القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ( 16 )

وقوله: ( وَكَذَلِكَ أَنـزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) يقول تعالى ذكره: وكما بيَّنت لكم حُججي على من جحد قدرتي على إحياء من مات من الخلق بعد فنائه، فأوضحتها أيها الناس، كذلك أنـزلنا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن آيات بيِّنات، يعني دلالات واضحات، يهدين من أراد الله هدايته إلى الحقّ ( وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ) يقول جلّ ثناؤه: ولأن الله يوفق للصواب ولسبيل الحقّ من أراد، أنـزل هذا القرآن آيات بيِّنات، فأن في موضع نصب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 17 )

يقول تعالى ذكره: إن الفصل بين هؤلاء المنافقين الذين يعبدون الله على حرف، والذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام، والذين هادوا، وهم اليهود والصابئين والنصارى والمجوس الذي عظموا النيران وخدموها، وبين الذين آمنوا بالله ورسله إلى الله، وسيفصل بينهم يوم القيامة بعدل من القضاء وفصله بينهم إدخاله النار الأحزاب كلهم والجنة المؤمنين به وبرسله، فذلك هو الفصل من الله بينهم.

وكان قَتادة يقول في ذلك ما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، في قوله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) قال: الصابئون: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون للقبلة، ويقرءون الزبور. والمجوس: يعبدون الشمس والقمر والنيران. والذين أشركوا: يعبدون الأوثان. والأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. وأدخلت « إن » في خبر « إن » الأولى لما ذكرت من المعنى، وأن الكلام بمعنى الجزاء، كأنه قيل: من كان على دين من هذه الأديان، ففصل ما بينه وبين من خالفه على الله والعرب تدخل أحيانا في خبر « إن » إذا كان خبر الاسم الأوّل في اسم مضاف إلى ذكره، فتقول: إن عبد الله إن الخير عنده لكثير، كما قال الشاعر.

إنَّ الخَلِيفَـــةَ إن اللـــهَ سَــرْبَلَهُ سِـرْبالَ مُلْـكٍ بِـهِ تُرْجَـى الخَـوَاتِيمُ

وكان الفرّاء يقول: من قال هذا لم يقل: إنك إنك قائم، ولا إن إياك إنه قائم، لأن الاسمين قد اختلفا، فحسن رفض الأوّل، وجعل الثاني كأنه هو المبتدأ، فحسن للاختلاف وقبح للاتفاق.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) يقول: إن الله على كل شيء من أعمال هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله جلّ ثناؤه، وغير ذلك من الأشياء كلها شهيد لا يخفى عنه شيء من ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:

ألم تر يا محمد بقلبك، فتعلم أن الله يسجد له من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق من الجنّ وغيرهم، والشمس والقمر والنجوم في السماء، والجبال، والشجر، والدوابّ في الأرض، وسجود ذلك ظلاله حين تطلع عليه الشمس، وحين تزول، إذا تحولّ ظلّ كل شيء فهو سجوده.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ) قال: ظلال هذا كله.

وأما سجود الشمس والقمر والنجوم، فإنه كما حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ ومحمد بن جعفر، قالا ثنا عوف، قال: سمعت أبا العالية الرياحي يقول: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين، وزاد محمد: حتى يرجع إلى مطلعه.

وقوله: ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) يقول: ويسجد كثير من بني آدم، وهم المؤمنون بالله.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) قال: المؤمنون. وقوله: ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) يقول تعالى ذكره: وكثير من بني آدم حقّ عليه عذاب الله، فوجب عليه بكفره به، وهو مع ذلك يسجد لله ظله.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) وهو يسجد مع ظله ، فعلى هذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد، وقع قوله ( وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) بالعطف على قوله ( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ) ويكون داخلا في عداد من وصفه الله بالسجود له، ويكون قوله ( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) من صلة كثير، ولو كان « الكثير الثاني » من لم يدخل في عداد من وصف بالسجود كان مرفوعا بالعائد من ذكره في قوله: ( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) وكان معنى الكلام حينئذ: وكثير أبى السجود، لأن قوله ( حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) يدلّ على معصية الله وإبائه السجود، فاستحقّ بذلك العذاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ( 18 )

يقول تعالى ذكره: ومن يهنه الله من خلقه فَيُشْقِه، ( فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ) بالسعادة يسعده بها، لأن الأمور كلها بيد الله، يوفِّق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء، ويُشقي من أراد، ويسعد من أحبّ.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) يقول تعالى ذكره: إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانة من أراد إهانته، وإكرام من أراد كرامته، لأن الخلق خلقه والأمر أمره، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأه ( فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ ) بمعنى: فما له من إكرام، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( 19 ) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( 20 ) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ( 21 ) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 22 )

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذين الخصمين اللذين ذكرهما الله، فقال بعضهم: أحد الفريقين: أهل الإيمان، والفريق الآخر: عبدة الأوثان من مشركي قريش الذين تبارزوا يوم بدر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو هاشم عن أبي مجلز، عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يُقْسم قَسَما أن هذه الآية ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) نـزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، قال: وقال علىّ: إني لأوّل، أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى.

حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذرّ يقسم بالله قسما: لنـزلت هذه الآية في ستة من قريش حمزة بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) . .. إلى آخر الآية إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... إلى آخر الآية.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، قال: سمعت أبا ذرّ يقسم، ثم ذكر نحوه.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن محبب، قال: ثنا سفيان، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، قال: نـزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نـزلت هؤلاء الآيات: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة. إلى قوله وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ .

قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي هاشم، عن أبي مُجَلِّز، عن قيس بن عباد، قال: والله لأنـزلت هذه الآية: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) في الذين خرج بعضهم إلى بعض يوم بدر: حمزة، وعليّ ، وعبيدة رحمة الله عليهم، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة.

وقال آخرون: ممن قال أحد الفرقين فريق الإيمان، بل الفريق الآخر أهل الكتاب.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال: هم أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وآمنا بنبيكم، وبما أنـزل الله من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. وكان ذلك خصومتهم في ربهم.

وقال آخرون منهم: بل الفريق الآخر الكفار كلهم من أيّ ملة كانوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا أبو تُمَيلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعطاء بن أبي رَباح، وأبي قزعة، عن الحسين، قال: هم الكافرون والمؤمنون اختصموا في ربهم.

قال ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: مثل الكافر والمؤمن. قال ابن جُرَيج: خصومتهم التي اختصموا في ربهم، خصومتهم في الدنيا من أهل كل دين، يرون أنهم أولى بالله من غيرهم.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: كان عاصم والكلبي يقولان جميعا في ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال: أهل الشرك والإسلام حين اختصموا أيهم أفضل، قال: جعل الشرك ملة.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال: مثل المؤمن والكافر اختصامهما في البعث.

وقال آخرون: الخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية: الجنة والنار.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة في ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) قال: هما الجنة والنار اختصمتا، فقالت النار: خلقني الله لعقوبته وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقد قصّ الله عليك من خبرهما ما تسمع.

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عني بالخصمين جميع الكفار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع المؤمنين، وإنما قلت ذلك أولى بالصواب، لأنه تعالى ذكره ذكر قبل ذلك صنفين من خلقه: أحدهما أهل طاعة له بالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حقّ عليه العذاب، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثم قال: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ، ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فاعل بهما، فقال: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) وقال الله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ; فكان بيِّنا بذلك أن ما بين ذلك خبر عنهما.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما رُوي عن أبي ذرّ إنَّ ذَلكَ نـزل في الذين بارزوا يوم بدر؟ قيل: ذلك إن شاء الله كما روي عنه، ولكن الآية قد تنـزل بسبب من الأسباب، ثم تكون عامة في كل ما كان نظير ذلك السبب، وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبارزوا إنما كان أحد الفريقين أهل شرك وكفر بالله، والآخر أهل إيمان بالله وطاعة له، فكل كافر في حكم فريق الشرك منهما في أنه لأهل الإيمان خصم، وكذلك كل مؤمن في حكم فريق الإيمان منهما في أنه لأهل الشرك خصم.

فتأويل الكلام: هذان خصمان اختصموا في دين ربهم، واختصامهم في ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومحاربته إياه على دينه.

وقوله: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) يقول تعالى ذكره: فأما الكافر بالله منهما فانه يقطع له قميص من نحاس من نار.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) قال: الكافر قطعت له ثياب من نار، والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) قال: ثياب من نحاس، وليس شيء من الآنية أحمى وأشد حرّا منه.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكفار قطعت لهم ثياب من نار، والمؤمن يدخل جنات تجري من تحتها الأنهار. وقوله: ( يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) يقول: يصبّ على رءوسهم ماء مُغْلًى.

