القول في تأويل قوله تعالى : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، وفي معنى « اللغو » .

فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين. وذلك كقول القائل: « فعلت هذا والله، أو: أفعله والله، أو: لا أفعله والله » ، على سبوق المتكلم بذلك لسانُه، بما وصل به كلامه من اليمين.

ذكر من قال ذلك:

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هي « بلى والله » ، و « لا والله » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله » ، و « بلى والله » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة نحوه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لغو اليمين، قالت: هو « لا والله » و « بلى والله » ، ما يتراجع به الناس.

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله » و « بلى والله » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله » و « بلى والله » ، يصل بها كلامه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين، قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ؟ قالت: هو « لا والله » ، و « بلى والله » ، ليس مما عقَّدتم الأيمان.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: أتيت عائشة مع عبيد بن عمير، فسألها عبيد عن قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، فقالت عائشة: هو قول الرجل: « لا والله » و « بلى والله » ، ما لم يعقد عليه قلبه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثَبِير، فسألها عبيد عن لغو اليمين، قالت: « لا والله » و « بلى والله » .

حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال، حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو قول الرجل في بيته : « كلا والله » و « بلى والله » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: هم القوم يتدارءون في الأمر، فيقول هذا: « لا والله، وبلى والله، وكلا والله » ، يتدارءون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: قول الرجل: « لا والله، وبلى والله » ، يصل به كلامه، ليس فيه كفارة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن الشعبي قال: هو الرجل يقول: « لا والله، وبلى والله » ، يصلُ حديثه.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال، سألت عامرًا عن قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو « لا والله، وبلى والله » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي جميعًا، عن ابن عون، عن الشعبي مثله.

حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب قال، قال أبو قلابة في : « لا والله، وبلى والله » ، أرجو أن يكون لغة وقال يعقوب في حديثه: أرجو أن يكون لغوًا وقال ابن وكيع في حديثه: أرجو أن يكون لغة، ولم يشك.

حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد قالوا، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: لا والله، وبلى والله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن مالك، عن عطاء، قال: سمعت عائشة تقول في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عطاء مثله.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو قول الناس: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي وعكرمة قالا « لا والله وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فسألها، فقالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، وأشعث، عن عطاء، عن عائشة: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » قالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: « لا والله، وبلى والله » .

حدثنا ابن وكيع وهناد قالا حدثنا يعلى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: قالت عائشة في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قالت: هو قولك: « لا والله، وبلى والله » ، ليس لها عَقد الأيمان.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو قول الرجل: « لا والله، وبلى والله » ، يصل به كلامه، ما لم يشك شيئًا يعقِد عليه قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو، أن سعيد بن أبي هلال حدثه: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عائشة تقول: لغو اليمين قول الرجل: « لا والله، وبلى والله » ، فيما لم يعقد عليه قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عمرو وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي، عن عطاء، عن عائشة بذلك.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما: « والله لا أبيعك بكذا وكذا » ، ويقول الآخر: « والله لا أشتريه بكذا وكذا » ، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به.

وقال آخرون: بل اللغو في اليمين، اليمينُ التي يحلفُ بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك، وأنه بخلاف الذي حلف عليه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني ابن نافع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين، حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، واللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًا، وليس بحق.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، هذا في الرجل يحلف على أمرِ إضرارٍ أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. ومن اللغو أيضًا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق، وقد أخطأ في يمينه، فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: خطأ غير عَمد.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية، « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو أن تحلف على الشيء، وأنت يُخيَّل إليك أنه كما حلفت، وليس كذلك. فلا يؤاخذه الله ولا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم.

حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن قال: هو الرجل يحلف على اليمين، لا يرى إلا أنه كما حلف.

حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك، وليست كذلك.

حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الشي، وهو يرى أنه كذلك، فلا يكون كما قال، فلا كفارة عليه.

حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع قالوا، حدثنا وكيع، عن سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الشيء لا يرى إلا أنها كما حلف عليه، وليست كذلك.

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، حلِف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه، فلا يكون كما حلف، كقوله: « إن هذا البيت لفلان » ، وليس له و « إن هذا الثوب لفلان » ، وليس له.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. قال: فلا يؤاخذكم بذلك. قال: وكان يحبّ أن يُكفّر.

حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو، لا يؤاخذ به.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم نحوه إلا أنه قال: إن حلفت على الشيء، وأنت ترى أنك صادق، وليس كذلك.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك أنه قال: اللغو، الرجل يحلف على الأيمان، وهو يرى أنه كما حلف.

حدثني إسحاق بن [ إبراهيم بن ] حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن زياد قال: هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثنا بكير بن أبي السميط، عن قتادة في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الخطأ غير العمد، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، ويونس، عن الحسن قال: اللغو، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، فليس عليه فيه كفارة.

حدثنا هناد وابن وكيع قال هناد: حدثنا وكيع، وقال ابن وكيع: حدثني أبي عن عمران بن حدير قال: سمعت زرارة بن أوفى قال: هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عمر بن بشير قال: سئل عامر عن هذه الآية: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اللغو أن يحلف الرجل لا يألو عن الحق، فيكون غير ذلك. فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، فاللغو اليمين الخطأ غير العمد، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه، ثم لا يكون كذلك. فهذا لا كفارة عليه ولا مأثم فيه.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، أما اللغو: فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنها كذلك، فلا تكون كذلك. فليس عليه كفارة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اللغو اليمين الخطأ في غير عمد: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه. وهذا ما ليس عليه فيه كفارة.

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق، فذلك اللغو.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك مثله إلا أنه قال: الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن ابن أبي طلحة - كذا قال ابن أبي جعفر - قالا من قال: « والله لقد فعلت كذا وكذا » وهو يظن أن قد فعله، ثم تبيَّن له أنه لم يفعله، فهذا لغو اليمين، وليس عليه فيه كفارة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الخطأ غيرُ العمد، كقول الرجل: « والله إن هذا لكذا وكذا » ، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك قال معمر: وقاله قتادة أيضًا.

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال: سئل سعيد عن اللغو في اليمين، قال سعيد، وقال مكحول: الخطأ غيرُ العمد، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم.

حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، فلا يؤاخذ به، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب، فذاك، الذي يؤاخذ به.

وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب، على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلةً للكلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن خالد، عن عطاء، عن وَسيم ، [ عن طاوس ] ، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاوس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان، فلا كفَّارة عليه فيها، قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم »

وعلة من قال هذه المقالة، ما:-

حدثني به أحمد بن منصور المروزي قال، حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال، حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمين في غضب « . »

وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: الحلفُ على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: هو الذي يحلف على المعصية، فلا يفي ويكفِّر يمينه، قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » .

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير قال: لغو اليمين: أنْ يحلِف الرجل على المعصية لله، لا يؤاخذه الله بإلغائها.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن جبير بنحوه وزاد فيه، قال: وعليه كفارة.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون، عن داود، عن سعيد بنحوه.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله أن يكفِّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها.

حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا إسحاق، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند قال، حدثنا خالد بن إلياس، عن أم أبيه: أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها - ابنة أبي الجهم - فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير فقالوا: لا يمين في معصية، ولا كفارة عليها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: فكيف يصنع؟ قال: يكفر عن يمينه ويترك المعصية.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو الرجل يحلف على الحرام، فلا يؤاخذه الله بتركه.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال في لغو اليمين قال: هي اليمين في المعصية، قال: أو لا تقرأ فتفهم؟ قال الله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [ سورة المائدة: 89 ] ، قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء ، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. قال: وقال: « لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم » إلى قوله: « فإنّ الله غفور حليم » .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها، ويكفِّر.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن مسروق، في الرجل يحلف على المعصية، فقال: أيكفِّر خُطوات الشيطان؟ ليس عليه كفارة.

حدثني ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، في الرجل يحلف على المعصية، قال: كفارتها أن يتوب منها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي أنه كان يقول: يترك المعصية ولا يكفر، ولو أمرتُه بالكفارة لأمرته أن يَتِمّ على قوله.

حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر، عن مسروق قال: كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها، فليس فيها كفارة.

وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية لله فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رَحِمٍ فلا يمينَ له « . »

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينِ قطيعةِ رحم أو معصية لله، فبِرُّه أن يحنَث بها ويرجع عن يمينه .

وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصَل الرجل بها كلامه، على غير قصدٍ منه إيجابَها على نفسه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: لغو اليمين، أن يصل الرجل كلامه بالحلف: « والله ليأكلن، والله ليشربن » ونحو هذا، لا يتعمد به اليمين، ولا يريد به حلفًا. ليس عليه كفارة.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم: لغو اليمين، ما يصل به كلامه: « والله لتأكلن، والله لتشربن » .

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد: « لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم » ، قال: هما الرجلان يتساومان بالشيء، فيقول أحدهما: « والله لا أشتريه منك بكذا » ، ويقول الآخر: « والله لا أبيعك بكذا وكذا » .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدثه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أيمان اللغو، ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب.

وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-

حدثنا به محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي قال، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون - يعني : يرمون - ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت! فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله ! قال: كلا أيمان الرُّماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة .

وقال آخرون: اللغو من الأيمان، ما كان من يمينٍ بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه: إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم في قول الله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: هو كقول الرجل: « أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا - أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدًا » ، فهو هذا، ولا يترك الله له مالا ولا ولدًا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئًا.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن زيد بن أسلم بمثله.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، مثل قول الرجل: « هو كافر، وهو مشرك » . قال: لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اللغو في هذا: الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول: « هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا » ، فهذا اللغو الذي قال الله في « سورة البقرة » .

وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه، ويأتي الذي هو خير.

حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، قال: اليمين المكفرة.

وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرني مغيرة، عن إبراهيم قال: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه، يعني في قوله: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » .

قال أبو جعفر: و « اللغو » من الكلام في كلام العرب، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا، يقال منه: « لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا » إذا قال قبيحًا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [ سورة القصص: 55 ] ، وقوله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [ سورة الفرقان: 72 ] . ومسموع من العرب: « لَغَيْتُ باسم فلان » ، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح. فمن قال: « لَغَيْت » ، قال: « ألْغَى لَغًا » ، وهي لغة لبعض العرب، ومنه قول الراجز:

وَرَبِّ أَسْـــرَابِ حَجــيجٍ كُــظَّم عَـــنِ اللَّغَــا وَرَفَــثِ التَّكَــلُّمِ

فإذا كان « اللغو » ما وصفت، وكان الحالفُ بالله: « ما فعلت كذا » وقد فعل، « ولقد فعلتُ كذا » وما فعل - واصلا بذلك كلامه على سبيل سُبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام والقائلُ: « والله إنّ هذا لَفُلان » وهو يراه كما قال، أو: « والله ما هذا فلان! » وهو يراه ليس به والقائلُ: « ليفعلنّ كذا والله - أو: لا يفعل كذا والله » على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام وسبوق اللسان للعادة، على غير تعمد حلف على باطل والقائل: « هو مشرك، أو هو يهودي أو نصراني، إن لم يفعل كذا - أو إن فعل كذا » من غير عزم على كفر أو يهودية أو نصرانية جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق، وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثمَ قلوبهم كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيمانهم، لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الآجل، لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عبادَه، بما لغوا من أيمانهم، وأنّ الذي هو مؤاخذهم به، ما تعمدت فيه الإثمَ قلوبُهم.

وإذ كان ذلك كذلك وكان صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه » ، فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه، مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامةُ في المال - أو إلزام الجزاء من المجزيِّ أبْدالَ الجازين لا شك عقوبةً كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالا لخلقه فيما تعدَّوا من حدوده، وإن كان يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه كان بينًا أنّ من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنِث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه، فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجَّل من عقوبته إياه على ذلك، مُسْقطًا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغيرُ جائز لقائل أن يقول وقد وأخذه بها: هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله.

فإذ كان ذلك غيرَ جائز، فبيِّنٌ فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال: « اللغو الحلف على المعصية » ، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن على الحالف على معصية الله كفارة بحِنْثه في يمينه. وفي إيجاب سعيدٍ عليه الكفارة، دليلٌ واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ، لما وصفنا من أن من لزمه الكفارة في يمينه، فليس ممن لم يؤاخذ بها.

فإذا كان « اللغو » هو ما وصفنا مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به - وكلُّ يمين لزمت صاحبَها بحنثه فيها الكفارةُ في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبةَ عليها في الآجل، وإن كان وَضَع عنه كفارتها في العاجل - فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين. وما عدا ذلك فهو « اللغو » ، وقد بينا وجوهه فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون قوةً لأيمانكم، وحجة لأنفسكم في إقسامكم، في أن لا تبرُّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لَغَتْه ألسنتكم من أيمانكم فنطقت به من قبيح الأيمان وذميمها، على غير تعمُّدكم الإثم، وقصدِكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عَقْد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمان على ما حلفتم عليه بقصدٍ منكم وإرادة، فيلزمكم حينئذ إمّا كفارة في العاجل، وإمّا عقوبة في الآجل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » عبادَه أنه مؤاخذهم به، بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله: « بما كسبت قلوبكم » ، ما تعمدت.

فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به: هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ بها. وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، قال: أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، أن تحلف وأنت كاذب.

حدثني المثنى قال، [ حدثنا عبد الله بن صالح ] حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ [ سورة المائدة: 89 ] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم، أو يرد ذلك المال إلى أهله، وهو قوله تعالى ذكره: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا إلى قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ سورة آل عمران: 77 ] .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، ما عَقَدتْ عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال: لا تؤاخذ حتى تُصْعِد للأمر، ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فتعقد عليه يمينك.

قال أبو جعفر : والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوًا، فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجبُ فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل.

وإذ كان ذلك تأويلَ الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، واحفظوا أيمانكم.

وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفًا.

وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عبادَه المؤاخذةَ بهذه الآية، هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا. وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف، وليس ذلك كذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، يقول: بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة.

4473 م - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله سواء.

وكأنَّ قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل مؤاخذة الله عبدَه على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذةٌ منه له بها بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمينَ الفاجرةَ، منهم عطاءٌ والحكم.

حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء والحكم، أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبًا متعمدًا: يكفِّر.

وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارةَ منه، والآخر منهما مؤاخذٌ به في الآخرة إلا أن يعفو.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » أمَّا، « ما كسبت قلوبكم » فما عقدت قلوبكم، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادةَ أن يقضي أمرَه. والأيمان ثلاثة: « اللغو، والعمد، والغَموس » . والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل، ثم يرى خيرًا من ذلك، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، فهذه لها كفارة.

وكأنَّ قائل هذه المقالة، وجَّه تأويل قوله: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، إلى غير ما وجَّه إليه تأويل قوله: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، وجعل قوله: « بما كسبت قلوبكم » ، الغموسَ من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، اليمينَ التي يستأنف فيها الحِنث أو البرَّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرَّ فيها.

وقال آخرون: بل ذلك: هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد - يعني ابن عجلان - : أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره: « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، مثل قول الرجل: « هو كافر، هو مشرك » ، قال: لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: اللغو في هذا، الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول: « هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا » ، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في « سورة البقرة » : « ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم » ، قال: بما كان في قلوبكم صدقًا، واخذك به. فإن لم يكن في قلبك صدقًا لم يؤاخذك به، وإن أثمتَ.

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده، وذلك يكون منها على وجهين:

أحدهما: على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثمًا، وبفعله مستحقًا المؤاخذةَ من الله عليها. وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله، قاصدًا قِيلَ الكذب، وذاكرًا أنه قد فعل ما حلف عليه أنه لم يفعله، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء واخذه به في الآخرة، وإن شاء عفا عنه بتفضله، ولا كفارة عليه فيها في العاجل، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث، فتلزم فيه الكفارة.

والوجه الآخر منهما: على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 225 )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: « والله غفورٌ » لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء وَاخذهم بها ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها، وغير ذلك من ذنوبهم « حليمٌ » في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: « للذين يؤلون » ، للذين يقسمون أليَّة، « والألية » الحلف، كما:-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: « للذين يؤلون » ، يحلفون.

يقال: « آلى فلان يُؤْلي إيلاء وأليَّة » ، كما قال الشاعر:

كَفَيْنَــا مَــنْ تَغَيَّـبَ فـي تُـرَابٍ وَأَحْنَثْنَــــا أَليَّـــةَ مُقْسِـــمِينَا

ويقال: « أَلْوة وأُلْوة » ، كما قال الراجز:

* يَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَتِي *

وقد حكي عنهم أيضًا أنهم يقولون: « إلوة » مكسورة الألف.

« والتربص » : النظر والتوقف.

ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر « أن يعتزلوا » ، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.

واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته.

فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته: أن يحلف عليها في - حال غضب على وجه الضِّرار - أن لا يجامعها في فرجها، فأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير غضب، فليس هو موليًا منها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن حريث بن عميرة، عن أم عطية قالت، قال جبير: أرضعي ابن أخي مع ابنك! فقالت: ما أستطيع أن أرضع اثنين! فحلف أن لا يقرَبها حتى تفطِمه. فلما فطمته مرّ به على المجلس، فقال له القوم: حسنًا ما غَذَوْتموه! قال جبير: إنيّ حلفت ألا أقربها حتى تفطمه! فقال له القوم: هذا إيلاءٌ!! فأتى عليًا فاستفتاه، فقال: إن كنتَ فعلت ذلك غضبًا فلا تصلح لك امرأتك، وإلا فهي امرأتك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، أنه سمع عطية بن جبير قال: توفيت أمُّ صبيٍّ نسيبةٌ لي، فكانت امرأة أبي تُرضعه، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه. فلما مضت أربعة أشهر قيل له: قد بانت منك! - وأحسب، شك أبو جعفر، قال - : فأتى عليًا يستفتيه فقال: إن كنت قلت ذلك غضبًا فلا امرأة لك، وإلا فهي امرأتك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني سماك قال، سمعت عطية بن جبير - يذكر نحوه عن علي.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال، حدثنا داود، عن سماك، عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية: أنه توفي أخوه وترك ابنًا له صغيرًا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه! فقالت: إنى أخشى أن تُغِيلهما، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا: لَحُسْنَ ما غذا أبو عطية ابن أخيه! قال: كلا! زعمت أم عطية أنيّ أغيلهما، فحلفتُ أن لا أقربها حتى تفطمهما. فقالوا له: قد حرُمت عليك امرأتك! فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه، فقال علي: إنما أردتَ الخيرَ، وإنما الإيلاء في الغضب.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك، عن أبي عطية: أن أخاه توفي - فذكر نحوه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب: أن رجلا هلك أخوه فقال لامرأته: أرضعي ابن أخي. فقالت: أخاف أن تقع عليّ! فحلف أن لا يمسَّها حتى تفطِم. فأمسك عنها، حتى إذا فطمته أخرج الغلامَ إلى قومه، فقالوا: لقد أحسنت غذاءه! فذكر لهم شأنه، فذكروا امرأته، قال: فذهب إلى علي - فاستحلفه بالله: « ما أردت بذلك؟ » ، يعني إيلاءً، قال: فردَّها عليه.

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن أشعث بن سوار، عن سماك، عن عطية بن أبي عطية قال، توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعًا، وكنت رجلا معسرًا، لم يكن بيدي ما أسترضع له. قال: فقالت لي امرأتي، وكان لي منها ابن ترضعه - إن كفيتني نفسَك كفيتكهما! فقلت: وكيف أكفيك نفسي؟ قالت: لا تقربني. فقلت: والله لا أقربك حتى تفطميهما. قال: ففطمتهما وخرجا على القوم، فقالوا: ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما! قال: فقصصت عليهم القصة، فقالوا: ما نراك إلا آليت منها وبانت منك! قال: فأتيت عليًا فقصصت عليه القصة، فقال: إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن وكيع، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن عليّ قال: لا إيلاء إلا بغضب.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، أن عليا قال: إذا قال الرجل لامرأته وهي تُرضع: « والله لا قرَبتُك حتى تفطمي ولدي » ، يريد به صلاحَ ولده، قال: ليس عليه إيلاء.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ فقال: إني قلت لامرأتي لا أقرَبُها سنتين. قال: قد آليت منها. قال: إنما قلت لأنها ترضع! قال: فلا إذًا.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن علي أنه كان يقول: إنما الإيلاء ما كان في غضب، يقول الرجل: « والله لا أقربك، والله لا أمسُّك! » . فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره، فإنه لا يكون إيلاء، ولا تَبِين منه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حفص، عن الحسن: أنه سئل عنها فقال: لا والله، ما هو بإيلاء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا بشر بن منصور، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إذا حلف من أجل الرَّضاع فليس بإيلاء.

حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: سألت ابن شهاب عن الرجل يقول: والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي! قال: لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله، فيما يريد المرء أن يضارَّ به امرأتَه من اعتزالها، ولا نعلم فريضةَ الإيلاء إلا على أولئك، فلا ترى أنّ هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده، أقسم إلا على أمر يتحرَّى به فيه الخير، فلا نرى وَجبَ على هذا ما وجب على المولي الذي يُولِي في الغضب.

وقال آخرون : سواءٌ إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها، كان حلفه في غضب أو غير غضب، كلّ ذلك إيلاء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم - في رجل قال لامرأته: « إن غَشِيتُك حتى تفطمي ولدَك فأنت طالق » ، فتركها أربعة أشهر. قال: هو إيلاء.

حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي قال: كل شيء يحول بينه وبين غشيانها، فتركها حتى تمضي أربعة أشهر، فهو داخلٌ عليه.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيًا، فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها، فقال: ما أرى هذا بغضب، وإنما الإيلاء في الغضب قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الذي يحدِّثون؟! إنما قال الله: « للذين يؤلون من نسائهم » إلى فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، إذا مضت أربعة أشهر، فليخطبها إن رغب فيها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم - في رجل حلفَ أن لا يكلم امرأته - قال: كانوا يرون الإيلاء في الجماع.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، قال: كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعه أشهر، فهي إيلاء.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل وأشعث، عن الشعبي مثله.

حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء.

وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مَسَاءة امرأته، فهي إيلاء منه منها، على الجماع حلف أو غيره، في رضًا حلف أو سخط.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن خصيف، عن الشعبي قال: كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، إذا قال: « والله لأغضبنَّك، والله لأسوأنَّك، والله لأضربنَّك » ، وأشباه هذا.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن أبي ذئب العامريّ: أن رجلا من أهله قال لامرأته: « إن كلمتك سنة فأنت طالق » ، واستفتى القاسم وسالمًا فقالا إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمها فهي طالقٌ إذا مضت أربعة أشهر.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، سمعت حمادًا قال، قلت لإبراهيم: الإيلاء: أن يحلفَ أن لا يجامعها ولا يكلمها ولا يجمع رأسه برأسها، أو ليغضبنَّها، أو ليحرِمنَّها، أو ليسوأنَّها؟ قال: نعم.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم عن رجل قال لامرأته: « والله لأغيظنك » ! فتركها أربعة أشهر، قال: هو إيلاء.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، سمعت شعبة قال: سألت، الحكم فذكر مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنا يونس قال، قال ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب: أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يومًا أو شهرًا، قال: فإنا نرى ذلك يكون إيلاءً. وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها، فكان يمسُّها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفَيْءُ، أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها. فمن فعل ذلك، قبل أن تمضي الأربعة أشهر، فقد فاء. ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عِدَّتها، فقد فاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطليقة.

قال أبو جعفر : وعلة من قال: « إنما الإيلاء في الغضب والضَرار » : أنّ الله تعالى ذكره إنما جعل الأجلَ الذي أجَّل في الإيلاء مخرجًا للمرأة من عَضْل الرجل وضراره إياها، فيما لها عليه من حُسن الصحبة والعِشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلا ولا مُضارًا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبًا بذلك رضاها، وقاضيًا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك مُوليًا، لأنه لا معنى هنالك لَحِق المرأةَ به من قِبَل بعلها مساءةٌ وسوء عشرة، فيجعل الأجل - الذي جُعل للمولي - لها مخرجًا منه.

وأما علة من قال: « الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء » ، عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله: « للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر » بعضًا دون بعض، بل عمّ به كلَّ مُولٍ ومُقسِم. فكل مقسِم على امرأته أن لا يغشاها مدةً هي أكثر من الأجل الذي جَعل الله له تربُّصه، فمُولٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مُولٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جُعل له تربُّصه.

وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم: أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدَّه للمُولي مخرجًا للمرأة مِن سوء عشرتها بعلها إياها وضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقرَبها، بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضِّرار، من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءَها أو يغيظها. لأن كل ذلك ضررٌ عليها وسوء عشرة لها.

قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب، قولُ من قال: كل يمين منَعت المقسم الجماعَ أكثر من المدة التي جعل الله للمولي تربُّصَها، قائلا في غضب كان ذلك أو رضًا. وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.

وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا ( كتاب اللطيف ) بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: فإن رجعوا إلى ترك ما حلَفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن، فجامعوهن وحنِثوا في أيمانهم « فإن الله غفورٌ » ، لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهُن، ولما سلف منهم إليهن، من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه « رحيم » بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين.

وأصل « الفيء » ، الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا إلى قوله حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ سورة الحجرات: 9 ] ، يعني: حتى ترجع إلى أمر الله. ومنه قول الشاعر:

فَفـاءَتْ وَلَـمْ تَقْـضِ الَّـذِي أَقْبَلَتْ لَهُ وَمِـنْ حَاجَـةِ الإنْسَـانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا

يقال منه: « فاء فلان يفيء فَيْئة » - مثل « الجيئة » و « فَيْأ » . و « الفَيْئة » المرة. فأما في الظلّ فإنه يقال: « فاء الظلّ يفيء فُيُوءًا وفَيْأ » ، وقد يقال: « فيوءًا » أيضًا في المعنى الأول، لأن « الفيء » في كل الأشياء بمعنى الرجوع.

وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيًا.

فقال بعضهم: لا يكون فائيًا إلا بالجماع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق قال: الفيءُ الجماع.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق مثله.

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع.

حدثنا تميم بن المنتصر قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر بمثله.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: الفيء الجماع.

حدثنا أبو عبد الله النشائي قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: الفيءُ الجماع، لا عذرَ له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيدٌ القائل.

حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن جبير أنه قال: لا عذرَ له حتى يغشى.

حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حماد وإياس، عن الشعبي قال أحدهما: عن مسروق قال: الفيء الجماع وقال الآخر: عن الشعبي: الفيء الجماع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته، ثم شغله مرض - قال: لا عذر له حتى يغشى.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها، فيعرض له عارضٌ يحبسه، أو لا يجد ما يَسُوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر، أنها أحق بنفسها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته، ثم أراد أن يفيء، فلا فيء إلا الجماع.

وقال آخرون: « الفيء » : المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذرٌ فأشهد، فذاك له يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرضٌ أو طريق، فأشهد على مراجعة امرأته.

حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم قال: تذاكرنا أنا والنخعي ذاك، فقال النخعي: إذا كان له عذر فأشهد، فقد فاء. وقلت أنا: لا عذر له حتى يغشى. فانطلقنا إلى أبي وائل، فقال: إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد، جاز.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إنْ آلى، ثم مرض أو سُجن أو سافر فراجع، فإنّ له عذرًا أن لا يجامع قال: وسمعت الزهري يقول مثل ذلك.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النفساء يُولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارِب، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا: إذا لم يستطع كفَّر عن يمينه، وأشهد على الفيء.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: نـزل به ضيفٌ فآلى من امرأته فنفست، فأراد أن يفيء، فلم يستطع أن يقرَبها من أجل نفاسها، فأتى علقمة فذكر ذلك له، فقال: أليس قد فئتَ بقلبك ورَضيت؟ قال: بلى! قال: فقد فئت! هي امرأتك!

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم: أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال: أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال: بلى! قال: فهي امرأتك.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، أخبرنا عامر، عن الحسن قال: إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر، قال: يُشهد أنه قد فاء، وهي امرأته.

حدثنا عمران قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا عامر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بمثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنى أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: وحدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة قال: إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع، فله أن يُشهد على رَجْعتها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته، فشغله أمر، فأشهد على مراجعة امرأته، قالا إذا كان له عذرٌ فذاك له.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء، فحدَّث أن رجلا من بني سعد بن همّام آلى من امرأته فنُفِست، فلم يستطع أن يقرَبها، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال: إذا أشهد فهي امرأته.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: إن كان له عذرٌ فأشهد، فذلك له - يعني المُولي من امرأته.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء، عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنُفِست - قالوا: إذا أشهد فهي امرأته.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال: إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء، فليشهد على فَيْئه. وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته، فليشهد على فيئه. فإن أشهدَ وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها، فهي امرأته. وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر، فقد بانتْ منه.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب: أنه إذا آلى الرجل من امرأته، قال: فإن كان به مرضٌ ولا يستطيع أن يمسَّها، أو كان مسافرًا فحبس، قال: فإذا فاء وكفَّر عن يمينه، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر، فلا نراه إلا قد صلح له أن يُمسك امرأته، ولم يذهب من طلاقها شيء. قال، وقال ابن شهاب - في رجل يُولي من امرأته، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال: نرى، والله أعلم، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته، بعد أن يشهد على ذلك، ويكفِّر عن يمينه، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقًا.

حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفيء الجماع. فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبًا أو كان محرمًا أو شيء له فيه عذر، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا، فإنّ ذلك له فيءٌ إن شاء الله.

وقال آخرون: « الفيء » المراجعة باللسان بكلّ حال.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيم قال: الفيء أن يفيء بلسانه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن قال: الفيء الإشهاد.

حدثنا المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن فاء في نفسه أجزأه، يقول: قد فاء.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن رجاء قال: ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال: أرأيت إن لم ينتشر ذكره؟ إذا أشهدَ فهي امرأته.

قال أبو جعفر: وإنما اختلف المختلفون في تأويل « الفيء » على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون « إيلاءً » .

فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون موليًا من امرأته الإيلاءَ الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيءَ الرجوعَ إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماعُ في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداثَ النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه، وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون، في قول من قال ذلك.

وأما قولُ من رأى أنّ الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائقَ له عذرًا، ولم يجعل له مخرجًا من يمينه غيرَ الرجوع إلى ما حلف على تركه، وهو الجماع.

وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليًا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءَها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوعُ إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه، وإبداء ذلك بلسانه في كل حال عزم فيها على الفيء.

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا، قولُ من قال: « الفيء هو الجماع » ، لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء، فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا. لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه، كان الفيء إلى ذلك، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه، وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي هو جماعٌ - بعذر، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة . لأن المرء إنما يكون تاركًا ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائنٍ تاركَهُ.

وإذ كان ذلك كذلك، فإحداث العزم في نفسه على جماعها، مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء، كان أعجبَ إليّ.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 226 )

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: « فإن الله غفورٌ » لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ « رحيم » بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن، ثم حنِثتم فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: « فإن فاءوا فإن الله غفور رحيمٌ » ، قال: لا كفارة عليه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا فاء فلا كفَّارة عليه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في قول الله: « فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم » : أن كفارته فيؤه.

قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجبُ على قول من زعم أنّ كل حانث في يمين هو في المُقام عليها حَرِجٌ، فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وأن كفارته الحنث فيها.

وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها [ كفارة ] ، برًّا كان الحنِث فيها أو غير بِرّ، فإن تأويله: « فإن الله غفور » للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة « رحيم » بهم، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة، فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة، كما:-

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ - قال: وتلك رحمة الله! مَلَّكه أمرَها الأربعة الأشهر إلا من معذرة. لأن الله قال: وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [ سورة النساء: 34 ] .

* ذكر بعض من قال: إذا فاء المولي فعليه الكفارة.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربَّص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال: حدثني يونس قال، حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب بنحوه.

حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم قال: إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر، كفَّر عن يمينه.

حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النُّفَساء يولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارب، سئل عنها أصحاب عبد الله، فقالوا: إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إن فاء فيها كفَّر يمينه، وهي امرأته.

حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: يوقَف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته، وعليه يمين: يكفِّرها إذا حنِث.

قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك، لما قد بينا من العلل في كتابنا ( كتاب الأيمان ) ، من أن الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف، على معصية كانت اليمين أو على طاعة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 227 )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره : « وإن عزموا الطلاق » .

فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهنّ من العِشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربُّصهم عنهن وعن جماعهن، وعشرتهن في ذلك بالواجب « فإن الله لهم غفور رحيم » . وإن تركوا الفيء إليهن، في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهنّ حتى ينقضين، طُلِّق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهن بمضيهن. ومضيُّهن عند قائلي ذلك: هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي إلى منها.

ثم اختلف متأوِّلو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة.

فقال بعضهم: هو تطليقة بائنة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن خِلاس أو الحسن، عن علي قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة: أن عليًا وابن مسعود كانا يجعلانها تطليقة، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها قال قتادة: وقولُ عليّ وعبد الله أعجبُ إليّ في الإيلاء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنّ عليًا قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة.

حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة: أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي واحدة بائنة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا عطاء الخراساني قال: سمعني أبو سلمة بن عبد الرحمن أسأل ابن المسيب عن الإيلاء، فمررت به فقال: ما قال لك ابن المسيب؟ فحدثته بقوله، فقال: أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولان؟ قلت: بلى! قال: كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة، وهي أحق بنفسها.

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء الخراساني قال، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عثمان بن عفان قال: إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلى، فتطليقة بائنة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن معمر أو حُدثت عنه عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد: أنهما كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، فمكثت ستة أشهر، فأتى ابن مسعود فسأله، فقال: أعلمها أنها قد مُلِّكت أمرَها. فأتاها فأخبرها، وأصْدقها رطلا من وَرِقٍ.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: أنه كان يقول في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي تطليقة بائنة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثل ذلك.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، قال: فخرج فغاب عنها ستة أشهر، ثم جاء فدخل عليها، فقيل: إنها قد بانت منك! فأتى عبد الله، فذكر ذلك له، فقال له عبد الله: قد بانت منك، فَأتها فأعلمها واخطبها إلى نفسها. فأتاها فأعلمها أنها قد بانت منه، وخطبها إلى نفسها، وأصدقها رِطلا من وَرِق.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، عن عطاء قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال، في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من بني هلال يقال له فلان ابن أنيس أو: عبد الله بن أنيس أراد من أهله ما يريد الرجلُ من أهله، فأبت، فحلف أن لا يقرَبها. فطرأ على الناس بعثٌ من الغد، فخرج فغاب ستة أشهر ثم قدم، فأتى أهله ما يرى أن عليه بأسًا! فخرج إلى القوم فحدثهم بسَخَطه على أهله حيث خرج، وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم: فإنها قد حرُمت عليك! فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك، فقال ابن مسعود: أما علمت أنها حرُمت عليك؟ قال لا! قال: فانطلق فاستأذن عليها، فإنها ستنكر ذلك، ثم أخبرها أنّ يمينك التي كنت حلفتَ عليها صارت طلاقًا، وأخبرها أنها واحدة، وأنها أملك بنفسها، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك على ثنتين، وإلا فهي أملكُ بنفسها.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال، في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدّ ثلاثة قروء.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان،

عن منصور والأعمش ومغيرة، عن إبراهيم: أن عبد الله بن أنيس آلى من امرأته، فمضت أربعةُ أشهر، ثم جامعها وهو ناسٍ، فأتى علقمة، فذهب به إلى عبد الله، فقال عبد الله: بانت منك فاخطبها إلى نفسها، فأصدقها رطلا من فضة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب عن أبي قلابة: أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فضرب ابنُ مسعود فخذَه وقال: إذا مضت أربعة أشهر فاعترفْ بتطليقة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر: أن ابن مسعود قال في المُولي: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فقد بانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: عَزْم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن جعفر بن برقان، عن عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن عكرمة أنه قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة فذكر ذلك عن ابن عباس.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير: أن أمير مكة سأله عن المُولي، فقال: كان ابن عمر يقول: إذا مضت أربعة أشهر مُلِّكت أمرها وكان ابن عباس يقول ذلك.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، مثله.

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبى وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبان بن صالح، عن ابن شهاب: أن قبيصة بن ذؤيب قال في الإيلاء: هي تطليقة بائنة وتأتنف العدة وهي أملكُ بأمرها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن شريح: أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيء ؟ فقال شريح: « وإذ عزموا الطلاقَ فإن الله سميع عليم » - لم يزده عليها. فأتى مسروقًا فذكر ذلك له، فقال: يرحم الله أبا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرِّج أحد عنه! وإنما أتاه ليفرِّج عنه! ثم قال: هي تطليقة بائنة، وأنت خاطبٌ من الخطَّاب.

حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة أنه سمع الشعبي، يحدث: أنه شهد شُرَيحًا - وسأله رجل عن الإيلاء - فقال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الآية قال: فقمت من عنده، فأتيتُ مسروقًا، فقلت: يا أبا عائشة وأخبرته بقول شريح، فقال: يرحم الله أبا أمية، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا، منْ كان يفرج عنا مثل هذا! ثم قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم قال، قرأت في كتاب أبي قلابة عند أيوب: سألت سالم بن عبد الله وأبا سلمة بن عبد الرحمن فقالا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال، إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة، ويخطبها في العِدَّة.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه- في الرجل يقول لامرأته: « والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدًا! » ، ويحلف أن لا يقربها أبدًا فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ، كانت تطليقة بائنة، وهو خاطب- قول علي وابن مسعود وابن عباس والحسن.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنه سئل عن رجل قال لامرأته: « إن قرَبتُك فأنت طالق ثلاثًا » ، قال، فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وسقط ذلك.

حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل وحدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع جميعًا، عن يزيد بن إبراهيم، قال، سمعت الحسن ومحمدًا في الإيلاء، قالا إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت بتطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب.

حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال، كنا نتحدث في الأليَّة أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: إن مضت يعني: أربعة أشهر بانت منه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النخعي قال: إن قرَبها قبل الأربعة الأشهر فقد بانت منه بثلاث، وإن تركها حتى تمضي الأربعة الأشهر بانت منه بالإيلاء في رجل قال لامرأته: « أنت طالق ثلاثًا إن قربتك سنة » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: أعتم عبيد الله بن زياد عند هندٍ في ليلة أم عثمان ابنة عمر بن عبيد الله، فلما أتاها أمرت جواريها، فأغلقنَ الأبواب دونه، فحلف أن لا يأتيها حتى تأتيه، فقيل له: إن مضت أربعة أشهر ذهبتْ منك.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف قال: بلغني أن الرجل إذا آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ويخطبها إن شاء.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ - في الذي يُقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرُمت عليه، فتعتدُّ عدّة المطلقة وهو أحد الخطاب.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب قال، إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة.

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وهذا في الرجل يولي من امرأته ويقول: « والله لا يجتمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك! » ، فكان أهل الجاهلية يعدُّونه طلاقًا، فحدّ الله لهما أربعة أشهر، فإن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته، وإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ فهي تطليقة بائنة، وهي أحق بنفسها، وهو أحد الخطاب.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، قال: كان ابن مسعود وعمر بن الخطاب يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة، وهي أحقُّ بنفسها.

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو وهب، عن جويبر، عن الضحاك: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ الآية، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ولم يطلِّق، بانت منه بالإيلاء. فإن رجعت إليه فمهرٌ جديد، ونكاح ببيِّنة، ورضًا من الوليّ.

وقال آخرون: بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر: تطليقةٌ، يملك فيها الزوجُ الرحعةَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر، فواحدة وهو أملك برجعتها.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة يملك الرَّجعة.

حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول قال، إذا مضت أربعة اشهر فهي تطليقة، يملك الرجعة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال، هي واحدة وهو أحق بها يعني إذا مضت الأربعة الأشهر وكان الزهري يفتي بقول أبي بكر هذا.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني يونس قال، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة وهو أملك بها ما كانت في عِدَّتها.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا أبو يونس القوي قال، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق! قال، لعلك ممن يقول: « إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت! » ، لا! ولو مضت أربع سنين.

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج بن رِشْدين قال: حدثنا عبد الحبار بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وتستقبل عِدَّتها، وزوجها أحق برجعتها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، كان ابن شبرمة يقول: إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة ويخاصِم بالقرآن، ويتأوَّل هذه الآية: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [ سورة البقرة: 228 ] ، ثم نـزع: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمر: ونحن في ذلك يعني في الإيلاء على قول أصحابنا الزهريّ ومكحول أنها تطليقة - يعني مضيّ الأربعة الأشهر - وهو أملك بها في عدتها.

وقال آخرون: معنى قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ إلى قوله: « فإنّ الله سميع عليم » لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ على الاعتزال من نسائهم، تنظُّرُ أربعة أشهر بأمره وأمرها فَإِنْ فَاءُوا بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف، وترك هجرانهن، وأتوْا إلى غشيانهن وجماعهن فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فأحدثوا لهن طلاقًا بعد الأشهر الأربعة « فإن الله سميع » لطلاقهم إياهن « عليم » بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة.

وقال متأوِّلو هذا التأويل: مضي الأشهر الأربعة يوجب للمراة المطالبةَ على زوجها المُولي منها، بالفيء أو الطلاق، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك، فإن فاء أو طلَّق، وإلا طلَّق عليه السلطان.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال في الإيلاء: لا شيء عليه حتى يُوقَف، فيطلق أو يمسك.

حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبَّويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، مثله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال، سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن عمر بن الخطاب: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لم يجعله شيئًا.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: أنه كان يقف المولي بعد الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: قال في الإيلاء: يُوقَف.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يَقِفُه.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يوقفه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن على قال: يُوَقف المُولي عند انقضاء الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق قال أبو كريب، قال ابن إدريس: وهو قول أهل المدينة.

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان، عن علي مثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن علي قال، المُولي إمَّا أن يفيء، وإما أن يطلّق.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، أن عثمان كان يقف المولي بقول أهل المدينة.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، لقيت طاوسًا فسألته، فقال: كان عثمان يأخذ بقول أهل المدينة.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء أنه قال: ليس له أجل وهي معصية، يوقف في الإيلاء، فإما أن يمسك، وإما أن يطلق.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء: قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فانه يوقف، إما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أبا الدرداء كان يقول: هي معصية، ولا تحرم عليه امرأته بعد الأربعة الأشهر، ويجعل عليها العدّة بعد الأربعة الأشهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبا الدرداء وسعيد بن المسيب قالا يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يزال مقيما على معصية حتى يفيء أو يطلق.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب، نحوه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، قال، حدثنا الحسن، عن ابن أبى مليكة قال، قالت عائشة: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. قال: قلت: أنتَ سمعتها؟ قال: لا تُبَكِّتْني.

حدثنا إبراهيم بن مسلم بن عبد الله قال، حدثنا عمران بن ميسرة قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة، مثله.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكه، عن عائشة، مثله.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إذا آلى الرجل أن لا يمسَّ امرأته، فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها لا يوجب عليه الذي صَنع طلاقًا ولا غيره.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبي الزناد، عن أبي الزناد قال، أخبرني القاسم بن محمد: أنّ خالد ابن العاص المخزومي كانت عنده ابنة أبي سعيد بن هشام، وكان يحلف فيها مرارًا كثيرة أن لا يقربها الزمانَ الطويلَ قال، فسمعت عائشة تقول له: ألا تتقي الله يا ابن العاص في ابنة أبي سعيد؟ أما تخْرج؛ أما تقرأ هذه الآية التي في « سورة البقرة » ؟ قال: فكأنها تؤثِّمه، ولا ترى أنه فارق أهله.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المولي: لا يحلّ له إلا ما أحل الله له: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عيد الله بن نمير قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال، لا يجوز للمُولي أن لا يفعل ما أمره الله، يقول: يبيِّن رجعتها، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر - يبين رجعتها، أو يطلق قال أبو كريب. قال ابن إدريس وزاد فيه. وراجعته فيه، فقال قولا معناه: إن له الرجعة.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جبير أن عمر قال نحوا من قول ابن عمر.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم قال، أخبرنا نافع أن ابن عمر قال في الإيلاء: يوقف عند الأربعة الأشهر.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل أن لا يمس امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها ولا يوجب عليه الذي صنعَ طلاقًا ولا غيره.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال: الأمراء يقضون بذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال، يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة. فإما أن يطلِّق، وإما أن يفيء.

حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال، سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب - في الرجل يولي من امرأته- قال: كان لا يرى أن تدخل عليه فرقه حتى يطلق.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن المسيب: في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر: إنما جعله الله وقتًا لا يحل له أن يجاوزَ حتى يفيء أو يطلِّق، فإن جاوز فقد عصى الله لا تحرُمُ عليه امرأته.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلِّق.

حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن ابن المسيب: في الإيلاء: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن معمر أو حدثته عنه عن عطاء الخراساني قال، سألت ابن المسيب عن الإيلاء، فقال: يُوقف.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن ابن المسيب وعن ابن طاوس، عن أبيه، قالا يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. .

حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني مالك بن أنس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مثل ذلك يعني مثل قول عمر بن الخطاب في الإيلاء: لا شيء عليه، حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال في الإيلاء: يوقف.

حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فيوقف حتى يراجع أهله، أو يطلِّق.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: أن مروان وَقفه بعد ستة أشهر.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عمر بن عبد العزيز في الإيلاء قال، يوقف عند الأربعة الأشهر حتى يفيء، أو يطلق.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفيء فيراجع، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه.

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا الآية، قال: كان علي وابن عباس يقولان: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقف فيقال له: أمسكتَ أو طلَّقت، فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قال: هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا، فجعل الله له أربعة أشهر يتربص بها. وقال: قول الله تعالى ذكره: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، يتربص بها فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فإذا رفعته إلى الإمام ضرب له أجلَ أربعةِ أشهر، فإن فاء وإلا طَلَّق عليه، فإن لم ترفعه فإنما هو حقٌّ لها تركته.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك قال، لا يقع على المولي طلاق حتى يوقف، ولا يكون موليًا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه، لأنه يوقف عند الأربعة الأشهر، وقد سقطت عنه اليمين، فذهب الإيلاء .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد قال، قال ابن عمر: حتى يرفع إلى السلطان، وكان أبي يقول ذلك ويقول: لا والله وإن مضت أربعُ سنين حتى يوقَف.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فطر قال، قال محمد بن كعب القرظي وأنا معه: لو أن رجلا آلى من امرأته أربعَ سنين لم نُبِنْها منه حتى نجمع بينهما، فإن فاء فاء، وإن عزم الطلاق عزم.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد العزيز الماجشون، عن داود بن الحصين قال، سمعت القاسم بن محمد يقول: يوقف إذا مضت الأربعة.

وقال آخرون: ليس الإيلاء بشيء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن علية، عن عمرو بن دينار قال، سألت ابن المسيَّب عن الإيلاء فقال: ليس بشيء.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثني جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال، سألت ابن عمر عن رجل آلى من امرأته، فمضتْ أربعة أشهر فلم يفئ إليها، فتلا هذه الآية: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ الآية.

حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي، فقال: لا علم لي به.

وقال آخرون من أهل هذه المقالة: بل معنى قوله: « وإن عزموا الطلاق » : وإن امتنعوا من الفيئة، بعد استيقاف الإمام إيّاهم على الفيء أو الطلاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن فاء جعلها امرأته، وإن لم يفئ جعلها تطليقة بائنة.

حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن لم يفئ فهي تطليقة بائنة.

قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره، قولُ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن قال بقولهم في الطلاق أن قوله: « فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إنما معناه: فإن فاءوا بعد وَقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللائي آلوا منهن، فإن الله لهم غفور رحيم » وإن عزموا الطلاق « فطلَّقوهن » فإن الله سميع « ، لطلاقهم إذا طلَّقوا » عليم « بما أتوا إليهن. »

وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال: « وإن عزموا الطلاق » ، « فإن الله سميع عليم » ومعلوم أنّ انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان « عزم الطلاق » انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه « سميع عليم » ، كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته في مراجعة المولي زوجته التي آلى منها، وأداء حقها إليها بذكر الخبر عن أنه « شديد العقاب » ، إذْ لم يكن موضعَ وعيد على معصية، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه « غفور رحيم » ، إذْ كان موضعَ وَعد المنيب على إنابته إلى طاعته، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام « سميع » وبالفعل « عليم » ، فقال تعالى ذكره: وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم « فإن الله سميع » لطلاقهم إيّاهن إن طلقوهن « عليم » بما أتوا إليهنّ، مما يحل لهم، ويحرُم عليهم. .

وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا ( كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين ) ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « والمطلقات » اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر- « يتربصن بأنفسهن » عن نكاح الأزواج « ثلاثةَ قُرُوْءٍ » .

واختلف أهل التأويل في تأويل « القرء » الذي عناه الله بقوله: « يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء » فقال بعضهم: هو الحيض.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » قال: حِيَضٍ.

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: « ثلاثة قروء » أي ثلاث حِيَض. يقول: تعتدّ ثلاث حِيَض.

حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة في قوله: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » يقول: حمل عدة المطلقات ثلاث حيض، ثم نُسخ منها المطلقة التي طُلِّقت قبل أن يدخل بها زوجها، واللائي يَئِسْن من المحيض، واللائي لم يحضن، والحامل.

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال، القروءُ الحِيَض.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » قال: ثلاث حيض.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار: الأقراءُ الحيَض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل سمع عكرمة قال: الأقراءُ الحِيَض، وليس بالطهر، قال تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، ولم يقل: « لقروئهن » .

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » قالا ثلاث حيض.

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء » أما ثلاثة قروء: فثلاث حيض.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي: أنه رُفِع إلى عمر، فقال لعبد الله بن مسعود: لتقولنَّ فيها. فقال: أنت أحق أن تقول ! قال: لتقولن. قال: أقول: إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال، ذاك رأيي وافقتَ ما في نفسي! فقضى بذلك عُمر.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، فذكر نحوه.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أن عمر بن الخطاب وابن مسعود قالا زُوجُها أحق بها ما لم تغتسل أو قالا تحلَّ لها الصلاة.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال، حدثنا مطر، أن الحسن حدثهم: أن رجلا طلق امرأته، ووكَّل بذلك رجلا من أهله أو إنسانًا من أهله فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، وقرَّبت ماءها لتغتسل، فانطلق الذي وُكِّل بذلك إلى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغُسل، فقال: يا فلانة، قالت: ما تشاء؟ قال: إني قد راجعتك! قالت: والله ما لك ذلك! قال: بلى والله! قال: فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو: إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك. قالت: لا والله، ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل. فردها على زوجها، وقال: أنتَ أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري بنحوه.

حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال، قال عمر: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن يونس بن جبير: أن عمر بن الخطاب طلق امرأته، فأرادت أن تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال عمر بن الخطاب: امرأتي ورب الكعبة! فراجعها قال ابن بشار: فذكرت هذا الحديث لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: سمعتُ هذا الحديث من أبي هلال، عن قتاده، وأبو هلال لا يحتمل هذا.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة فقالت: إن زوجي طلقني واحدة أو ثنتين، فجاء وقد وضعت مائي، وأغلقت بابي، ونـزعت ثيابي. فقال عمر لعبد الله: ما ترى؟ قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه قال- في رجل طلق امرأته ثم تركها حتى دخلت في الحيضة الثالثة، فأرادت أن تغتسل، ووضعت ماءها لتغتسل، فراجعها- : فأجازه عمر وعبد الله بن مسعود.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، بمثله إلا أنه قال: ووضعت الماء للغسل، فراجعها، فسأل عبد الله وعمر، فقال: هو أحق بها ما لم تغتسل.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يقولان: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة يملك الرجعة، فهو أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة.

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين، فهو أحق برجعتها، وبينهما الميراث ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن الحسن: أن رجلا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم وكلَّ بها بعض أهله، فغفل الإنسان حتى دخلت مغتسلها، وقرَّبت غسلها. فأتاه فآذنه، فجاء فقال: إني قد راجعتك! فقالت: كلا والله! قال: بلى والله! قالت: كلا والله! قال: بلى والله! قال: فتخالفا، فارتفعا إلى الأشعريّ، واستحلفها بالله لقد كنتِ اغتسلت وحلَّت لك الصلاة. فأبت أن تحلف، فردَّها عليه.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أنّ عمر استشار ابن مسعود في الذي طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فحاضت الحيضة الثالثة، فقال ابن مسعود: أراه أحق بها ما لم تغتسل، فقال عمر: وافقت الذي في نفسي. فردّها على زوجها.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عليا كان يقول: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: إذا انقطع الدم فلا رجعة.

حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الحيضة التي طهُرت منها.

حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، أن عمر سأل أبا موسى عنها- وكان بلغه قضاؤه فيها- فقال أبو موسى: قضيتُ أن زوجها أحقُّ بها ما لم تغتسل.

فقال عمر: لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن علي بن أبي طالب قال - في الرجل يتزوَّج المرأة فيطلقها تطليقة أو ثنتين- قال، لزوجها الرجعة عليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال، أرسل عثمان إلى أبي يسأله عنها، فقال أبي: وكيف يفتى منافق؟ فقال عثمان: أعيذُك بالله أن تكون منافقًا، ونعوذ بالله أن نسمِّيك منافقًا، ونعيذك بالله أن يَكون مثلُ هذا كان في الإسلام، ثم تموت ولم تبيِّنه! قال: فإني أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. قال: فلا أعلم عثمان إلا أخذ بذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال، وأخبرنا معمر، عن قتادة قالا راجع رجل امرأته حين وضعت ثيابها تريدُ الاغتسال فقال: قد راجعتك. فقالت: كلا! فاغتسلت. ثم خاصمها إلى الأشعري، فردَّها عليه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن معبد الجهني قال، إذا غسلت المطلقة فرجها من الحيضة الثالثة بانت منه وحلَّت للأزواج.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يحلّ لزوجها الرجعةُ عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، ويحلّ لها الصوم.

حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.

حدثنا محمد بن يحيى. قال: حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي، مثله.

وقال آخرون: بل « القرء » الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: الطهر.

* ذكره من قال ذلك:

حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. قالت: الأقراء الأطهار.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: الأقراء الأطهار.

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عمرة وعروة، عن عائشة قالت: إذا دحلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج قال الزهري: قالت عمرة: كانت عائشة تقول: القرء: الطُّهر، وليس بالحيضة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، مثل قول زيد وعائشة.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول زيد.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال: إذا دخلت المطلَّقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج قال معمر: وكان الزهري يفتي بقول زيد.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: بلغني أن عائشة قالت: إنما الأقراء: الأطهار.

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب: في رجل طلق امرأته واحدة أو ثنتين قال- قال زيد بن ثابت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها وزاد ابن أبي عدي قال: قال علي بن أبي طالب: هو أحق بها ما لم تغتسل.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد وعلي، بمثله.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا ميراثَ لها.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قالا جميعً، حدثنا أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن الأحوص - رجل من أشراف أهل الشام- طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فمات وهي في الحيضة الثالثة، فرُفعت إلى معاوية، فلم يوجد عنده فيها علم. فسأل عنها فضالة بن عبيد ومَنْ هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوجد عندهم فيها علم، فبعث معاوية راكبًا إلى زيد بن ثابت، فقال: لا ترثه، ولو ماتت لم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطليقة، فمات وقد دخلت في الحيضة الثالثة، فرفع إلى معاوية، فلم يدر ما يقول، فكتب فيها إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد: « إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فلا ميراث بينهما » .

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا يقال له الأحوص، فذكر نحوه عن معاوية وزيد.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع قال، قال ابن عمر: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.

حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المطلقة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت.

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمر بن محمد، أن نافعًا أخبره، عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا دخلت المرأة في الدم من الحيضة الثالثة، فإنها لا ترثه ولا يرثها، وقد برئت منه وبرئ منها.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، بلغني، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلقت المرأة، فدخلت في الحيضة الثالثة أنه ليس بينهما ميراث ولا رجعة.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت سالم بن عبد الله يقول مثل قول زيد بن ثابت.

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، وسمعت يحيى يقول: بلغني عن أبان بن عثمان أنه كان يقول ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد بن ثابت، مثل ذلك.

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع: أن معاوية بعث إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد: « إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت » ، وكان ابن عمر يقوله.

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان وزيد بن ثابت أنهما قالا إذا حاضت الحيضة الثالثة فلا رجعة، ولا ميراث.

حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن زيد بن ثابت قال، إذا طلق الرجل امرأته، فرأت الدم في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن موسى بن شداد، عن عمر بن ثابت الأنصاري قال، كان زيد بن ثابت يقول: إذا حاضت المطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يملك رَجعتها.

حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.

قال أبو جعفر: « والقروء » في كلام العرب: جمع « قُرْء » ، وقد تجمعه العرب « أقراء » يقال في « فعل » منه: « أقرأت المراة » - إذا صارت ذات حيض وطُهر- « فهي تقرئ إقراء » . وأصل « القُرء » في كلام العرب: الوقتُ لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدبارُه لوقت معلوم. ولذلك قالت العرب: « قرأت حاجةُ فلان عندي » ، بمعنى: دنا قضاؤها، وحَان وقت قضائها « واقرأ النجم » إذا جاء وقت أفوله، « وأقرأ » إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر:

إذَا مَــا الثُّرَيَّــا وَقَــدْ أقْــرَأَتْ أَحَــسَّ السِّــمَا كَـانِ مِنْهـا أُفُـولا

وقيل: « أقرأت الريح » ، إذا هبت لوقتها، كما قال الهذلي:

شَــنِئْتُ العَقْـرَ عَقْـرَ بَنِـي شُـلَيْلٍ إِذَا هَبَّـــتْ لِقَارِئِهَـــا الرِّيَــاحُ

بمعنى: هبت لوقتها وحين هُبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض « قُرءًا » ، إذا كان دمًا يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونُه في آخر، فسمي وقت مجيئه « قُرءًا » ، كما سمَّى الذين سمَّوا وقت مجيء الريح لوقتها « قُرءًا » .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبّيْش: دعي الصلاة أيام أقرائك.

بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك.

وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر « قُرءًا » ، إذْ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئُه لوقت معلوم. فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس:

وَفـيِ كُـلِّ عَـامٍ أَنْـتَ جَاشِـمُ غَزْوَةٍ تَشُــدُّ لأقْصَاهَــا عَـزِيمَ عَزَائِكَـا

مُوَرِّثَــةٍ مَـالا وَفِـي الذِّكْـرِ رِفْعـةً لِمَـا ضَـاعَ فِيهَـا مِـنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا

فجعل « القُرء » : وقت الطهر.

قال أبو جعفر: ولما وصفنا من معنى: « القُرء » أشكل تأويل قول الله: « والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء » على أهل التأويل.

فرأى بعضهم أن الذي أمِرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء، أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث حيَض بنفسها عن خطبة الأزواج.

ورأى آخرون: أنّ الذي أمرت به من ذلك، إنما هو أقراءُ الطهر- وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث أطهار.

فإذْ كان معنى « القُرء » ما وصفنا لما بيَّنا، وكان الله تعالى ذكره قد أمرَ المريدَ طلاقَ امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرًا غير مُجامعة، وحرَّم عليه طلاقها حائضًا كان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها إذا كانت ذات أقراء تربُّص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها، أن تنظرَ إلى ثلاثة قروء بين طهريْ كل قرءٍ منهنّ قرءٌ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدّتها، وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربَّصُ من المطلقات بنفسها ثلاثةَ قروء، بين طُهريْ كل قرءٍ منهن قرءٌ له مخالفٌ. وإذا فعلت ذلك، كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنـزيله.

فقد تبيَّن إذًا - إذ كان الأمر على ما وصفنا- أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها على ما بينا، الطهرُ الثالث وأنّ بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه، انقضاءُ عدّتها.

فإن ظن ذو غباء أنَّا إذْ كنا قد نسمِّي وقت مجيء الطهر « قُرءًا » ، ووقت مجيء الحيض « قرءًا » ، أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهرُ الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها، « أقراءً » كلها فقد ظن جهلا.

وذلك أن الحكم عندنا- في كل ما أنـزله الله في كتابه- على ما احتمله ظاهرُ التنـزيل، ما لم يبيّن الله تعالى ذكره لعباده، أنّ مراده منه الخصوص، إما بتنـزيل في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خصَّ من ذلك غيرَ داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها، كما قد بيَّنا في كتابنا: ( كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام ) وغيره من كتبنا.

فـ « الأقراء » التي هي أقراءُ الحيض بين طُهريْ أقراء الطهر، غير محتسبة من أقراء المتربِّصة بنفسها بعد الطلاق، لإجماع الجميع من أهل الإسلام: أن « الأقراء » التي أوجبَ الله عليها تربَّصُهن، ثلاثة قروء، بين كل قرء منهن أوقات مخالفاتُ المعنى لأقرائها التي تربَّصُهن، وإذْ كن مستحقات عندنا اسم « أقراء » ، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يُجِزْ لها التربّص إلا على ما وصفنا قبل.

قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليل واضح على خطأ قول من قال: « إن امرأة المُولي التي آلى منها، تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة، إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة » . لأن الله تعالى ذكره إنما أوجبَ عليها العدّة بعد عزم المُولي على طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله: « وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ، فأوجب تعالى ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة- تربُّص ثَلاثة قروء فمعلوم أنها لم تكن مطلقة يوم آلى منها زوجها، لإجماع الجميع على أنّ الإيلاء ليس بطلاق موجب على المولى منها العِدّة. »

وإذ كان ذلك كذلك، فالعدة إنما تلزمها بعد الطلاق، والطلاق إنما يلحقها بما قد بيناه قبل.

قال أبو جعفر: وأما معنى قوله: « والمطلقات » فإنه: والمخلَّياتُ السبيل، غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات، وقول القائل: « فلانة مطلقه » إنما هو « مفعَّلة » من قول القائل: « طلَّق الرجل زوجته فهي مطلَّقة » . وأما قولهم: « هي طالق » ، فمن قولهم: « طلَّقها زوجها فطّلُقت هي، وهي تطلُق طلاقًا، وهي طالق » . وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول: « طَلَقت المرأة » . وإنما قيل ذلك لها، إذا خلاها زوجها، كما يقال للنعجة المهملة بغير راع ولا كالئ، إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مُخلاةً سبيلها: « هي طالق » ، فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها، وسُميت بما سُميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم: « طُلِقت المرأة » ، فمعنى غير هذا، إنما يقال في هذا إذا نُفِست. هذا من « الطَّلْق » ، والأول من « الطلاق » .

وقد بينا أن « التربُّص » إنما هو التوقف عن النكاح، وحبسُ النفس عنه في غير هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: تأويله: « ولا يحلّ » ، لهن يعني للمطلقات « أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، من الحيض إذا طُلِّقن، حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال، قال الله تعالى ذكره: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ إلى قوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال: بلغنا أنّ « ما خلق في أرحامهن » الحمل، وبلغنا أن الحيضة، فلا يحل لهنّ أن يكتمن ذلك، لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: الحيض

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: أكبرُ ذلك الحيض.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرّفًا، عن الحكم قال، قال إبراهيم في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ » قال: الحيض

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: الحيض ثم قال خالد: الدم.

وقال آخرون: هو الحيض، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانَه فيما خلق في رحمها من ذلك، هو أن تقول لزوجها المطلِّق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة: « قد حضتُ الحيضةَ الثالثة » كاذبةً لتبطل حقه بقيلها الباطلَ في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة بن معتِّب، عن إبراهيم في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: الحيض، المرأةُ تعتد قُرْأين، ثم يريد زوجها أن يراجعها، فتقول: قد حضتُ الثالثة « »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن « قال: أكثر ما عني به الحيض. »

وقال آخرون: بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانه زوجَها المطلِّقَ: الحبلُ والحيضُ جميعًا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، من الحيض والحمل، لا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتُم حيضها، ولا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتُم حملها.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرِّفًا، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: « ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، قال: الحمل والحيض قال أبو كريب: قال ابن إدريس: هذا أوَّل حديث سمعته من مطرِّف.

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن الحكم، عن مجاهد، مثله إلا أنه قال: الحبل.

حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: من الحيض والولد

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، قال: من الحيض والولد

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: لا يحلّ للمطلَّقة أن تقول: « إني حائض » ، وليست بحائض ولا تقول: « إني حبلى » وليست بحبلى ولا تقول: « لستُ بحبلى » ، وهي حُبلى.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن مجاهد قال، الحيض والحبل قال، تفسيره أن لا تقول: « إني حائض » ، وليست بحائض « ولا لست بحائض » ، وهي حائض: ولا « أني حبلى » ، وليست بحبلى ولا « لست بحبلى » ، وهي حبلى.

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد نحو هذا التفسير في هذه الآية.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله وزاد فيه: قال: وذلك كله في بُغض المرأة زوجها وحبِّه

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » يقول: لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل، لا يحلّ لها أن تقول: « إني قد حضت » ولم تحض ولا يحلّ أن تقول: « إني لم أحض » ، وقد حاضت ولا يحل لها أن تقول: « إني حبلى » وليست بحبلى ولا أن تقول: « لست بحبلى » ، وهي حبلى

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » الآية قال، لا يكتمن الحيض ولا الولد، ولا يحل لها أن تكتمه وهو لا يعلم متى تحلّ، لئلا يرتجعها- تُضارُّة

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يحل لهن أن يتكتمن ما خلق الله في أرحامهن » يعني الولد قال: الحيضُ والولدُ هو الذي ائتُمِن عليه النساء.

وقال آخرون: بل عنى بذلك الحبل.

ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ، فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: اتل هذه الآية فتلا. فقال: إن فلانة ممن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ وكانت طُلِّقت وهي حبلى، فكتمت حتى وضعت

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله: « ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنْ كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر »

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: الطلاق مرّتان بينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلِّقها بعد هاتين فهي ثالثة، وإن طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. إنما اللاتي ذكرن في القرآن: « ولا يحلُّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ » ، هي التي طلقت واحدة أو ثنتين، ثم كتمتْ حملها لكي تنجو من زوجها، فأما إذا بتَّ الثلاثَ التطليقات، فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجًا غيره.

وقال آخرون: السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن، خوف مراجعتهم إياهُنّ، حتى يتزوجن غيرهم، فيُلحق نسب الحمل- الذي هو من الزوج المطلِّق- بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: كانت المرأة إذا طُلِّقت كتمت ما في بطنها وحملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه، فكره الله ذلك لهنّ.

حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » قال: علم الله أنّ منهن كواتم يكتمن الولد. وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلّق امرأته وهي حامل، فتكتم الولد وتذهبُ به إلى غيره، وتكتُم مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وقدَّم فيه.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر منها

وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ؟ كيلا يطلقها، وهي حامل منه للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن » ، فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها: هل بك حمل؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه، عقوبةً لما كتمته، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها- الحيضُ والحبَل. لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث، في قول من قال: « القُرء » الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض، إذا انقطع من الحيضة الثالثة، فتطهرت بالاغتسال.

فإذا كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن، وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل علم أنهن منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما، - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية، مثل ما في الآخر.

ويُسأل من خصّ ذلك- فجعله لأحد المعنيين دون الآخر- عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأما الذي قاله السدي من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنـزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال: « والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن » ، بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر.

وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به، من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن: أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن ضرارًا منهنّ لهم، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك، بأن يكون من صفة ما يليه قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: ما معنى قوله: « إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر » ؟ أوَ يحل لهن كتمان ذلك أزواجهنً إنْ كن لا يؤمنَّ بالله ولا باليوم الآخر حتى خصّ النهيُ عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر؟

قيل: معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أن كتمان المراة المطلَّقة زوجَها المطلَّقَها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارًا له، ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وأخلاقِهنَّ من النساء الكوافر فلا تتخلَّقن أيتها المؤمنات بأخلاقهنّ، فإنّ ذلك لا يحل لكنّ إن كنتن تؤمنّ بالله واليوم الآخر وكنتن من المسلمات لا أنّ المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهن دون الكوافر، بل الواجب على كل من لزمته فرائضُ الله من النساء اللواتي لهن أقراء- إذا طلِّقت بعد الدخول بها في عدتها- أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبَل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا

قال أبو جعفر: « والبعولة » جمع « بعل » ، وهو الزوج للمرأة، ومنه قول جرير:

أَعِـدُّوا مَـعَ الحَـلْيِ المَـلابَ فَإنَّمَـا جَــرِيرٌ لَكُـمْ بَعْـلٌ وَأَنْتُـمْ حَلائِلُـهْ

وقد يجمع « البعل » « البعولة، والبعول » ، كما يجمع « الفحل » « والفحول والفحولة » ، و « الذكر » « الذكور والذكورة » . وكذلك ما كان على مثال « فعول » من الجمع، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه « الهاء » ، فإما ما كان منها على مثال « فِعال » ، فقليل في كلامهم دخول « الهاء » فيه، وقد حكى عنهم. « العِظامُ والعِظامة » ، ومنه قول الزاجر:

* ثُمَّ دَفَنْتَ الْفَرْثَ وَالعِظَامهْ *

وقد قيل: « الحجارة والحِجار » و « المِهارة والمِهار » و « الذِكّارة والذِكّار » ، للذكور.

وأما تأويل الكلام، فإنه: وأزواج المطلقات اللاتي فرضنا عليهن أن يتربَّصن بأنفسهن ثلاثه قروء، وحرَّمنا عليهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن أحق وأولى بردهن إلى أنفسهم في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة، وأيام الحيل، وارتجاعهن إلى حبالهم منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك كما:-

حدثي المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا » ، يقول: إذ طلق الرجل امرأته تطليقة أو ثنتين، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع.

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « وبعولتهن أحق بردهن » قال: في العدة

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا قال الله تعالى ذكره: « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا » ، وذلك أنّ الرجل كان إذا طلَّق امرأته كان أحقَّ برجعتها وإن طلاقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ الآية.

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » في عدتهن.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال، في العدة

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك » ، أي في القروء في الثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، أو كانت حاملا فإذا طلَّقها زوجها واحدة أو اثنتين رَاجعها إن شاء ما كانت في عدتها

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك » قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، فنهاهنّ الله عن ذلك وقال: « وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك » ، قال قتادة: أحق برجعتهن في العدة.

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: « وبعولتهن أحقُّ بردهن في ذلك » ، يقول: في العدة ما لم يطلقها ثلاثًا.

حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » ، يقول: أحق برجعتها صاغرة عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وبعولتهن أحق بردهن » ، أحقّ برجعتهنّ، ما لم تنقض العِدّة.

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: « وبعولتهنّ أحق بردهنّ في ذلك » ، قال: ما كانت في العدة إذا أراد المراجعة

قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما لزوج- طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها- عليها رجعة في أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدًا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟

قيل: أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز إذا أراد ضرارها بالرجعة، لا إصلاح أمرها وأمره مراجعتُها.

وأما في الحكم فإنه مقضيٌّ له عليها بالرجعة، نظيرُ ما حكمنا عليه ببطول رَجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارًا منها له، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك، فكان سواءً في الحكم في بطول رَجعة زوجها عليها، وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها هي والتي أطاعت الله بتركها كتمانَ ذلك منه، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته، فكذلك المراجع زوجتَه المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حُرَّان وإن أراد ضرار المُراجعة برجعته- فمحكوم له بالرجعة، وإن كان آثمًا بريائه في فعله، ومقدِمًا على ما لم يُبحه الله له، والله وليّ مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غيرُ جائز لهم الحوْلُ بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجتُه، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له، أخِذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات حتى يعود ضررُ ما أراد من ذلك عليه دونها.

قال أبو جعفر: وفي قوله: « وبعولتهن أحق بردهن في ذلك » ، أبين الدلالة على صحة قول من قال: إنّ المولي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها، أنّ له عليها الرّجعة في طلاقه ذلك وعلى فساد قول من قال: إن مضي الأشهر الأربعة عزُم الطلاق، وأنه تطليقه بائنة، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمُهم إذا آلوا من نسائهم، وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: تأويله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو عاصم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف » ، قال: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن، فعليه أن يُحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، ويُنفق عليها من سَعَته.

حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف » ، قال: يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجهن من التَّصنُّع والمواتاة، مثل الذي عليهن لهم في ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إني أحبُّ أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي; لأن الله تعالى ذكره يقول: « ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف »

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية عندي: وللمطلقات واحدة أو ثنتين - بعد الإفضاء إليهن- على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ في أقرائهن الثلاثة إذا أرادوا رجْعتهن فيهن، إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم، وأن لا يراجعوهن ضرارًا كما عليهن لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ، أن لا يكتمنَ ما خلق الله في أرحامهنّ من الولد ودم الحيض ضرارًا منهن لهم لِيَفُتْنهم بأنفسهنّ،

ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهنّ في أقرائهنَّ ما خلق الله في أرحامهنّ، إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر، وجعل أزواجهن أحق بردّهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا، فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله: « ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف » فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته، مثل الذي له على صاحبه من ذلك.

فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنـزيل من غيره.

وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك، وإن كانت الآية نـزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى « الدرجة » التي جعل الله للرجال على النساء، الفضلُ الذي فضّلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وللرجال عليهن درجة » قال: فَضْل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفَضْل ميراثه، على ميراثه، وكل ما فضِّل به عليها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: عن قتادة: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: للرجال درجةٌ في الفضل على النساء

وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمْرة والطاعة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: إمارةٌ.

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: طاعةٌ. قال: يطعن الأزواجَ الرجال، وليس الرجال يطيعونهن

حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن محمد في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: لا أعلم إلا أن لهن مثل الذي عليهن، إذا عرفن تلك الدرجة

وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدَّت، وإذا قذفها لاعنَ.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة، عن الشعبي في قوله: « وللرجال عليهن درجة » ، قال: بما أعطاها من صَداقها، وأنه إذا قذفها لاعَنها، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده.

وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها، إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما أحب أن استنظف جميع حقي عليها، لأن الله تعالى ذكره يقول: « وللرجال عليهن درجة »

وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا عبيد بن الصباح قال، حدثنا حميد قال، « وللرجال عليهن درجة » قال: لحية.

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن « الدرجة » التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه.

وذلك أن الله تعالى ذكره قال: « وللرجال عليهن درجة » عَقيب قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.

ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره: « وللرجال عليهن درجة » بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله: « ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها » لأن الله تعالى ذكره يقول: « وللرجال عليهن درجة » .

ومعنى « الدرجة » ، الرتبة والمنـزلة.

وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 228 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: « والله عزيز » في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدَّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضَل امرأته بإيلائه، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن، ونكحن في عددهن، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن، وركبن غير ذلك من معاصيه « حكيم » فيما دبَّر في خلقه، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه، كما:

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « والله عزيز حكيم » ، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ إلى قوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.

* ذكر من قال إن هذه الآية أنـزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نـزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه.

* ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له: كيف؟ قال: أطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله تعالى ذكره: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف » الآية.

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤيك، ولا أدَعك تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك، فمتى تحلّين؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلق ومن لم يكن طلق .

حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات.

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حَّد في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات .

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « الطلاق مرتان » ، قال كان الطلاق- قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له، وطلق رجلٌ امرأته، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا، مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، أما قوله: « الطلاق مرتان » ، فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة .

حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » قال: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره .

قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة إذا كن مدخولا بهن تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين، إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.

وقال آخرون إنما أنـزلت هذه الآية على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن- لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من زوجها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » قال: يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا .

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، قال: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحب أن يفعل، فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة: « إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان » ، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها.

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: فحاضت الحيضة الثانية، كما طلق الأولى، فهذان تطليقتان وقرءان، ثمّ قال: الثالثة- وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبى عاصم .

قال أبو جعفر: وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرحوهن بإحسان.

قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر التنـزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ- ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه.

وأما قوله: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، فإنّ في تأويله وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل.

فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية- من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: « الطلاق مرتان » ، قال: يقول عند الثالثة: إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره قالها قال: وقال مجاهد: الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل، وتعتدّ لغيره .

حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان » هي الثالثة « . »

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، « الطلاق مرتان » ، فأين الثالثة؟ قال: « إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان » .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن أبي رزين قال، قال رجل: يا رسول الله، يقول الله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف » فأين الثالثة؟ قال: « التسريح بإحسان » .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد: « أو تسريح بإحسان » قال في الثالثة .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان الطلاق ليس له وقت حتى أنـزل الله: « الطلاق مرتان » قال: الثالثة: « إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان » .

وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: ذلك: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، إذا طلق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك « ويمسك » : يراجع بمعروف، وإما سكت عنها حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها.

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: « أو تسريح بإحسان » والتسريحُ: أن يدعها حتى تمضي عدتها.

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تصريح بإحسان » ، قال: يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان. قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره .

قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساك في كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف، أو تسريحٌ لهن بإحسان.

وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنـزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره.

فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: هو ما:-

حدثنا به علي بن عبد الأعلى المحاربي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « فإمساك بمعروف » ، قال: المعروف: أن يحسن صحبتها.

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فإمساك بمعروف » ، قال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها .

فإن قال: فما التسريح بإحسان؟

قيل: هو ما:-

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « أو تسريح بإحسان » ، قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئًا.

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان » ، قال: هو الميثاق الغليظ.

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أو تسريح بإحسان » قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها .

حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: « أو تسريحٌ بإحسان » ، قال: التسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قَدْر الميسرة .

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: « وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا » قال قوله: « فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان » .

فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟

قيل: محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه: الطلاق مرتان، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [ سورة البقرة: 178 ] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا » ، ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن- لطلاقكم وفراقكم إياهن شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم « إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله » .

قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، وذلك قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله ) .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه: ( إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) .

والعرب قد تضع « الظن » موضع « الخوف » ، « والخوف » موضع « الظن » في كلامها، لتقارب معنييهما، كما قال الشاعر:

أتــاني كـلام عـن نصيـب يقولـه ومـا خـفت يـا سـلام أنـك عائبي

بمعنى: ما ظننت.

وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: ( إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) .

فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: ( إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله ) . وقراءة ذلك كذلك، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه، خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في « أن » وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر:

إذا مـت فـادفني إلـى جـنب كرمة تـروي عظـامي بعـد موتي عروقها

ولا تـــدفنني بـــالفلاة فــإنني أخــاف إذا مـا مـت أن لا أذوقهـا

فأما قارئه: « إلا أن يخافا » بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكة تسميته، وفي « أن » - فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسم فاعله، وفي « أن » التي تنوب عن شيئين، ولا تقول العرب في كلامها: « ظنا أن يقوما » .

ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله- أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في « أن » غير « الخوف » ، ويكون « الخوف » ، عاملا فيما لم يسم فاعله. وذلك هو الصواب عندنا من القراءة لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.

فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟

قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف على زوجها - بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه، بغضا منها له، كما:-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، قرأت على فضيل، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة، هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام، أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! قال زوجها: يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي! حديقة، فإن ردت على حديقتي! قال: « ما تقولين؟ » قالت: نعم، وإن شاء زدته! قال: ففرق بينهما.

حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد الله- يعني ابن أبي بكر- ، عن عمرة عن عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فاشتكته، فدعا رسول الله ثابتا، فقال: خذ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلح ذاك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال، فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « خذهما وفارقها. ففعل. »

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، لا أنا ولا ثابت بن قيس!! لزوجها فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر! . فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها. فأخذ منها، وجلست في بيتها.

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة » قالت: نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما.

قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في شأنهما- أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، نـزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم! فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال: « نعم » ، قال ثابت: قد فعلت فنـزلت: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها » .

وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى « الخوف » منهما أن لا يقيما حدود الله.

فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به.

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، قال ابن جريح: أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحل الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول: « لا يحل له » ، حتى تقول: « لا أبر لك قسما، ولا اغتسل لك من جنابة » .

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، أخبرني عمرو بن دينار قال، قال جابر بن زيد: إذا كان الشر من قبلها حل الفداء.

حدثنا الربيع بن سليمان قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها .

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا محمد بن كثير، عن حماد، عن هشام، عن أبيه أنه قال: لا يصلح الخلع، حتى يكون الفساد من قبل المرأة .

حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في امرأة قالت لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة! قال: ما هذا- وحرك يده- « لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا » !! إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها .

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع .

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: « الطلاق مرتان فإمساك بمعروف » إلى قوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » . قال: إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتى تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك، فما أحذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها، فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به .

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، قال: لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك منها، فأما أن يكون يضارها حتى تختلع، فإن ذلك لا يصلح، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حل له خلعها .

حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، قال: الصداق « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره ولا يكلمها، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته، فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية .

وقال آخرون: بل « الخوف » من ذلك: أن لا تبر له قسما، ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطيع لك أمرا‍ فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن: إذا قالت: « لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا » ، فحينئذ حل الخلع .

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال، إذا قالت المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم حدا من حدود الله « ، فقد حل له مالها . »

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن محمد بن سالم قال، سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت: « لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا » .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تحل الفدية حتى تقول: « لا أغتسل لك من جنابة » . وقال: إن الزاني يزني ثم يغتسل ! .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في الناشز قال، إن المرأة ربما عصت زوجها، ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه، فعند ذلك تحل الفدية .

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، لا يحل له أن يأخذ من مهرها شيئا « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، فإذا لم يقيما حدود الله، فقد حل له الفداء، وذلك أن تقول: « والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة » ، فهو حدود الله، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها .

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن ) [ سورة النساء: 19 ] ، في قراءة ابن مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك ما أخذت منها.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: « ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » ، قال: الخلع، قال: ولا يحل له إلا أن تقول المرأة: « لا أبر قسمه ولا أطيع أمره » ، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق.

وقال آخرون: بل « الخوف » من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها: « إني لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك » - وتطيب نفسا بالخلع.

وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية، أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا داود، عن عامر حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، قال: قال عامر : أحل له مالها بنشوزه ونشوزها .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال ابن جريج، قال طاوس: يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره، ولم يكن يقول قول السفهاء: « لا أبر لك قسما » ، ولكن يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » ، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة .

حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: « إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله » قال: فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها؟ قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد. وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله » - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به » قال: هو تركها إقامة حدود الله، واستخفافها بحق زوجها، وسوء خلقها، فتقول له: « والله لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا » ، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية .

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبى بن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به » قال: إذا قالت: « لا اغتسل لك من جنابة » ، حل له أن يأخذ منها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما .

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عامر: « فإن خفتم ألا يقيما حدود الله » قال: أن لا يطيعا الله.

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحدود: الطاعة.

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما أوجب الله عليهما من الفرائض، فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه، من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به.

وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي، وما رويناه عن الحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، وأن لا تؤذيه بقول، ولا تؤذيه بقول تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها.

وأما معنى « إقامة حدود الله » ، فإنه العمل بها، والمخالفة عليها، وترك تضييعها- وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ

قال أبو جعفر : يعني قوله تعالى ذكره بذلك: فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما فيما أعطت هذه على فراق زوجها إياها ولا على هذا فيما أخذ منها من الجعل والعوض عليه.

فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، فيكون « لا جناح عليهما » فيما أعطته من الفدية على فراقها إذا كان النشوز من قبلها.

قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما حل لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حق لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم.

وهي إذا أعطته على هذا الوجه باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، ولذلك قال تعالى ذكره: « فلا جناح عليهما » فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذ كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم.

وقد يتجه قوله: « فلا جناح عليهما » وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس وذلك لكراهتها أخلاق زوجها، أو دمامة خلقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض- ولكن على الانصراف منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحل لها- كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها. وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك الوجه - التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها « منافقة » ، كما:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة » .

وقال: « المختلعات هن المنافقات »

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علية، عن أبيه، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والمختلعات هن المنافقات « »

حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات.

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.

فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح، إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها: « لا جناح عليهما فيما افتدت به » من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.

قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في « سورة الرحمن » : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [ سورة الرحمن: 22 ] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله. فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا [ سورة الكهف: 61 ] ، وإنما الناسي صاحب موسى وحده. قال: ومثله في الكلام أن تقول: « عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما » وإنما تركب إحداهما. وتستقي على الأخرى، وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.

قالوا: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.

قال أبو جعفر: فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ .

فأما قوله: « فلا جناح عليهما » فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله: « يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان » في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول: « إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما » ، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال: « إنما هو خبر عن أحدهما » .

وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.

قال أبو جعفر: ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » أمعني به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟

فقال بعضهم: عنى بذلك: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتيتموهن. قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك - عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله- هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه، أن ترد ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع أنه كان يقول: لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، ويقول: إن الله يقول: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » منه، يقول: من المهر - وكذلك كان يقرؤها: « فيما افتدت به منه » .

حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز: لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .

حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن الشعبي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك .

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي، قال: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها - يعني المختلعة .

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة، قال: كان علي رضي الله عنه يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها .

حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن الحكم أنه قال في المختلعة: أحب إلي أن لا يزداد .

حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج امرأة على مائتي درهم، فأراد أن يخلعها، هل له أن يأخذ أربعمائة؟ فقال: لا والله، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها! .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها قال معمر: وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن المسيب، قال: ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها .

وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني! فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، قال: أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزا فوعظها، فلم تقبل بخير، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام وذكر نحو حديث ابن علية .

حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى، قالا حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز؟ فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك! قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال: خذ ولو عقاصها.

حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها، فلم يعب ذلك ابن عمر.

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا معتمر، قال: سمعت عبيد الله يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره .

حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا هشيم، عن حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها . ثم تلا هذه الآية: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال في الخلع: خذ ما دون عقاص شعرها، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع ما دون عقاص الرأس.

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة: خذ منها ولو عقاصها .

حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع بما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها .

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع ابنة معوذ بن عفراء حدثته قالت: كأن لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم! قال: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه- أو قالت: ما دون عقاص الرأس.

حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير، ولو عقصها.

حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها .

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ليأخذ منها حتى قرطها- يعني في الخلع .

حدثني المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر.

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » قال: يأخذ أكثر مما أعطاها.

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عدي، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوه: إن الحسن يقول في المختلعة: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول: « ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » قال رجاء: فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به »

وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا [ سورة النساء: 20 ]

ذكر من قال ذلك:

حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا! وقرأ: « وأخذن منكم ميثاقا غليظا » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول الله تعالى ذكره في كتابه: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » ؟ قال: هذه نسخت. قلت: فإني حفظت؟ قال: حفظت في « سورة النساء » قول الله تعالى ذكره: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [ النساء: 20 ]

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه- فلا حرج عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل استحبابا لا تحتيما إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، بل خوفا منها على دينها أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها.

فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين: أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.

والآخر: أن الآية التي في « سورة النساء » إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، ولا نشوز من المرأة على الرجل. و إذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا من مالها على فراقها حرام، ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا.

وأما الآية التي في « سورة البقرة » فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في « سورة البقرة » ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في « سورة النساء » ، كما الحظر في « سورة النساء » ، غير الإطلاق والإباحة في « سورة البقرة » . فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.

وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.

وأما الذي قاله الربيع بن أنس من أن معنى الآية: فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك: مما آتيتموهن - فنظير قول بكر في دعواه نسخ قوله: « فلا جناح عليهما فيما افتدت به » بقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا لادعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه.

ويقال لمن قال بقوله: قد قال من قد علمت من أئمة الدين: إنما معنى ذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها فهل من حجة تبين بها منهم غير الدعوى؟ فقد احتجوا بظاهر التنـزيل، وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال: للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية، التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا ( كتاب اللطيف ) فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

 

القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 229 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، قلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » ، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت: من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله: « تلك حدود الله » ، مما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أمر ونهى.

ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء - التي بينت لكم حلالها من حرامها- « حدودي » يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي، فلا تعتدوها يقول: فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، فإن من تعدى ذلك يعني من تخطاه وتجاوزه إلى ما حرمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم- وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على معنى « الظلم » وأصله بشواهده الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [ يؤول ] إلى معنى ما قلنا فيه.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » يعني بالحدود: الطاعة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « تلك حدود الله فلا تعتدوها » يقول: من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه، « ومن يتعد حدود الله، فأولئك هم الظالمون » .

قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر، فيقال: « تلك حدود الله » ، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره.

فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: « الطلاق مرتان » فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره- يعني به غير المطلق.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل، فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها، وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره »

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » يقول: إن طلقها ثلاثا، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله: « فإن طلقها » - يعني بالثالثة- فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره.

حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، بنحوه.

حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « فإن طلقها » - بعد التطليقتين- « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، وهذه الثالثة

وقال آخرون: بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ قالوا: وإنما بين الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » قال: عاد إلى قوله: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ .

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

قال أبو جعفر: والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب، للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال- أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ قال: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله: « فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره » من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته.

قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟

قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح، لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها.

فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟

قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله: « فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ . وكذلك قوله: « فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره » ، وإن لم يكن مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده.

* ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته » .

حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه.

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك « . »

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، فذكر مثله.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله - إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

حدثنا محمد بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول » .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه » .

حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول « . »

حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى الليثي، عن زائدة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه » .

حدثني العباس بن أبي طالب، قال: أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « حتى يذوق عسيلتها » .

حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوج زوجا غيره، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال: « لا حتى يذوق عسيلتها » .

حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا محمد بن دينار، قال: حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الأول؟ قال: « لا حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، ويعقوب بن ماهان، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن العباس: أن الغميصاء- أو: الرميصاء- جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إليها، قال: فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره « . »

حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين الأحمري، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها ألبتة، فتتزوج زوجا آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول؟ قال: « لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل، فأغلق الباب، فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الآخر؟ قال: « لا حتى يذوق عسيلتها » .

حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته، فتزوجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوجها الأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن طلقها » فإن طلق المرأة- التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني- ، زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول « فلا جناح عليهما » يقول تعالى ذكره: فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول، وبعد نكاحه إياها- ، وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات أن يتراجعا بنكاح جديد. كما:

حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: « فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله » يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له .

حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال: والثالثة قوله: « فإن طلقها » يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره، فيدخل بها، « فإن طلقها » هذا الأخير بعد ما يدخل بها، « فلا جناح عليهما أن يتراجعا » يعنى الأول « إن ظنا أن يقيما حدود الله » .

قال أبو جعفر: وأما قوله: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » فإن معناه: إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى « الحدود » ، ومعنى « إقامة » ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وكان مجاهد يقول في تأويل قوله: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » ما:-

حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إن ظنا أن يقيما حدود الله » إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

قال أبو جعفر: وقد وجه بعض أهل التأويل قوله « إن ظنا » إلى أنه بمعنى: إن أيقنا. وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره: « إن ظنا » بمعنى طمعا بذلك ورجوا

« وأن » التي في قوله: « أن يقيما » ، في موضع نصب بـ « ظنا » ، و « أن » التي في « أن يتراجعا » جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض، لأن معنى الكلام: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا- فلما حذفت « في » التي كانت تخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح عليهما تراجعهما.

وكان بعضهم يقول: موضعه خفض، وإن لم يكن معها خافضها، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 230 )

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتلك حدود الله » هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات « حدود الله » - معالم فصول حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته « يبينها » يفصلها، فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من الله، وأنها تنـزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به.