القول في تأويل قوله تعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( 39 )

يقول تعالى ذكره: أذن الله للمؤمنين الذين يقاتلون المشركين في سبيله بأن المشركين ظلموهم بقتالهم.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قرّاء المدينة: ( أُذِنَ ) بضم الألف, ( يُقاتَلُونَ ) بفتح التاء بترك تسمية الفاعل في أُذِنَ ويُقاتَلُون جميعًا. وقرأ ذلك بعض الكوفيين وعامة قرّاء البصرة: ( أُذِنَ ) بترك تسمية الفاعل, و « يُقاتِلُونَ » بكسر التاء, بمعنى يقاتل المأذون لهم في القتال المشركين. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين وبعض المكيين: « أَذِنَ » بفتح الألف, بمعنى: أذن الله, و « يُقاتِلُونَ » بكسر التاء, بمعنى: إن الذين أذن الله لهم بالقتال يقاتلون المشركين. وهذه القراءات الثلاث متقاربات المعنى; لأن الذين قرءوا أُذِنَ على وجه ما لم يسمّ فاعله يرجع معناه في التأويل إلى معنى قراءة من قرأه على وجه ما سمي فاعله- وإن من قرأ يُقاتِلونَ، ويُقاتَلُون بالكسر أو الفتح, فقريب معنى أحدهما من معنى الآخر- وذلك أن من قاتل إنسانا فالذي قاتله له مقاتل, وكل واحد منهما مقاتل. فإذ كان ذلك كذلك فبأية هذه القراءات قرأ القارئ فمصيب الصواب.

غير أن أحبّ ذلك إليّ أن أقرأ به: أَذِنَ بفتح الألف, بمعنى: أذن الله, لقرب ذلك من قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أذن الله في الذين لا يحبهم للذين يقاتلونهم بقتالهم, فيردُ أذنَ على قوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ ) وكذلك أحب القراءات إليّ في يُقاتِلُون كسر التاء, بمعنى: الذين يقاتلون من قد أخبر الله عنهم أنه لا يحبهم, فيكون الكلام متصلا معنى بعضه ببعض.

وقد اختُلف في الذين عُنوا بالإذن لهم بهذه الآية في القتال, فقال بعضهم: عني به: نبيّ الله وأصحابه.

ذكر من قال ذلك:- حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) يعني محمدا وأصحابه إذا أخرجوا من مكة إلى المدينة; يقول الله: ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) وقد فعل.

حدثنا ابن بشار, قال: ثنا أبو أحمد, قال: ثنا سفيان, عن الأعمش, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جُبير, قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة, قال رجل: أخرجوا نبيهم، فنـزلت: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) الآية الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

حدثنا يحيى بن داود الواسطي, قال: ثنا إسحاق بن يوسف, عن سفيان, عن الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, قال: لما خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم, إنا لله وإنا إليه راجعون, ليهلكنّ- قال ابن عباس: فأنـزل الله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال. وهي أوّل آية نـزلت.قال ابن داود: قال ابن إسحاق: كانوا يقرءون: ( أُذِنَ ) ونحن نقرأ: « أَذِنَ » .

حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا إسحاق, عن سفيان, عن الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه, إلا أنه قال: فقال أبو بكر: قد علمت أنه يكون قتال. وإلى هذا الموضع انتهى حديثه, ولم يزد عليه.

حدثني محمد بن خلف العسقلاني, قال: ثنا محمد بن يوسف, قال: ثنا قيس بن الربيع, عن الأعمش, عن مسلم, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, قال أبو بكر: إنا لله وإنا إليه راجعون, أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله ليهلكنّ جميعا! فلما نـزلت: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) إلى قوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ عرف أبو بكر أنه سيكون قتال.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال: أذن لهم في قتالهم بعد ما عفا عنهم عشر سنين. وقرأ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ وقال: هؤلاء المؤمنون.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ .

وقال آخرون: بل عني بهذه الآية قوم بأعيانهم كانوا خرجوا من دار الحرب يريدون الهجرة, فمنعوا من ذلك.

ذكر من قال ذلك:- حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى- وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال: أناس مؤمنون خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة, فكانوا يمنعون, فأذن الله للمؤمنين بقتال الكفار, فقاتلوهم.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, في قوله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال: ناس من المؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة, وكانوا يمنعون, فأدركهم الكفار, فأذن للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم. قال ابن جُرَيج: يقول: أوّل قتال أذن الله به للمؤمنين.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: في حرف ابن مسعود: « أُذِنَ للَّذِينَ يُقاتَلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ » قال قَتادة: وهي أوّل آية نـزلت في القتال, فأذن لهم أن يقاتلوا.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة, في قوله: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) قال: هي أوّل آية أنـزلت في القتال, فأذن لهم أن يقاتلوا. وقد كان بعضهم يزعم أن الله إنما قال: أذن للذين يقاتلون بالقتال من أجل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, كانوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل الكفار إذا آذوهم واشتدّوا عليهم بمكة قبل الهجرة غيلة سرّا; فأنـزل الله في ذلك: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) فَلَمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة, أطلق لهم قتلهم وقتالهم, فقال: ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) . وهذا قول ذُكر عن الضحاك بن مزاحم من وجه غير ثبت.

وقوله: ( وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) يقول جل ثناؤه: وإن الله على نصر المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله لقادر, وقد نصرهم فأعزّهم ورفعهم وأهلك عدوّهم وأذلهم بأيديهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 40 )

يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) فالذين الثانية ردّ على الذين الأولى. وعنى بالمخرجين من دورهم: المؤمنين الذين أخرجهم كفار قريش من مكة. وكان إخراجهم إياهم من دورهم وتعذيبهم بعضهم على الإيمان بالله ورسوله, وسبهم بعضهم بألسنتهم ووعيدهم إياهم, حتى اضطرّوهم إلى الخروج عنهم. وكان فعلهم ذلك بهم بغير حقّ، لأنهم كانوا على باطل والمؤمنون على الحقّ, فلذلك قال جل ثناؤه: ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) .

وقوله: ( إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) يقول تعالى ذكره: لم يخرجوا من ديارهم إلا بقولهم: ربنا الله وحده لا شريك له! فأن في موضع خفض ردّا على الباء في قوله: ( بِغَيْرِ حَقٍّ ) , وقد يجوز أن تكون في موضع نصب على وجه الاستثناء.

وقوله: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: ولولا دفع الله المشركين بالمسلمين.

ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قوله: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) دفع المشركين بالمسلمين.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولولا القتال والجهاد في سبيل الله.

ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) قال لولا القتال والجهاد.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولولا دفع الله بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن بعدهم من التابعين.

ذكر من قال ذلك: حدثنا إبراهيم بن سعيد, قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم, عن سيف بن عمرو, عن أبي روق, عن ثابت بن عوسجة الحضرميّ, قال: حدثني سبعة وعشرون من أصحاب عليّ وعبد الله منهم لاحق بن الأقمر, والعيزار بن جرول, وعطية القرظي, أن عليا رضي الله عنه قال: إنما أنـزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) لولا دفاع الله بأصحاب محمد عن التابعين ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ ) .

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لولا أن الله يدفع بمن أوجب قبول شهادته في الحقوق تكون لبعض الناس على بعض عمن لا يجوز شهادته وغيره, فأحيا بذلك مال هذا ويوقي بسبب هذا إراقة دم هذا, وتركوا المظالم من أجله, لتظالم الناس فهدمت صوامع.

ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) يقول: دفع بعضهم بعضا في الشهادة, وفي الحقّ, وفيما يكون من قبل هذا. يقول: لولاهم لأهلكت هذه الصوامع وما ذكر معها.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض, لهُدم ما ذكر, من دفعه تعالى ذكره بعضهم ببعض, وكفِّه المشركين بالمسلمين عن ذلك; ومنه كفه ببعضهم التظالم, كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم; ومنه كفُّه لمن أجاز شهادته بينهم ببعضهم عن الذهاب بحق من له قبله حق, ونحو ذلك. وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض, لولا ذلك لتظالموا, فهدم القاهرون صوامع المقهورين وبيَعهم وما سمّى جل ثناؤه. ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عنى من ذلك بعضا دون بعض, ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له, فذلك على الظاهر والعموم على ما قد بيَّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا.

وقوله: ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالصوامع, فقال بعضهم: عني بها صوامع الرهبان.

ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن المثنى, قال: ثنا عبد الوهاب, قال: ثنا داود, عن رفيع في هذه الآية: ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال: صوامع الرهبان.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال: صوامع الرهبان.

- حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد: ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال: صوامع الرهبان.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) قال: صوامع الرهبان.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ, يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله: ( لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ) وهي صوامع الصغار يبنونها وقال آخرون: بل هي صوامع الصابئين.

ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( صَوَامِعُ ) قال: هي للصابئين.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( لَهُدّمَتْ ) . فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة: « لَهُدِمَتْ » . خفيفة. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة والبصرة: ( لَهُدّمَتْ ) بالتشديد بمعنى تكرير الهدم فيها مرّة بعد مرّة. والتشديد في ذلك أعجب القراءتين إليّ. لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك.

وأما قوله ( وَبِيَعٌ ) فإنه يعني بها: بيع النصارى.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك, فقال بعضهم مثل الذي قلنا في ذلك.

ذكر من قال ذلك:- حدثني محمد بن المثنى, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا داود, عن رفيع: ( وَبِيَعٌ ) قال: بيع النصارى.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ( وَبِيَعٌ ) للنصارى.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول: البِيَع: بيع النصارى.

وقال آخرون: عني بالبيع في هذا الموضع: كنائس اليهود.

ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث. قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: ( وَبِيَعٌ ) قال: وكنائس.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَبِيَعٌ ) قال: البيع للكنائس.

قوله: ( وَصَلَوَاتٌ ) اختلف أهل التأويل في معناه, فقال بعضهم: عني بالصلوات الكنائس.

ذكر من قال ذلك:- حدثنا محمد سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, في قوله: ( وَصَلَوَاتٌ ) قال: يعني بالصلوات الكنائس.

حُدثت عن الحسن, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَصَلَوَاتٌ ) كنائس اليهود, ويسمون الكنيسة صلوتا.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ( وَصَلَوَاتٌ ) كنائس اليهود.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.

وقال آخرون: عنى بالصلوات مساجد الصابئين.

ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الأعلى, قال: ثنا داود, قال: سألت أبا العالية عن الصلوات. قال: هي مساجد الصابئين.

قال: ثنا عبد الوهاب, قال: ثنا داود, عن رفيع, نحوه.

وقال آخرون: هي مساجد للمسلمين ولأهل الكتاب بالطرق.

ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وَصَلَوَاتٌ ) قال: مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَصَلَوَاتٌ ) قال: الصلوات صلوات أهل الإسلام, تنقطع إذا دخل العدو عليهم, انقطعت العبادة, والمساجد تهدم, كما صنع بختنصر.

وقوله: ( وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) اختلف في المساجد التي أريدت بهذا القول, فقال بعضهم: أريد بذلك مساجد المسلمين.

ذكر من قال ذلك:- حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا عبد الوهاب, قال: ثنا داود, عن رفيع, قوله: ( وَمَساجِدُ ) قال: مساجد المسلمين.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, قال: ثنا معمر, عن قتادة: ( وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ) قال: المساجد: مساجد المسلمين يذكر فيها اسم الله كثيرا.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قَتاده, نحوه.

وقال آخرون: عني بقوله: ( وَمَساجِدُ ) الصوامع والبيع والصلوات.

ذكر من قال ذلك:- حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: ( وَمَساجِدُ ) يقول في كل هذا يذكر اسم الله كثيرا, ولم يخصّ المساجد.

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: الصلوات لا تهدم, ولكن حمله على فعل آخر, كأنه قال: وتركت صلوات. وقال بعضهم: إنما يعني: مواضع الصلوات. وقال بعضهم: إنما هي صلوات, وهي كنائس اليهود, تدعى بالعِبرانية: صلوتا.

وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لهدِّمت صوامع الرهبان وبِيَع النصارى, وصلوات اليهود, وهي كنائسهم, ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا.

وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل ذلك; لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب المستفيض فيهم, وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فيما وجهه إليه من وجهه إليه.

وقوله: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) يقول تعالى ذكره: وليعيننّ الله من يقاتل في سبيله, لتكون كلمته العليا على عدوّه; فنصْر الله عبده: معونته إياه, ونصر العبد ربه: جهاده في سبيله, لتكون كلمته العليا.

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) يقول تعالى ذكره: إن الله لقويّ على نصر من جاهد في سبيله من أهل ولايته وطاعته, عزيز في مُلكه, يقول: منيع في سلطانه, لا يقهره قاهر, ولا يغلبه غالب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ( 41 )

يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا, الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة. والذين ههنا ردّ على الذين يقاتلون.

ويعني بقوله: ( إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ ) إن وطنا لهم في البلاد, فقهروا المشركين وغلبوهم عليها, وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة, أطاعوا الله, فأقاموا الصلاة بحدودها، وآتوا الزكاة: يقول: وأعطوا زكاة أموالهم من جعلها الله له ( وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ) يقول: ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله ( وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) يقول: ونهوا عن الشرك بالله، والعمل بمعاصيه، الذي ينكره أهل الحقّ والإيمان بالله ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) يقول: ولله آخر أمور الخلق، يعني: أن إليه مصيرها في الثواب عليها، والعقاب في الدار الآخرة.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث, قال: ثنا الحسين الأشيب, قال: ثنا أبو جعفر عيسى بن ماهان, الذي يقال له الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, في قوله: ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) قال: كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له; ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان. قال: فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف, ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ( 42 ) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ( 43 ) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( 44 )

يقول تعالى ذكره مسليا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يناله من أذى المشركين بالله, وحاضا له على الصبر على ما يلحقه منهم من السبّ والتكذيب: وإن يكذّبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله على ما آتيتَهم به من الحق والبرهان, وما تعدهم من العذاب على كفرهم بالله, فذلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذّبة رسل الله المشركة بالله ومنهاجهم من قبلهم, فلا يصدنك ذلك, فإن العذاب المهين من ورائهم ونصري إياك وأتباعك عليهم آتيهم من وراء ذلك, كما أتى عذابي على أسلافهم من الأمم الذين من قبلهم بعد الإمهال إلى بلوغ الآجال. فقد كذبت قبلهم يعني مشركي قريش; قوم نوح, وقوم عاد وثمود, وقوم إبراهيم, وقوم لوط، وأصحاب مدين, وهم قوم شعيب. يقول: كذب كلّ هؤلاء رسلهم. وكذب موسى، فقيل: وكذب موسى، ولم يقل: وقوم موسى, لأن قوم موسى بنو إسرائيل, وكانت قد استجابت له ولم تكذّبه, وإنما كذّبه فرعون وقومه من القبط.

وقد قيل: إنما قيل ذلك كذلك لأنه ولد فيهم كما ولد في أهل مكة.

وقوله: ( فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ) يقول: فأمهلت لأهل الكفر بالله من هذه الأمم, فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب ( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ) يقول: ثم أحللت بهم العقاب بعد الإملاء ( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ )

يقول: فانظر يا محمد كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة وتنكري لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم, ألم أبدلهم بالكثرة قلة وبالحياة موتا وهلاكا وبالعمارة خرابا؟ يقول: فكذلك فعلي بمكذّبيك من قريش, وإن أمليت لهم إلى آجالهم, فإني منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلي وعدي في أممهم, فأهلكناهم وأنجيتهم من بين أظهرهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ( 45 )

يقول تعالى ذكره: وكم يا محمد من قرية أهلكت أهلها وهم ظالمون; يقول: وهم يعبدون غير من ينبغي أن يُعبد, ويعصون من لا ينبغي لهم أن يعصوه.وقوله: ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) يقول: فباد أهلها وخلت, وخوت من سكانها, فخربت وتداعت, وتساقطت على عروشها; يعني على بنائها وسقوفها.

كما: حدثنا أبو هشام الرفاعي, قال: ثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك: ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) قال: خواؤها: خرابها, وعروشها: سقوفها.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خاويَةٌ ) قال: خربة ليس فيها أحد.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة. مثله.

وقوله: ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) يقول تعالى: فكأين من قرية أهلكناها, ومن بئر عطلناها, بإفناء أهلها وهلاك وارديها, فاندفنت وتعطلت, فلا واردة لها ولا شاربة منها ( وَ ) من ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) رفيع بالصخور والجصّ, قد خلا من سكانه, بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم, فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم. والبئر والقصر مخفوضان بالعطف على القرية. كان بعض نحويي الكوفة يقول: هما معطوفان على العروش بالعطف عليها خفضا, وإن لم يحسن فيهما, على أن العروش أعالي البيوت، والبئر في الأرض, وكذلك القصر، لأن القرية لم تخو على القصر, ولكنه أتبع بعضه بعضا كما قال: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ فمعنى الكلام على ما قال هذا الذي ذكرنا قوله في ذلك: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة, فهي خاوية على عروشها, ولها بئر معطلة وقصر مشيد؛ ولكن لما لم يكن مع البئر رافع ولا عامل فيها, أتبعها في الإعراب العروش، والمعنى ما وصفت.

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنى حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال: التي قد تُرِكت.وقال غيره: لا أهل لها.

حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال: عطلها أهلها, تركوها.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ ) قال: لا أهل لها.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) فقال بعضهم: معناه: وقصر مجصص.

ذكر من قال ذلك:- حدثني مطر بن محمد الضبي, قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: ثنا سفيان, عن هلال بن خباب عن عكرمة, في قوله: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: مجصص.

حدثنا أبو كريب, قال: ثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن هلال بن خباب, عن عكرمة, مثله.

حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي, قال: ثني غالب بن فائد, قال: ثنا سفيان, عن هلال بن خباب عن عكرمة, مثله.

حدثني الحسين بن محمد العنقزي, قال: ثني أبي, عن أسباط, عن السديّ, عن عكرمة, في قوله: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: مجصص.

حدثني مطر بن محمد, قال: ثنا كثير بن هشام. قال. حدثنا جعفر بن برقان, قال: كنت أمشي مع عكرمة, فرأى حائط آجرّ مصهرج, فوضع يده عليه وقال: هذا المشيد الذي قال الله.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا عباد بن العوامّ, عن هلال بن خباب, عن عكرمة: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: المجصص. قال عكرِمة: والجصّ بالمدينة يسمى الشيد.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: بالقصة أو الفضة.

حدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: بالقصة يعني بالجصّ.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.

حدثنا الحسن, أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا ابن جُرَيج, عن عطاء, في قوله: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: مجصص.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن هلال بن خباب, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: مجصص،هكذا هو في كتابي عن سعيد بن جبير.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقصر رفيع طويل.

ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قَتادة: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) قال: كان أهله شيَّدوه وحصَّنوه, فهلكوا وتركوه.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قَتادة, مثله.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: ( وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ) يقول: طويل.

وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: عني بالمشيد المجصص, وذلك أن الشيد في كلام العرب هو الجصّ بعينه; ومنه قول الراجز:

كَحَبَّةِ المَاءِ بينَ الطَّيّ والشِّيدِ

فالمشيد: إنما هو مفعول من الشِّيد; ومنه قول امرئ القيس:

وتَيْمـاءَ لَـمْ يَـتْرُكْ بِهـا جِـذْعَ نَخْلَةٍ وَلا أُطُمـــا إلا مَشــيدًا بِجَــنْدَلِ

يعني بذلك: إلا بالبناء بالشيد والجندل. وقد يجوز أن يكون معنيا بالمشيد: المرفوع بناؤه بالشيد, فيكون الذين قالوا: عني بالمشيد الطويل نحْوا بذلك إلى هذا التأويل; ومنه قول عديّ بن زيد:

شـــادَهُ مَرْمَــرًا وَجَلَّلَــهُ كِــلْ ســا فللطْــيَر فِــي ذُرَاهُ وُكُـورُ

وقد تأوّله بعض أهل العلم بلغات العرب بمعنى المزين بالشيد من شدته أشيده. إذا زيَّنته به, وذلك شبيه بمعنى من قال: مجصص.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( 46 )

يقول تعالى ذكره: أفلم يسيروا هؤلاء المكذّبون بآيات الله والجاحدون قدرته في البلاد, فينظروا إلى مصارع ضربائهم من مكذّبي رسل الله الذين خلوْا من قبلهم, كعاد وثمود وقوم لوط وشعيب, وأوطانهم ومساكنهم, فيتفكَّروا فيها ويعتبروا بها ويعلموا بتدبرهم أمرها وأمر أهلها، سنة الله فيمن كفر وعبد غيره وكذّب رسله, فينيبوا من عتوّهم وكفرهم, ويكون لهم إذا تدبروا ذلك واعتبروا به وأنابوا إلى الحقّ ( قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ) حجج الله على خلقه وقدرته على ما بيَّنا ( أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ) يقول: أو آذان تصغي لسماع الحقّ فتعي ذلك وتميز بينه وبين الباطل.وقوله: ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ ) يقول: فإنها لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص ويروها, بل يبصرون ذلك بأبصارهم; ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن أنصار الحق ومعرفته.

والهاء في قوله: ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى ) هاء عماد, كقول القائل: إنه عبد الله قائم.

وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: « فإنَّهُ لا تَعْمَى الأبْصَارُ » .وقيل: ( وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) والقلوب لا تكون إلا في الصدور, توكيدا للكلام, كما قيل: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .