنا قبل ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 34 )

يقول تعالى ذكره: وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلا بعون الله لكم عليها. ( إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) يقول: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لظلوم: يقول: لشاكر غير من أنعم عليه ، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه ، وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق عليه إخلاص العبادة له ، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله ، وذلك هو ظلمه ، وقوله ( كَفَّارٌ ) يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه ، وتركه طاعة من أنعم عليه.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : ثنا مِسْعَر ، عن سعد بن إبراهيم ، عن طلق بن حبيب ، قال : إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيَها العباد ، ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ( 35 ) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 36 )

يقول تعالى ذكره: ( و ) اذكر يا محمد ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ) يعني الحَرَم ، بلدا آمنا أهله وسكانه ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) يقال منه: جَنَبْته الشرّ فأنا أَجْنُبُه جَنْبا وجَنَّبته الشر ، فأنا أجَنِّبُه تجنيبا ، وأجنبته ذلك فأنا أُجْنِبه إجنابا ، ومن جَنَبْتُ قول الشاعر:

وَتَنْفُــضُ مَهْــدَهُ شَــفَقا عَلَيْــه وَتَجْنِبُـــهُ قَلائِصَنـــا الصِّعابَــا

ومعنى ذلك: أبعدْني وبنيّ من عبادة الأصنام ، والأصنام: جمع صنم ، والصنم: هو التمثال المصوّر ، كما قال رُؤبة بن العجَّاج في صفة امرأة:

وَهْنانَــةٌ كــالزُّونِ يُجْـلَى صَنَمُـهْ تَضْحَـكُ عـن أشْـنَبَ عَـذْبٍ مَلْثَمُـهْ

وكذلك كان مجاهد يقول:حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حُذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، قال : فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته. والصنم: التمثال المصوّر ، ما لم يكن صنما فهو وثَن ، قال: واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمنا ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماما ، وجعل من ذرّيته من يقيم الصلاة ، وتقبَّل دعاءه ، فأراه مناسِكَة ، وتاب عليه.

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : كان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ، حين يقول: ربّ ( اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ) .

وقوله ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يقول: يا ربّ إن الأصنام أضللن: يقول: أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحق حتى عبدوهنّ ، وكفروا بك.

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) يعني الأوثان.

حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة ( إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ) قال: الأصنام.

وقوله ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) يقول: فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان ، فإنه مني: يقول: فإنه مستنّ بسنَّتِي ، وعامل بمثل عملي ( وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول: ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه ، وأشرك بك ، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك ، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين ، وكان يقال: إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان ، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

حدثني المثنى ، قال : ثنا أصبغ بن الفرج ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : ثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سؤادة ، حَدثه عن عبد الرحمن بن جُبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، وقال عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه ثم قال: اللَّهُمَّ أُمَّتِي ، اللَّهُمَّ أُمَّتِي ، وبكى ، فقال اللَّه تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فاسأله ما يُبكيه؟ فأتاه جبرئيل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، قال: فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك .

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( 37 )

وقال إبراهيم خليل الرحمن هذا القول حين أسكن إسماعيل وأمه هاجَرَ - فيما ذُكِر- مكة .

كما حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسن بن محمد قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، قال : نبئت عن سعيد بن جبير ، أنه حدث عن ابن عباس ، قال : إنّ أوّل من سَعى بين الصَّفا والمروة لأمُّ إسماعيل ، وإن أوّل ما أحدث نساء العرب جرّ الذيول لمن أمّ إسماعيل ، قال: لما فرّت من سارة ، أرخت من ذيلها لتعفي أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت ، فوضعهما ثم رجع ، فاتبعته ، فقالت: إلى أيِّ شيء تكلنا؟ إلى طعام تكلنا؟ إلى شراب تكلنا؟ فجعل لا يردّ عليها شيئا ، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم ، قالت: إذن لا يضيعنا. قال: فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كَدَاء ، أقبل على الوادي فدعا ، فقال ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) قال: ومع الإنسانة شَنَّة فيها ماء ، فنفِد الماء فعطشت وانقطع لبنها ، فعطش الصبيّ ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض ، فصَعِدت بالصفا ، فتسمعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا ؟ فلم تسمع ، فانحدرت ، فلما أتت على الوادي سعت وما تريد السعي ، كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض ، فصَعِدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتا ، أو ترى أنيسا ، فسمعت صوتا ، فقالت كالإنسان الذي يكذّب سمعه: صه ، حتى استيقنت ، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني ، فقد هلكتُ وهلك من معي ، فجاء المَلك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم ، فضرب بقدمه ففارت عينا ، فعجلت الإنسانة فجعلت في شَنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْماعيلَ لَوْلا أنَّها عَجِلَتْ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنا مَعِينا » . وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد ، فإنما هي عين لشرب ضِيفان الله ، وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء ، فيبنيان لله بيتا هذا موضعه ، قال: ومرّت رفقة من جرهم تريد الشام ، فرأوا الطير على الجبل ، فقالوا: إن هذا الطير لعائف على ماء ، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟ فقالوا: لا فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة ، فأتوها فطلبوا إليها أن ينـزلوا معها ، فأذنت لهم ، قال: وأتى عليها ما يأتي على هؤلاء الناس من الموت ، فماتت ، وتزوج إسماعيل امرأة منهم ، فجاء إبراهيم فسأل عن منـزل إسماعيل حتى دُل عليه ، فلم يجده ، ووجد امرأة له فظة غليظة ، فقال لها: إذا جاء زوجك فقولي له: جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك: إني لا أرضى لك عَتَبة بابك فحوِّلها ، وانطلق ، فلما جاء إسماعيل أخبرته ، فقال: ذلك أبي وأنت عتبة بأبي ، فطلقها وتزوّج امرأة أخرى منهم ، وجاء إبراهيم حتى انتهى إلى منـزل إسماعيل ، فلم يجده ، ووجد امرأة له سهلة طليقة ، فقال لها: أين انطلق زوجك؟ فقالت: انطلق إلى الصيد ، قال : فما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء ، قال : اللهمّ بارك لهم في لحمهم ومائهم ، اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم ثلاثا ، وقال لها: إذا جاء زوجك فأخبريه ، قولي: جاء هنا شيخ من صفته كذا وكذا ، وإنه يقول لك: قد رضيت لك عتبة بابك ، فأثبتها ، فلما جاء إسماعيل أخبرته. قال: ثم جاء الثالثة ، فرفعا القواعد من البيت.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء نبيّ الله إبراهيم بإسماعيل وهاجر ، فوضعهما بمكة في موضع زمزم ، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم إنما أسألك ثلاث مرات: من أمرك أن تضعني بأرض ليس فيها ضَرْع ولا زرع ، ولا أنيس ، ولا زاد ولا ماء؟ قال: ربي أمرني ، قالت: فإنه لن يضيِّعنا قال: فلما قفا إبراهيم قال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ يعني من الحزن وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ . فلما ظمئ إسماعيل جعل يَدْحَض الأرض بعقبه ، فذهبت هاجر حتى علت الصفا ، والوادي يومئذ لاخ ، يعني عميق ، فصعدت الصفا ، فأشرفت لتنظر هل ترى شيئا ؟ فلم تر شيئا ، فانحدرت فبلغت الوادي ، فسعت فيه حتى خرجت منه ، فأتت المروة ، فصعدت فاستشرفت هل ترى شيئا ، فلم تر شيئا. ففعلت ذلك سبع مرّات ، ثم جاءت من المروة إلى إسماعيل ، وهو يَدْحَض الأرض بعقبه ،وقد نبعت العين وهي زمزم. فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء ، فكلما اجتمع ماء أخذته بقدحها ، وأفرغته في سقائها. قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : يَرْحَمُها اللهُ لَوْ تَرَكَتْها لَكانَتْ عَيْنا سائِحَةً تَجْرِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ « . قال: وكانت جُرهُمُ يومئذ بواد قريب من مكة ، قال: ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء ، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي ، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء ، فجاءوا إلى هاجرَ ، فقالوا: إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك ، قالت: نعم. فكانوا معها حتى شبّ إسماعيل ، وماتت هاجر فتزوّج إسماعيل امرأة منهم ، قال: فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي ، هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينـزل ، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل ، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس ههنا ذهب يتصيد ، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيتصيد ثم يرجع ، فقال إبراهيم: هل عندك ضيافة ، هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي ، وما عندي أحد. فقال إبراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه ! وذهب إبراهيم ، وجاء إسماعيل ، فوجد ريح أبيه ، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: جاءني شيخ كذا وكذا ، كالمستخفة بشأنه ، قال : فما قال لك؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه ، فطلقها وتزوج أخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، فأذنت له ، وشرطت عليه أن لا ينـزل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يصيد ، وهو يجيء الآن إن شاء الله ، فأنـزل يرحمك الله قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم ، قال : هل عندك خبز أو بر أو تمر أو شعير؟ قالت: لا. فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لهما بالبركة ، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا ، فقالت له: أنـزل حتى أغسل رأسك ، فلم ينـزل ، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه ، فبقي أثر قدمه عليه ، فغسلت شق رأسه الأيمن ، ثم حوّلت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شقه الأيسر ، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام ، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك ، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه ، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: نعم ، شيخ أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، فقال لي كذا وكذا ، وقلت له كذا وكذا ، وغسلتُ رأسه ، وهذا موضع قدمه على المقام. قال: وما قال لك؟ قالت: قال لي: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك ، قال : ذاك إبراهيم ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ، وأمره الله ببناء البيت ، فبناه هو وإسماعيل ، فلما بنياه قيل: أذن في الناس بالحجّ ، فجعل لا يمرّ بقوم إلا قال: أيها الناس إنه قد بني لكم بيت فحجوه ، فجعل لا يسمعه أحد ، صخرة ولا شجرة ولا شيء ، إلا قال: لبيك اللهم لبيك. قال: وكان بين قوله: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) وبين قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ كذا وكذا عاما ، لم يحفظ عطاء. »

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) وإنه بيت طهَّره الله من السُّوء ، وجعله قبلة ، وجعله حَرَمه ، اختاره نبيّ الله إبراهيم لولده.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) قال: مكة لم يكن بها زرع يومئذ.

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير ، قال القاسم في حديثه: قال: أخبرني عمرو بن كثير « قال أبو جعفر » : فغيرته أنا فجعلته: قال أخبرني ابن كثير ، وأسقطت عمرا ، لأني لا أعرف إنسانًا يقال له عمرو بن كثير حدّث عنه ابن جريج ، وقد حدَّث به معمر عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، وأخشى أن يكون حديث ابن جريج أيضا عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان في أناس مع سعيد بن جبير ليلا فقال سعيد بن جبير للقوم: سلوني قبل ألا تسألوني ، فسأله القوم فأكثروا ، وكان فيما سُئل عنه أن قيل له: أحقّ ما سمعنا في المقام ، فقال سعيد: ماذا سمعتم؟ قالوا: سمعنا أن إبراهيم رسول الله حين جاء من الشام ، كان حلف لامرأته أن لا ينـزل مكة حتى يرجع ، فقرب له المقام ، فنـزل عليه ، فقال سعيد: ليس كذاك: حدثنا ابن عباس ، ولكنه حدثنا حين كان بين أم إسماعيل وسارة ما كان أقبل بإسماعيل ، ثم ذكر مثل حديث أيوب غير أنه زاد في حديثه ، قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : طَلَبُوا النـزولَ مَعَهَا وَقَدْ أَحَبَّتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ الأنْسَ ، فَنـزلُوا وبَعَثَوُا إلى أَهْلِهِمْ فَقَدِمُوا ، وَطَعَامُهُمُ الصَّيْدُ ، يَخْرُجُونَ مِنَ الحَرَمِ وَيخْرُجُ إِسْمَاعِيلُ مَعَهُمْ يَتَصَيَّدُ ، فَلَمَّا بَلَغَ أَنْكَحُوهُ ، وَقَدْ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ قَبْلَ ذَلكَ « . قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لَمَّا دَعا لَهُما أنْ يُبَارِكَ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ والماء ، قال لَهَا هَلْ منْ حَبٍّ أوْ غيرِهِ منَ الطَّعامِ ؟ قالَتْ: لا وَلَوْ وَجَدَ يَوْمَئذٍ لَهَا حَبًّا لَدَعا لَهَا بالبَركَةِ فيهِ « . قال ابن عباس: ثم لبث ما شاء الله أن يلبث ، ثم جاء فوجد إسماعيل قاعدا تحت دَوْحة إلى ناحية البئر يبرى نبلا له ، فسلم عليه ونـزل إليه ، فقعد معه وقال: يا إسماعيل ، إن الله قد أمرني بأمر ، قال إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك ، قال إبراهيم: أمرني أن أبني له بيتا ، قال إسماعيل: ابنِ ، قال ابن عباس: فأشار له إبراهيم إلى أكمة بين يديه مرتفعة على ما حولها يأتيها السيل من نواحيها ، ولا يركبها. قال: فقاما يحفران عن القواعد يرفعانها ويقولان رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ربنا تقبل منا إنك سميع الدعاء ، وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته ، والشيخ إبراهيم يبني. فلما ارتفع البنيان وشق على الشيخ تناوله ، قرب إليه إسماعيل هذا الحجَر ، فجعل يقوم عليه ويبني ، ويحوله في نواحي البيت حتى انتهى ، يقول ابن عباس: فذلك مقام إبراهيم وقيامه عليه. »

