القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ( 76 )

يقول عزّ وجلّ: وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض: يقول: ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها ( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) يقول: ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل.

واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها، فقال بعضهم: الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها المدينة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم حضرميّ أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أرض الأنبياء أرض الشام، وإن هذه ليست بأرض الأنبياء، فأنـزل الله ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) .

وقال آخرون: بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا، والأرض مكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة، قوله ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) وقد همّ أهل مكة بإخراج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر.

حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ ) قال: قد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكهم الله يوم بدر. وكذلك كانت سنَّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) قال: لو أخرجت قريش محمدا لعذّبوا بذلك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول قتادة ومجاهد، وذلك أن قوله ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ ) في سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر ، فيوجه قوله ( وَإِنْ كَادُوا ) إلى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره. وأما القليل الذي استثناه الله جلّ ذكره في قوله ( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) فإنه فيما قيل، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعد.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا ) كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبيّ من بين أظهرهم إلى بدر، فأخذهم بالعذاب يوم بدر.

وعُني بقوله خلافك بعدك، كما قال الشاعر:

عَقَــبَ الــرذاذ خِلافَهــا فكأنَّمَـا بسَــط الشَّـواطِبُ بَيْنَهُـنَّ حَـصِيرًا

يعني بقوله: خلافها: بعدها. وقد حُكي عن بعضهم أنه كان يقرؤها: خلفك. ومعنى ذلك، ومعنى الخلاف في هذا الموضع واحد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا ( 77 )

يقول تعالى ذكره: لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلا قليلا ولأهلكناهم بعذاب من عندنا، سنتنا فيمن قد أرسلنا قبلك من رسلنا، فإنا كذلك كنا نفعل بالأمم إذا أخرجت رسلها من بين أظهرهم، ونصبت السنة على الخروج من معنى قوله لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا لأن معنى ذلك: لعذّبناهم بعد قليل كسنتنا في أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلا عما جرت به.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة، قوله ( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا ) : أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم، لم يناظروا أن الله أنـزل عليهم عذابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ( 78 )

يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) يا محمد ( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .

واختلف أهل التأويل في الوقت الذي عناه الله بدلوك الشمس، فقال بعضهم: هو وقت غروبها، والصلاة التي أمر بإقامتها حينئذ: صلاة المغرب .

ذكر من قال ذلك:

حدثني واصل بن عبد الأعلى الأسدي، قال : ثنا ابن فضيل، عن أبي إسحاق، يعني الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أنه كان مع عبد الله بن مسعود، على سطح حين غربت الشمس، فقرأ ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) . حتى فرغ من الآية، ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا لَحِينَ دَلَكَتِ الشمس وأفطر الصائم ووقت الصلاة.

حدثنا ابن بشار قال: ثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، أن عُبيدة بن عبد الله كتب إليه أن عبد الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلى المغرب. ويفطر عندها إن كان صائما، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة، ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب الله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: هذا دلوك الشمس، وهذا غسق الليل، وأشار إلى المشرق والمغرب.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: دلوك الشمس. غروبها، يقول: دلكت براح.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق. عن الأسود، عن عبد الله، أنه قال: حين غربت الشمس دلكت، يعني براح مكانا.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: دلوكها: غروبها.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قد ذكر لنا أن ابن مسعود كان يصليها إذا وجبت وعندها يفطر إذا كان صائما، ثم يقسم عليها قسما لا يقسمه على شيء من الصلوات بالله الذي لا إله إلا هو ، إن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة، ثم يقرأ ويصليها وتصديقها من كتاب الله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال: كان أبي يقول : دلوكها: حين تريد الشمس تغرب إلى أن يغسق الليل، قال: هي المغرب حين يغسق الليل، وتَدلُك الشمس للغروب.

حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان بن عيينة، سمع عمرو بن دينار أبا عُبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: كان عبد الله بن مسعود يصلي المغرب حين يغرب حاجب الشمس، ويحلف أنه الوقت الذي قال الله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله حين غربت الشمس: هذا والله الذي لا إله غيره وقت هذه الصلاة. وقال: دلوكها: غروبها.

وقال آخرون: دلوك الشمس: ميلها للزوال، والصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند دلوكها: الظهر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، قال: دلوكها: ميلها، يعني الشمس.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبيّ، عن ابن عباس، قال، في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: دلوكها: زوالها.

حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن نافع، عن ابن عمر، في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: دلوكها: ميلها.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن سيار بن سلامة، عن أبي برزة الأسلميّ، قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: إذا زالت.

حدثنا ابن حميد مرة أخرى، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثنا سيار بن سلامة الرياحي، قال : أتيت أبا برزة فسأله والدي عن مواقيت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .

حدثني الحسين بن عليّ الصدائي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا مبارك ، عن الحسن، قال: قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال: الظهر دلوكها، إذا زالت عن بطن السماء، وكان لها في الأرض فيء.

حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: دلوكها: زوالها.

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثل ذلك.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبي جعفر في ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: لزوال الشمس.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن ابن عباس، قال دلوك الشمس: زيغها بعد نصف النهار، يعني الظلّ.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: دلوك الشمس، قال: حين تزيغ عن بطن السماء.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) أي إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر.

حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) قال: حين تزيغ.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: دلوك الشمس: حين تزيغ.

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بقوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) : صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك في كلام العرب: الميل، يقال منه: دلك فلان إلى كذا: إذا مال إليه. ومنه الخبر الذي رُوي عن الحسن أن رجلا قال له: أيُدالك الرجل امرأته؟ يعني بذلك: أيميل بها إلى المماطلة بحقها. ومنه قول الراجز:

هَـــذَا مَقـــامُ قَــدَميْ رَبــاحِ غُــدْوَةَ حــتى دَلَكَــتْ بِــرَاحِ

ويروى: براح بفتح الباء، فمن روى ذلك: بِراح، بكسر الباء، فإنه يعني: أنه يضع الناظر كفه على حاجبه من شعاعها، لينظر ما لقي من غيارها ، وهذا تفسير أهل الغريب أبي عُبيدة والأصمعي وأبي عمرو الشيبانيّ وغيرهم. وقد ذكرت في الخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود، أنه قال حين غربت الشمس: دلكت براح، يعني : براح مكانا، ولست أدري هذا التفسير، أعني قوله: براح مكانا مِنْ كلام من هو ممن في الإسناد، أو من كلام عبد الله، فإن يكن من كلام عبد الله، فلا شك أنه كان أعلم بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم، وأن الصواب في ذلك قوله، دون قولهم، وإن لم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربية كانوا أعلم بذلك منه، ولما قال أهل الغريب في ذلك شاهد من قول العجاج، وهو قوله:

والشَّــمْسُ قـد كـادَتْ تَكُـونُ دَنَفـا أدْفَعُهــا بــالرَّاح كَــيْ تَزَحْلَفـا

فأخبر أنه يدفع شعاعها لينظر إلى مغيبها براحه. ومن روى ذلك بفتح الباء، فإنه جعله اسما للشمس وكسر الحاء لإخراجه إياه على تقدير قَطامِ وحَذامِ ورَقاشِ، فإذا كان معنى الدلوك في كلام العرب هو الميل، فلا شكّ أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في إسناد بعضه بعض النظر.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثني محمد بن جعفر، قال: ثني يحيى بن سعيد، قال: ثني أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتاني جُبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ » .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا أبو تميلة، قال: ثنا الحسين بن واقد، قال: ثني سيار بن سلامة الرياحي، قال: قال أبو بَرزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر إذا زالت الشمس، ثم تلا ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .

حدثنا ابن حميد، قال : ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن رجل، عن جابر بن عبد الله، قال: دعوت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه، فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: « اخْرُجْ يا أبا بَكْرٍ قَدْ دَلَكَتِ الشَّمْسُ » .

حدثني محمد بن عثمان الرازي، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيح العَنـزيّ، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، نحو حديث ابن حميد.

فإذا كان صحيحا ما قلنا بالذي به استشهدنا، فبين إذن أن معنى قوله جلّ ثناؤه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) أن صلاة الظهر والعصر بحدودهما مما أوجب الله عليك فيهما لأنهما الصلاتان اللتان فرضهما الله على نبيّه من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل، وغسق الليل: هو إقباله ودنوه بظلامه، كما قال الشاعر:

آبَ هَذَا اللَّيْلُ إذْ غَسَقَا

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في الصلاة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده، فقال بعضهم: الصلاة التي أمر بإقامتها عنده صلاة المغرب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال: غسق الليل: بدوّ الليل.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت عكرمة سئل عن هذه الآية ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال: بدوّ الليل.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: غسق الليل: غروب الشمس.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد عن ثور، عن معمر، عن قتادة ( غَسَقِ اللَّيْلِ ) : صلاة المغرب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) بدو الليل لصلاة المغرب. وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لا تَزَالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا صَلَّوْا الْمَغْرِبَ قَبْلَ أنْ تَبْدُوَ النُّجُومُ » .

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد. قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) يعني ظلام الليل.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: كان أبي يقول ( غَسَقِ اللَّيْلِ ) : ظلمة الليل.

وقال آخرون: هي صلاة العصر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبي جعفر ( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) قال: صلاة العصر.

وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال : الصلاة التي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة المغرب دون غيرها، لأن غسق الليل هو ما وصفنا من إقبال الليل وظلامه، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر، فإنها مما تقام بين ابتداء دلوك الشمس إلى غسق الليل، لا عند غسق الليل ، وأما قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) فإن معناه وأقم قرآن الفجر: أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن، والقرآن معطوف على الصلاة في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) .

وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصب قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) على الإغراء، كأنه قال: وعليك قرآن الفجر ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) يقول: أن ما تقرأ به في صلاة الفجر من القرآن كان مشهودا، يشهده فيما ذكر ملائكة الليل وملائكة النهار.

وبالذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل: وجاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك:

حدثني عبيد بن أسباط بن محمد القرشي، قال: ثني أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: « تَشْهَدُهُ مِلائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ » .

حدثنا محمد بن سهل، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ليث بن سعد، وحدثنا محمد بن سهل بن عسكر، قال ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا الليث بن سعد، عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الله يَفْتَحُ الذّكْرَ فِي ثَلاثِ ساعات يَبْقِينَ مِنَ اللَّيْلِ: في السَّاعَةِ الأولى مِنْهُنَّ يَنْظُرُ فِي الكِتابِ الَّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحدٌ غيرُه فَيَمْحُوا ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ، ثُمَّ يَنـزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ إلى جَنَّةِ عَدْنٍ، وَهيَ دَارُهُ الَّتي لَمْ تَرَها عَيْنٌ، وَلا تَخْطُرُ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، وَهيَ مَسْكَنُهُ، وَلا يَسْكُنُ مَعَهُ منْ بَنِي آدَمَ غيرُ ثَلاثَةٍ: النَّبِيِّينَ والصّدَيقِينَ والشُّهَدَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ، ثُمَّ يَنـزلُ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِرُوحِهِ وَمَلائكَتِهِ فتنتفض، فَيَقُولُ: قُومي بعَوْنِي، ثُمَّ يَطَّلعُ إلى عِبادِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي أغْفِرْ لَهُ، مَنْ يَسْأَلْنِي أُعْطِهِ، مَنْ يَدْعونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ، فذلك حين يقول ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال موسى في حديثه : شهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. وقال ابن عسكر في حديثه: فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار. »

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، قال: قال أبو عُبيدة بن عبد الله: كان عبد الله يحدث أن صلاة الفجر عندها يجتمع الحرسان من ملائكة الله، ويقرأ هذه الآية ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) وقرآن الفجر: صلاة الصبح، كنا نحدّث أن عندها يجتمع الحَرَسان من ملائكة الله حَرَس الليل وحَرَس النهار.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) صلاة الفجر.

وأما قوله ( كَانَ مَشْهُودًا ) فإنه يقول: ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون تلك الصلاة.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: تنـزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل.

حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن فضيل، عن ضرار بن عبد الله بن أبي الهُذيل، عن أبي عبيدة، في قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: يشهده حرس الليل وحرس النهار من الملائكة في صلاة الفجر.

حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: كانوا يقولون تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر فتشهد فيها جميعا، ثم يصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) يعني صلاة الصبح.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) قال: صلاة الصبح.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) صلاة الصبح ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: تجتمع في صلاة الفجر ملائكة الليل وملائكة النهار.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) يعني صلاة الغداة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) قال: صلاة الفجر ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: مشهودا من الملائكة فيما يذكرون. قال: وكان عليّ بن أبي طالب، وأُبيّ بن كعب يقولان: الصلاة الوسطى التي حضّ الله عليها: صلاة الصبح. قال: وذلك أن صلاة الظهر وصلاة العصر: صلاتا النهار، والمغرب والعشاء: صلاتا الليل، وهي بينها ، وهي صلاة نوم، ما نعمل صلاة يُغفل عنها مثلها.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة ، عن أبي محمد الحضرمي، قال: ثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده، إن هذه الآية ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) إنها لصلاة الفجر إنها لمشهودة.

حدثني الحسن بن عليّ بن عباس، قال: ثنا بشر بن شعيب، قال: أخبرني أبي ، عن الزهري، قال: ثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « تَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلُ وَمَلائِكَةُ النَّهارِ فِي صَلاةِ الفَجْرِ » ، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) قال: صلاة الفجر تجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ( 79 )

يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ومن الليل فاسهر بعد نومة يا محمد بالقرآن، نافلة لك خالصة دون أمتك. والتهجد: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. وأما الهجود نفسه: فالنوم، كما قال الشاعر:

ألا طَرَقَتْنـــا والرّفــاقُ هُجُــودُ فَبــاتَتْ بِعُــلاتِ النَّــوَالِ تَجُـودُ

وقال الحطيئة

ألا طَـرَقَتْ هِنْـدُ الهُنُـودِ وَصُحْـبَتِي بِحَــوْرَانَ حَـورَانِ الجُـنُودِ هُجُـودُ

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن مجاهد بن يزيد، عن أبي هلال، عن الأعرج أنه قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن رجل من الأنصار، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال: لأنظرنّ كيف يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ، فرفع رأسه إلى السماء، فتلا أربع آيات من آخر سورة آل عمران إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ حتى مرّ بالأربع، ثم أهوى إلى القربة، فأخذ سواكا فاستنّ به، ثم توضأ، ثم صلى، ثم نام، ثم استيقظ فصنع كصنعه أوّل مرّة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله.

حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن، قالا ثنا سعيد ، عن أبي إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن، عن علقمة والأسود أنهما قالا التهجد بعد نومة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: التهجد: بعد نومة.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: ثني أبو إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة والأسود، بمثله.

حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: التهجد: بعد النوم.

حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن هشام، عن الحسن ، قال: التهجد: ما كان بعد العشاء الآخرة.

حُدثت عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن كثير بن العباس، عن الحجاج بن عمرو، قال: إنما التهجد بعد رقدة.

وأما قوله ( نَافِلَةً لَكَ ) فإنه يقول: نفلا لك عن فرائضك التي فرضتها عليك.

واختُلف في المعنى الذي من أجله خصّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كون صلاة كلّ مصلّ بعد هجوده، إذا كان قبل هجوده قد كان أدّى فرائضه نافلة نفلا إذ كانت غير واجبة عليه، فقال بعضهم: معنى خصوصه بذلك: هو أنها كانت فريضة عليه، وهي لغيره تطوّع، وقيل له: أقمها نافلة لك: أي فضلا لك من الفرائض التي فرضتها عليك عما فرضت على غيرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ) يعني بالنافلة أنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، أُمر بقيام الليل وكُتب عليه.

وقال آخرون: بل قيل ذلك له صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن فعله ذلك يكفِّر عنه شيئا من الذنوب، لأن الله تعالى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فكان له نافلة فضل، فأما غيره فهو له كفارة، وليس هو له نافلة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك في كفارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها، فليست للناس نوافل.

وأولى القولين بالصواب في ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عباس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد خصه بما فرض عليه من قيام الليل، دون سائر أمته ، فأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله فيما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نـزول قول الله عزّ وجلّ عليه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وذلك أن هذه السورة أنـزلت عليه بعد مُنْصَرَفه من الحديبية، وأنـزل عليه إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ عام قبض. وقيل له فيها فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فكان يُعدُّ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد استغفار مائة مرّة ومعلوم أن الله لم يأمره أن يستغفر إلا لما يغفر له باستغفاره ذلك، فبين إذن وجه فساد ما قاله مجاهد.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، عن شمر عن عطية، عن شهر، عن أبي أمامة، قال: إنما كانت النافلة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( نَافِلَةً لَكَ ) قال: تطوّعا وفضيلة لك.

وقوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) وعسى من الله واجبة، وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله واجبة، لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور، ولا شكّ أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه، إذا هو تعاهده ولزمه، فإن لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الأطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه ، فإنه لصاحبه غارّ بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جلّ ثناؤه من صفته الغرور لعباده صحّ ووجب أن كلّ ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من الأفعال، أو أمر أو نهى أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإنه موف لهم به، وإنهم منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى ولعلّ من الله واجبة.

وتأويل الكلام: أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده، وتغبط فيه.

ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، عن حُذيفة، قال: يجمع الناس في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خُلقوا، قياما لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هَدَيت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تبارك وتعاليت، سبحانك ربّ هذا البيت ؛ فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفر، عن حُذيفة، قال: يُجْمع الناس في صعيد واحد. فلا تكَلَّم نفس، فأوّل ما يدعو محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقوم محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: لبيك، ثم ذكر مثله.

حدثنا سليمان بن عمرو بن خالد الرقي، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه عن ابن عباس، قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله في قصة ذكرها، قال: ثم يؤمر بالصراط فيضرب على جسر جهنم، فيمرّ الناس بقدر أعمالهم ؛ يمرّ أولهم كالبرق، وكمرّ الريح، وكمرّ الطير، وكأسرع البهائم، ثم كذلك حتى يمرّ الرجل سعيا، ثم مشيا، حتى يجيء آخرهم يتلبَّط على بطنه، فيقول: ربّ لما أبطأت بي، فيقول : إني لم أبطأ بك، إنما أبطأ بك عملك، قال: ثم يأذن الله في الشفاعة، فيكون أوّل شافع يوم القيامة جبرائيل عليه السلام، روح القُدس، ثم إبراهيم خليل الرحمن، ثم موسى، أو عيسى قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما قال، قال: ثم يقوم نبيّكم صلى الله عليه وسلم رابعا، فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود الذي ذكر الله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) .

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن في قول الله تعالى ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة يوم القيامة.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: شفاعة محمد يوم القيامة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: هو الشفاعة، يشفعه الله في أمته، فهو المقام المحمود.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) وقد ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيّا عبدا، أو ملكا نبيّا، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام: أن تَوَاضَعْ، فاختار نبيّ الله أن يكون عبدا نبيّا، فأُعْطِي به نبيّ الله ثنتين: إنه أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع. وكان أهل العلم يَرَوْن أنه المقام المحمود الذي قال الله تبارك وتعالى ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) شفاعة يوم القيامة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال : هي الشفاعة، يشفِّعه الله في أمته.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر والثوريّ، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال: سمعت حُذيفة يقول في قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: يجمع الله الناس في صعيد واحد حيث يُسْمعهم الداعي، فَيَنْفُذُهم البصر حُفاة عُراة، كما خُلِقوا سكوتا لا تكلَّم نفس إلا بإذنه، قال: فينادَى محمد، فيقول: لَبَّيك وسَعْديك، والخيرُ في يديك، والشرّ ليس إليك، والمهديّ من هَدَيت، وعبدُك بين يديك، ولك وإليك، لا ملْجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت، قال: فذلك المقامُ المحمودُ الذي ذكر الله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، قال حُذيفة: يجمع الله الناس في صعيد واحد، حيث يَنْفُذُهم البصر، ويُسْمعهم الداعي، حُفاة عُراة كما خُلقوا أوّل مرّة، ثم يقوم النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول: « لبيك وسعديك » ، ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال: هو المقام المحمود.

وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده معه على عرشه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: يُجْلسه معه على عرشه.

وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله.

وذلك ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن داود بن يزيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) سئل عنها، قال: « هِىَ الشَّفاعَةُ » .

حدثنا عليّ بن حرب، قال: ثنا مَكّيّ بن إبراهيم، قال: ثنا داود بن يزيد الأوْدِيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) قال: « هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي » .

حدثنا أبو عُتبة الحِمْصِيّ أحمد بن الفَرَج، قال: ثنا بقية بن الوليد، عن الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي ، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ » .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثني الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الشَّمْسَ لتَدْنُو حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأذُنِ ، فَبَيْنَما هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَيَقُولُ لَسْتُ صَاحِبَ ذَلِكَ ثُمَّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَيَقُولُ كَذلكَ ، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ فَيَشْفَعُ بين الخلق حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْجنة فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا » .

حدثني أبو زيد عمر بن شَبَّة، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا سعيد بن زيد، عن عليّ بن الحكم، قال: ثني عثمان، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنِّي لأقُومُ المَقَامَ المَحْمُودَ » فقال رجل: يا رسول الله، وما ذلك المقام المحمود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ذَاكَ إِذَا جِيءَ بِكُمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلام ، فَيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ ، فَيَلْبِسْهُمَا ، ثُمَّ يَقْعُدُ مُسْتَقْبِلَ الْعَرْشِ ، ثُمَّ أُوتَى بِكِسْوَتِي فَأَلْبَسُهَا ، فَأَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ مَقَامًا لا يَقُومُهُ غَيْرِي يَغْبِطُنِي فِيهِ الأوَّلُونَ وَالآخِرُونَ ، ثُمَّ يُفْتَحُ نَهَرٌ مِنْ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « إذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ مَدَّ الله الأرضَ مَدَّ الأدِيمِ حتى لا يَكُونَ لِبَشَر مِنَ النَّاسِ إلا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُدْعَى وجَبْرَائِيل عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، والله ما رآهُ قَبْلَها، فَأَقُولُ: أيْ ربّ إنَّ هذَا أخْبَرَنِي أنَّك أرْسَلْتَهُ إليَّ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: صَدَقَ، ثُمَّ أَشْفَعُ، قال: فَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر ، عن الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، قال : قال النبيّ: « إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ » ، فذكر نحوه، وزاد فيه: « ثُمَّ أشْفَعُ فَأَقُولُ: يا ربّ عِبادُكَ عَبَدُوكَ في أطْرافِ الأرْضِ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمُودُ » .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال : ثنا إبراهيم بن طهمان، عن آدم، عن عليّ، قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يحشرون يوم القيامة، فيجىء مع كلّ نبيّ أمته، ثم يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمم هو وأمته، فيرقى هو وأمته على كَوم فوق الناس، فيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، ويا فلان اشفع، فما زال يردّها بعضهم على بعض يرجع ذلك إليه، وهو المقام المحمود الذي وعده الله إياه.

حدثنا محمد بن عوف، قال: ثنا حَيْوة وربيع، قالا ثنا محمد بن حرب، عن الزبيديّ، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلّ ، فَيَكْسُونِي رَبِي عَزَّ وَجَلَّ حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ » .

وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن الله يُقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك. فأما من جهة النظر، فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسَّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذ لم يكن هو لها مماسا، وجب أن يكون لها مباينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مماسّ للأجسام أو مباين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم: إنه يوصف بأنه مماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين، فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على الأرض إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه، وبينونته من أرضه بمعنى واحد في أنه بائن منهما كليهما، غير مماسّ لواحد منهما.

وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه، أو على أرضه، إذ كان سواء على قولهم عرشه وأرضه في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه.

وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء ولا شيء يماسه، ولا شيء يباينه، ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا، وصار له مماسا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء يماسه ولا يباينه، وخلق الأشياء فماس العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه، فهو مماس ما شاء من خلقه، ومباين ما شاء منه، فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه، أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ على عرشه، ليس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم موجبا له صفة الربوبية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مباينة محمد صلى الله عليه وسلم ما كان مباينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مباين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف على قول قائل هذه المقالة بأنه مباين لها، هو مباين له. قالوا: فإذا كان معنى مباين ومباين لا يوجب لمحمد صلى الله عليه وسلم الخروج من صفة العبودة والدخول في معنى الربوبية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده على عرش الرحمن، فقد تبين إذا بما قلنا أنه غير محال في قول أحد ممن ينتحل الإسلام ما قاله مجاهد من أن الله تبارك وتعالى يقعد محمدا على عرشه.

فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعاد الله محمدا على عرشه، وإنما ننكر إقعاده .

حدثني عباس بن عبد العظيم، قال: ثنا يحيى بن كثير، عن الجريريّ، عن سيف السَّدُوسيّ، عن عبد الله بن سلام، قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسيّ الربّ بين يدي الربّ تبارك وتعالى ، وإنما ينكر إقعاده إياه معه ، قيل: أفجائز عندك أن يقعده عليه لا معه. فإن أجاز ذلك صار إلى الإقرار بأنه إما معه، أو إلى أنه يقعده، والله للعرش مباين، أو لا مماسّ ولا مباين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولا في بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام، إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها، وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ( 80 )

يقول تعالى ذكره لنبيه: وقل يا محمد يا ربّ أدخلني مدخل صدق.

واختلف أهل التأويل في معنى مُدْخل الصدق الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه في أن يدخله إياه، وفي مخرج الصدق الذي أمره أن يرغب إليه في أن يخرجه إياه، فقال بعضهم: عَنَى بمُدْخل الصِّدق: مُدْخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، حين هاجر إليها، ومُخْرَج الصدق: مُخْرجه من مكة، حين خرج منها مهاجرا إلى المدينة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا ثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظَبْيان، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنـزل الله تبارك وتعالى اسمه، ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) .

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف عن الحسن، في قول الله ( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال: كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أو يطردوه، أو يُوثِقوه، وأراد الله قتال أهل مكة، فأمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله ( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( مُدْخَلَ صِدْقٍ ) قال: المدينة ( مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال: مكة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) أخرجه الله من مكة إلى الهجرة بالمدينة.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال: المدينة حين هاجر إليها، ومخرج صدق: مكة حين خرج منها مخرج صدق، قال ذلك حين خرج مهاجرا.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقل ربّ أمتني إماتة صِدْق، وأخرجني بعد الممات من قبري يوم القيامة مُخْرج صدق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) .... الآية، قال: يعني بالإدخال: الموت، والإخراج: الحياة بعد الممات.

وقال آخرون: بل عَنَى بذلك: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مُدْخل صدق، وأخرجني منه مُخْرَج صدق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) قال: فيما أرسلتني به من أمرك ( وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) قال كذلك أيضا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني مدخل صدق: الجنة، وأخرجني مخرج صدق: من مكة إلى المدينة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال الحسن ( أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) الجنة و ( مُخْرَجَ صِدْقٍ ) من مكة إلى المدينة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: ثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله ( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) قال: أدخلني في الإسلام مُدْخل صدق ( وَأَخْرِجْنِي ) منه ( مُخْرَجَ صِدْقٍ ) .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخلني مكة آمنا، وأخرجني منها آمنا.

ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك قال في قوله ( رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) يعني مكة، دخل فيها آمنا، وخرج منها آمنا.

وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وأدخلني المدينة مُدْخل صدق، وأخرجني من مكة مُخْرج صدق.

وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن ذلك عقيب قوله وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا . وقد دللنا فيما مضى، على أنه عَنَى بذلك أهل مكة ؛ فإذ كان ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوه عن مكة، كان بيَّنا، إذ كان الله قد أخرجه منها، أن قوله ( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ) أمر منه له بالرغبة إليه في أن يخرجه من البلدة التي هم المشركون بإخراجه منها مُخْرج صدق، وأن يدخله البلدة التي نقله الله إليها مُدْخل صدق.

وقوله ( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: واجعل لي ملكا ناصرا ينصرني على من ناوأني، وعِزّا أقيم به دينك، وأدفع به عنه من أراده بسوء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن، في قول الله عزّ وجلّ ( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) يُوعِده لَيَنـزعَنَّ مُلك فارس، وعزّ فارس، وليجعلنه له ، وعزّ الرّوم، ومُلك الروم، وليجعلنه له.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله ( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) وإن نبيّ الله علم أن لا طاقةَ له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله عزّ وجلّ، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بين أظهر عباده، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم.

وقال آخرون: بل عُنِي بذلك حجة بينة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ ( سُلْطَانًا نَصِيرًا ) قال: حجة بينة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده.

وإنما قلت ذلك أولى بالصواب ، لأن ذلك عقيب خبر الله عما كان المشركون هموا به من إخراجه من مكة، فأعلمه الله عزّ وجلّ أنهم لو فعلوا ذلك عوجلوا بالعذاب عن قريب، ثم أمره بالرغبة إليه في إخراجه من بين أظهرهم إخراج صدق يحاوله عليهم، ويدخله بلدة غيرها، بمدخل صدق يحاوله عليهم ولأهلها في دخولها إليها، وأن يجعل له سلطانا نصيرا على أهل البلدة التي أخرجه أهلها منها، وعلى كلّ من كان لهم شبيها، وإذا أوتي ذلك، فقد أوتي لا شكّ حجة بينة.

وأما قوله ( نَصِيرًا ) فإن ابن زيد كان يقول فيه، نحو قولنا الذي قلنا فيه.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ) قال: ينصرني، وقد قال الله لموسى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا هذا مقدّم ومؤخَّر، إنما هو سلطان بآياتنا فلا يصلون إليكما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ( 81 ) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ( 82 )

يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) .

واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء، والباطل الذي أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق، فقال بعضهم: الحقّ: هو القرآن في هذا الموضع، والباطل: هو الشيطان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) قال: الحقّ: القرآن ( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) قال: القرآن ( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) قال: هلك الباطل وهو الشيطان.

وقال آخرون: بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ ) قال: دنا القتال ( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) قال: الشرك وما هم فيه.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثُمائة وستون صنما، فجعل يطعنها ويقول ( جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: أمر الله تبارك وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء، وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة، وأن الباطل قد زهق: يقول: وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس، وأن الباطل: هو كلّ ما وافق طاعته، ولم يخصص الله عز ذكره بالخبر عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الخير عن مجيء جميع الحقّ، وذهاب جميع الباطل، وبذلك جاء القرآن والتنـزيل، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله، أعني على إقامة جميع الحقّ، وإبطال جميع الباطل.

وأما قوله عزّ وجلّ ( وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ) فإن معناه: ذهب الباطل، من قولهم: زَهَقت نفسه: إذا خرجت وأزهقتها أنا ؛ ومن قولهم: أزهق السهم: إذا جاوز الغرض فاستمرّ على جهته، يقال منه: زهق الباطل، يزهَق زُهوقا، وأزهقه الله: أي أذهبه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) يقول: ذاهبا.

وقوله عزّ وجلّ ( وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: وننـزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله، ويحلون حلاله، ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، ويُنجيهم من عذابه، فهو لهم رحمة ونعمة من الله، أنعم بها عليهم ( وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ) يقول: ولا يزيد هذا الذي ننـزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خسارا: يقول: إهلاكا، لأنهم كلما نـزل فيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به، فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه، فزادهم ذلك خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار، ورجسا إلى رجسهم قبلُ.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ( وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ ) به ( إِلا خَسَارًا ) أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ( 83 )

يقول تبارك وتعالى: وإذا أنعمنا على الإنسان، فنجَّيناه من كرب ما هو فيه في البحر، وهو ما قد أشرف فيه عليه من الهلاك بعصوف الريح عليه إلى البرّ، وغير ذلك من نعمنا، أعرض عن ذكرنا، وقد كان بنا مستغيثا دون كلّ أحد سوانا في حال الشدّة التي كان فيها ( وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) يقول: وبعد منا بجانبه، يعني بنفسه، كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ قبل ذلك.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن مجاهد ، في قوله ( وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) قال: تباعد منا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

والقراءة على تصيير الهمزة في نَأَى قبل الألف، وهي اللغة الفصيحة، وبها نقرأ. وكان بعض أهل المدينة يقرأ ذلك « ونَاء » فيصير الهمزة بعد الألف، وذلك وإن كان لغة جائزة قد جاءت عن العرب بتقديمهم في نظائر ذلك الهمز في موضع هو فيه مؤخرّ، وتأخيرهموه في موضع، هو مقدّم، كما قال الشاعر:

أعـــلامٌ يُقَلِّـــلُ رَاءَ رُؤْيـــا فَهْـوَ يَهْـذِي بِمـا رأى فِـي المَنـامِ

وكما قال آبار وهي أبآر، فقدموا الهمزة، فليس ذلك هو اللغة الجُودَى، بل الأخرى هي الفصيحة.

وقوله عزّ وجلّ ( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ) يقول: وإذا مسه الشرّ والشدّة كان قنوطا من الفرج والروْح.

وبنحو الذي قلنا في اليئوس، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ) يقول: قَنُوطا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ) يقول: إذا مسه الشرّ أَيِس وقَنِط.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا ( 84 )

يقول عزّ وجلّ لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: كلكم يعمل على شاكلته: على ناحيته وطريقته ( فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ ) هو منكم ( أَهْدَى سَبِيلا ) يقول: ربكم أعلم بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) يقول: على ناحيته.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال: على ناحيته.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال: على طبيعته على حِدَته.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) يقول : على ناحيته وعلى ما ينوي.

وقال آخرون: الشاكلة: الدِّين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) قال: على دينه، الشاكلة: الدين.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ( 85 )

يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي؟ قل لهم: الروح من أمر ربي، وما أوتيتم أنتم وجميع الناس من العلم إلا قليلا وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فنـزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قوما من اليهود.

ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو هشام، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، ومعه عَسِيب يتوكأ عليه، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم: اسألوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فقام متوكئا على عسيبه، فقمت خلفه، فظننت أنه يوحَى إليه، فقال ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقال بعضهم لبعض: ألم نقل لكم لا تسألوه « . »

حدثنا يحيي بن إبراهيم المسعوديّ، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: « بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرَّة بالمدينة، إذ مررنا على يهود، فقال بعضهم: سَلُوه عن الروح، فقالوا: ما أربكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون، فقاموا إليه، فسألوه ، فقام فعرفت أنه يوحى إليه، فقمت مكاني، ثم قرأ ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقالوا : ألم ننهكم أن تسألوه » .

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، قال: « سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فأنـزل الله تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقالوا: أتزعم إنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة، وهي الحكمة، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا قال: فنـزلت وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قال: ما أوتيتم من علم، فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل » .

حدثني إسماعيل بن أبي المتوكل، قال: ثنا الأشجعيّ أبو عاصم الحِمْصيّ، قال: ثنا إسحاق بن عيسى أبو يعقوب، قال: ثنا القاسم بن معن، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: إني لمع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، إذ أتاه يهوديّ ، قال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنـزل الله عزّ وجلّ ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) لقيت اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فتغَشَّوه وسألوه وقالوا: إن كان نبيّا علم، فسيعلم ذلك، فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فأنـزل الله في كتابه ذلك كله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) يعني اليهود « . »

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال: يهود تسأل عنه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال: يهود تسأله.

حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) .... الآية: « وذلك أن اليهود قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أخبرنا ما الروح، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله عزّ وجلّ، ولم يكن نـزل عليه فيه شيء، فلم يُحِر إليهم شيئا، فأتاه جَبرائيل عليه السلام ، فقال له ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فأخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا له: من جاءك بهذا؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: » جاءنِي بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ الله، فقالوا: والله ما قاله لك إلا عدوّ لنا، فأنـزل الله تبارك اسمه قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَـزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ... الآية.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فمررنا بأناس من اليهود، فقالوا: يا أبا القاسم ما الرُّوح؟ فأُسْكِت. فرأيت أنه يوحَى إليه، قال: فتنحيت عنه إلى سُباطة، فنـزلت عليه ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) .... الآية، فقالت اليهود: هكذا نجده عندنا « . »

واختلف أهل التأويل في الروح الذي ذُكِر في هذا الموضع ما هي؟ فقال بعضهم: هي جبرئيل عليه السلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال: هو جبرائيل، قال قتادة: وكان ابن عباس يكتمه.

وقال آخرون: هي مَلك من الملائكة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال: الروح: مَلك.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني أبو مروان يزيد بن سمرة صاحب قيسارية، عمن حدثه عن عليّ بن أبي طالب، أنه قال في قوله ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح ) قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق الله من كلّ تسبيحة مَلكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

وقد بيَّنا معنى الرّوح في غير هذا الموضع من كتابنا، بما أغنى عن إعادته.

وأما قوله ( مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فإنه يعني: أنه من الأمر الذي يعلمه الله عزّ وجلّ دونكم، فلا تعلمونه ويعلم ما هو.

وأما قوله ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ بقوله ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فقال بعضهم: عنى بذلك: الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وجميع الناس غيرهم، ولكن لما ضمّ غير المخاطب إلى المخاطب، خرج الكلام على المخاطبة، لأن العرب كذلك تفعل إذا اجتمع في الكلام مخبر عنه غائب ومخاطب، أخرجوا الكلام خطابا للجميع.

ذكر من قال ذلك:

حدثني ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نـزلت بمكة ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) أفعنيتنا أم قومك؟ قال: كُلا قَدْ عَنَيْتُ، قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كلّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هِيَ في عِلْمِ الله قَلِيلٌ، وَقَدْ آتاكُمْ ما إنْ عمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ ، فَأَنـزل الله وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ .... إلى قوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله عزّ وجلّ ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) قال: يا محمد والناس أجمعون.

وقال آخرون: بل عَنَى بذلك الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح خاصة دون غيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ) يعني: اليهود.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: خرج الكلام خطابا لمن خوطب به، والمراد به جميع الخلق، لأن علم كلّ أحد سوى الله، وإن كثر في علم الله قليل.

وإنما معنى الكلام: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلا من كثير مما يعلم الله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا ( 86 )

يقول تعالى ذكره: ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي آتيناك من العلم الذي أوحينا إليك من هذا القرآن لنذهبنّ به، فلا تعلمه، ثم لا تجد لنفسك بما نفعل بك من ذلك وكيلا يعني: قيِّما يقوم لك، فيمنعنا من فعل ذلك بك، ولا ناصرا ينصرك ، فيحول بيننا وبين ما نريد بك، قال: وكان عبد الله بن مسعود يتأوّل معنى ذهاب الله عزّ وجلّ به رفعه من صدور قارئيه.

ذكر الرواية بذلك حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن بُنْدار، عن معقل، قال: قلت لعبد الله، وذكر أنه يُسرى على القرآن ، كيف وقد أثبتناه في صدورنا ومصاحفنا؟ قال: يُسرى عليه ليلا فلا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل، ثم قرأ عبد الله ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا ابن إسحاق بن يحيى، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود ، قال: « تطرق الناسَ ريح حمراء من نحو الشام، فلا يبقى في مصحف رجل ولا قلبه آية. قال رجل: يا أبا عبد الرحمن، إني قد جمعت القرآن ، قال: لا يبقى في صدرك منه شيء. ثم قرأ ابن مسعود ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) . »