القول في تأويل قوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ( 28 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( واصْبِرْ ) يا محمد ( نَفْسَكَ مَعَ ) أصحابك ( الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها ( يُرِيدُونَ ) بفعلهم ذلك ( وَجْهَهُ ) لا يريدون عرضا من عرض الدنيا.

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) في سورة الأنعام، والصواب من القول في ذلك عندنا، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، والقرّاء على قراءة ذلك ( بالغَدَاةِ والعَشيّ ) ، وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه ( بالغَدَوةِ والعَشِيّ ) ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة، لأن غدوة معرّفة، ولا ألف ولا لام فيها، وإنما يعرف بالألف واللام ما لم يكن معرفة ، فأما المعارف فلا تعرّف بهما ، وبعد، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة ، وإنما تقول العرب: أتيتك غداة الجمعة، ولا تقول: أتيتك غدوة الجمعة، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القرّاء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك، وللعلة التي بيَّنا من جهة العربية.

وقوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يقول جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا تجاوزهم إليه ، وأصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) قال: لا تجاوزهم إلى غيرهم.

حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ ، عن ابن عباس، قوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يقول: لا تتعدّهم إلى غيرهم.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) ... الآية، قال: قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم يا محمد، وجالس أشراف العرب، فنـزل القرآن ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) ولا تحقرهم، قال: قد أمروني بذلك، قال: ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) .

حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، أن هذه الآية لما نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) فخرج يلتمس، فوجد قوما يذكرون الله، منهم ثائر الرأس، وجافّ الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم، فقال: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي فِي أُمَّتِي مَنْ أمرني أنْ أصبِرَ نَفْسي مَعَهُ » ورُفعت العينان بالفعل، وهو لا تعد.

وقوله: ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عليه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القيام، ويتركهم قعودا، فأنـزل الله عليه ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) الآيَةَ ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يريد زينة الحياة الدنيا: مجالسة أولئك العظماء الأشراف. وفد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام.

حدثني الحسين بن عمرو العنقزي، قال: ثني أبي، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود، عن خباب في قصة ذكرها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: تجالس الأشراف.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم: لقد آذاني ريح سلمان الفارسي، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه، فنـزلت الآية.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنه لما نـزلت هذه الآية قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبِرَ نَفْسِي مَعَه » .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: تريد أشراف الدنيا.

حدثنا صالح بن مسمار، قال: ثنا الوليد بن عبد الملك، قال: سليمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله الجهنيّ ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي، عن سلمان الفارسي، قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا نبيّ الله، إنك لو جلست في صدر المسجد، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك، وأخذنا عنك ، فأنـزل الله : وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ، حتى بلغ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يتهدّدهم بالنار ، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْني حتى أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجالٍ منْ أُمَّتي، مَعَكُمُ المَحْيا وَمَعَكُمُ المَماتُ » .

وقوله: ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك، عن ذكرنا، بالكفر وغلبة الشقاء عليه، واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه، وهم فيما ذُكر: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم.

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود ، عن خباب ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) قال: عُيينة، والأقرع.

وأما قوله: ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: وكان أمره ضياعا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال ابن عمرو في حديثه قال: ضائعا. وقال الحارث في حديثه: ضياعا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ضياعا.

وقال آخرون: بل معناه: وكان أمره ندما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد بن راشد، عن داود ( فُرُطا ) قال: ندامة.

وقال آخرون: بل معناه: هلاكا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسين بن عمرو، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط ، عن السديّ، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال: هلاكا.

وقال آخرون: بل معناه: خلافا للحق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد : ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال: مخالفا للحقّ، ذلك الفُرُط.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفا قد تجاوز حدّه، فَضَيَّع بذلك الحقّ وهلك.

وقد: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: قيل له: كيف قرأ عاصم؟ فقال ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال أبو كريب: قال أبو بكر: كان عُيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ( 29 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم، الحقّ أيها الناس من عند ربكم، وإليه التوفيق والحذلان، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد، فيؤمن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا، وبالله وبما أنـزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته.

وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) يقول: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر، وهو قوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد.

وقد بين أن ذلك كذلك قوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) والآيات بعدها.

كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عمر بن حبيب، عن داود، عن مجاهد، في قوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) . قال: وعيد من الله، فليس بمعجزي.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) وقوله اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قال: هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا. وقوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) يقول تعالى ذكره: إنا أعددنا، وهو من العُدّة. للظالمين: الذين كفروا بربهم.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: للكافرين ، وقوله: ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) يقول: أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم، وذلك فيما قيل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط، كما قال رؤبة:

يـا حَـكَمَ بـنَ المُنْـذِرِ بـنَ الجارُودْ سُــرادِقُ الفَضْــلِ عَلَيْـكَ مَمْـدُودْ

وكما قال سلامة بن جندل:

هُـوَ المُـولِجُ النُّعْمـانَ بيْتـا سَـماؤُهُ صُـدُورُ الفُيُـولِ بعـدَ بَيْـتٍ مُسَرْدَقَ

يعني: بيتا له سرادق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: هي حائط من نار.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان ، عن معمر، عمن أخبره، قال ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي قال الله: ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ .

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدلّ على أن معنى قوله ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) أحاط بهم ذلك في الدنيا، وأن ذلك السرادق هو البحر.

ذكر من قال ذلك: حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر، قالا ثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن أمية، قال: ثني محمد ابن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البَحْرُ هو جَهَنَّمُ » قال: فقيل له: كيف ذلك، فتلا هذه الآية، أو قرأ هذه الآية: ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) ثم قال: والله لا أدْخُلُها أبَدًا أوْ ما دُمْتُ حَيًّا، ولا تُصِيبُني مِنْها قَطْرَة.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا رشدين بن سعد، قال: ثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً » .

حدثنا بشر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن لِسُرَادِقِ النَّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً » .

حدثنا بشر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ماءٌ كالمُهْلِ » ، قال: « كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فإذا قَرَّبَهُ إليه سقط فَرْوَةُ وَجْهِه فِيهِ » .

وقوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) يقول تعالى ذكره: وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل.

واختلف أهل التأويل في المهل، فقال بعضهم: هو كلّ شيء أذيب وانماع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سِقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض، ثم قذف فيه من جزل حطب، ثم قذف فيه تلك السقاية، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه: ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا، فلما دخلوا عليه قال: أترون هذا؟ قالوا : نعم، قال: ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة، حين أزبد وانماع.

وقال آخرون: هو القيح والدم الأسود.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبي بَزَة، عن مجاهد في قوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: القيح والدم.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: القيح والدم الأسود، كعكر الزيت ، قال الحارث في حديثه: يعني درديه.

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( كالمُهْلِ ) قال: يقول: أسود كهيئة الزيت.

حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت.

وقال آخرون: هو الشيء الذي قد انتهى حرّه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال: المهل: هو الذي قد انتهى حرة.

وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعنى، وذلك أن كل ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّه، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت، فقد انتهى أيضا حرّه.

وقد: حُدثت عن معمر بن المثنى، أنه قال: سمعت المنتجع بن نبهان يقول: والله لفلان أبغض إليّ من الطلياء والمهل، قال: فقلنا له: وما هما؟ فقال: الجرباء، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار، كأنها سهلة حمراء مدققة، فهي أحمره، فالمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره، أو لم يكن مائعا، فانماع بالوقود عليه، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ.

وقوله: ( يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) يقول جلّ ثناؤه: يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم.

كما حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر، هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله ( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ قال: يقرب إليه فيتكرّهه، فإذا قرب منه، شوى وجهه، ووقعت فَرْوة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله: ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب ) .

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني إبراهيم بن إسحاق الطالَقاني ويعمر بن بشر، قالا ثنا ابن المبارك، عن صفوان، عن عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال هارون: إذا جاع أهل النار ، وقال جعفر: إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارا مار بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصبّ عليهم العطش، فيستغيثون، فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.

وقوله: ( بِئْسَ الشَّرَابُ ) يقول تعالى ذكره: بئس الشراب، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية.

وقوله: ( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) يقول تعالى ذكره: وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا ، والمرتفق في كلام العرب: المتكأ، يقال منه: ارتفقت إذا اتكأت، كما قال الشاعر:

قــالَتْ لَــهُ وارْتَفَقَــتْ ألا فَتـى يَسُــوقُ بـالقَوْمِ غَـزَالاتِ الضُّحَـى

أراد: واتكأت على مرفقها ، وقد ارتفق الرجل: إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم، وهو مرتفق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :

نـامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْـلَ مُرْتَفِقًــا كَأنَّ عَيْني فيها الصَّــابُ مَذْبُــوحُ

وأما من الرفق فإنه يقال: قد ارتفقت بك مرتفقا، وكان مجاهد يتأول قوله: ( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) يعني المجتمع.

* ذكر الرواية بذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مُرْتَفَقا ) : أي مجتمعا.

حدثني يعقوب، قال: ثنا معتمر، عن ليث، عن مجاهد ( وساءت مُرْتَفَقا ) قال: مجتمعا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله ، ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب، وإنما الارتفاق : افتعال، إما من المرفق، وإما من الرفق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ( 30 )

يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملا فأطاع الله، واتبع أمره ونهيه، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.

فإن قال قائل: وأين خَبَر « إن » الأولى؟ قيل: جائز أن يكون خبرها قوله: ( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ) فيكون معنى الكلام:

إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا، فترك الكلام الأوّل، واعتمد على الثاني بنية التكرير، كما قيل : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ بمعنى: عن قتال فيه على التكرير، وكما قال الشاعر:

إنَّ الخَلِيفَـــةَ إنَّ اللـــهَ سَــرْبَلَهُ سِـرْبالَ مُلْـك بِـهِ تُرْجَـى الخَـواتِيمُ

ويروى: تُرْخَى ، وجائز أن يكون: ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) جزاء ، فيكون معنى الكلام: إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره، فتضمر الفاء في قوله « إنا » ، وجائز أن يكون خبرها: أولئك لهم جنات عدن، فيكون معنى الكلام: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم جنات عدن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ( 31 )

يقول تعالى ذكره: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتُ عدن، يعني بساتين إقامة في الآخرة ، ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) يقول: تجري من دونهم ومن بين أيديهم الأنهار ،

وقال جلّ ثناؤه: من تحتهم ، ومعناه: من دونهم وبين أيديهم، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ ) يقول: يلبسون فيها من الحلي أساور من ذهب، والأساور: جمع إسوار.

وقوله: ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ )

والسندس: جمع واحدها سندسة، وهي ما رقّ من الديباج ، والإستبرق: ما غلظ منه وثخُن ، وقيل: إن الإستبرق: هو الحرير ، ومنه قول المُرقش:

تَــرَهُنَّ يَلْبَسْــنَ المَشــاعِرَ مَـرَّةٌ وإسْــتَبْرَقَ الدّيبـاجِ طَـوْرًا لِباسُـها

يعني: وغليظ الديباج.

وقوله: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) يقول: متكئين في جنات عدن على الأرائك، وهي السرر في الحِجال، واحدتها: أريكة ، ومنه قول الشاعر:

خُـدُودا جَـفَتْ فـي السَّيْرِ حتى كأنَّما يُبًاشــرن بــالمَعْزاءِ مَسّ الأرَائـك

ومنه قول الأعشي:

بيـنَ الّـرَواق وجـانِبِ مِـن سِـتْرها مِنْهــا وبيــن أرِيكَــةِ الأنْضَـادِ

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( عَلَى الأرَائِكِ ) قال: هي الحجال. قال معمر، وقال غيره: السرر في الحجال.

وقوله: ( نِعْمَ الثَّوَابُ ) يقول: نعم الثواب جنات عدن، وما وصف جلّ ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلموا الصالحات ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) يقول: وحسنت هذه الأرائك في هذه الجنان التي وصف تعالى ذكره في هذه الآية متكأ.وقال جلّ ثناؤه: ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) فأنث الفعل بمعنى: وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا، ولو ذكر لتذكير المرتفق كان صوابا، لأن نعم وبئس إنما تدخلهما العرب في الكلام لتدلا على المدح والذم لا للفعل، فلذلك تذكرهما مع المؤنث، وتوحِّدهما مع الاثنين والجماعة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( 32 ) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ( 33 ) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ( 34 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ( مَثَلا ) مثل ( رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) أي جعلنا له بستانين من كروم ( وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) يقول: وأطفنا هذين البستانين بنخل. وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) يقول: وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا ، وقوله: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ) يقول: كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع. وقال: كلتا الجنتين، ثم قال: آتت، فوحَّد الخبر، لأن كلتا لا يفرد واحدتها، وأصله كلّ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية ، قال بعض الرُّجاز في ذلك:

فِـي كِـلْتَ رِجْلَيْهَـا سُـلامي وَاحـدَه كِلْتاهُمـــا مَقْرُونَـــةٌ بِزَائِـــدَهْ

يريد بكلت: كلتا، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد ، وقوله: ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) يقول: ولم تنقص من الأكل شيئا، بل آتت ذلك تاما كاملا ومنه قولهم: ظلم فلان فلانا حقَّه: إذا بخَسَهُ ونقصه، كما قال الشاعر:

تَظَّلَمَنِــي مـالي كَـذَا وَلَـوَى يَـدِي لَـوَى يَـدَهُ اللـهُ الَّـذِي هُـوَ غالِبُـهْ

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) : أي لم تنقص، منه شيئا.

وقوله: ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) يقول تعالى ذكره:

وسيَّلنا خلال هذين البستانين نهرا، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا. وقيل: ( وَفَجَّرْنَا ) فثقل الجيم منه، لأن التفجير في النهر كله، وذلك أنه يميد ماء فيُسيل بعضه بعضا.

وقوله: ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق: « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » بضم الثاء والميم. واختلف قارئو ذلك كذلك، فقال بعضهم: كان له ذهب وفضة، وقالوا: ذلك هو الثمر، لأنها أموال مثمرة ، يعني مكثرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) قال: ذهب وفضة، وفي قول الله عزّ وجل: ( بِثُمُرِهِ ) قال: هي أيضا ذهب وفضة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله ( ثَمَرٌ ) قال: ذهب وفضة. قال: وقوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ هي هي أيضا.

وقال آخرون: بل عُنِي به: المال الكثير من صنوف الأموال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج ، عن هارون، عن سعيد بن أبي عِروبة، عن قتادة، قال: قرأها ابن عباس: « وكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » بالضمّ، وقال: يعني أنواع المال.

حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس: « وكانَ لَهُ ثُمُرٌ » يقول: مال.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، في قوله: « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » يقول: من كلّ المال.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ قال: الثمر من المال كله يعني الثمر، وغيره من المال كله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: « الثُّمُر » المال كله، قال: وكلّ مال إذا اجتمع فهو ثُمُر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله.

وقال آخرون: بل عُنِي به الأصل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » الثمر الأصل ، قال وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ قال : بأصله ، وكأنّ الذين وجَّهوا معناها إلى أنها أنواع من المال، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر، كما يجمع الكتاب كتبا، والحمار حمرا ، وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء في هذه القراءة « ثُمُرٌ » بضم الثاء وسكون الميم، وهو يريد الضمّ فيها، غير أنه سكنها طلب التخفيف ، وقد يحتمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة، كما تجمع الخَشبة خَشَبا. وقرأ ذلك بعض المدنيين : ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم، بمعنى جمع الثمرة، كما تجمع الخشبة خشبا ، والقصبة قَصبا.

وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » بضمّ الثاء والميم لإجماع الحجة من القرّاء عليه وإن كانت جمع ثمار ، كما الكتب جمع كتاب.

ومعنى الكلام: ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ) منهما « ثُمُرٌ » بمعنى من جنتيه أنواع من الثمار وقد بين ذلك لمن وفق لفهمه، قوله: ( جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) ثم قال: وكان له من هذه الكروم والنخل والزرع ثمر.

وقوله: ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يقول عزّ وجلّ: فقال هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه:

( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) يقول: وأعزّ عشيرة ورَهْطا، كما قال عُيينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن سادات العرب، وأرباب الأموال، فنحّ عنا سلمان وخبَّابا وصُهيبا، احتقارا لهم، وتكبرا عليهم.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) وتلك والله أمنية الفاجر: كثرة المال، وعزّة النفر.