كما حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالقانيّ، قال: ثنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد، عن أبي السَّمْح، عن ابن جُحيرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: « إنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ على رُءوسِهمْ، فَيَنْفُذُ الجُمْجمَةَ حتى يَخْلُص إلى جَوْفِهِ، فَيَسْلُت ما في جَوْفِهِ حتى يَبْلُغَ قَدَمَيْهِ، وَهِيَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعادُ كَما كان » .

حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا سعيد بن زيد، عن أبي السمح، عن ابن جحيرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، إلا أنه قال: « فَيَنْفُذُ الجُمْجُمَةَ حتى يَخْلُص إلى جَوفِهِ فَيَسْلت مَا في جَوْفِهِ » .

وكان بعضهم يزعم أن قوله ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) من المؤخَّر الذي معناه التقديم، ويقول: وجه الكلام: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رءوسهم الحميم ويقول: إنما وجب أن يكون ذلك كذلك، لأن الملك يضربه بالمقمع من الحديد حتى يثقب رأسه، ثم يصبّ فيه الحميم الذي انتهى حرّه فيقطع بطنه. والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا، يدلّ على خلاف ما قال هذا القائل، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الحميم إذا صبّ على رءوسهم نفذ الجمجمة حتى يخلص إلى أجوافهم، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل، ولو كانت المقامع قد تثقب رءوسهم قبل صبّ الحميم عليها، لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: « إنَّ الحَمِيمَ يَنْفُذُ الجُمْجُمَة » معنى: ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما قال هذا القائل.

وقوله: ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) يقول: يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رءوسهم ما في بطونهم من الشحوم، وتشوى جلودهم منه فتتساقط، والصهر: هو الإذابة، يقال منه: صهرت الألية بالنار: إذا أذبتها أصهرها صهرا؛ ومنه قول الشاعر.

تَـرْوِي لَقًـى أُلْقِـي فـي صَفْصَـفٍ تَصْهَــرُهُ الشَّــمْسُ وَلا يَنْصَهِــر

ومنه قول الراجز:

شَكَّ السَّفافِيدِ الشَّوَاءَ المُصْطَهَرْ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( يُصْهَرُ بِهِ ) قال: يُذاب إذابة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جُرَيج ( يُصْهَرُ بِهِ ) قال: ما قطع لهم من العذاب.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة: ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ) قال: يُذاب به ما في بطونهم.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ) . .. إلى قوله: ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) يقول: يسقون ما إذا دخل بطونهم أذابها والجلود مع البطون.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال: قال هارون: إذا عام أهل النار، وقال جعفر : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فيأكلون منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارّا مرّ بهم يعرفهم، يعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصبّ عليهم العطش، فيستغيثوا، فيُغاثوا بماء كالمُهل، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود و ( يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ) يعني أمعاءهم، وتساقط جلودهم، ثم يضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حاله، يدعون بالويل والثبور. وقوله: ( وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ) تضرب رءوسهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار حتى ترجعهم إليها. وقوله: ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ) يقول: كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغم والكرب، ردّوا إليها.

كما حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن أبي ظبيان، قال: النار سوداء مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ: ( كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا ) وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع: ( ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) . وعني بقوله: ( وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) ويقال لهم ذوقوا عذاب النار، وقيل عذاب الحريق والمعنى: المحرق، كما قيل: العذاب الأليم، بمعنى: المؤلم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( 23 )

يقول تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بالله ورسوله فأطاعوهما بما أمرهم الله به من صالح الأعمال، فإن الله يُدخلهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، فيحليهم فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَلُؤْلُؤًا ) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل الكوفة نصبا مع التي في الملائكة، بمعنى: يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤا، عطفا باللؤلؤ على موضع الأساور، لأن الأساور وإن كانت مخفوضة من أجل دخول من فيها، فإنها بمعنى النصب، قالوا: وهي تعدّ في خط المصحف بالألف، فذلك دليل على صحة القراءة بالنصب فيه. وقرأت ذلك عامة قرّاء العراق والمصرين: ( وَلُؤْلُؤٍ ) خفضا عطفا على إعراب الأساور الظاهر.

واختلف الذي قرءوا ذلك في وجه إثبات الألف فيه، فكان أبو عمرو بن العلاء فيما ذكر لي عنه يقول: أثبتت فيه كما أثبتت في قالوا: و كالوا. وكان الكسائي يقول: أثبتوها فيه للهمزة، لأن الهمزة حرف من الحروف.

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متفقتا المعنى، صحيحتا المخرج في العربية، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقوله: ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) يقول: ولبوسهم التي تلي أبشارهم فيها ثياب حرير.