تفسير سورة الشعراء

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القول في تأويل قوله تعالى : طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 3 )

قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما في ابتداء فواتح سور القرآن من حروف الهجاء, وما انتزع به كل قائل منهم لقوله ومذهبه من العلة. وقد بيَّنا الذي هو أولى بالصواب من القول فيه فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته, وقد ذكر عنهم من الاختلاف في قوله: طسم و طس , نظير الذي ذكر عنهم في: الم و المر و المص .

وقد حدثني عليّ بن داود, قال: ثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, في قوله: ( طسم ) قال: فإنه قسم أقسمه الله, وهو من أسماء الله.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( طسم ) قال: اسم من أسماء القرآن.

فتأويل الكلام على قول ابن عباس والجميع: إن هذه الآيات التي أنـزلتها على محمد صلى الله عليه وسلم في هذه السورة لآيات الكتاب الذي أنـزلته إليه من قبلها الذي بين لمن تدبره بفهم, وفكر فيه بعقل, أنه من عند الله جلّ جلاله, لم يتخرّصه محمد صلى الله عليه وسلم, ولم يتقوّله من عنده, بل أوحاه إليه ربه.

وقوله: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) يقول تعالى ذكره: لعلك يا محمد قاتل نفسك ومهلكها إن لم يؤمن قومك بك, ويصدقوك على ما جئتهم به والبخْع: هو القتل والإهلاك في كلام العرب; ومنه قول ذي الرُّمة:

ألا أيُّهَــذَا البــاخعُ الوَجْـدُ نَفْسَـهُ لشَــيْءٍ نَحَتْـهُ عَـنْ يَدَيْـهِ المَقـادِرُ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عباس: ( بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) : قاتل نفسك.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) قال: لعلك من الحرص على إيمانهم مخرج نفسك من جسدك, قال: ذلك البخع.

حدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) عليهم حرصا.

وأن من قوله: ( أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) في موضع نصب بباخع, كما يقال: زرت عبد الله أن زارني, وهو جزاء; ولو كان الفعل الذي بعد أن مستقبلا لكان وجه الكلام في « أن » الكسر كما يقال; أزور عبد الله إن يزورني.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( 4 )

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ ) ... الآية, فقال بعضهم: معناه: فظلّ القوم الذين أنـزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذلَّة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد في قوله: ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) قال: فظلوا خاضعة أعناقهم لها.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( خَاضِعِينَ ) قال: لو شاء الله لنـزل عليه آية يذلون بها, فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله.

حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج: ( أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنـزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً ) قال: لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بمعصية.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) قال: ملقين أعناقهم.

حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) قال: الخاضع: الذليل.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين, ويقول: الأعناق: هم الكبراء من الناس.

واختلف أهل العربية في وجه تذكير ( خاضعين ) , وهو خبر عن الأعناق, فقال بعض نحوييّ البصرة: يزعمون أن قوله ( أعْنَاقُهُمْ ) على الجماعات, نحو: هذا عنق من الناس كثير, أو ذُكِّر كما يذكَّر بعض المؤنث, كما قال الشاعر:

تَمَزَّزْتُهــا والـدّيكُ يَدْعُـو صَبَاحَـهُ إذا مــا بنـو نَعْشٍ دَنَـوْا فَتَصَوَّبُـوا

فجماعات هذا أعناق, أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى المؤنث, كما قال الأعشى:

وتشـرقُ بـالقَوْلِ الَّـذِي قَـدْ أذَعْتَـه كمَـا شَـرَقَتْ صَـدْرُ القَنـاةِ مِنَ الدَّم

وقال العجاج:

لَمَّا رأى مَتْنَ السَّماء أبْعَدَتْ

وقال الفرزدق:

إذَا الْقُنْبُضَـاتُ السُّـودُ طَوَّفْنَ بالضحى رَقَــدْنَ عَلَيهِـنَّ الحِجَـالُ المُسَـجَّفُ

وقال الأعشى:

وإن أمــرأً أهْــدَى إلَيْـكَ وَدُونَـهُ مِـنَ الأرْضِ يَهْمـاءٌ وَبَيْـدَاءُ خَـيْفَقُ

لَمَحْقُوقَــة أن تَسْــتَجِيبِي لِصَوْتِـهِ وأنْ تَعْلَمِــي أنَّ المُعــانَ المُـوَفَّقُ

قال: ويقولون: بنات نعش وبنو نعش, ويقال: بنات عِرس, وبنو عِرس; وقالت امرأة: أنا امرؤ لا أخبر السرّ, قال: وذكر لرؤبة رجل فقال: هو كان أحد بنات مساجد الله, يعني الحَصَى. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هذا بمنـزلة قول الشاعر:

تَـــرَى أرْمَـــاحَهُمْ مُتَقَلديهـــا إذَا صَــدِئَ الحَــدِيدُ عـلى الكُمـاةِ

فمعناه عنده: فظلت أعناقهم خاضعيها هم, كما يقال: يدك باسطها, بمعنى: يدك باسطها أنت, فاكتفى بما ابتدأ به من الاسم أن يكون, فصار الفعل كأنه للأوّل وهو للثاني, وكذلك قوله: لمحقوقة أن تستجيبي لصوته إنما هو لمحقوقة أنت, والمحقوقة: الناقة, إلا أنه عطفه على المرء لما عاد بالذكر. وكان آخر منهم يقول: الأعناق: الطوائف, كما يقال: رأيت الناس إلى فلان عنقا واحدة, فيجعل الأعناق الطوائف والعصب; ويقول: يحتمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء, فيكون كأنه قيل: فظلت رءوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين, وقال: أحب إلي من هذين الوجهين في العربية أن يقال: إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون, فجعلت الفعل أولا للأعناق, ثم جعلت خاضعين للرجال, كما قال الشاعر:

عَـلى قَبْضَـة مَرْجُـوَّة ظَهْـرُ كَفِّـهِ فَـلا المَـرْءُ مُسْـتَحي وَلا هُـوَ طاعِمُ

فأنث فعل الظهر, لأن الكفّ تجمع الظهر, وتكفي منه, كما أنك تكتفي بأن تقول: خضعت لك, من أن تقول: خَضَعَتْ لك رقبتي, وقال: ألا ترى أن العرب تقول: كل ذي عين ناظر وناظرة إليك, لأن قولك: نظرتْ إليك عيني, ونظرت إليك بمعنى واحد بترك كل, وله الفعل ومرده إلى العين, فلو قلت: فظلت أعناقهم لها خاضعة, كان صوابا.

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال, وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة, للآية التي ينـزلها الله عليهم من السماء, وأن يكون قوله « خاضعين » مذكرا, لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق, فيكون ذلك نظير قول جرير:

أرَى مَــرَّ السِّــنِينَ أخَــذْنَ مِنِّـي كمَــا أخَـذَ السِّـرَارُ مِـنَ الهـلالِ

وذلك أن قوله: مرّ, لو أسقط من الكلام, لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه, وكذلك لو أسقطت الأعناق من قوله: فظلت أعناقهم, لأدى ما بقي من الكلام عنها, وذلك أن الرجال إذا ذلوا, فقد ذلت رقابهم, وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا.

فإن قيل في الكلام: فظلوا لها خاضعين, كان الكلام غير فاسد, لسقوط الأعناق, ولا متغير معناه عما كان عليه قبل سقوطها, فصرف الخبر بالخضوع إلى أصحاب الأعناق, وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لما قد جرى به استعمال العرب في كلامهم, إذا كان الاسم المبتدأ به, وما أضيف إليه يؤدّي الخبر كل واحد منهما عن الآخر.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ( 5 )

يقول تعالى ذكره: وما يجيء هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك ويجحدون ما أتيتهم به يا محمد من عند ربك من تذكير وتنبيه على مواضع حجج الله عليهم على صدقك, وحقيقة ما تدعوهم إليه مما يحدثه الله إليك ويوحيه إليك, لتذكرهم به, إلا أعرضوا عن استماعه, وتركوا إعمال الفكر فيه وتدبره.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 6 )

يقول تعالى ذكره: فقد كذب يا محمد هؤلاء المشركون بالذكر الذي أتاهم من عند الله, وأعرضوا عنه ( فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول: فسيأتيهم أخبار الأمر الذي كانوا يسخرون منه, وذلك وعيد من الله لهم أنه محلّ بهم عقابه على تماديهم في كفرهم, وتمرّدهم على ربهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( 7 )

يقول تعالى ذكره: أولم ير هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث والنشر إلى الأرض, كم أنبتنا فيها بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها ( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) يعني بالكريم: الحسن, كما يقال للنخلة الطيبة الحمل: كريمة, وكما يقال للشاة أو الناقة إذا غزرتا, فكثرت ألبانهما: ناقة كريمة, وشاة كريمة.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثني أبو عاصم, قال: ثنا عيسى, وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعًا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) قال: من نبات الأرض, مما تأكل الناس والأنعام.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.

حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: اخبرنا معمر, عن قتادة, في قوله: ( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) قال: حسن.

 

القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ( 8 ) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 9 )

يقول تعالى ذكره: إن في إنباتنا في الأرض من كلّ زوج كريم لآية. يقول: لدلالة لهؤلاء المشركين المكذّبين بالبعث, على حقيقته, وأن القدرة التي بها أنبت الله في الأرض ذلك النبات بعد جدوبتها, لن يُعجزه أن يُنْشر بها الأموات بعد مماتهم, أحياء من قبورهم.

وقوله: ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) يقول: وما كان أكثر هؤلاء المكذبين بالبعث, الجاحدين نبوتك يا محمد, بمصدقيك على ما تأتيهم به من عند الله من الذكر.

يقول جلّ ثناؤه: وقد سبق في علمي أنهم لا يؤمنون, فلا يؤمن بك أكثرهم للسابق من علمي فيهم. وقوله: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) يقول: وإن ربك يا محمد لهو العزيز في نقمته, لا يمتنع عليه أحد أراد الانتقام منه. يقول تعالى ذكره: وإني إن أحللت بهؤلاء المكذبين بك يا محمد, المعرضين عما يأتيهم من ذكر من عندي, عقوبتي بتكذيبهم إياك, فلن يمنعهم مني مانع, لأني أنا العزيز الرحيم, يعني أنه ذو الرحمة بمن تاب من خلقه من كفره ومعصيته, أن يعاقبه على ما سلف من جرمه بعد توبته.

وكان ابن جُرَيج يقول في معنى ذلك, ما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني الحجاج, عن ابن جُرَيج قال: كلّ شيء في الشعراء من قوله ( الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) فهو ما أهلك ممن مضى من الأمم, يقول عزيز, حين انتقم من أعدائه, رحيم بالمؤمنين, حين أنجاهم مما أهلك به أعداءه.

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك في هذا الموضع, لأن قوله: ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) عقيب وعيد الله قوما من أهل الشرك والتكذيب بالبعث, لم يكونوا أهلكوا, فيوجه إلى أنه خبر من الله عن فعله بهم وإهلاكه.ولعلّ ابن جُرَيج بقوله هذا أراد ما كان من ذلك عقيب خبر الله عن إهلاكه من أهلك من الأمم, وذلك إن شاء الله إذا كان عقيب خبرهم كذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 ) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ( 11 )

يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد إذ نادى ربك موسى بن عمران ( أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) يعني الكافرين قوم فرعون, ونصب القوم الثاني ترجمة عن القوم الأوّل, وقوله: ( أَلا يَتَّقُونَ ) يقول: ألا يتقون عقاب الله على كفرهم به. ومعنى الكلام: قوم فرعون فقل لهم: ألا يتقون. وترك إظهار فقل لهم لدلالة الكلام عليه. وإنما قيل: ألا يتقون بالياء, ولم يقل ألا تتقون بالتاء, لأن التنـزيل كان قبل الخطاب, ولو جاءت القراءة فيها بالتاء كان صوابا, كما قيل: ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَيُغْلَبُونَ ) و سَتُغْلَبُونَ

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ( 12 ) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ( 13 ) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ( 14 )

