القول في تأويل قوله عز ذكره : سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنـزلت إليك من كتبي، وفرضت عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.

وأما « الآية » ، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية وهي ها هنا. ما:-

حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة » ، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود.

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة » ، يقول: آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ .

قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم، مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودِ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [ بذلك ] ، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 211 )

قال أبو جعفر: يعني « بالنعم » جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من شرائع دينه.

ويعني بقوله: « ومن يُبدّل نعمة الله » ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه.

فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة.

وبمثل الذي قلنا في قوله: « ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته » ، قال جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته » ، قال: يكفر بها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « ومن يبدِّل نعمة الله » ، قال: يقول: من يبدِّلها كفرًا.

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع « ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته » ، يقول: ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزينتها من الرياش والأموال، بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي وأقبلوا على طاعتي، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي، واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ فوق الذين كفروا يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار.

وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا » ، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها « ويسخرون من الذين آمنوا » ، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا‍! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة » ، قال: « فوقهم » في الجنة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 212 )

قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته.

فإن قال لنا قائل: وما في قوله: « يرزق من يشاء بغير حساب » من المدح ؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله: « والله يرزق من يشاء بغير حساب »

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْـزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الأمة » : في هذا الموضع، وفي « الناس » الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة.

فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله « كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا » .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.

قال أبو جعفر: فتأويل « الأمة » على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس « الدين » ، كما قال النابغة الذبياني:

حَــلَفْتُ فَلَـمْ أَتْـرُكْ لِنَفْسِـكَ رِيبَـةً وَهَـلْ يَـأثَمَنْ ذُو أُمَّـةٍ وَهْـوَ طَائِعُ?

يعني ذا الدين.

فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

وأصل « الأمة » ، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن « الأمة » من الخبر عن « الدين » ، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [ سورة المائدة:48 سورة النحل: 93 ] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.

وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى « الأمة » إلى الطاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [ سورة النحل: 120 ] ، يعني بقوله « أمة » ، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: آدم.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه،

وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ « الأمة » ، كما يقال: « فلان أمة وحده » ، يقول مقام الأمة.

وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك « أمة » .

وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « كان الناس أمة واحدة » - وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم فكان أبيّ يقرأ: « كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين » إلى « فيما اختلفوا فيه » . وإن الله إنما بعث الرسل وأنـزل الكتب عند الاختلاف.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم « فبعث الله النبيين » ، قال: هذا حين تفرقت الأمم.

وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.

وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، على دين واحد، فبعث الله النبيين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « كان الناس أمة واحدة » ، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « كان الناس أمة واحدة » ، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود: « اختلفوا عنه » عن الإسلام.

فاختلفوا في دينهم، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين، « وأنـزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » ، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.

وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة.

وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً،

غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها « يونس » : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [ يونس: 19 ] . فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.

قال أبو جعفر: وأما قوله: « فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين » ، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب ويعني بقوله: « ومنذرين » ، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار « وأنـزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه » ، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه « الحكم » إلى « الكتاب » ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنـزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وما اختلف فيه » ، وما اختلف في الكتاب الذي أنـزله وهو التوراة « إلا الذين أوتوه » ، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها و « الهاء » في قوله: « أوتوه » عائدة على « الكتاب » الذي أنـزله الله « من بعد ما جاءتهم البينات » ، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه.

فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.

ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم.

و « البغي » مصدر من قول القائل: « بغى فلانٌ على فلان بغيًا » ، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: « بَغَى » كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده.

فمعنى قوله جل ثناؤه: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم » ، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنـزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه » يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم « من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم » ، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في « مِنْ » التي في قوله: « من بعد ما جاءتهم البينات » ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله: « وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم » ؟

فقال بعضهم: « من » ، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم « البغي » قبل « من » ، لأن « من » إذا كان الجالب لها « البغي » ، فخطأ أن تتقدمه لأن « البغي » مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن « الذين » مستثنى، وأنّ « من بعد ما جاءتهم البينات » مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات فكأنه كرر الكلام توكيدًا.

قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 )

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فهدى الله » ، فوفق [ الله ] الذي آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.

وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته: « الجمُعة » ، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها « السبت » ، فقال صلى الله عليه وسلم: « نحن الآخِرون السابقون ، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد » .

حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه » ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا لليهود، وبعد غد للنصارى.

* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-

حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: « فهدى الله الذين آمنوا » للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.

واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا‍! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه » .

قال أبو جعفر: فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما جاء به لما اختلف - هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحق مَنْ كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: ( وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يوم القيامة ( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه » ، عن الإسلام.

قال أبو جعفر: وأمّا قوله: « بإذنه » ، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى « الإذن » إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا.

وأما قوله: « والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » ، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز.

فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل، « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه » ؟

قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و « مِنْ » إنما هي في كتاب الله في « الحق » و « اللام » في قوله: « لما اختلفوا فيه » ، وأنت تحول « اللام » في « الحق » ، و « من » في « الاختلاف » ، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا ؟

قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر:

كَــانَتْ فَرِيضَـةُ مَـا تَقُـول كمـا كَــانَ الزِّنَــاءُ فَريضَــةَ الرَّجْـمِ

وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:

إنّ سِـــرَاجًا لَكَـــرِيمٌ مَفْخَــرُهْ تَحْــلَى بـه العَيْـنُ إذَا مَـا تَجْـهَرُهْ

وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.

وقد قال بعضهم: إن معنى قوله « فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق » ، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.

وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( 214 )

قال أبو جعفر: وأما قوله: « أم حسبتم » ، كأنه استفهم بـ « أم » في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، ولو لم يكن قبله كلام يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر: « أم عندك أخوك » ؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال: « أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك ؟ » كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.

فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من « البأساء » - وهو شدة الحاجة والفاقة « والضراء » - وهي العلل والأوصاب - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.

وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نـزلت يومَ الخندق، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا إلى قوله: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا [ الأحزاب: 9- 11 ]

* ذكر من قال نـزلت هذه الآية يوم الأحزاب:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا » ، قال: نـزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا [ الأحزاب: 12 ]

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا » ، قال: نـزلت في يوم الأحزاب، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ

وأما قوله: « ولما يأتكم » ، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن « ما » صلة وحشو، وقد بينت القول في « ما » التي يسميها أهل العربية « صلة » ، ما حكمها؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته.

وأما معنى قوله: « مثل الذين خلوا من قبلكم » ، فإنه يعني: شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم.

وقد دللت في غير هذا الموضع على أن « المثل » ، الشبه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا » ...

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج، قال قوله: « حتى يقول الرسول والذين آمنوا » ، قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله.

وفي قوله: « حتى يقول الرسول » ، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه « فعَل » أبطل عمل « حتى » فيها، لأن « حتى » غير عاملة في « فعل » ، وإنما تعمل في « يفعل » ، وإذا تقدمها « فعل » ، وكان الذي بعدها « يفعل » ، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في « يفعل » وإبطال عمل « حتى » عنه، وذلك نحو قول القائل: « قمت إلى فلان حتى أضربُه » ، والرفع هو الكلام الصحيح في « أضربه » ، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل « حتى » من الفعل على لفظ « فعل » متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب « يفعل » ، وإعمال « حتى » ، وذلك نحو قول القائل: « ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك وجعل ينظر إليك حتى يثبتك » ، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ « حتى » ، كما قال الشاعر:

مَطَــوْتُ بِهِـمْ حَـتَّى تَكِـلَّ مَطِيُّهـمْ وَحَـتَّى الجِيَـادُ مَـا يُقَـدْنَ بِأَرْسَـانِ

فنصب « تكل » ، والفعل الذي بعد « حتى » ماض، لأن الذي قبلها من « المطو » متطاول.

والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك- : « وزلزلوا حتى يقولَ الرسول » ، نصب « يقول » ، إذ كانت « الزلزلة » فعلا متطاولا مثل « المطو بالإبل » .

وإنما « الزلزلة » في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا « زلزلة الأرض » ، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في « يقول » وإن كان بمعنى « فعل » أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( 215 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه.

و « الخير » الذي قال جل ثناؤه في قوله: « قل ما أنفقتم من خير » ، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.

وفي قوله: « ماذا » ، وجهان من الإعراب.

أحدهما: أن يكون « ماذا » بمعنى: أيّ شيء ؟، فيكون نصبًا بقوله: « ينفقون » .

فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ « يسألونك » . والآخر منهما الرفع. وللرفع في « ذلك » وجهان: أحدهما أن يكون « ذا » الذي مع « ما » بمعنى « الذي » ، فيرفع « ما » ب « ذا » و « ذا » لِ « ما » ، و « ينفقون » من صلة « ذا » ، فإن العرب قد تصل « ذا » و « هذا » ، كما قال الشاعر:

عَــدَسْ! مَـا لِعَبَّـادٍ عَلَيْـكِ إمَـارَةٌ أمنْــتِ وهــذَا تَحْــمِلِينَ طَلِيـقُ!

فـ « تحملين » من صلة « هذا » .

فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟

والآخر من وجهي الرفع أن تكون « ماذا » بمعنى أيّ شيء، فيرفع « ماذا » ، وإن كان قوله: « ينفقون » واقعًا عليه، إذ كان العاملُ فيه، وهو « ينفقون » ، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر:

ألا تَسْــأَلانِ المَـرْءَ مَـاذَا يُحَـاِولُ أَنَحْـبٌ فَيُقْضَـى أَمْ ضـلالٌ وَبَـاطِلُ

وكما قال الآخر:

وَقَـالُوا تَعَرَّفْهـَا المَنَـازِلَ مِـنْ مِنًى وَمَـا كُـلُّ مَـنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ

فرفع « كل » ولم ينصبه « بعارف » ، إذ كان معنى قوله: « وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف » جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. وهذه الآية [ نـزلت ] - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » ، قال: يوم نـزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم ؟ فنـزلت: « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل » ، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك: « ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » وما ذكر معهما.

حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله: « يسألونك ماذا ينفقون » ، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك: « فللوالدين والأقربين » وما ذكر معهما.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد وسألته عن قوله: « قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي : من أنه لم يكن يوم نـزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله: « قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين » الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ [ سورة البقرة: 177 ] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.

وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته.