القول في تأويل قوله عز ذكره : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله : « كتب عليكم القتال » ، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .

واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.

فقال بعضهم: عني بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً دون غيرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » ، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها ؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ.

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ » ، قال نسختها وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [ سورة البقرة: 285 ]

قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.

حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم ؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. »

وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين .

قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [ سورة النساء: 95 ] ، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.

وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي.

وقد بينا فيما مضى معنى قوله: « كتب » بما فيه الكفاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر « ذو » اكتفاء بدلالة قوله: « كره لكم » ، عليه، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ]

وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « وهو كره لكم » قال: كُرّه إليكم حينئذ.

« والكره » بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه، « والكَرْهُ » بفتح « الكاف » ، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.

وقد كان بعض أهل العربية يقول: « الكُره والكَره » لغتان بمعنى واحد، مثل: « الغُسْل والغَسْل » و « الضُّعف والضَّعف » ، و « الرُّهبْ والرَّهبْ » . وقال بعضهم: « الكره » بضم « الكاف » اسم و « الكره » بفتحها مصدر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:-

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم » ، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال: « عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم » يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا.

حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن ! قال: في قوله: « وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون »

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 216 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام وذلك رَجبٌ عن قتالٍ فيه.

وخفضُ « القتال » على معنى تكرير « عن » عليه، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:-

حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ، قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها: « عن قتال فيه » .

قال أبو جعفر: « قل » يا محمد: « قتالٌ فيه » - يعني في الشهر الحرام « كبيرٌ » ، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه.

ومعنى قوله: « قتال فيه » ، قل القتال فيه كبير. وإنما قال: « قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له، وتسميه مضر « الأصمَّ » لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد:-

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ.

وقوله جل ثناؤه: « وصَدٌّ عن سبيل الله » . ومعنى « الصدّ » عن الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل: « صدّ فلان بوجهه عن فلان » ، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.

وقوله: « وكفرٌ به » ، يعني: وكفر بالله، و « الباء » في « به » عائدة على اسم الله الذي في « سبيل الله » . وتأويل الكلام: وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.

فـ « الصدُّ عن سييل الله » مرفوع بقوله: « أكبر عند الله » . وقوله: « وإخراج أهله منه » عطف على « الصد » . ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال: « والفتنة أكبر من القتل » ، يعني: الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام.

قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله: « والمسجد الحرام » معطوف على « القتال » وأن معناه: يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » من القتال في الشهر الحرام.

وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم ؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.

ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله.

* ذكر الرواية عمن قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.

وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [ بن عتبة ] بن ربيعة- ومن بني أمية- بن عبد شمس، ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.

فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: « إذا نظرت إلى كتابي هذا، فسرْ حتى تنـزل نخلة بين مكة والطائف، فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم » . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: « سمعا وطاعة » ، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه [ منهم ] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نـزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نـزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار‍! فلا بأس علينا منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.

وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمُس.

وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [ فيه الرجال ] فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! وقالت يهود - تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم- : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! « عمرو » ، عمرت الحرب! و « الحضرميّ » ، حَضَرت الحربُ! « وواقد بن عبد الله » ، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم.

فلما أكثر الناسُ في ذلك أنـزل الله جل وعز على رسوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ،

أي: عن قتالٍ فيه « قل قتال فيه كبيرٌ » إلى قوله: « والفتنة أكبر من القتل » ، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم، « والفتنة أكبر من القتل » ، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نـزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العيرَ والأسيرين.

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ » ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينـزل [ بطن ] مَلَل، فلما نـزل ببطن ملل فتحَ الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنـزل بطن نخلة، فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا ! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب ! فقال المسلمون : إنما قتلناه في جُمادى ! - وقيل : في أول ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنـزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير » لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام، فذلك قوله: « وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم أبا عبيدة . فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا : « ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك » . فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله ! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم : أمن رَجب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام ! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثوه الحديث، فأنـزل الله عز وجل : « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل » - والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال - : كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحد ! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت ! وإن يكن ذنبًا فقد عملت !

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه » ، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنـزل الله جل وعز: « قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به » وصد عن المسجد الحرام « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا : أتقتلون في الشهر الحرام ! فأنـزل الله : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام » يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله « والمسجد الحرام » وصد عن المسجد الحرام « وإخراج أهله منه أكبر عند الله » ، من قتل عمرو بن الحضرميّ « والفتنة » ، يقول: الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا قال الزهري وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم أحِلّ [ له ] بعدُ.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله : « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير » ، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام، فقال الله جل وعز: « وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله » من القتل فيه وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير » وغير ذلك أكبر منه، « صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه » إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ.

