القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ( 16 )

يقول تعالى ذكره: ولقد جعلنا في السماء الدنيا منازل للشمس والقمر، وهي كواكب ينـزلها الشمس والقمر ( وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) يقول: وزينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وأبصرها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) قال: كواكب.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ) وبروجها: نجومها.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( بُرُوجا ) قال: الكواكب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ( 17 ) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ( 18 )

يقول تعالى ذكره: وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه ( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) يقول لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين ، يبين أثره فيه، إما بإخباله وإفساده ، أو بإحراقه.

وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله ( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) هو استثناء خارج، كما قال: ما أشتكي إلا خيرا، يريد: لكن أذكر خيرا. وكان ينكر ذلك من قيله بعضهم، ويقول: إذا كانت إلا بمعنى لكن عملت عمل لكن، ولا يحتاج إلى إضمار أذكر، ويقول: لو احتاج الأمر كذلك إلى إضمار أذكر احتاج قول القائل: قام زيد لا عمرو إلى إضمار أذكر.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا الأعمش عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، قال: فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب ، فيصيب جبهته أو جنبه ، أو حيث شاء الله منه ، فيلتهب فيأتي أصحابه وهو يلتهب، فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا ، قال: فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب، فيخبرونهم به، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاءوهم به من الكذب.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) قال: أراد أن يخطف السمع، وهو كقوله إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) وهو نحو قوله إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) قال: خطف الخطفة.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) هو كقوله إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ كان ابن عباس يقول: إن الشهب لا تقتل ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل.

حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) قال: الرجيم: الملعون ، قال: وقال القاسم عن الكسائي: إنه قال: الرجم في جميع القرآن: الشتم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ( 19 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ) والأرض دحوناها فبسطناها ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) يقول: وألقينا في ظهورها رَوَاسِي، يعني جبالا ثابتة.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا ) . وقال في آية أخرى وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وذُكر لنا أن أمّ القرى مكة، منها دُحيت الأرض ، قوله ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ) رواسيها: جبالها. يقول: وألقينا في ظهورها رواسي، يعني جبالا ثابتة، وقد بيَّنا معنى الرسوّ فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته. وقوله ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول: وأنبتنا في الأرض من كلّ شيء: يقول: من كلّ شيء مقدّر، وبحدّ معلوم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول: معلوم.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: تني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول: معلوم.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، أو عن أبي مالك، في قوله ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: بقدر.

حدثنا المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح أو عن أبي مالك، مثله.

حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: بقدْر.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ، يعني ابن الجعد، قال: أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: بقدْر.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، قال: بقدْر.

حدثنا أحمد، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن سعيد بن جبير ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: معلوم.

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعت الحكم بن عتيبة وسأله أبو مخزوم عن قوله ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: من كلّ شيء مقدور.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا عبد الله بن يونس، قال: سمعت الحكم، وسأله أبو عروة عن قول الله عزّ وجلّ ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: من كلّ شيء مقدور ، هكذا قال الحسن ، وسأله أبو عروة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: مقدور بقدْر.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: مقدور بقدْر.

حدثني المثنى، قال: ثنا عليّ بن الهيثم، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: مقدور بقدْر.

حدثنا المثنى، قال: ثنا عليّ بن الهيثم، قال: ثنا يحيى بن زكريا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: بقدْر.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول: معلوم.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) يقول: معلوم.

وكان بعضهم يقول: معنى ذلك وأنبتنا في الجبال من كلّ شيء موزون: يعني من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك من الأشياء التي توزن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) قال: الأشياء التي توزن.

وأولى القولين عندنا بالصواب القول الأوّل لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ( 20 )

يقول تعالى ذكره: ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ ) أيها الناس في الأرض ( مَعَايِشَ ) ، وهي جمع معيشة ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) .

اختلف أهل التأويل في المعني في قوله ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) فقال بعضهم: عني به الدوابّ والأنعام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله جمعيا، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) الدوابّ والأنعام.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقال آخرون: عني بذلك: الوحش خاصة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور في هذه الآية ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) قال: الوحش ، فتأويل « مَنْ » في: ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) على هذا التأويل بمعنى ما، وذلك قليل في كلام العرب.

وأولى ذلك بالصواب، وأحسن أن يقال: عني بقوله ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) من العبيد والإماء والدوابّ والأنعام. فمعنى ذلك: وجعلنا لكم فيها معايش. والعبيدَ والإماء والدوابَّ والأنعام ، وإذا كان ذلك كذلك، حسن أن توضع حينئذ مكان العبيد والإماء والدوابّ « من » ، وذلك أن العرب تفعل ذلك إذا أرادت الخبر عن البهائم معها بنو آدم. وهذا التأويل على ما قلناه وصرفنا إليه معنى الكلام إذا كانت « من » في موضع نصب عطفا به على معايش بمعنى: جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين. وقيل: إنّ « من » في موضع خفض عطفا به على الكاف والميم في قوله ( وَجَعَلْنَا لَكُمْ ) بمعنى: وجعلنا لكم فيها معايش ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ) وأحسب أن منصورا في قوله: هو الوحش قصد هذا المعنى وإياه أراد، وذلك وإن كان له وجه في كلام العرب ، فبعيد قليل، لأنها لا تكاد تظاهر على معنى في حال الخفض، وربما جاء في شعر بعضهم في حال الضرورة، كما قال بعضهم:

هَـلا سـألْتَ بـذِي الجَمـاجِمِ عنهُـمُ وأبــي نَعِيـمٍ ذي اللِّـوَاءِ المُخْـرَقِ

فردّ أبا نعيم على الهاء والميم في عنهم ، وقد بيَّنت قبح ذلك في كلامهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَـزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 21 )

يقول تعالى ذكره: وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه ، وما ننـزله إلا بقدر لكل أرض معلوم عندنا حدّه ومبلغه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن رجل، عن عبد الله، قال: ما من أرض أمطر من أرض، ولكن الله يقدره في الأرض ، ثم قرأ ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله، قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه عمن يشاء ، ثم قال ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) .

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي، قال: ثنا علي بن مسهر، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله بن مسعود: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء، عاما هاهنا وعاما هاهنا ، ثم قرأ ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ) قال: المطر خاصة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عتيبة، في قوله ( وَمَا نُنـزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) قال: ما من عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل، ولكنه يمطر قوم ، ويُحرم آخرون، وربما كان في البحر ، قال: وبلغنا أنه ينـزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كلّ قطرة حيث تقع وما تُنبت.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْـزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ( 22 )

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة القرّاء ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) وقرأه بعض قرّاء أهل الكوفة ( وأرْسَلْنا الرّيحَ لَوَاقِحَ ) فوحَّد الريح وهي موصوفة بالجمع: أعني بقوله: لواقح. وينبغي أن يكون معنى ذلك: أن الريح وإن كان لفظها واحدا، فمعناها الجمع، لأنه يقال: جاءت الريح من كلّ وجه، وهبَّت من كل مكان، فقيل: لواقح لذلك، فيكون معنى جمعهم نعتها ، وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم: أرض سباسب، وأرض أغفال، وثوب أخلاق، كما قال الشاعر:

جــاءَ الشِّــتاءُ وقَميصِـي أخْـلاقْ شَــرَاذِمٌ يضْحَــكُ مِنْــهُ التَّـوَّاقْ

وكذلك تفعل العرب في كلّ شيء اتسع.

واختلف أهل العربية في وجه وصف الرياح باللقح ، وإنما هي ملقحة لا لاقحة، وذلك أنها تلقح السحاب والشجر، وإنما توصف باللقح الملقوحة لا الملقح، كما يقال: ناقة لاقح. وكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل: الرياح لواقح، فجعلها على لاقح، كأن الرياح لقحت، لأن فيها خيرا فقد لقحت بخير. قال: وقال بعضهم: الرياح تلقح السحاب، فهذا يدلّ على ذلك المعنى، لأنها إذا أنشأته وفيها خير وصل ذلك إليه وكان بعض نحويي الكوفة يقول: في ذلك معنيان: أحدهما أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء فيكون فيها اللقاح، فيقال: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح، قال: ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب فقال عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ فجعلها عقيما إذا لم تلقح. قال: والوجه الآخر أن يكون وصفها باللقح ، وإن كانت تلقح، كما قيل: ليل نائم والنوم فيه ، وسرّ كاتم، وكما قيل: المبروز والمختوم، فجعل مبروزا ، ولم يقل مبرزا بناه على غير فعله، أي أن ذلك من صفاته، فجاز مفعول لمفعل ، كما جاز فاعل لمفعول ، إذا لم يرد البناء على الفعل، كما قيل: ماء دافق.

والصواب من القول في ذلك عندي: أن الرياح لواقح كما وصفها به جلّ ثناؤه من صفتها، وإن كانت قد تلقح السحاب والأشجار، فهي لاقحة ملقحة، ولقحها: حملها الماء وإلقاحها السحاب والشجر: عملها فيه، وذلك كما قال عبد الله بن مسعود.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا المحاربي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن سكن، عن عبد الله بن مسعود، في قوله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال: يرسل الله الرياح فتحمل الماء، فتجري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن قيس بن سكن، عن عبد الله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال: يبعث الله الريح فتلقح السحاب، ثم تمريه فتدر كما تدر اللقحة، ثم تمطر.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أسباط بن محمد، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، في قوله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال: يرسل الرياح، فتحمل الماء من السحاب، ثم تمري السحاب، فتدر كما تدر اللقحة ، فقد بين عبد الله بقوله: يرسل الرياح فتحمل الماء، أنها هي اللاقحة بحملها الماء وإن كانت ملقحة بإلقاحها السحاب والشجر.

وأما جماعة أُخَر من أهل التأويل، فإنهم وجَّهوا وصف الله تعالى ذكره إياها بأنها لواقح ، إلى أنه بمعنى ملقحة، وأن اللواقح وضعت موضع ملاقح، كما قال نهشل بن حري:

لِيُبْــكَ يَزِيــدُ بــائِسٌ لِضَرَاعَـةٍ وأشْــعَثُ ممَّـنْ طَوَّحَتْـهُ الطَّـوَائِحُ

يريد المطاوح ، وكما قال النابغة:

كــليني لِهَــمٍّ يـا أُمَيْمَـةَ نـاصِبِ ولَيْــلٍ أُقاســيهِ بَطـيءِ الكـوَاكبِ

بمعنى: مُنْصِب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال: تلقح السحاب.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، مثله.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، قوله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) قال: لواقح للشجر ، قلت: أو للسحاب ، قال: وللسحاب، تمريه حتى يمطر.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد بن عمير، قال: يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قما، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلِّفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا عبيد ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) يقول: لواقح السحاب، وإن من الريح عذابا ، وإن منها رحمة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( لَوَاقِحَ ) قال: تلقح الماء في السحاب.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس ( لَوَاقِحَ ) قال: تُلقح الشجر وتُمري السحاب.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه ، فيمتلئ ماء.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا عيسى بن ميمون، قال: ثنا أبو المهزم، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « الرّيحُ الجَنُوبُ مِنَ الجَنِّةِ، وَهِيَ الرّيحُ اللَّوَاقِحُ ، وَهِيَ التي ذَكَرَ اللهُ تَعالى فِي كِتابِهِ وَفِيها مَنافِعُ للنَّاسِ » .

حدثني أبو الجماهر الحمصي أو الحضرمي محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد العزيز بن موسى، قال: ثنا عيسى بن ميمون أبو عبيدة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله سواء.

وقوله ( فَأَنـزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ) يقول تعالى ذكره: فأنـزلنا من السماء مطرا فأسقيناكم ذلك المطر لشرب أرضكم ومواشيكم. ولو كان معناه: أنـزلناه لتشربوه، لقيل: فسقيناكموه. وذلك أن العرب تقول إذا سقت الرجل ماء شربه أو لبنا أو غيره: سقيته بغير ألف إذا كان لسقيه، وإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته، قالوا: أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته، وكذلك إذا استسقت له، قالوا أسقيته واستسقيته، كما قال ذو الرُّمَّة:

وَقَفْــتُ عـلى رَسْـمٍ لِمَيَّـةَ نـاقَتِي فَمَـا زِلْـتُ أبْكـي عِنْـدَهُ وأُخاطِبُــهْ

وأُسْــقِيهِ حــتى كـادَ مِمَّـا أبُثُّـهُ تُكَـــلِّمُني أحْجـــارُهُ ومَلاعِبُــهْ

وكذلك إذا وهبت لرجل إهابا ليجعله سقاء، قلت: أسقيته إياه.

وقوله ( وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) يقول: ولستم بخازني الماء الذي أنـزلنا من السماء فأسقيناكموه. فتمنعوه من أسقيه، لأن ذلك بيدي وإليّ، أسقيه من أشاء وأمنعه من أشاء.

كما حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال سفيان: ( وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) قال: بمانعين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ( 23 ) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ( 24 ) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 25 )

يقول تعالى ذكره: ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ) من كان ميتا إذا أردنا ( ونُمِيتُ ) من كان حيا إذا شئنا ( وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) يقول: ونحن نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم، فلا يبقى حيّ سوانا إذا جاء ذلك الأجل. وقوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ولقد علمنا من مضى من الأمم ، فتقدّم هلاكهم، ومن قد خلق وهو حيّ، ومن لم يخلق بعدُ ممن سيخلق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: المستقدمون: من قد خلق ومن خلا من الأمم، والمستأخرون: من لم يخلق.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة، في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: هم خلق الله كلهم، قد علم من خلق منهم إلى اليوم، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق. قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن عكرمة، قال: إن الله خلق الخلق ففرغ منهم، فالمستقدمون: من خرج من الخلق، والمستأخرون: من بقي في أصلاب الرجال لم يخرج.

حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبو معشر، قال: سمعت عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يذاكر محمد بن كعب في قول الله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) فقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: خير صفوف الرجال المقدّم، وشرّ صفوف الرجال المؤخَّر، وخير صفوف النساء المؤخَّر، وشرّ صفوف النساء المقدّم ، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا ، ولقد علمنا المستقدمين منكم : الميت والمقتول ، والمستأخرين: من يلحق بهم مِن بعدُ، وإن ربك هو يحشرهم، إنه حكيم عليم ، فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيرا.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: قال قتادة: المستقدمين: من مضى، والمستأخرين: من بقي في أصلاب الرجال.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو الأحوص، قال: ثنا سعيد بن مسروق، عن عكرمة وخصيف، عن مجاهد، في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قالا من مات ومن بقي.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) قال: كان ابن عباس يقول: آدم صلى الله عليه وسلم ومن مضى من ذرّيته ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) : من بقي في أصلاب الرجال.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: المستقدمون آدم ومن بعده، حتى نـزلت هذه الآية: والمستأخرون: قال: كلّ من كان من ذرّيته.

قال أبو جعفر: أظنه أنا قال: ما لم يُخلق وما هو مخلوق.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، قال: المستقدمون: ما خرج من أصلاب الرجال ، والمستأخرون: ما لم يخرج. ثم قرأ ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) .

وقال آخرون: عنى بالمستقدمين: الذين قد هلكوا، والمستأخرين: الأحياء الذين لم يهلكوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) يعني بالمستقدمين: من مات ، ويعني بالمستأخرين: من هو حيّ لم يمت.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) يعني الأموات منكم ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) بقيتهم، وهم الأحياء ، يقول: علمنا من مات ومن بقي.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: المستقدمون منكم: الذين مضوا في أوّل الأمم، والمستأخرون: الباقون.

وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين في أوّل الخلق والمستأخرين في آخرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثنى: قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر في هذه الآية ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال أول الخلق وآخره.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدّي، عن داود، عن الشعبيّ، في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) : ما استقدم في أول الخلق، وما استأخر في آخر الخلق.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ) قال: في العُصُر، والمستأخرين منكم في أصلاب الرجال، وأرحام النساء.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم، والمستأخرين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: أخبرنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد المستقدمين منكم، قال: القرون الأوَل، والمستأخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثني عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، في قوله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: المستقدمون: ما مضى من الأمم، والمستأخرون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد، بنحوه.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الملك، عن مجاهد بنحوه، ولم يذكر قيسا.

وقال آخرون: بل معناه: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الخير ، والمستأخرين عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: كان الحسن يقول: المستقدمون في طاعة الله، والمستأخرون في معصية الله.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن، قال: المستقدمين في الخير، والمستأخرين: يقول: المبطئين عنه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة، والمستأخرين فيها بسبب النساء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل أخبرنا عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء، قال: فأنـزل الله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان، قال: أخبرني عمرو بن مالك، قال سمعت أبا الجوزاء يقول في قول الله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) قال: المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة والمستأخرين.

حدثني محمد بن موسى الحرسي، قال: ثنا نوح بن قيس، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة، قال ابن عباس: لا والله ما إن رأيت مثلها قط ، فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا ، وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا ، نظروا إليها من تحت أيديهم، فأنـزل الله ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نوح بن قيس، وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا نوح بن قيس، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصفّ الأوّل لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصفّ المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه في الصفّ، فأنـزل الله في شأنها ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصحة قول من قال: معنى ذلك: ولقد علمنا الأموات منكم يا بني آدم فتقدّم موته، ولقد علمنا المستأخرين الذين استأخر موتهم ممن هو حيّ ومن هو حادث منكم ممن لم يحدث بعدُ، لدلالة ما قبله من الكلام، وهو قوله ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) وما بعده وهو قوله ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) على أن ذلك كذلك، إذ كان بين هذين الخبرين، ولم يجر قبل ذلك من الكلام ما يدلّ على خلافه، ولا جاء بعد. وجائز أن تكون نـزلت في شأن المستقدمين في الصفّ لشأن النساء والمستأخرين فيه لذلك، ثم يكون الله عزّ وجلّ عمّ بالمعنى المراد منه جميع الخلق، فقال جلّ ثناؤه لهم: قد علمنا ما مضى من الخلق وأحصيناهم، وما كانوا يعملون، ومن هو حيّ منكم ، ومن هو حادث بعدكم أيها الناس، وأعمال جميعكم خيرها وشرّها، وأحصينا جميع ذلك ونحن نحشر جميعهم، فنجازي كلا بأعماله، إن خيرًا فخيًرا وإن شرًا فشرًا. فيكون ذلك تهديدًا ووعيدًا للمستأخرين في الصفوف لشأن النساء ولكلّ من تعدّى حدّ الله وعمل بغير ما أذن له به، ووعدا لمن تقدّم في الصفوف لسبب النساء ، وسارع إلى محبة الله ورضوانه في أفعاله كلها.

وقوله ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) يعني بذلك جلّ ثناؤه: وإن ربك يا محمد هو يجمع جميع الأوّلين والآخرين عنده يوم القيامة، أهل الطاعة منهم والمعصية، وكلّ أحد من خلقه، المستقدمين منهم والمستأخرين.

وبنحو ما قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال: أي الأوّل والآخر.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا أبو خالد القرشيّ، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة، في قوله ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال: هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخُرَاسانيّ، عن ابن عباس ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال: وكلهم ميت، ثم يحشرهم ربهم.

حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عليّ بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر ( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ) قال: يجمعهم الله يوم القيامة جميعا ، قال الحسن: قال عليّ: قال داود: سمعت عامرا يفسر قوله ( إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) يقول: إن ربك حكيم في تدبيره خلقه في إحيائهم إذا أحياهم، وفي إماتتهم إذا أماتهم، عليم بعددهم وأعمالهم ، وبالحيّ منهم والميت، والمستقدم منهم والمستأخر.

كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: كلّ أولئك قد علمهم الله، يعني المستقدمين والمستأخرين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 26 )

يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا آدم وهو الإنسان من صلصال. واختلف أهل التأويل في معنى الصلصال، فقال بعضهم: هو الطين اليابس لم تصبه نار، فإذا نقرتَه صَلَّ فسمعت له صلصلة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهديّ، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خلق آدم من صلصال من حمأ ومن طين لازب ، وأما اللازب: فالجيد، وأما الحَمَأ: فالحمأة، وأما الصَّلصال: فالتراب المرقَّق ، وإنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ ) قال: والصلصال: التراب اليابس الذي يسمع له صلصلة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: الصلصال: الطين اليابس يسمع له صلصلة.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس ( مِنْ صَلْصَالٍ ) قال: الصلصال: الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسَرُ عنها، فتشقق، ثم تصير مثل الخَزَف الرقاق.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خُلق الإنسان من ثلاثة: من طين لازب، وصلصال، وحمأ مسنون. والطين اللازب: اللازق الجيد، والصلصال: المرقق الذي يصنع منه الفخار، والمسنون: الطين فيه الحَمْأة.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: هو التراب اليابس الذي يُبَل بعد يُبسه.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن مسلم، عن مجاهد، قال: الصلصال: الذي يصلصل، مثل الخَزَف من الطين الطيب.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك، يقول: الصلصال: طين صُلْب يخالطه الكثيب.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مِنْ صَلْصَالٍ ) قال: التراب اليابس.

وقال آخرون: الصلصال: المُنْتِن. وكأنهم وجَّهوا ذلك إلى أنه من قولهم: صلّ اللحم وأصلّ ، إذا أنتن، يقال ذلك باللغتين كلتيهما: يَفْعَل وأَفْعَل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مِنْ صَلْصَالٍ ) الصلصال: المنتن.

والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر فقال خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ فشبهه تعالى ذكره بأنه كان كالفخَّار في يُبسه. ولو كان معناه في ذلك المُنتِن لم يشبهه بالفخارِّ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبَّه به في النتن غيره.

وأما قوله ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) فإن الحمأ: جمع حَمْأة، وهو الطين المتَغيِّر إلى السواد. وقوله ( مَسْنُونٍ ) يعني: المتغير.

واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله ( مَسْنُونٍ ) فكان بعض نحويِّي البصريين يقول: عني به: حمأ مصورّ تامّ. وذُكر عن العرب أنهم قالوا: سُنّ على مثال سُنَّة الوجه: أي صورته. قال: وكأن سُنة الشيء من ذلك: أي مثالَه الذي وُضع عليه. قال: وليس من الآسن المتغير، لأنه من سَنَن مضاعف.

وقال آخر منهم: هو الحَمَأ المصبوب. قال: والمصبوب: المسنون، وهو من قولهم: سَنَنْت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.

وكان بعض أهل الكوفة يقول: هو المتغير، قال: كأنه أخذ من سَنَنْت الحَجَر على الحجر، وذلك أن يحكّ أحدهما بالآخر، يقال منه: سننته أسنُه سَنًّا فهو مسنون. قال: ويقال للذي يخرج من بينهما: سَنِين، ويكون ذلك مُنْتنا. وقال: منه سُمِّيَ المِسَنّ لأن الحديد يُسَنُّ عليه. وأما أهل التأويل ، فإنهم قالوا في ذلك نحو ما قلنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عبيد الله بن يوسف الجبيري، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: الحمأ: المنتنة.

حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: الذي قد أنتن.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: منتن.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: هو التراب المبتلّ المنتنُ، فجعل صَلصالا كالفَخار.

حدثني محمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثنا الحسن، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء، وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: منتن.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) والحمأ المسنون: الذي قد تغير وأنتن.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: قد أنتن، قال: منتنة.

حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: من طين لازب، وهو اللازق من الكثيب، وهو الرمل.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) قال: الحمأ المنتن.

وقال آخرون منهم في ذلك: هو الطين الرَّطْب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) يقول: من طين رَطب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ( 27 )

يقول تعالى ذكره: ( والجانَّ ) وقد بيَّنا فيما مضى معنى الجانّ ولم قيل له جان. وعني بالجانّ هاهنا: إبليس أبا الجنّ. يقول تعالى ذكره: وإبليس خلقناه من قبل الإنسان من نار السموم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) وهو إبليس خُلق قبل آدم ، وإنما خلق آدم آخر الخلق، فحسده عدوّ الله إبليس على ما أعطاه الله من الكرامة، فقال: أنا ناريّ، وهذا طينيّ، فكانت السجدة لآدم ، والطاعة لله تعالى ذكره، فقال ( اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) .

واختلف أهل التأويل في معنى ( نَارِ السَّمُومِ ) فقال بعضهم: هي السموم الحارّة التي تقتل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال: هي السموم التي تقتل، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال: هي السموم التي تقتل.

حدثني المثنى، قال: ثنا الحِمَّانِيّ، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق التميمي، عن ابن عباس ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال: هي السموم التي تقتل، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت قال: هي السموم التي تقتل.

وقال آخرون: يعني بذلك من لهب النار.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) قال: من لهب من نار السموم.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان، عن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: وخُلقت الجنّ الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده، فقال: ألا أحدّثك حديثًا سمعته من عبد الله؟ سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خرج منها الجانّ. قال: وتلا ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) . وكان بعض أهل العربية يقول: السموم بالليل والنهار. وقال بعضهم: الحَرُور بالنهار، والسموم بالليل، يقال: سَمَّ يومُنا يَسَمُّ سَمُومًا.

حدثني المثنى، قال: ثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه، وسئل عن الجنّ ما هم، وهل يأكلون أو يشربون، أو يموتون، أو يتناكحون؟ قال: هم أجناس، فأما خالص الجنّ فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون ويموتون، وهي هذه التي منها السعالِي والغُول وأشباه ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 28 ) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( 29 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( و ) اذكر يا محمد ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ) .

يقول: فإذا صوّرته فعدَّلت صورته ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) فصار بشرا حيا ( فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) سجود تحية وتكرمة لا سجود عبادة.

وقد حدثني جعفر بن مكرم، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فقالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، وخلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فأبَوا، قال: فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة، فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، فقالوا: سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأوّلين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( 30 ) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( 31 )

يقول تعالى ذكره: فلما خلق الله ذلك البشر ، ونفخ فيه الروح بعد أن سوّاه، سجد الملائكة كلهم جميعا ، إلا إبليس، فإنه أبى أن يكون مع الساجدين في سجودهم لآدم حين سجدوا، فلم يسجد له معهم تكبرا وحسدا وبغيا .