القول في تأويل قوله تعالى : الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 56 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 57 )

يقول تعالى ذكره: السلطان والمُلك إذا جاءت الساعة لله وحده لا شريك له ولا ينازعه يومئذ منازع, وقد كان في الدنيا ملوك يُدعون بهذا الاسم ولا أحد يومئذ يدعى ملكا سواه ( يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ) يقول: يفصل بين خلقه المشركين به والمؤمنين؛ فالذين آمنوا بهذا القرآن, وبمن أنـزله, ومن جاء به, وعملوا بما فيه من حلاله وحرامه وحدوده وفرائضه في جنات النعيم يومئذ، والذين كفروا بالله ورسوله, وكذبوا بآيات كتابه وتنـزيله, وقالوا: ليس ذلك من عند الله, إنما هو إفك افتراه محمد وأعانه عليه قوم آخرون، ( فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) يقول: فالذين هذه صفتهم لهم عند الله يوم القيامة عذاب مهين, يعني عذاب مذلّ في جهنم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 58 )

يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك في رضا الله وطاعته وجهاد أعدائه ثم قتلوا أو ماتوا وهم كذلك, ليرزقنهم الله يوم القيامة في جناته رزقا حسنا. يعني بالحسن: الكريم وإنما يعني بالرزق الحسن: الثواب الجزيل ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) يقول: وإن الله لهو خير من بسط فضله على أهل طاعته وأكرمهم. وذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله, فقال بعضهم: سواء المقتول منهم والميت.

وقال آخرون: المقتول أفضل. فأنـزل الله هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم, يعلمهم استواء أمر الميت في سبيله والمقتول فيها في الثواب عنده.

وقد:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: أخبرني عبد الرحمن بن شريح, عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميرا على الأرباع, فخرج بجنازتي رجلين, أحدهما قتيل والآخر متوفى; فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته, فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه على أخيه المتوفى؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله. فقال فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بُعثت! اقرءوا قول الله تعالى: ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ) ... إلى قوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ( 59 )

يقول تعالى ذكره: ليدخلنّ الله المقتول في سبيله من المهاجرين والميت منهم ( مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ ) وذلك المُدخل هو الجنة ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ) بمن يهاجر في سبيله ممن يخرج من داره طلب الغنيمة أو عرض من عروض الدنيا.

( حَلِيمٌ ) عن عصاة خلقه, بتركه معاجلتهم بالعقوبة والعذاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 60 )

يعني تعالى ذكره بقوله: ( ذلكَ ) لهذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله, ثم قُتلوا أو ماتوا, ولهم مع ذلك أيضا أن الله يعدهم النصر على المشركين الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم.

كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج: ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ) قال: هم المشركون بغَوْا على النبي صلى الله عليه وسلم, فوعده الله أن ينصره, وقال في القصاص أيضا. وكان بعضهم يزعم أن هذه الآية نـزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم, وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم, فسأل المسلمون المشركين أن يكفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر, فأبى المشركون ذلك, وقاتلوهم فبغَوْا عليهم, وثبت المسلمون لهم فنُصروا عليهم, فأنـزل الله هذه الآية: ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ) بأن بدئ بالقتال وهو له كاره, ( لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ) .

وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) يقول تعالى ذكره: إن الله لذو عفو وصفح لمن انتصر ممن ظلمه من بعد ما ظلمه الظالم بحقّ, غفور لما فعل ببادئه بالظلم مثل الذي فعل به غير معاقبه عليه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 61 )

يعني تعالى ذكره بقوله: ( ذلكَ ) هذا النصر الذي أنصره على من بغى عليه على الباغي, لأني القادر على ما أشاء. فمن قُدرته أن الله يولج الليل في النهار يقول: يدخل ما ينقص من ساعات الليل في ساعات النهار, فما نقص من هذا زاد في هذا. ( وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ويدخل ما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل, فما نقص من طول هذا زاد في طول هذا, وبالقُدرة التي تفعل ذلك ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم ( وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) يقول: وفعل ذلك أيضا بأنه ذو سمع لما يقولون من قول; لا يخفى عليه منه شيء, بصير بما يعملون, لا يغيب عنه منه شيء, كل ذلك معه بمرأى ومسمع, وهو الحافظ لكل ذلك, حتى يجازي جميعهم على ما قالوا وعملوا من قول وعمل جزاءه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 62 )

يعني تعالى ذكره بقوله ( ذلكَ ) هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي الليل في النهار، وإيلاجي النهار في الليل، لأني أنا الحقّ الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ندّ, وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلها من دونه هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء, بل هو المصنوع، يقول لهم تعالى ذكره: أفتتركون أيها الجهال عبادة من منه النفع وبيده الضر وهو القادر على كل شيء وكلّ شيء دونه, وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته. وقوله: ( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) يعني بقوله: ( العَلِي ) ذو العلو على كل شيء, هو فوق كل شيء وكل شيء دونه. ( الكَبِيرُ ) يعني العظيم, الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه.

وكان ابن جُرَيج يقول في قوله: ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) ما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, قال: قال ابن جُرَيج, في قوله: ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ) قال: الشيطان.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) فقرأته عامة قرّاء العراق والحجاز: « تَدْعُون » بالتاء على وجه الخطاب; وقرأته عامة قرّاء العراق غير عاصم بالياء على وجه الخبر, والياء أعجب القراءتين إليّ, لأن ابتداء الخبر على وجه الخطاب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ( 63 )

يقول تعالى ذكره: ( أَلَمْ تَرَ ) يا محمد ( أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني مطرا ( فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً ) بما ينبت فيها من النبات ( إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ) باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه ( خَبِيرٌ ) بما يحدث عن ذلك النبت من الحبّ، وبه قال: ( فَتُصْبِحُ الأرْضُ ) فرفع, وقد تقدمه قوله: ( أَلَمْ تَرَ ) وإنما قيل ذلك كذلك لأن معنى الكلام الخبر, كأنه قيل: اعلم يا محمد أن الله ينـزل من السماء ماء فتصبح الأرض; ونظير ذلك قول الشاعر:

أَلَــمْ تَسْـأَلِ الـرّبْعَ القَـدِيمَ فيَنْطِـقُ وهـلْ تُخْـبِرَنْكَ اليـوْمَ بَيْـداءُ سَمْلَقُ

لأن معناه: قد سألته فنطق.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 64 )

يقول تعالى ذكره: له مُلك ما في السموات وما في الأرض من شيء هم عبيده ومماليكه وخلقه, لا شريك له في ذلك، ولا في شيء منه, وإن الله هو الغنيّ عن كل ما في السموات وما في الأرض من خلقه وهم المحتاجون إليه, الحميد عند عباده في إفضاله عليهم وأياديه عندهم.