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نـزلت: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير » إلى قوله: « والفتنة أكبرُ من القتل » ، استكبروه. فقال: والفتنة الشرك الذي أنتم عليه مقيمون أكبر مما استكبرتم.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام ، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنـزل الله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه » إلى قوله « أكبر عند الله » من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و « الفتنة » - التي أنتم عليها مقيمون، يعني الشركَ - « أكبر من القتل » .

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: وكان يسميها - يقول: لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » ، فيمن نـزلت؟ قال: لا أدري قال ابن جريج: وقال عكرمة ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي حسين، عن الزهري ذلك أيضًا.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: « قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام » ، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد الحرام « وإخراج أهله منه » - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي - « والفتنة أكبر من القتل » - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ من هذا كله.

حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير » ، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام.

قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع « الصد » و « الكفر به » ، وأن رافعه « أكبر عند الله » . وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على « الكبير » ، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله، وزعم أن قوله: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » ، خبر منقطع عما قبله مبتدأ.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله: « والفتنة أكبر من القتل » ، قال: يعني به الكفر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال: « والفتنة أكبر من القتل » ، أي الشرك بالله أكبر من القتل.

وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيِّرونه بذلك، فقال: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، وغيرُ ذلك أكبر منه: « صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر » من الذي أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

قال أبو جعفر : وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله: « وصدٌّ عن سبيل الله » .

فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما ، أن يكون « الصدُّ » مردودًا على « الكبير » ، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به . وإن شئت جعلت « الصد » « كبيرًا » ، يريد به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به .

قال أبو جعفر : قال فأخطأ - يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع « الصد » عطفًا به على « كبير » ، يصير تأويل الكلام: قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا . لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك: « وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله » ؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره: « وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله » . وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول.

وأما إذا رفع « الصد » ، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل: « وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله » - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه .

وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع « الصد » ، ويزعم أنه معطوف به على « الكبير » ، ويجعل قوله: « وإخراج أهله » مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله.

قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟

فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] ، وبقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ سورة التوبة: 5 ]

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في « براءة » قوله: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] : يقول: فيهن وفي غيرهن.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [ سورة التوبة: 36 ] .

وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.

وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان بالرسالة، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرُم.

فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ » ، وأنه منسوخ.

فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا . وذلك أن هذه الآية - أعني قوله: « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه » - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنـزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك، كما:-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير: « ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا » ، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين ولا نازعين يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردُّوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا » ، قال: كفار قريش.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 217 )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه: « ومن يرتدد منكم عن دينه » ، من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [ سورة الكهف: 64 ] يعني بقوله: « فارتدَّا » ، رجعا. ومن ذلك قيل: « استردّ فلان حقه من فلان » ، إذا استرجعه منه.

وإنما أظهر التضعيف في قوله: « يرتدد » لأن لام الفعل ساكنة بالجزم، وإذا سكِّنت فالقياس ترك التضعيف، وقد تضعَّف وتدغم وهي ساكنة ، بناء على التثنية والجمع.

وقوله: « فيمت وهو كافر » ، يقول: من يرجع عن دينه دين الإسلام، « فيمت وهو كافر » ، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت أعمالهم.

يعني بقوله: « حبطت أعمالهم » ، بطلت وذهبت. وبُطولها: ذهابُ ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.

وقوله: « وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون » ، يعني: الذين ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلَّدون فيها.

وإنما جعلهم « أهلها » لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها، كما يقال: « هؤلاء أهل محلة كذا » ، يعني: سكانها المقيمون فيها.

ويعني بقوله: « هم فيها خالدون » ، هم فيها لابثون لَبْثًا، من غير أمَدٍ ولا نهاية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 218 )

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به وبقوله: « والذين هاجروا » الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم، إلى غيرها هجرة... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة: « المفاعلة » من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم « مهاجرين » ، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النـزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.

وأما قوله: « وجاهدوا » فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا.

وأصل « المجاهدة » « المفاعلة » من قول الرجل: « قد جَهَد فلان فلانًا على كذا » - إذا كرَبَه وشقّ عليه- « يجهده جهدًا » . فإذا كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة، قيل: « فلانٌ يجاهد فلانًا » - يعني: أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه - « فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا » .

وأما « سبيل الله » ، فطريقه ودينه.

فمعنى قوله إذًا : « والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله » ، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله « أولئك يرجون رَحمة الله » ، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.

« والله غفور » ، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة.

وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نـزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان ، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم - أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنـزل الله: « إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنـزل الله عز وجل القرآنَ بما أنـزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نـزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنـزل الله عز وجل فيهم: « إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ » . فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناء فقال: « إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيم » ، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجَا طلب، ومن خاف هرب.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشُربها.

و « الخمر » كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل: « خَمَرت الإناء » إذا غطيته، و « خَمِر الرجل » ، إذا دخل في الخَمَر. ويقال: « هو في خُمار الناس وغُمارهم » ، يراد به دخل في عُرْض الناس. ويقال للضبع: « خامري أم عامر » ، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو « خمر » . ومن ذلك أيضا « خِمار المرأة » ، وذلك لأنها تستر [ به ] رأسها فتغطيه. ومنه يقال: « هو يمشي لك الخمَر » ، أي مستخفيًا ، كما قال العجاج:

فِـي لامِـعِ العِقْبَـانِ لا يَـأتي الْخَمَرْ يُوَجِّــهُ الأرْضَ وَيَسْــتَاقُ الشَّـجَرْ

ويعني بقوله: « لا يأتي الخمر » ، لا يأتي مستخفيًا ولا مُسارَقةً، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و « العقبان » جمع « عُقاب » ، وهي الرايات.

وأما « الميسر » فإنها « المفعل » من قول القائل: « يسَرَ لي هذا الأمر » ، إذا وجب لي « فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا » و « الياسر » الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك. ثم قيل للمقامر، « ياسرٌ ويَسَر » ، كما قال الشاعر:

فَبِـــتُّ كَــأَنَّنِي يَسَــرٌ غَبِيــنٌ يُقَلِّــبُ, بَعْـدَ مَـا اخْـتُلِعَ, القِدَاحَـا

وكما قال النابغة :

أَوْ يَاسِــرٌ ذَهَــبَ القِـدَاح بوَفْـرِهِ أَسِــفٌ تآكَلَــهُ الصِّــدِيقُ مُخَـلَّعُ

يعني « بالياسر » : المقامر. وقيل للقمار « ميسر » .

وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « يسألونك عن الخمر والميسر » قال: القمار، وإنما سمّي « الميسر » لقولهم: « أيْسِروا واجْزُرُوا » ، كقولك: ضع كذا وكذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا ، فإنهن من الميسر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا، فإنها من الميسر.

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار ميسرٌ.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خَطَرٌ أو: في خَطَر ، أبو عامر شك فهو من الميسر.

حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: الميسر القمار.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا ، فإنهما من الميسر.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن عليه، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة قال: أما قوله: « والميسر » ، فهو القمار كله.

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد « ميسر » ، أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله.

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله: « والميسر » ، قال: القمار.

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الميسر القمار.

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسرُ، قداح العرب وكِعابُ فارس قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار كله.

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار.

حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر القمار.

وأما قوله: « قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس » ، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهم : « فيهما » ، يعني في الخمر والميسر « إثم كبير » ، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:-

حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: « فيهما إثمٌ كبير » ، فإثم الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قل فيهما إثم كبير » ، قال: هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « قل فيهما إثم كبير » ، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها.

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل « الإثم الكبير » الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر: في « الخمر » ما قاله السدي: زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في « الميسر » ، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [ سورة المائدة: 91 ]

وأما قوله: « ومنافع للناس » ، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في صفتها.

لَنَـا مِـنْ ضُحَاهـا خُـبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ وذِكْــرَى هُمُـوم مَـا تُغِـبُّ أَذَاتُهَـا

وَعِنْــد العِشَـاءِ طِيـبُ نَفْسٍ وَلَـذَّةٌ وَمَــالٌ كَثِــير, عِــزَّةٌ نَشَـوَاتُهَا

وكما قال حسان:

فَنَشْـــرَبُهَا فَتَتْرُكُنَـــا مُلُوكًـــا وَأُسْــدًا, مَــا يُنَهْنِهُنَــا اللِّقَــاءُ

وأما منافع الميسر ، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:

وَجَـزُورِ أَيْسَـارٍ دَعَـوْتُ إلَـى النَّدَى وَنِيَــاطِ مُقْفِــرَةٍ أَخَـافُ ضَلالَهَـا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون من الجَزور.

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما منافعهُما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس » ، قال: منافعهما قبل أن يحرَّما.

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس: « ومنافع للناس » ، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها.

واختلف القرأة في قراءة ذلك:

فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين: « قل فيهما إثم كبيرٌ » بالباء، بمعنى قل: في شرب هذه، والقمار هذا، كبيرٌ من الآثام.

وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة: « قل فيهما إثمٌ كثيرٌ » ، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن « الإثم » بمعنى « الآثام » ، وإن كان في اللفظ واحدًا، فوصفوه بمعناه من الكثرة.

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه « بالباء » : « قل فيهما إثم كبير » ، لإجماع جميعهم على قوله: « وإثمهما أكبر من نفعهما » ، وقراءته بالباء. وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك، هو العظم والكبَر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا

قال أبو جعفر : يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [ الخمر ] هذه والقمار هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتَل بعضهم بعضًا، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه بسببه الشرُّ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.

ونـزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.

وقد قال عددٌ من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وإثمهما أكبر من نفعهما » ، قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدَ ما حرِّما.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا » ينـزل المنافعَ قبل التحريم، والإثم بعد ما حرِّم.

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وإثمهما أكبرُ من نفعهما » ، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم.

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وإثمهما أكبرُ من نفعهما » ، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نـزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم.

* ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نـزلت قبل تحريم الخمر:

حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فكرهها قوم لقوله: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ، وشربها قوم لقوله: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، حتى نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ سورة النساء: 43 ] ، قال: فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نـزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [ سورة المائدة: 90 ] فقال عمر: ضَيْعَةً لك ! اليوم قُرِنْتِ بالميسر !

حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال، سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنـزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا، فكان أول ما أنـزل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نـزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال: ثم نـزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « حُرِّمت الخمر » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ و « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما » ، فنسختها الآية التي في المائدة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، الآية.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف، عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال: أنـزل الله عز وجلّ في الخمر ثلاثَ مرات. فأول ما أنـزل قال الله: « يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما » ، قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما هو، فأنـزل الله عز وجل فيهما: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ، فجعل ينوح على قتلى بدر:

تُحَـــيِّي بِالسَّـــلامَةِ أُمُّ عَمْــروٍ وَهَـلْ لَـكِ بَعْـدَ رَهْطِـكِ مِـنْ سَلامِ

ذَرِينــي أَصْطَبِــحْ بَكْــرًا, فَـإنِّي رَأَيْــتُ المَـوْتَ نَقَّـبَ عَـنْ هِشَـامِ

وَوَدَّ بَنُــو المُغِــيرَةِ لَــوْ فَــدَوْهُ بِــأَلْـفٍ مِـنْ رِجَــالٍ أَوْ سَـــوَامِ

كَــــــــأَيٍّ بـــــــالطَّو مِــنْ الشِّــيزَى يُكَلَّــلُ بالسَّــنَامِ

كَــأَيٍّ بــالطَّوِىِّ طَــوِيِّ بَــدْرٍ مِــنَ الفِتْيَــانِ والحُــلَلِ الكِـرَامِ

قال: فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزِعًا يجرُّ رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ! والله لا أطعمُها أبدًا ! فأنـزل الله تحريمها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا !!

حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحق الأزرق، عن زكريا، عن سماك، عن الشعبي قال: نـزلت في الخمر أربعُ آيات: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، فتركوها، ثم نـزلت: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [ سورة النحل: 67 ] ، فشربوها ثم نـزلت الآيتان في « المائدة » : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال نـزلت هذه الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، ولم يفهمها. فأنـزل الله عز وجل يشدد في الخمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون، ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لَحْي البعير فكسر أنف سعد، فأنـزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة - وعن رجل، عن مجاهد - في قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، قال: لما نـزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعضٌ، حتى نـزل تحريمها في « سورة المائدة » .

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « قل فيهما إثمٌ كبير » ، قال: هذا أول ما عِيبت به الخمر.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنـزل الله في « سورة النساء » أشد منها: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم حرامًا. ثم أنـزل الله جل وعز في « سورة المائدة » بعد غزوة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم منها.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قوله: « يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما » ، قال: لما نـزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر، قال: ثم نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال: ثم نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ، فحرّمت الخمر عند ذلك.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الآية كلها، قال: نسخت ثلاثةً، في « سورة المائدة » ، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ، وقرأ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ

قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا منها العفوَ.

واختلف أهل التأويل في معنى: « العفو » في هذا الموضع.

فقال بعضهم: معناه: الفضل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: العفوُ ما فضل عن أهلك.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قل العفو » ، أي الفضْل.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: « العفو » ، قال: الفضل.

حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: « العفو » ، يقول: الفضل.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن العيال قدَّموه، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على الناس.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في قوله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: هو الفضل، فضل المال.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو تصدّق به.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، يقول: ما لا يتبيَّن في أموالكم.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: اليسير من كل شيء.

وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن في قوله: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، يقول: لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم يَقتروا في الحق قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظَهْر غنى.

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: هو أن لا تجهد مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك: « قل العفو » ، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرًا.

* ذكر ذلك من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ما طابَ من أموالكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: يقول: الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيبَه.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك.

وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد - شك أبو عاصم قول الله جل وعز: « قل العفو » ، قال: الصدقة المفروضة.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى « العفو » : الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصَدقته في وجوه البر:

* ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك:

حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار! قال: « أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال: » أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر ! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر؛ قال: فأنتَ أبْصَرُ!

حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج، قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم « . »

حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبًا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال: « يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن ظهر غِنًى. »

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرّمي قال: سمعت أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ارضَخْ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تُلام على كَفاف.

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب.

فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته، الصدقةَ من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو « العفو » من مال الرجل، إذْ كان « العفو » ، في كلام العرب، في المال وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه: حَتَّى عَفَوْا بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، ومنه قول الشاعر:

وَلكِنَّــا نُعِــضُّ السَّــيْفَ منــا بِأَسْــوُقِ عَافِيَــاتِ الشَّــحْمِ كُـومِ

يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل: « خذ ما عفا لك من فلان » ، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله: « قل العفو » لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بيّن لأمته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « خير الصدقة ما أنفقت عن غنى » ، وأذِنهم به.

فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك « العفو » هو الصدقة المفروضة ؟ قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم « عفوا » ، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم « جهد » في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى « العفو » هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه: « ما لم يتبيّن في أموالكم » ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة: « إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة » ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « يكفيك من ذلك الثلث! » ، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك. والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [ سورة الفرقان: 67 ] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [ سورة الإسراء: 29 ] ، وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.

ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ سورة الأعراف: 199 ] ، ثم نـزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً.

حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « يسألونك ماذا ينفقون قل العفو » ، هذه نسختها الزكاة.

وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد أو عيسى، عن قيس عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله: « قل العفو » ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما أدَّبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: « إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده » ، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو « القَوام » بين الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه إن شاء الله تعالى.

ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع الجميعُ لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً وهِبهً ووصيةً، الثلثَ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟

فإن زعم أنه يعني بقوله: « إنه منسوخ » ، أنّ إخراج العفو من المال غير لازم فرضًا، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال

قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه فرضُ الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم يكن أمرٌ من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟

ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى.

قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة « العفو » . فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين: « قل العفو » نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين: « قل العفو » رفعًا.

فمن قرأه نصبًا جعل « ماذا » حرفًا واحدًا، ونصبه بقوله: « ينفقون » ، على ما قد بيَّنت قبل - ثم نصب « العفو » على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟

ومن قرأ رفعًا جعل « ما » من صلة « ذا » ، ورفعوا « العفو » . فيكون معنى الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو.

ولو نصب « العفو » ، ثم جعل « ماذا » حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: ينفقون العفو ورفع الذين جعلوا « ماذا » حرفًا واحدًا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرًا كان صوابًا صحيحًا في العربية.

وبأي القراءتين قرئ ذلك، فهو عندي صواب، لتقارب معنييهما، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين إليّ، وإن كان الأمر كذلك، قراءةُ من قرأه بالنصب، لأن من قرأ به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهرُ.

 

 

 

 

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 ) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ

قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ ، هكذا يبين أي: ما بينت لكم أعلامي وحُججي - وهي « آياته » - في هذه السورة، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبَّهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حُجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنـزلته على نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحُججي وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده إليّ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: « كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ » قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة » ، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قوله: « كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » ، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » ، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة.