القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ( 77 )

يقول تعالى ذكره ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى ) نبينا ( مُوسَى ) إذ تابعنا له الحجج على فرعون، فأبى أن يستجيب لأمر ربه، وطغى وتمادى في طغيانه ( أنْ أسْرِ ) ليلا ( بِعِبادِي ) يعني بعبادي من بني إسرائيل،

( فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ) يقول: فاتخذ لهم في البحر طريقا يابسا، واليَبَس واليَبْس: يجمع أيباس، تقول: وقفوا في أيباس من الأرض، واليَبْس المخفف: يجمع يبوس.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( يَبسا ) قال: يابسا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد، مثله.

وأما قوله ( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) فإنه يعني: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك، ولا تخشى غرقا من بين يديك ووَحَلا.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله ( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) يقول : ( لا تخافُ ) من آل فرعون ( دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) من البَحْرِ غرقا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) يقول: لا تخاف أن يدركك فرعون من بعدك ولا تخشى الغرق أمامك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيْج: قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا، وهذا البحر قد غشينا، فأنـزل الله ( لا تَخَافُ دَرَكًا ) أصحاب فرعون ( ولا تَخْشَى ) من البحر وحلا.

حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن بعض أصحابه، في قوله ( لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ) قال: الوَحَل.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( لا تَخَافُ دَرَكًا ) فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة: ( لا تَخَافُ دَرَكًا ) على الاستئناف بلا كما قال: وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا فرفع، وأكثر ما جاء في هذا الأمر الجواب مع « لا » . وقرأ ذلك الأعمش وحمزة ( لا تَخَفْ دَرَكا ) فجزما لا تخاف على الجزاء، ورفعا ( وَلا تَخْشَى ) على الاستئناف، كما قال جلّ ثناؤه يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ فاستأنف بثم، ولو نوى بقوله: ( وَلا تَخْشَى ) الجزم، وفيه الياء، كان جائزا، كما قال الراجز:

هُزّي إلَيْكِ الجِذْعَ يجْنِيكِ الجَنى

وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها ( لا تخافُ ) على وجه الرفع، لأن ذلك أفصح اللغتين، وإن كانت الأخرى جائزة، وكان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله ( لا تَخَافُ دَرَكًا ) اضرب لهم طريقا لا تخاف فيه دركا، قال: وحذف فيه، كما تقول: زيد أكرمت، وأنت تريد أكرمته، وكما تقول وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا أي لا تجزى فيه، وأما نحويو الكوفة فإنهم ينكرون حذف فيه إلا في المواقيت، لأنه يصلح فيها أن يقال: قمت اليوم وفي اليوم، ولا يجيزون ذلك في الأسماء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ( 78 ) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( 79 )

يقول تعالى ذكره: فسرى موسى ببني إسرائيل إذ أوحينا إليه أن أسر بهم، فأتبعهم فرعون بجنوده حين قطعوا البحر، فغشي فرعون وجنده في اليم ما غشيهم، فغرقوا جميعا ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) يقول جلّ ثناؤه: وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل، وأخذ بهم على غير استقامة، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار، بأمرهم بالكفر بالله، وتكذيب رسله ( وَمَا هَدَى ) يقول: وما سلك بهم الطريق المستقيم، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى، والتصديق به، فأطاعوه، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك، ولم يهتدوا باتباعهم إياه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ( 80 ) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ( 81 )

يقول تعالى ذكره: فلما نجا موسى بقومه من البحر، وغشي فرعون قومه من اليم ما غشيهم، قلنا لقوم موسى ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ) فِرْعَوْنَ ( وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) وقد ذكرنا كيف كانت مواعدة الله موسى وقومه جانب الطور الأيمن، وقد بيَّنا المنّ والسلوى باختلاف المختلفين فيهما، وذكرنا الشواهد على الصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) فكانت عامة قرّاء المدينة والبصرة يقرءونه ( قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ ) بالنون والألف وسائر الحروف الأخرى معه كذلك، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ( قَدْ أنْجَيْتُكُمْ ) بالتاء، وكذلك سائر الحروف الأخر، إلى قوله ( وَنـزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) فإنهم وافقوا الآخرين في ذلك وقرءوه بالنون والألف.

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان باتفاق المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ ذلك فمصيب.

وقوله ( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) يقول تعالى ذكره لهم: كلوا يا بني إسرائيل من شهيات رزقنا الذي رزقناكم، وحلاله الذي طيبناه لكم ( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) يقول: ولا تعتدوا فيه، ولا يظلم فيه بعضكم بعضا. كما حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله: ( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ) يقول: ولا تظلموا.

وقوله ( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) يقول: فينـزل عليكم عقوبتي.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله ( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) يقول: فينـزل عليكم غضبي.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة ( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ ) بكسر الحاء وَمَنْ يَحْلِلْ بكسر اللام، ووجهوا معناه إلى: فيجب عليكم غضبي، وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة ( فَيَحُلَّ عَلَيْكُم ) بضم الحاء، ووجهوا تأويله إلى ما ذكرنا عن قَتادة من أنه فيقع وينـزل عليكم غضبي.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، وقد حذّر الله الذين قيل لهم هذا القول من بني إسرائيل وقوع بأسه بهم ونـزوله بمعصيتهم إياه إن هم عصوه، وخوّفهم وجوبه لهم، فسواء قرئ ذلك بالوقوع أو بالوجوب، لأنهم كانوا قد خوّفوا المعنيين كليهما.

« 81 »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ( 81 ) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ( 82 )

يقول تعالى ذكره: ومن يجب عليه غضبي، فينـزل به، فقد هوى، يقول فقد تردى فشقي. كما حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَقَدْ هَوَى ) يقول: فقد شقي.

وقوله ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) يقول: وإني لذو غفر لمن تاب من شركه، فرجع منه إلى الإيمان لي ( وآمَنَ ) يقول: وأخلص لي الألوهة، ولم يشرك في عبادته إياي غيري. ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول: وأدّى فرائضي التي افترضتها عليه، واجتنب معاصي ( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول: ثم لزم ذلك فاستقام ولم يضيع شيئا منه.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الشرك ( وآمَنَ ) يقول: وحد الله ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) يقول: أدى فرائضي.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من ذنبه ( وآمَنَ ) به ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) فيما بينه وبين الله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الشرك ( وآمَنَ ) يقول: وأخلص لله، وعمل في إخلاصه.

واختلفوا في معنى قوله ( ثُمَّ اهْتَدَى ) فقال بعضهم: معناه: لم يشكك في إيمانه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول: لم يشكُك.

وقال آخرون: معنى ذلك: ثم لزم الإيمان والعمل الصالح.

* ذكر قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( ثُمَّ اهْتَدَى ) يقول: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم استقام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس ( ثُمَّ اهْتَدَى ) قال: أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقال آخرون: بل معناه: أصاب العمل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال: أصاب العمل.

وقال آخرون: معنى ذلك: عرف أمر مُثيبه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن الكلبي ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ) من الذنب ( وآمَنَ ) من الشرك ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) أدّى ما افترضت عليه ( ثُمَّ اهْتَدَى ) عرف مثيبه إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

وقال آخرون بما حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا عمر بن شاكر، قال: سمعت ثابتا البناني يقول في قوله ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) قال: إلى ولاية أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: إنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك، من أجل أن الاهتداء هو الاستقامة على هدى، ولا معنى للاستقامة عليه إلا وقد جمعه الإيمان والعمل الصالح والتوبة، فمن فعل ذلك وثبت عليه فلا شكّ في اهتدائه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ( 83 ) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( 84 )

يقول تعالى ذكره: ( وَمَا أَعْجَلَكَ ) وأي شيء أعجلك ( عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ) فتقدمتهم وخلفتهم وراءك، ولم تكن معهم

( قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي ) يقول: قومي على أثري يلحقون بي ( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) يقول وعجلت أنا فسبقتهم ربّ كيما ترضى عني.

وإنما قال الله تعالى ذكره لموسى: ما أعجلك عن قومك، لأنه جلّ ثناؤه، فيما بلغنا، حين نجاه وبني إسرائيل من فرعون وقومه، وقطع بهم البحر، وعدهم جانب الطور الأيمن، فتعجل موسى إلى ربه، وأقام هارون في بني إسرائيل يسير بهم على أثر موسى.

كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: وعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومه ونجاه وقومه، ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فتمّ ميقات ربه أربعين ليلة، تلقاه فيها بما شاء، فاستخلف موسى هارون في بني إسرائيل، ومعه السامريّ، يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به، فلما كلم الله موسى، قال له ( مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) .

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) قال: لأرضيك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ( 85 ) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ( 86 )

يقول الله تعالى ذكره قال الله لموسى: فإنا يا موسى قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل، وذلك كان فتنتهم من بعد موسى.

ويعني بقوله ( مِنْ بَعْدِكَ ) من بعد فراقك إياهم يقول الله تبارك وتعالى ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) وكان إضلال السامريّ إياهم دعاءه إياهم إلى عبادة العجل.

وقوله ( فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ ) يقول: فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد انقضاء الأربعين ليلة ( غَضْبَانَ أَسِفًا ) متغيظا على قومه، حزينا لما أحدثوه بعده من الكفر بالله.

كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( غَضْبَانَ أَسِفًا ) يقول: حزينا، وقال في الزخرف فَلَمَّا آسَفُونَا يقول: أغضبونا، والأسف على وجهين: الغضب، والحزن.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي ( غَضْبَانَ أَسِفًا ) يقول: حزينا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ) : أي حزينا على ما صنع قومه من بعده.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( أسِفا ) قال: حزينا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله ، وقوله ( قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ) يقول: ألم يعدكم ربكم أنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، ويعدكم جانب الطور الأيمن، وينـزل عليكم المنّ والسلوى، فذلك وعد الله الحسن بني إسرائيل الذي قال لهم موسى: ألم يعدكموه ربكم ، وقوله ( أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) يقول: أفطال عليكم العهد بي، وبجميل نعم الله عندكم، وأياديه لديكم، أم أردتم أن يحلّ عليكم غضب من ربكم: يقول: أم أردتم أن يجب عليكم غضب من ربكم فتستحقوه بعبادتكم العجل، وكفركم بالله، فأخلفتم موعدي. وكان إخلافهم موعده، عكوفهم على العجل، وتركهم السير على أثر موسى للموعد الذي كان الله وعدهم، وقولهم لهارون إذ نهاهم عن عبادة العجل، ودعاهم إلى السير معه في أثر موسى ( لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ( 87 )

يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى: ما أخلفنا موعدك، يعنون بموعده: عهده الذي كان عهده إليهم.

كما حدثني محمد بن عمرو، ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله مَوْعِدِي قال: عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيَّناه قبل.

وقوله ( بِملْكِنا ) يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ، وقالوا: إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة.

وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة بِمَلْكِنَا بفتح الميم، وقرأته عامة قرّاء الكوفة ( بِمُلْكِنا ( بضم الميم، وقرأه بعض أهل البصرة ( بِمِلْكِنا ) بالكسر، فأما الفتح والضمّ فهما بمعنى واحد، وهما بقدرتنا وطاقتنا، غير أن أحدهما مصدر، والآخر اسم، وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك.

واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما أخلفنا موعدك بأمرنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا يقول: بأمرنا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( بِمَلْكِنا ) قال: بأمرنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقال آخرون: معناه: بطاقتنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا : أي بطاقتنا.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا يقول: بطاقتنا.

وقال آخرون: معناه: ما أخلفنا موعدك بهوانا، ولكنا لم نملك أنفسنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا قال: يقول بهوانا، قال: ولكنه جاءت ثلاثة، قال ومعهم حلي استعاروه من آل فرعون، وثياب.

وقال أبو جعفر: وكلّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى، لأن من لم يملك نفسه، لغلبة هواه على ما أمر، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول: فعل فلان هذا الأمر، وهو لا يملك نفسه وفعله، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه ، فإذا كان ذلك كذلك، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارئ، وذلك أن من كسر الميم من الملك، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه، وجعله من قول القائل: هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات، وأن من فتحها، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل: ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة، كما يقال: غلبت فلانا أغلبه غَلبا وغَلَبة، وأن من ضمها فإنه وجَّه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا، أي ونحن نقدر أن نمتنع منه، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه، وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضمّ، فقال: أيّ ملك كان يومئذ لبني إسرائيل، وإنما كانوا بمصر مستضعفين، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا، وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك، وإنما قصدوا إلى أن معناه: ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردها عما أتت، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد.

وقوله وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ يقول: ولكنا حملنا أثقالا وأحمالا من زينة القوم، يعنون من حلي آل فرعون، وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلا من مصر بأمر الله إياه بذلك، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم، وقال: إن الله مغنمكم ذلك، ففعلوا، واستعاروا من حليّ نسائهم وأمتعتهم، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فهو ما كان مع بني إسرائيل من حلي آل فرعون، يقول: خطئونا بما أصبنا من حليّ عدوّنا.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( أَوْزَارًا قال: أثقالا وقوله مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قال: هي الحليّ التي استعاروا من آل فرعون، فهي الأثقال.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا قال: أثقالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قال: حليهم.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ يقول: من حليّ القبط.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ قال: الحليّ الذي استعاروه والثياب ليست من الذنوب في شيء، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها، فليست من الذنوب في شيء.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأ عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين ( حُمِّلْنا ) بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض المكيين ( حَمَلْنا ) بتخفيف الحاء والميم وفتحهما، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد.

قال أبو جعفر: والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، لأن القوم حملوا، وأن موسى قد أمرهم بحمله، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.

وقوله فَقَذَفْنَاهَا يقول: فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة ( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ) يقول: فكما قذفنا نحن تلك الأثقال، فكذلك ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله فَقَذَفْنَاهَا قال: فألقيناها فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ : كذلك صنع.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد فَقَذَفْنَاهَا قال: فألقيناها فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فكذلك صنع.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة فَقَذَفْنَاهَا : أي فنبذناها.