القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ( 126 )

وقوله ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) يقول تعالى ذكره، قال الله حينئذ للقائل له: ( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) فعلت ذلك بك، فحشرتك أعمى كما أتتك آياتي، وهي حججه وأدلته وبيانه الذي بيَّنه في كتابه، فنسيتها: يقول: فتركتها وأعرضت عنها، ولم تؤمن بها، ولم تعمل. وعنى بقوله ( كَذَلِكَ أَتَتْكَ ) هكذا أتتك. وقوله: ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) يقول: فكما نسيت آياتنا في الدنيا، فتركتها وأعرضت عنها، فكذلك اليوم ننساك، فنتركك في النار.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) فقال بعضهم بمثل الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال، ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، في قوله ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال: في النار.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) قال: فتركتها ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) وكذلك اليوم تترك في النار.

ورُوي عن قتادة في ذلك ما حدثني بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال: نسي من الخير، ولم ينس من الشرّ. وهذا القول الذي قاله قَتادة قريب المعنى مما قاله أبو صالح ومجاهد، لأن تركه إياهم في النار أعظم الشرّ لهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( 127 )

يقول تعالى ذكره: وهكذا نجزي: أي نثيب من أسرف فعصى ربه، ولم يؤمن برسله وكتبه، فنجعل له معيشة ضنكا في البرزخ كما قد بيَّنا قبل ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) يقول جلّ ثناؤه: ولعذاب في الآخرة أشدّ لهم مما وعدتهم في القبر من المعيشة الضنك وأبقى يقول: وأدوم منها، لأنه إلى غير أمد ولا نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ( 128 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفلم يهد لقومك المشركين بالله، ومعنى يهد: يبين. يقول: أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي سلكت قبلها التي يمشون في مساكنهم ودورهم، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا، ويتعظوا بهم، ويعتبروا، وينيبوا إلى الإذعان، ويؤمنوا بالله ورسوله، خوفا أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) لأن قريشا كانت تتجر إلى الشأم، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم، فلذلك قال لهم: أفلم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نـزول مثله لهم، وهم على مثل فعلهم مقيمون ، وكان الفرّاء يقول: لا يجوز في كم في هذا الموضع أن يكون إلا نصبا بأهلكنا، وكان يقول: وهو وإن لم يكن إلا نصبا، فإن جملة الكلام رفع بقوله ( يَهْدِ لَهُمْ ) ويقول: ذلك مثل قول القائل: قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام، وكقوله سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ويزعم أن فيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام، قال: ولو قلت: سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة، وليس الذي قال الفرّاء من ذلك، كما قال: لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة، ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو: أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مَنْ أهْلَكْنا ) فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله، هي في موضع رفع بقوله ( يَهْدِ لَهُمْ ) وهو أظهر وجوهه، وأصحّ معانيه، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب على بعد.

وقوله ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) يقول تعالى ذكره: إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذّبة رسلها قبلهم، وحلول مثلاتنا بهم لكفرهم بالله ( لآيات ) يقول: لدلالات وعبرا وعظات ( لأولي النهى ) يعني: لأهل الحجى والعقول، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لأولِي النُّهَى ) يقول: التقى.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) أهل الورع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ( 129 ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ( 130 )

يقول تعالى ذكره ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) يا محمد أن كلّ من قضى له أجلا فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله ( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) يقول: ووقت مسمى عند ربك سماه لهم في أمّ الكتاب وخطه فيه، هم بالغوه ومستوفوه ( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول: للازمهم الهلاك عاجلا وهو مصدر من قول القائل: لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما: إذا لم يفارقه، وقدّم قوله ( لَكَانَ لِزَامًا ) قبل قوله ( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) ومعنى الكلام: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما، فاصبر على ما يقولون.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) الأجل المسمى: الدنيا.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) وهذه من مقاديم الكلام، يقول: لولا كلمة سبقت من ربك إلى .

أجل مسمى كان لزاما، والأجل المسمى، الساعة، لأن الله تعالى يقول بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) قال: هذا مقدّم ومؤخر، ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( لَكَانَ لِزَامًا ) فقال بعضهم: معناه: لكان موتا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول: موتا.

وقال آخرون: معناه لكان قتلا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ( لَكَانَ لِزَامًا ) واللزوم: القتل.

وقوله ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه: فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من قومك لك إنك ساحر، وإنك مجنون وشاعر ونحو ذلك من القول ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) يقول: وصل بثنائك على ربك، وقال: بحمد ربك، والمعنى: بحمدك ربك، كما تقول: أعجبني ضرب زيد، والمعنى: ضربي زيدا، وقوله: ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) وذلك صلاة الصبح ( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) وهي العصر ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) وهي ساعات الليل، واحدها: إنى، على تقدير حمل، ومنه قول المنخل السعدي:

حُـلْوٌ وَمُـرّ كَـعطْفِ القِـدْحِ مِرَّتُـهُ فِـي كُـلّ إنـي قَضَـاهُ اللَّيْـلُ يَنْتَعِلُ

ويعني بقوله ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) صلاة العشاء الآخرة، لأنها تصلى بعد مضيّ آناء من الليل. وقوله ( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) : يعني صلاة الظهر والمغرب، وقيل: أطراف النهار، والمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرتا، لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول، وفي أوّل طرف النهار الآخر، فهي في طرفين منه، والطرف الثالث: غروب الشمس، وعند ذلك تصلى المغرب، فلذلك قيل أطراف، وقد يحمل أن يقال: أريد به طرفا النهار. وقيل: أطراف، كما قيل صَغَتْ قُلُوبُكُمَا فجمع، والمراد: قلبان، فيكون ذلك أول طرف النهار الآخر، وآخر طرفه الأول .

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن ابن أبي زيد، عن ابن عباس ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) قال: الصلاة المكتوبة.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى القمر ليلة البدر فقال: « إنَّكُمْ راَءُونَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ هَذَا، لا تُضَامُونَ فِي رُؤيته، فإن اسْتَطَعْتُم أنْ لا تُغْلَبْوا عَلى صَلاةٍ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا » ثم تلا ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) « . »

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) قال ابن جريج: العصر، وأطراف النهار قال: المكتوبة.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة في قوله ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) قال: هي صلاة الفجر ( وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) قال: صلاة العصر ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال: صلاة المغرب والعشاء ( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) قال: صلاة الظهر.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) قال: من آناء الليل: العتمة، وأطراف النهار: المغرب والصبح ، ونصب قوله ( وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ) عطفا على قوله ( قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ) لأن معنى ذلك: فسبح بحمد ربك آخر الليل، وأطراف النهار.

وبنحو الذي قلنا في معنى ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال: المصلى من الليل كله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن قرأ ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ ) قال: من أوّله، وأوسطه، وآخره.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله ( وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ) قال: آناء الليل: جوف الليل.

وقوله ( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) يقول: كي ترضى.

وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق ( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) بفتح التاء. وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك ( لَعَلَّك تُرْضَى ) بضم التاء، ورُوي ذلك عن أبي عبد الرحمن السلمي، وكأن الذين قرءوا ذلك بالفتح، ذهبوا إلى معنى: إن الله يعطيك، حتى ترضى عطيَّته وثوابه إياك، وكذلك تأوّله أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) قال: الثواب، ترضى بما يثيبك الله على ذلك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج ( لَعَلَّكَ تَرْضَى ) قال: بما تعطى، وكأن الذين قرءوا ذلك بالضم، وجهوا معنى الكلام إلى لعل الله يرضيك من عبادتك إياه، وطاعتك له. والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، وهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، متفقتا المعنى، غير مختلفتيه، وذلك أن الله تعالى ذكره إذا أرضاه، فلا شكّ أنه يرضى، وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله، فكل واحدة منهما تدلّ على معنى الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( 131 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تنظر إلى ما جعلنا لضرباء هؤلاء المعرضين عن آيات ربهم وأشكالهم، متعة في حياتهم الدنيا، يتمتعون بها، من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) يقول: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك، ونبتليهم، فإن ذلك فانٍ زائل، وغُرور وخدع تضمحلّ ( وَرِزْقُ رَبِّكَ ) الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى، وهو ثوابه إياه ( خَيْرٌ ) لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا ( وأبْقَى ) يقول: وأدوم، لأنه لا انقطاع له ولا نفاد، وذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهوديّ يستسلف منه طعاما، فأبى أن يسلفه إلا برهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي رافع، قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي يستسلفه، فأبى أن يعطيه إلا برهن، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنـزل الله ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن يعقوب بن يزيد، عن أبي رافع، قال: نـزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف: فأرسلني إلى يهودي بالمدينة يستسلفه، فأتيته، فقال: لا أسلفه إلا برهن، فأخبرته بذلك، فقال: إنِّي لأمِينٌ فِي أهْلِ السَّماءِ وفي أهْلِ الأرْضِ، فاحْمِلْ دِرْعِي إليه، فنـزلت وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وقوله ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) إلى قوله وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ويعني بقوله: ( أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) رجالا منهم أشكالا وبزهرة الحياة الدنيا: زينة الحياة الدنيا.

كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) : أي زينة الحياة الدنيا، ونصب زهرة الحياة الدنيا على الخروج من الهاء التي في قوله به من ( مَتَّعْنَا بِهِ ) ، كما يقال: مررت به الشريف الكريم، فنصب الشريف الكريم على فعل مررت، وكذلك قوله ( إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) تنصب على الفعل بمعنى: متعناهم به زهرة في الحياة الدنيا وزينة لهم فيها، وذكر الفراء أن بعض بني فقعس أنشده:

أبَعْـد الَّـذِي بالسَّـفْح سَـفْحِ كُـوَاكِب رَهِينَــةَ رَمْسٍ مِـنْ تُـرَابٍ وَجَـنْدَلِ

فنصب رهينة على الفعل من قوله: « أبعد الذي بالسفح » ، وهذا لا شك أنه أضعف في العمل نصبا من قوله ( مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ) لأن العامل في الاسم وهو رهينة، حرف خافض لا ناصب.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: ( لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ) قال: لنبتليهم فيه ( وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) مما متَّعنا به هؤلاء من هذه الدنيا.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( 132 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وأمُرْ ) يا محمد ( أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) يقول: واصطبر على القيام بها، وأدائها بحدودها أنت ( لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) يقول: لا نسألك مالا بل نكلفك عملا ببدنك، نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا يقول ( نَحْنُ نَرْزُقُكَ ) نحن نعطيك المال ونكسبكه، ولا نسألكه ، وقوله: ( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) يقول: والعاقبة الصالحة من عمل كلّ عامل لأهل التقوى والخشية من الله دون من لا يخاف له عقابا، ولا يرجو له ثوابا.

وبنحو الذي قلنا في قوله ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، قال: كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره، فقال ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) ثم ينادي: الصلاة الصلاة، يرحمكم الله.

حدثنا أبو كريب قال: ثنا عثام، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان إذا رأى شيئا من الدنيا جاء إلى أهله، فقال الصلاة ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ) .

حدثنا العباس بن عبد العظيم، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: كان يبيت عند عمر بن الخطاب من غلمانه أنا ويرفأ، وكانت له من الليل ساعة يصليها، فإذا قلنا لا يقوم من الليل كان قياما .

، وكان إذا صلى من الليل ثم فرغ قرأ هذه الآية ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) .... الآية.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ( 133 )

يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هلا يأتينا محمد بآية من ربه، كما أتى قومه صالح بالناقة وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، يقول الله جلّ ثناؤه: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات فكفروا بها لما أتتهم كيف عجَّلنا لهم العذاب، وأنـزلنا بأسنا بكفرهم بها، يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) قال: التوراة والإنجيل.

حدثنا القاسم: قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى ) الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ( 134 )

يقول تعالى ذكره: ولو أنا أهلكنا هؤلاء المشركين الذين يكذبون بهذا القرآن من قبل أن ننـزله عليهم، ومن قبل أن نبعث داعيا يدعوهم إلى ما فرضنا عليهم فيه بعذاب ننـزله بهم بكفرهم بالله، لقالوا يوم القيامة، إذ وردوا علينا، فأردنا عقابهم: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك، فنتبع آياتك: يقول: فنتبع حجتك وأدلتك وما تنـزله عليه من أمرك ونهيك من قبل أن نذلّ بتعذيبك إيانا ونخزى به.

كما حدثني الفضل بن إسحاق، قال: ثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة، عن فضيل عن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخُدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يَحْتَجُّ عَلى اللهِ يَوْمَ القيامَةِ ثَلاثَةٌ: الهَالِكُ فِي الفَتْرَةِ، والمَغْلُوبُ على عَقْلِه، والصَّبيُّ الصَّغيرُ، فَيَقُولُ المَغْلُوبُ عَلى عَقْلِهِ: لَمْ تَجْعَلْ لي عَقْلا أنْتَفِع بِهِ، وَيَقُولُ الهَالِكُ فِي الفتْرَةِ: لَمْ يأْتِني رَسُولٌ وَلا نَبيٌّ، ولَوْ أتانِي لَكَ رَسُولٌ أوْ نَبيّ لكُنْتُ أطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ وقرأ: ( لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا ) ويَقُولُ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ: كَنْتُ صَغِيرًا لا أعْقِلُ قال: فَتُرْفَعُ لَهُمْ نارٌ وَيُقالُ لَهُمْ: رِدُوها قال: فَيرِدُها مَنْ كَانَ فِي علْمِ اللهِ أنَّه سَعيدٌ، وَيَتَلَكَّأُ عَنْها مَنْ كانَ فِي عِلْمِ اللهِ أنَّهُ شَقِيّ، فَيَقُولُ: إيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ بِرُسُلي لَوْ أتَتْكُمْ؟ » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ( 135 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: كلكم أيها المشركون بالله متربص يقول: منتظر لمن يكون الفلاح، وإلى ما يئول أمري وأمركم متوقف ينتظر دوائر الزمان، فتربصوا يقول: فترقبوا وانتظروا، فستعلمون من أهل الطريق المستقيم المعتدل الذي لا اعوجاج فيه إذا جاء أمر الله وقامت القيامة، أنحن أم أنتم؟ ومن اهتدى يقول: وستعلمون حينئذ من المهتدي الذي هو على سنن الطريق القاصد غير الجائر عن قصده منا ومنكم ، وفي « مَن » من قوله ( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ) ، والثانية من قوله ( وَمَنِ اهْتَدَى ) وجهان الرفع، وترك إعمال تعلمون فيهما، كما قال جلّ ثناؤه لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى والنصب على إعمال تعلمون فيهما، كما قال جلّ ثناؤه وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ .