القول في تأويل قوله تعالى : إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ( 12 )

( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ، يقول: إذا رأت هذه النار التي اعتدناها لهؤلاء المكذبين أشخاصهم من مكان بعيد, تغيظت عليهم، وذلك أن تغلي وتفور، يقال: فلان تغيظ على فلان, وذلك إذ غضب عليه، فغلى صدره من الغضب عليه، وتبين في كلامه، ( وَزَفِيرًا ) , وهو صوتها.

فإن قال قائل: وكيف قيل ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا ) والتغيظ: لا يسمع، قيل معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد.

حدثني محمود بن خداش, قال: ثنا محمد بن يزيد الواسطي, قال: ثنا أصبع بن زيد الوَرَّاقُ, عن خالد بن كثير, عن فديك, عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ يَقُولُ عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَدًا » قالوا: يا رسول الله, وهل لها من عين؟ قال: « أَلَمْ تَسْمَعُوا إلى قَوْلِ اللهِ ( إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ) ... الآية. »

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر في قوله: ( سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) قال: أخبرني المنصور بن المعتمر, عن مجاهد, عن عبيد بن عمير, قال: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك ولا نبي إلا خر ترعد فرائضه حتى إن إبراهيم ليجثو على ركبتيه, فيقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي!.

حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, قال: ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: إن الرجل ليجر إلي النار, فتنـزوي، وينقبض بعضها إلى بعض, فيقول لها الرحمن: ما لك؟ فتقول: إنه ليستجير مني! فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار, فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك؟ فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، قال: فيقول أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجرُّ إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ( 13 ) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ( 14 )

يقول تعالى ذكره: وإذا ألقي هؤلاء المكذّبون بالساعة من النار مكانا ضيقا, قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا )

واختلف أهل التأويل في معنى الثبور, فقال بعضهم: هو الويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني علي, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس. في قوله: ( وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) يقول: ويلا.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ) يقول: لا تدعوا اليوم ويلا واحدا, وادعوا ويلا كثيرا.

وقال آخرون: الثبور الهلاك.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول, في قوله: ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ) الثبور: الهلاك.

قال أبو جعفر: والثبور في كلام العرب: أصله انصراف الرجل عن الشيء, يقال منه: ما ثبرك عن هذا الأمر: أي ما صرفك عنه، وهو في هذا الموضع دعاء هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا، والإيمان بما جاءهم به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة منه, كما يقول القائل: وا ندامتاه, وا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول في قوله: ( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ) أي هلكة, ويقول: هو مصدر من ثبر الرجل: أي أهلك, ويستشهد لقيله في ذلك ببيت ابن الزّبَعْرى:

إذ أُجـاري الشَّـيطَان فـي سَـنَن الغي ومــن مَــال مَيْلَــهُ مَثْبُــورا

وقوله: ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ) أيها المشركون ندمًا واحدًا: أي مرة واحدة, ولكن ادعوا ذلك كثيرا. وإنما قيل: ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا ) لأن الثبور مصدر؛ والمصادر لا تجمع, وإنما توصف بامتداد وقتها وكثرتها, كما يقال: قعد قعودا طويلا وأكل أكلا كثيرا.

حدثنا محمد بن مرزوق, قال: ثنا حجاج, قال: ثنا حماد قال: ثنا عليّ بن زيد, عن أنس بن مالك, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « أوَّلُ مَنْ يُكْسَى حُلَّةً مِنَ النَّار إِبْلِيسُ, فَيَضَعُها عَلى حاجبَيْه, ويَسْحَبُها مِنْ خَلْفِهِ, وَذُرَّيَّتُهُ مِنْ خَلْفِهِ, وَهُوَ يَقُولُ: يا ثُبُورَاه، وَهُمْ يُنَادُونَ: يا ثُبُورَهُمْ فيقال: ( لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ) » .

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ( 15 ) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ( 16 )

يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذّبين بالساعة: أهذه النار التي وصف لكم ربكم صفتها وصفة أهلها خير؟ أم بستان الخلد الذي يدوم نعيمه ولا يبيد, الذي وعد من اتقاه في الدنيا بطاعته فيما أمره ونهاه؟ وقوله: ( كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ) يقول: كانت جنة الخلد للمتقين جزاء أعمالهم لله في الدنيا بطاعته، وثواب تقواهم إياه، ومصيرا لهم, يقول: ومصيرا للمتقين يصيرون إليها في الآخرة. وقوله: ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ) يقول: لهؤلاء المتقين في جنة الخلد التي وعدهموها الله ما يشاءون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ( خَالِدِينَ ) فيها, يقول: لابثين فيها ماكثين أبدا, لا يزولون عنها ولا يزول عنهم نعيمها. وقوله: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا: وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ يقول الله تبارك وتعالى: وكان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد التي وصف صفتها في الآخرة وعدا وعدهم الله على طاعتهم إياه في الدنيا، ومسألتهم إياه ذلك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) قال: فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه.

حدثني يونس. قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا ) قال: سألوه إياها في الدنيا, طلبوا ذلك فأعطاهم وعدهم إذ سألوه أن يعطيهم، فأعطاهم, فكان ذلك وعدا مسئولا كما وقَّت أرزاق العباد في الأرض قبل أن يخلقهم فجعلها أقواتا للسائلين, وقَّت ذلك على مسألتهم، وقرأ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ .

وقد كان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله: ( وَعْدًا مَسْئُولا ) إلى أنه معنيّ به وعدا واجبا, وذلك أن المسئول واجب, وإن لم يُسأل كالدين, ويقول ذلك نظير قول العرب: لأعطينك ألفا وعدا مسئولا بمعنى واجب لك، فتسأله.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ( 17 )

يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذّبين بالساعة، العابدين الأوثان، وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجنّ.

كما حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) فيقول: ( أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ ) قال: عيسى وعُزير والملائكة.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, نحوه.

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأه أبو جعفر القارئ وعبد الله بن كثير: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ ) بالياء جميعا, بمعنى: ويوم يحشرهم ربك, ويحشر ما يعبدون من دون فيقول. وقرأته عامة قرّاء الكوفيين ( نَحْشُرُهُمْ ) بالنون, فنقول. وكذلك قرأه نافع.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.

وقوله: ( فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ ) يقول: فيقول الله للذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء: يقول: أنتم أزلتموهم عن طريق الهدى، ودعوتموهم إلى الغيّ والضلالة حتى تاهوا وهلكوا, أم هم ضلوا السبيل، يقول: أم عبادي هم الذين ضلوا سبيل الرشد والحقّ وسلكوا العطب.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ( 18 )

يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنـزيها لك يا ربنا، وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون, ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء نواليهم, أنت ولينا من دونهم, ولكن متعتهم بالمال يا ربنا في الدنيا والصحة، حتى نسوا الذكر وكانوا قوما هَلْكى، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول: قوم قد ذهبت أعمالهم وهم في الدنيا, ولم تكن لهم أعمال صالحة.

حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول: هلكى.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) يقول: هلكى.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر عن الحسن ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال: هم الذين لا خير فيهم، حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ) قال: يقول: ليس من الخير في شيء. البور: الذي ليس فيه من الخير شيء.

واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( نَتَّخِذَ ) بفتح النون سوى الحسن ويزيد بن القعقاع, فإنهما قرآه: ( أنَّ نُتَّخَذَ ) بضم النون. فذهب الذين فتحوها إلى المعنى الذي بَيَّنَّاه في تأويله من أن الملائكة وعيسى، ومن عُبِد من دون الله من المؤمنين، هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم وليّ غير الله تعالى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون, فإنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن المعبودين في الدنيا إنما تبرّءوا إلى الله أن يكون كان لهم أن يعبدوا من دون الله جلّ ثناؤه, كما أخبر الله عن عيسى، أنه قال إذا قيل: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ....* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بفتح النون, لعلل ثلاث: إحداهن إجماع من القرّاء عليها. والثانية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة في سورة سبأ, فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ، فأخبر عن الملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبادة من عبدهم تبرّءوا إلى الله من ولايتهم, فقالوا لربهم: أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ فذلك يوضح عن صحة قراءة من قرأ ذلك ( مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ) بمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتخذهم من دونك أولياء. والثالثة: أن العرب لا تدخل « مِن » هذه التي تدخل في الجحد إلا في الأسماء, ولا تدخلها في الأخبار, لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل, وإنما يقولون: ما رأيت من أحد, وما عندي من رجل، وقد دخلت ها هنا في الأولياء، وهي في موضع الخبر, ولو لم تكن فيها « من » كان وجها حسنا. وأما البور: فمصدر واحد وجمع للبائر, يقال: أصبحت منازلهم بورا: أي خالية لا شيء فيها, ومنه قولهم: بارت السوق وبار الطعام إذا خلا من الطلاب والمشتري، فلم يكن له طالب, فصار كالشيء الهالك; ومنه قول ابن الزبعْرى:

يَــا رَسُــولَ المَلِيــكِ إنَّ لسـانِي رَاتــقٌ مــا فَتَقْـتُ إذْ أنـا بُـورُ

وقد قيل: إن بور: مصدر, كالعدل والزور والقطع, لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإنما أريد بالبور في هذا الموضع أن أعمال هؤلاء الكفار كانت باطلة؛ لأنها لم تكن لله كما ذكرنا عن ابن عباس.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا

يقول تعالى ذكره مخبرا عما هو قائل للمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتم أنهم أضلوكم، ودعوكم إلى عبادتهم بما تقولون، يعني بقولكم, يقول: كذّبوكم بكذبكم.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيرا والملائكة, يكذّبون المشركين.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) قال: عيسى وعُزيرا والملائكة, يكذّبون المشركين بقولهم.

وكان ابن زيد يقول في تأويل ذلك: ما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: كذّبوكم بما تقولون بما جاء من عند الله جاءت به الأنبياء والمؤمنون آمنوا به، وكذب هؤلاء فوجه ابن زيد تأويل قوله: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) إلى: فقد كذّبوكم أيها المؤمنون المكذّبون بما جاءهم به محمد من عند الله، بما تقولون من الحقّ, وهو أن يكون خبرا عن الذين كذّبوا الكافرين في زعمهم أنهم دعوهم إلى الضلالة، وأمروهم بها على ما قاله مجاهد من القول الذي ذكرناه عنه أشبه وأولى; لأنه في سياق الخبر عنهم، والقراءة في ذلك عندنا ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) بالتاء على التأويل الذي ذكرناه, لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليه. وقد حُكي عن بعضهم أنه قرأه ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ ) بالياء, بمعنى: فقد كذبوكم بقولهم.

وقوله جلّ ثناؤه ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) يقول: فما يستطيع هؤلاء الكفار صرف عذاب الله حين نـزل بهم عن أنفسهم, ولا نصرها من الله حين عذّبها وعاقبها.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: المشركون لا يستطيعونه.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: المشركون. قال ابن جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم, ولا نصر أنفسهم.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله ( فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا ) قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نـزل بهم حين كذّبوا, ولا أن ينتصروا قال: وينادي مناد يوم القيامة حين يجتمع الخلائق: ما لكم لا تناصرون، قال: من عبد من دون الله لا ينصر اليوم من عبده, وقال العابدون من دون الله: لا ينصره اليوم إلهه الذي يعبد من دون الله, فقال الله تبارك وتعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وقرأ قول الله جلّ ثناؤه فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ .

ورُوي عن ابن مسعود في ذلك ما حدثنا به أحمد بن يونس, قال: ثنا القاسم, قال: ثنا حجاج, عن هارون, قال: هي في حرف عبد الله بن مسعود ( فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا ) فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة صحّ التأويل الذي تأوّله ابن زيد في قوله: ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ) ويصير قوله ( فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ ) خبرا عن المشركين أنهم كذّبوا المؤمنين, ويكون تأويل قوله حينئذ ( فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لكَ صَرْفًا ) فما يستطيع يا محمد هؤلاء الكفار لك صرفا عن الحق الذي هداك الله له, ولا نصر أنفسهم, مما بهم من البلاء الذي هم فيه, بتكذيبهم إياك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ( 19 )

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) أيها المؤمنون- يعني بقوله: ( وَمَنْ يَظْلِمْ ) ومن يشرك بالله فيظلم نفسه، فذلك نذقه عذابا كبيرا كالذي ذكرنا أنَّا نذيقه الذين كذّبوا بالساعة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: ثني الحسين, قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج, في قوله: ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) قال: يشرك ( نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ) .

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ) قال: هو الشرك:

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ( 20 )

وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وجواب لهم عنه يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق, من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق, وأنت لله رسول، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كالذي تأكل أنت وتمشي, فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة.

فإن قال قائل: فإن ( من ) ليست في التلاوة, فكيف قلت: معنى الكلام: إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك: معناه: أن الهاء والميم في قوله: إنهم, كناية أسماء لم تذكر, ولا بد لها من أن تعود على من كُني عنه بها, وإنما ترك ذكر « من » وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله: ( مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) عليه, كما اكتفي في قوله: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ من إظهار « من » , ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلا من له مقام معلوم, كما قيل وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ومعناه: وإن منكم إلا من هو واردها، فقوله: ( إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) صلة لمن المتروك, كما يقال في الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة, فإنه ليبلغك الرسالة، صلة لمن.

وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) يقول تعالى ذكره: وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض, جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة, وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا, وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنيّ, والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة, وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى، وقسم له, وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره. يقول فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا, وجعلته يطلب المعاش في الأسواق, ولأبتليكم أيها الناس, وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه, بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه، لأني لو أعطيته الدنيا, لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن يَنال منها.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: ثني عبد القدوس, عن الحسن, في قوله: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) ... الآية, يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان, ويقول هذا الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان, ويقول هذا السقيم: لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, في قوله: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) قال: يمسك عن هذا، ويوسع على هذا, فيقول: لم يعطني مثل ما أعطى فلانا, ويبتلى بالوجع كذلك, فيقول: لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء, ليعلم من يصبر ممن يجزع.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبي محمد, فيما يرى الطبري, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس, قال: وأنـزل عليه في ذلك من قولهم: ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ) ... الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم, وترون من خلافهم, وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.

وقوله: ( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) يقول: وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتحن به من المحن.

كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج ( وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) إن ربك لبصير بمن يجزع، ومن يصبر.