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) قال: أسكن إسماعيل وأمه مكة.

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) قال: حين وضع إسماعيل.

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: ربنا إني أسكنت بعض ولدي بواد غير ذي زرع. وفي قوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه لم يكن هنالك يومئذ ماء ، لأنه لو كان هنالك ماء لم يصفه بأنه غير ذي زرع عند بيتك الذي حرّمته على جميع خلقك أن يستحلوه.

وكان تحريمه إياه فيما ذكر كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في خطبته: إن هذا البيت أوّل من وليه أناس من طسْم ، فعصوا ربهم واستحلوا حرمته ، واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله. ثم وليهم أناس من جُرهم فَعصوا ربهم واستحلوا حرمته واستخفوا بحقه ، فأهلكهم الله. ثم وليتموه معاشر قريش ، فلا تعصوا ربه ، ولا تستحلوا حرمته ، ولا تستخفوا بحقه ، فوالله لصلاة فيه أحبّ إليّ من مئة صلاة بغيره ، واعلموا أن المعاصي فيه على نحو من ذلك. وقال ( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) ولم يأت بما وقع عليه الفعل ، وذلك أن حظّ الكلام أن يقال: إني أسكنت من ذريتي جماعة ، أو رجلا أو قوما ، وذلك غير جائز مع « من » لدلالتها على المراد من الكلام ، والعرب تفعل ذلك معها كثيرا ، فتقول: قتلنا من بني فلان ، وطعمنا من الكلأ وشربنا من الماء ، ومنه قول الله تعالى أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ .

فإن قال قائل: وكيف قال إبراهيم حين أسكن ابنه مكة ( إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) وقد رويت في الأخبار التي ذكرتها أن إبراهيم بنى البيت بعد ذلك بمدة. قيل: قد قيل في ذلك أقوال قد ذكرتها في سورة البقرة ، منها أن معناه: عند بيتك المحرّم الذي كان قبل أن ترفعه من الأرض حين رفعته أيام الطوفان ، ومنها عند بيتك المحرم من استحلال حرمات الله فيه ، والاستخفاف بحقه. وقوله ( رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) يقول: فعلت ذلك يا ربنا كي تؤدّى فرائضك من الصلاة التي أوجبتها عليهم في بيتك المحرّم. وقوله ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) يخبر بذلك تعالى ذكره عن خليله إبراهيم أنه سأله في دعائه أن يجعل قلوب بعض خلقه تنـزع إلى مساكن ذريته الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع عند بيته المحرَّم. وذلك منه دعاء لهم بأن يرزقهم حج بيته الحرام .

كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ( أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) ولو قال أفئدة الناس تهوي إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال: أفئدة من الناس تهوي إليهم فهم المسلمون.

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال: لو كانت أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولكنه أفئدة من الناس.

حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال: لو قال: أفئدة الناس تهوي إليهم ، لازدحمت عليهم فارس والروم.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عليّ ، يعني ابن الجعد ، قال : أخبرنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله.

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت عكرمة عن هذه الآية ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) فقال: قلوبهم تهوي إلى البيت.

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن عكرمة وعطاء وطاوس ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه.

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا سعيد ، عن الحكم ، قال : سألت عطاء وطاوسا وعكرمة ، عن قوله ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قالوا: الحج.

حدثنا الحسن ، قال : ثنا شبابة وعليّ بن الجعد ، قالا أخبرنا سعيد ، عن الحكم ، عن عطاء وطاوس وعكرمة في قوله ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال: هواهم إلى مكة أن يحجوا.

حدثني المثنى ، قال : ثنا آدم ، قال : ثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سألت طاوسا وعكرمة وعطاء بن أبي رباح ، عن قوله ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) فقالوا: اجعل هواهم الحجّ.

حدثنا الحسن ، قال : ثنا يحيى بن عباد ، قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لو كان إبراهيم قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجه اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال ( أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال: تنـزع إليهم.

حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قالا أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله.

وقال آخرون: إنما دعا لهم أن يهووا السكنى بمكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) قال: إن إبراهيم خليل الرحمن سأل الله أن يجعل أناسا من الناس يَهْوون سكنى أو سَكْن مكة.

وقوله ( وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) يقول تعالى ذكره: وارزقهم من ثمرات النبات والأشجار ما رزقت سكان الأرياف والقرى التي هي ذوات المياه والأنهار ، وإن كنت أسكنتهم واديا غير ذي زرع ولا ماء. فرزقهم جلّ ثناؤه ذلك .

كما حدثنا المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم الطائفي أن إبراهيم لما دعا للحرم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ نقل الله الطائف من فلسطين.

وقوله ( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) يقول: ليشكروك على ما رزقتهم وتنعم به عليهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ( 38 )

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استشهاد خليله إبراهيم إياه على ما نوى وقصد بدعائه وقيله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ ... الآية ، وأنه إنما قصد بذلك رضا الله عنه في محبته أن يكون ولده من أهل الطاعة لله ، وإخلاص العبادة له على مثل الذي هو له ، فقال: ربنا إنك تعلم ما تخفي قلوبنا عند مسألتنا ما نسألك ، وفي غير ذلك من أحوالنا ، وما نعلن من دعائنا ، فنجهر به وغير ذلك من أعمالنا ، وما يخفى عليك يا ربنا من شيء يكون في الأرض ولا في السماء ، لأن ذلك كله ظاهر لك متجل باد ، لأنك مدبره وخالقه ، فكيف يخفى عليك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ( 39 )

يقول: الحمد لله الذي رزقني على كبر من السنّ ولدا إسماعيل وإسحاق ( إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) يقول: إن ربي لسميع دعائي الذي أدعوه به ، وقولي اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ وغير ذلك من دعائي ودعاء غيري ، وجميع ما نطق به ناطق لا يخفى عليه منه شيء.

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن ضرار بن مرّة ، قال : سمعت شيخا يحدّث سعيد بن جبير ، قال : بُشر إبراهيم بعد سبع عشرة ومئة سنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ( 40 )

يقول: ربّ اجعلني مؤدّيا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها عليّ من الصلاة. ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) يقول: واجعل أيضا من ذريتي مقيمي الصلاة لك. ( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) يقول: ربنا وتقبل عملي الذي أعمله لك وعبادتي إياك. وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنَّ الدُّعاءَ هُوَ العبادَةُ » ثم قرأ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( 41 )

وهذا دعاء من إبراهيم صلوات الله عليه لوالديه بالمغفرة ، واستغفار منه لهما. وقد أخبر الله عز ذكره أنه لم يكن اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ .

وقد بيَّنا وقت تبرّئه منه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته.

وقوله ( وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول: وللمؤمنين بك ممن تبعني على الدين الذي أنا عليه ، فأطاعك في أمرك ونهيك. وقوله ( يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) يعني: يقوم الناس للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب من ذكر الناس ، إذ كان مفهوما معناه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ( 42 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ ) يا محمد ( غَافِلا ) ساهيا ( عَمَّا يَعْمَلُ ) هؤلاء المشركون من قومك ، بل هو عالم بهم وبأعمالهم محصيًا عليهم ، ليجزيهم جزاءهم في الحين الذي قد سبق في علمه أن يجزيهم فيه.

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عليّ بن ثابت ، عن جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران في قوله ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) قال: هي وعيد للظالم وتعزية للمظلوم.

( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ )

يقول تعالى ذكره: إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين الذين يكذّبونك ويجحَدون نبوّتك ، ليوم تشخص فيه الأبصار. يقول: إنما يؤخِّر عقابهم وإنـزال العذاب بهم ، إلى يوم تشخص فيه أبصار الخلق ، وذلك يوم القيامة .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ) شخصت فيه والله أبصارهم ، فلا ترتدّ إليهم.