القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ( 62 )

يقول تعالى ذكره: ( فَلَمَّا جَاوَزَا ) موسى وفتاه مجمع البحرين، ( قال ) موسى ( لفتاه ) يوشع ( آتِنَا غَدَاءَنَا ) يقول: جئنا بغدائنا وأعطناه، وقال: آتنا غداءنا، كما يقال: أتى الغداء وأتيته، مثل ذهب وأذهبته، ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) يقول: لقد لقينا من سفرنا هذا عناء وتعبا ، وقال ذلك موسى، فيما ذُكر، بعد ما جاوز الصخرة، حين ألقي عليه الجوع ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ( 63 )

يقول تعالى ذكره: قال فتى موسى لموسى حين قال له: آتنا غداءنا لنطعم: أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت هنالك ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ ) يقول: وما أنساني الحوت إلا الشيطان ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) فأن في موضع نصب ردّا على الحوت، لأن معنى الكلام: وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان سبق الحوت إلى الفعل، وردّ عليه قوله ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان.

حدثني بذلك بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، حدثني العباس بن الوليد قال: سمعت محمد بن معقل، يحدّث عن أبيه، أن الصخرة التي أوى إليها موسى هي الصخرة التي دون نهر الذئب على الطريق ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) يعجب منه.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال: موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها، فوجد عندها خضرا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله : ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) فكان موسى لما اتخذ سبيله في البحر عجبا، يعجب من سرب الحوت.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال: عجب والله حوت كان يوكل منه أدهرا، أيّ شيء أعجب من حوت كان دهرا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيا حتى حشر في البحر.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: جعل الحوت لا يمسّ شيئا في البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، فجعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعجب من ذلك.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الحسن بن عطية، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال: يعني كان سرب الحوت في البحر لموسى عجبا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ( 64 ) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ( 65 )

يقول تعالى ذكره: ف ( قال ) موسى لفتاه ( ذلك ) يعني بذلك: نسيانك الحوت ( مَا كُنَّا نَبْغِ ) يقول: الذي كنا نلتمس ونطلب، لأن موسى كان قيل له صاحبك الذي تريده حيث تنسى الحوت.

كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ) قال موسى: فذلك حين أخبرت أني واجد خضرا حيث يفوتني الحوت.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: حيث يفارقني الحوت.

وقوله: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) يقول: فرجعا في الطريق الذي كانا قطعاه ناكصين على أدبارهما يمصان آثارهما التي كانا سلكاهما.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، قوله: ( قَصصًا ) قال: اتبع موسى وفتاه أثر الحوت، فشقا البحر راجعين.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) قال: اتباع موسى وفتاه أثر الحوت بشقّ البحر، وموسى وفتاه راجعان وموسى يعجب من أثر الحوت في البحر، ودوراته التي غاب فيها.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: رجعا عودهما على بدئهما ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا )

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) : « أيْ يَقُصَّانِ آثارَهما حتى انْتَهَيا إلى مَدْخَلِ الحوُت » .

وقوله: ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ) يقول: وهبنا له رحمة من عندنا ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) يقول: وعلمناه من عندنا أيضا علما.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) : أي من عندنا علما. وكان سبب سفر موسى صلى الله عليه وسلم وفتاه، ولقائه هذا العالم الذي ذكره الله في هذا الموضع فيما ذكر ، أن موسى سئل: هل في الأرض ، أعلم منك؟ فقال: لا أو حدّثته نفسه بذلك، فكره ذلك له، فأراد الله تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.

وقال آخرون: بل كان سبب ذلك أنه سأل الله جلّ ثناؤه أن يدله على عالم يزداد من علمه إلى علم نفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس، قال « : سأل موسى ربه وقال: ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني ، قال: فأيّ عبادك أقضي؟ قال: الذي يقضي بالحقّ ولا يتبع الهوى ، قال: أي ربّ أيّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو تردّه عن رَدى ، قال: ربّ فهل في الأرض أحد؟ قال: نعم ، قال: رب، فمن هو؟ قال: الخضر ، قال: وأين أطلبه؟ »

قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى إليه موسى عند الصخرة، فسلم كلّ واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أريد أن تستصحبني، قال : إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ...إلى قوله: لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قال: فكان قول موسى في الجدار لنفسه، ولطلب شيء من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فأخبره بما قال أما السفينة وأما الغلام وأما الجدار، قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث ربك الخُطَّاف فجعل يستقي منه بمنقاره، فقيل لموسى: كم ترى هذا الخطاف رَزَأَ من هذا الماء؟ قال: ما أقلّ ما رَزَأ، قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء ، وكان موسى قد حدّث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، أو تكلم به، فمن ثَم أمِرَ أن يأتي الخضر.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خطب موسى بني إسرائيل، فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأوحى الله إليه أن يأتي هذا الرجل.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أنه قيل له: إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك ، فخرج هو وفتاه يوشع بن نون، وتزودا حوتا مملوحا، حتى إذا كانا حيث شاء الله، ردّ الله إلى الحوت روحه، فسرب في البحر، فاتخذ الحوت طريقه سربا في البحر، فسرب فيه فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ... حتى بلغ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا فكان موسى اتخذ سبيله في البحر عجبا، فكان يعجب من سرب الحوت.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: لما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل، راقد قد سجى عليه ثوبه فسلم عليه موسى فكشف الرجل عن وجهه الثوب وردّ عليه السلام وقال: من أنت؟ قال: موسى، قال: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أوَما كان لك في بني إسرائيل شغل؟ قال: بلى ، ولكني أمرت أن آتيك وأصحبك، قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، كما قصّ الله، حَتَّى بلغ فلما رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا صاحب موسى قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا يقول: نكرا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ .

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، فقال: كذب عدوّ الله. حدثنا أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ مُوسَى قامَ في بَنِي إسْرَائِيلَ خَطِيبا فَقِيلَ: أيُّ النَّاس أعْلَمُ؟ فَقالَ: أنا، فعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فقالَ: بَلَى عَبْدٌ لي عِنْدَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، فَقالَ: يا رَبّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ: تَأْخُذُ حُوتا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قالَ لِفَتاهُ: إذَا فَقَدْتَ هَذَا الحُوتَ فَأَخْبِرْنِي، فانْطَلَقَا يَمْشيانِ عَلى ساحِلِ البَحْرِ حتى أتَيا صَخْرَةً، فَرَقَدَ مُوسَى، فاضْطَرَبَ الحُوتُ فِي المِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي البَحْرِ، فأمْسَكَ اللهُ عَنْهُ جرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ للْحُوتِ سَرَبا وكانَ لَهُما عَجَبا ، ثُمَّ انْطَلَقا، فَلَمَّا كانَ حِينَ الغَدِ، قالَ مُوسَى لِفَتاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ، قال: وَلمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتى جاوَزَ حَيْثُ أمَرَهُ اللهُ قالَ: فَقالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قال: فقال: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) . »

قال: يَقُصَّانِ آثارَهما، قال: فآتيَا الصَّخْرَةَ، فإذَا رَجُلٌ نائمٌ مُسَجًى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقالَ: وأنَّي بأرْضِنَا السَّلامُ؟ فَقالَ: أنا مُوسَى، قال: مُوسَى بَنِي إسْرائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: يا مُوسَى، إنّي عَلى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله ؛ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لا تعْلَمُهُ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ من عِلْمِهِ عَلَّمَكَهُ لا أعْلَمُهُ، قالَ: فإنّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ، قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ، فانْطَلَقا يَمْشِيان عَلى السَّاحِل، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحُمِلَ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلى حَرْفِها فنَقَرَ، أو فَنَقَر فِي المَاءِ، فَقالَ الخَضِرُ لِمُوسَى: ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إلا مِقْدَارَ ما نَقَرَ أوْ نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ « . أبو جعفر الطبري يشكّ، وهو في كتابه نَقَر، قال: » فَبَيْنَما هُوَ إذْ لَمْ يَفْجَأهُ مُوسَى إلا وَهُوَ يَتِدُ وَتدًا أوْ يَنـزعُ تَخْتا مِنْها، فَقالَ لَهُ مُوسَى: حُمِلْنا بغَيرِ نَوْلٍ وتخْرِقُها لِتُغْرِقَ أهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ، قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، قالَ: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ، قالَ: وكانَتِ الأوَلى منْ مُوسَى نِسْيانا ، قالَ: ثُمَّ خَرَجا فانْطَلَقا يَمْشِيانِ، فَأبْصَرَا غُلاما يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأخَذَ برأْسه فَقَتَلَهُ، فَقالَ لَهُ مُوسَى : أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّهً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا . قالَ: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ، فَلَم يَجِدَا أحَدًا يُطْعِمُهُمْ ولا يَسْقِيهِمْ، فَوَجَدَا فِيها جِدَارًا يُرِيدُ أن يَنْقَضّ، فأقامَهُ بِيَدِهِ، قالَ: مَسَحَه بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَمْ يُضَيِّفُونا وَلمْ يُنـزلُونا، لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ، قالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَوَدِدْتُ أنَّهُ كانَ صَبَرَ حتى يَقُصَّ عَلَيْنا قَصَصهُم « . »

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، قال: جلست فأسْنَدَ ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس، إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب، أن موسى النبيّ الذي طلب العالم، إنما هو موسى بن ميشا ، قال سعيد ، قال ابن عباس: أنوف يقول هذا؟ قال سعيد: فقلت له نعم، أنا سمعت نوفا يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم، قال: كذب نوف ، ثم قال ابن عباس: حدثني أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ مُوسَى هُوَ نَبِي بَنِي إسْرَائِيلَ سألَ رَبَّهُ فَقالَ: أيْ رَبّ إنْ كانَ في عِبادِكَ أحَدٌ هُوَ أعْلَمُ مِنِّي فادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فقَالَ لَهُ : نَعَمْ فِي عِبادِي مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكانَهُ، وأذنَ لَهُ فَي لُقِيِّهِ ، فَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ فَتاه وَمَعَه ، حُوتٌ مَلِيحٌ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إذَا حَيِيَ هَذَا الحُوتُ فِي مَكان فصاحبُك هُنالكَ وَقَدْ أدْرَكْتَ حاجَتَكَ ، فخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ ذلكَ الحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسارَ حتى جَهدَهُ السَّيْرُ، وانْتَهَى إلى الصَّخْرَةِ وَإلى ذلكَ المَاءِ، ماء الحَياةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خَلَد. ولا يُقارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إلا حَييَ ، فَلَمَّا نـزلا وَمَسَّ الحُوتَ المَاءُ حَيِيَ، فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا ، فانْطَلَقا، فَلَمَّا جاوَزَا مُنْقَلَبَهُ قالَ مُوسَى: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ، قالَ الفَتى وَذَكَرَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قال ابن عباس: فظهر موسى على الصخرة حين انتهيا إليها، فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى، فردّ عليه العالم، ثم قال له: وما جاء بك؟ إن كان لك في قومك لشغل؟ قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشدا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، وكان رجلا يعلم علم الغيب قد علِّم ذلك، فقال موسى: بلى قال : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا : أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تُحط من علم الغيب بما أعلم قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا وإن رأيت ما يخالفني، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ وإن أنكرته حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، يتعرّضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرّت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمرّ بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما اطمأنا فيها، ولجت بهما مع أهلها، أخرج منقارا له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحا فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها. قال له موسى ورأى أمرا فظع به : أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ : أي ما تركت من عهدك وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ثم خرجا من السفينة، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فإذا غلمان يلعبون خلفها، فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه، ولا أثرى ولا أوضأ منه، فأخذه بيده، وأخذ حجرا، قال: فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله، قال: فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه، صبيّ صغير لا ذنب له قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي صغيرة بغير نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا : أي قد أعذرت في شأني فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فهدمه، ثم قعد يبنيه، فضجر موسى مما رآه يصنع من التكليف لما ليس عليه صبر، فقال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يضيفونا، ثم قعدت في غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ، وفي قراءة أبيّ بن كعب: كلّ سفينة صالحة، وإنما عبتها لأردّه عنها، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْـزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي : أي ما فعلته عن نفسي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنـز إلا علما. »

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن أبيه، عن عكرِمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى يذكر من حديث، وقد كان معه ، فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: شرب الفتى من الماء فخلِّد، فأخذه العالم فطابق به سفينة، ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنـزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أنـزل الله عليه أن وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكَّرهم إذ أنجاهم الله من آل فرعون، وذكَّرهم هلاك عدوّهم، وما استخلفهم الله في الأرض، وقال: كلم الله نبيكم تكليما، واصطفاني لنفسه، وأنـزل عليّ محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرءون التوراة، فلم يترك نعمة أنعمها الله عليهم إلا ذكرها، وعرّفها إياهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا فبعث الله جبرئيل إلى موسى عليهما السلام، فقال: إن الله يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن على شطّ البحر رجلا أعلم منك ، فقال ابن عباس: هو الخَضِر، فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى الله إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شطّ البحر حُوتا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شطّ البحر، فإذا نسيت الحوت وهَلك منك، فثَمَّ تجد العبد الصالح الذي تطلب ، فلما طال سفر موسى نبيّ الله ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سَرَبا، فأعجب ذلك موسى فرجع حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت يضرب في البحر، ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرُج بها عن الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، فجعل نبيّ الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخَضِر بها فسلم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض، ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال له الخضر: أصاحبُ بني إسرائيل؟ قال: نعم فرحب به، وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتك على أن تعلمني مما علمت رُشدا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قال: لا تطيق ذلك، قال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قال: فانطلق به وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبيِّن لك شأنه، فذلك قوله: أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فركبا في السفينة يريدان البرّ، فقام الخضر فخرق السفينة، فقال له موسى أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا .

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ذُكِر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل، فخطبهم فقال: أنتم خير أهل الأرض وأعلمه، قد أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر، وأنـزل عليكم التوراة ، قال: فقيل له: إن ها هنا رجلا هو أعلم منك ، قال: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، وتزوّدا سمكة مملوحة في مِكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا عالما يقال له الخضر ، فلما أتيا ذلك المكان، ردّ الله إلى الحوت روحه، فسرب له من الجسر حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا ، قال: ومضى موسى وفتاه ، يقول الله عز وجل: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ... ثم تلا إلى قوله: ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) فلقيا رجلا عالما يقال له الخَضِر، فذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّمَا سُمِيَ الخَضِرُ خَضِرًا لأنهُ قَعَدَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّتْ بِهِ خَضراء » .

حدثني العباس بن الوليد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأوزاعيّ، قال: ثنا الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حِصْن الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خَضِر، فمرّ بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « بَيْنا مُوسَى في مَلأ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: تَعْلَمُ مَكانَ أحَدٍ أعْلَمُ مِنْكَ؟ قال مُوسَى: لا فَأوْحَى اللهُ إلى مُوسَى: بَلى عَبْدُنا خَضِرٌ، فَسأَل مُوسَى السَّبِيلَ إلى لُقِيِّه، فجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً، وقِيلَ لَهُ: إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإنَّكَ سَتَلْقاهُ، فكانَ مُوسَى يَتْبَعُ أثَرَ الحُوتِ في البحُرِ، فَقال فتَى مُوسَى لِمُوسَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ، قالَ مُوسَى: ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فارْتَدَّا على آثارِهِما قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدَنا خَضِرًا، وكانَ مِنْ شأْنِهما ما قَصَّ اللهُ في كِتابِهِ » .

حدثني محمد بن مرزوق، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا عبد الله بن عمر النميري، عن يونس بن يزيد، قال: سمعت الزهريّ يحدّث، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، ثم ذكر نحو حديث العباس، عن أُبيّ بن كعب، عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ( 66 ) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 67 )

يقول تعالى ذكره : قال موسى للعالم: ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي ) من العلم الذي علمك الله ما هو رشاد إلى الحقّ، ودليل على هدى؟

( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا )

يقول تعالى ذكره: قال العالم: إنك لن تطيق الصبر معي، وذلك أني أعمل بباطن علم علَّمنيه الله، ولا علم لك إلا بظاهر من الأمور، فلا تصبر على ما ترى من الأفعال، كما ذكرنا من الخبر عن ابن عباس قَبلُ من أنه كان رجلا يعمل على الغيب قد علم ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ( 68 ) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ( 69 )

يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالم لموسى: وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها، وتقيم معي عليها، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطئ بالظاهر الذي عندك، وبمبلغ علمك، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها، لأنها تبتدئ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة، لا علم لك بالحادث عنها، لأنها غيب، ولا تحيط بعلم الغيب خبرا يقول علما ، قال: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ) على ما أرى منك وإن كان خلافا لما هو عندي صواب ( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) يقول: وأنتهي إلى ما تأمرني، وإن لم يكن موافقا هواي.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ( 70 )

يقول تبارك وتعالى: قال العالم لموسى: فإن اتبعتني الآن فلا تسألني عن شيء أعمله مما تستنكره، فإني قد أعلمتك أني أعمل العمل على الغيب الذي لا تحيط به علما ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) يقول: حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي أفعلها التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها، وأبتدئك الخبر عنها.

كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) يعني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ( 71 )

يقول تعالى ذكره: فانطلق موسى والعالم يسيران يطلبان سفينة يركبانها، حتى إذا أصاباها ركبا في السفينة، فلما ركباها، خرق العالم السفينة، قال له موسى: أخرقتها بعد ما لَجَجنا في البحر ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول: لقد جئت شيئا عظيما، وفعلت فعلا مُنكرا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) : أي عجبا، إن قوما لججوا سفينتهم فخرقتها، كأحوج ما نكون إليها، ولكن علم من ذلك ما لم يعلم نبيّ الله موسى ذلك من علم الله الذي آتاه، وقد قال لنبيّ الله موسى عليه السلام: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول: نُكرا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) قال: منكرا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله ، والإمر: في كلام العرب: الداهية ، ومنه قول الراجز:

قَــدْ لَقِــيَ الأقْـرَانُ مِنِّـي نُكْـرًا دَاهِيَــــةٌ دَهْيـــاءَ إدَّا إمـــرًا

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: أصله: كل شيء شديد كثير، ويقول منه: قيل للقوم: قد أمروا: إذا كثروا واشتدّ أمرهم ، قال: والمصدر منه : الأمَرَ، والاسم: الإمْر.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) بالتاء في لتُغرِق، ونصب الأهل، بمعنى: لتُغرِق أنت أيها الرجل أهل هذه السفينة بالخرق الذي خرقت فيها. وقرأه عامة قرّاء الكوفة: ( لِيَغْرَقَ ( بالياء أهلها بالرفع، على أن الأهل هم الذين يغرقون.

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، متفقتا المعنى وإن اختلفت ألفاظهما، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب.

وإنما قلنا: هما متفقتا المعنى، لأنه معلوم أن إنكار موسى على العالم خرق السفينة إنما كان لأنه كان عنده أن ذلك سبب لغرق أهلها إذا أحدث مثل ذلك الحدث فيها فلا خفاء على أحد معنى ذلك قرأ بالتاء ونصب الأهل، أو بالياء ورفع الأهل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 72 ) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ( 73 )

يقول عزّ ذكره: ( قَالَ ) العالم لموسى إذ قال له ما قال أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا على ما ترى من أفعالي ، لأنك ترى ما لم تُحِط به خبرا ، قال له موسى: ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: كان هذا الكلام من موسى عليه السلام للعالِم معارضة، لا أنه كان نسي عهده، وما كان تقدّم فيه حين استصحبه بقوله: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .

ذكر من قال ذلك: حُدثت عن يحيى بن زياد، قال: ثني يحيى بن المهلب، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن أبيّ بن كعب الأنصاريّ في قوله: ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) قال: لم ينس، ولكنها من معاريض الكلام.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تؤاخذني بتركي عهدك، ووجه أن معنى النسيان: الترك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال : ثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) : أي بما تركت من عهدك.

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذه بما نسي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن ذلك معناه من الخبر، وذلك ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا ابن عيينة . عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) قال: كانَتِ الأوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيانا.

وقوله: ( وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) يقول: لا تُغْشِني من أمري عسرا، يقول: لا تضيق علي أمري معك، وصحبتي إياك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ( 74 )

يقول تعالى ذكره: ( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ ) العالم، ف ( قال ) له موسى: ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة: ( أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً ) وقالوا معنى ذلك: المطهرة التي لا ذنب لها، ولم تذنب قطّ لصغرها ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: ( نَفْسا زَكِيَّةً ) بمعنى: التائبة المغفور لها ذنوبها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) والزكية : التائبة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) قال: الزكية: التائبة.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر « أقتلت نفسا زاكية » قال: قال الحسن: تائبة، هكذا في حديث الحسن وشهر زاكية.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( نَفْسًا زَكِيَّةً ) قال: تائبة.

* ذكر من قال: معناها المسلمة التي لا ذنب لها : حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، أنه سمع سعيد بن جبير يقول: وجد خضر غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، قال: وأخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي قال: اسم الغلام الذي قتله الخضر: جيسور ( قال أقتلت نفسا زاكية ) قال: مسلمة. قال: وقرأها ابن عباس: ( زكية ) كقولك: زكيا.

وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة يقول: معنى الزكية والزاكية واحد، كالقاسية والقسية، ويقول: هي التي لم تجن شيئا، وذلك هو الصواب عندي لأني لم أجد فرقا بينهما في شيء من كلام العرب.

فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب، لأنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد.

وقوله: ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) يقول: بغير قصاص بنفس قتلت، فلزمها القتل قودا بها ، وقوله: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) يقول: لقد جئت بشيء منكر، وفعلت فعلا غير معروف.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) والنُّكْرُ أشدّ من الإمر.