يقول تعالى ذكره: ( قال ) موسى لربه ( رَبِّ إِنِّي أَخَافُ ) من قوم فرعون الذين أمرتني أن آتيهم ( أَنْ يُكَذِّبُونِ ) بقيلي لهم: إنك أرسلتني إليهم. ( وَيَضِيقُ صَدْرِي ) من تكذيبهم إياي إن كذّبوني. ورفع قوله: ( وَيَضِيقُ صَدْرِي ) عطفا به على أخاف, وبالرفع فيه قرأته عامة قرّاء الأمصار, ومعناه: وإني يضيق صدري .وقوله: ( وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ) يقول: ولا ينطق بالعبارة عما ترسلني به إليهم, للعلة التي كانت بلسانه. وقوله: ( وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ) كلام معطوف به على يضيق. وقوله: ( فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ) يعني هارون أخاه, ولم يقل: فأرسل إليّ هارون ليؤازرني وليعينني, إذ كان مفهوما معنى الكلام, وذلك كقول القائل: لو نـزلت بنا نازلة لفزعنا إليك, بمعنى: لفزعنا إليك لتعيننا. وقوله: ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) يقول: ولقوم فرعون عليّ دعوى ذنب أذنبت إليهم, وذلك قتله النفس التي قتلها منهم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثني عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) قال: قتل النفس التي قتل منهم.

حدثنا القاسم, قال: ثني الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قال: قتْل موسى النفس.

قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قَتادة, قوله: ( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) قال: قتل النفس.

وقوله: ( فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) يقول: فأخاف أن يقتلوني قودا بالنفس التي قتلت منهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ( 15 ) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 16 ) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ( 17 )

يقول تعالى ذكره: ( كَلا ) : أي لن يقتلك قوم فرعون. ( فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا ) يقول: فاذهب أنت وأخوك بآياتنا, يعني بأعلامنا وحججنا التي أعطيناك عليهم. وقوله: ( إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) من قوم فرعون ما يقولون لكم, ويجيبونكم به. وقوله: ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا ) ... الآية, يقول: فأت أنت يا موسى وأخوك هارون فرعون. ( فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إليك ب ( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وقال رسول ربّ العالمين, وهو يخاطب اثنين بقوله فقولا لأنه أراد به المصدر من أرسلت, يقال: أرسلت رسالة ورسولا كما قال الشاعر:

لَقَـدْ كَـذَبَ الوَاشُـونَ ما بُحْتُ عِندَهمْ بِسُـــوءٍ وَلا أرْسَــلْتُهُمْ بِرَسُــولِ

يعنى برسالة, وقال الآخر:

ألا مــنْ مُبْلِــغٌ عَنّــي خُفافــا رَسُــولا بَيْــتُ أهلِــكَ مُنْتَهاهـا

يعني بقوله: رسولا رسالة, فأنث لذلك الهاء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ( 18 ) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( 19 )

وفي هذا الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه, وهو: فأتيا فرعون فأبلغاه رسالة ربهما إليه, فقال فرعون: ألم نربك فينا يا موسى وليدا, ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وذلك مكثه عنده قبل قتل القتيل الذي قتله من القبط. ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) يعني: قتله النفس التي قتل من القبط.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قال: قتل النفس

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.

وإنما قيل ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ) لأنها مرة واحدة, ولا يجوز كسر الفاء إذا أريد بها هذا المعنى. وذُكر عن الشعبي أنه قرأ ذلك: « وَفَعَلْتَ فِعْلَتَكَ » بكسر الفاء, وهي قراءة لقراءة القرّاء من أهل الأمصار- مخالفة.

وقوله: ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك, فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنت من الكافرين بالله على ديننا.

ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى بن هارون, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السديّ: ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يعني على ديننا هذا الذي تعيب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت من الكافرين نعمتنا عليك.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) قال: ربيناك فينا وليدا, فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفسا, وكفرت نعمتنا!.

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) يقول: كافرا للنعمة لأن فرعون لم يكن يعلم ما الكفر.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد أشبه بتأويل الآية, لأن فرعون لم يكن مقرّا لله بالربوبية وإنما كان يزعم أنه هو الرب, فغير جائز أن يقول لموسى إن كان موسى كان عنده على دينه يوم قتل القتيل على ما قاله السديّ : فعلت الفعلة وأنت من الكافرين, الإيمان عنده: هو دينه الذي كان عليه موسى عنده, إلا أن يقول قائل: إنما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى, على قولك اليوم, فيكون ذلك وجها يتوجه. فتأويل الكلام إذن: وقتلت الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا عليك, وإحساننا إليك في قتلك إياه.

وقد قيل: معنى ذلك: وأنت الآن من الكافرين لنعمتي عليك, وتربيتي إياك.