القول في تأويل قوله تعالى : إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( 23 ) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ( 24 )

يقول تعالى مخبرا عن قيل الهدهد لسليمان مخبرا بعذره في مغيبه عنه: ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) يعني تملك سبأ, وإنما صار هذا الخبر للهدهد عذرا وحجة عند سليمان, درأ به عنه ما كان أُوعد به؛ لأن سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحدا له مملكة معه, وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلا حبِّب إليه الجهاد والغزو, فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره, وقوم كفرة يعبدون غير الله, له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل, والثواب العظيم في الآجل, وضمّ مملكة لغيره إلى ملكه, حقَّت للهدهد المعذرة, وصحّت له الحجة في مغيبه عن سليمان.

وقوله: ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يقول: وأوتيت من كلّ شيء يؤتاه الملك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والآلة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي عُبيدة الباجي, عن الحسن, قوله: ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يعني: من كل أمر الدنيا.

وقوله ( وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) يقول: ولها كرسي عظيم. وعني بالعظيم في هذا الموضع: العظيم في قدره, وعظم خطره, لا عظمه في الكبر والسعة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قوله: ( وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) قال: سرير كريم, قال: حَسن الصنعة, وعرشها: سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.

قال: ثني حجاج, عن أبي عبيدة الباجي, عن الحسن قوله: ( وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) يعني سرير عظيم.

وقوله: ( وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول: وجدت هذه المرأة ملكة سبأ, وقومها من سبأ, يسجدون للشمس فيعبدونها من دون الله. وقوله: ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول: وحسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس, وسجودهم لها من دون الله, وحبَّب ذلك إليهم ( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) يقول: فمنعهم بتزيينه ذلك لهم أن يتبعوا الطريق المستقيم, وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه, ومعناه: فصدّهم عن سبيل الحقّ ( فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) يقول: فهم لما قد زين لهم الشيطان ما زين من السجود للشمس من دون الله والكفر به لا يهتدون لسبيل الحقّ ولا يسلكونه, ولكنهم في ضلالهم الذي هم فيه يتردّدون.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 25 ) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 26 )

اختلف القرّاء في قراءة قوله ( أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ ) فقرأ بعض المكيين وبعض المدنيين والكوفيين « ألا » بالتخفيف, بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا, فأضمروا « هؤلاء » اكتفاء بدلالة « يا » عليها. وذكر بعضهم سماعا من العرب: ألا يا ارحمنا, ألا يا تصدّق علينا; واستشهد أيضا ببيت الأخطل:

ألا يـا اسْـلَمي يـا هِنْـدَ هنْدَ بَنِي بَدرٍ وَإنْ كـان حَيَّانـا عِـدًا آخِـرَ الدَّهْـر

فعلى هذه القراءة اسجدوا في هذا الموضع جزم, ولا موضع لقوله « ألا » في الإعراب. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والبصرة ( أَلا يَسْجُدُوا ) بتشديد ألا بمعنى: وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله « ألا » في موضع نصب لما ذكرت من معناه أنه لئلا ( ويسجدوا ) في موضع نصب بأن.

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القراء مع صحة معنييهما.

واختلف أهل العربية في وجه دخول « يا » في قراءة من قرأه على وجه الأمر, فقال بعض نحوييِّ البصرة: من قرأ ذلك كذلك, فكأنه جعله أمرا, كأنه قال لهم: اسجدوا, وزاد « يا » بينهما التي تكون للتنبيه, ثم أذهب ألف الوصل التي في اسجدوا, وأذهبت الألف التي في « يا » ؛ لأنها ساكنة لقيت السين, فصار ألا يسجدوا. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه « يا » التي تدخل للنداء يكتفى بها من الاسم, ويكتفى بالاسم منها, فتقول: يا أقبل, وزيد أقبل, وما سقط من السواكن فعلى هذا.

ويعني بقوله: ( يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) يخرج المخبوء في السموات والأرض من غيث في السماء, ونبات في الأرض ونحو ذلك.

وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وإن اختلفت عبارتهم عنه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا ابن المبارك, عن ابن جُرَيج, قراءة عن مجاهد: ( يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ ) قال: الغيث.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( يُخْرِجُ الْخَبْءَ ) قال: الغيث.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال: خبء السماء والأرض ما جعل الله فيها من الأرزاق, والمطر من السماء, والنبات من الأرض, كانتا رتقا لا تمطر هذه، ولا تنبت هذه, ففتق السماء, وأنـزل منها المطر, وأخرج النبات.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا عيسى بن يونس, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن حكيم بن جابر, في قوله: ( أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) ويعلم كل خفية في السموات والأرض.

حدثني محمد بن عمارة, قال: ثنا عبيد الله بن موسى, قال: أخبرنا أسامة بن زيد, عن معاذ بن عبد الله, قال: رأيت ابن عباس على بغلة يسأل تبعا ابن امرأة كعب: هل سألت كعبا عن البذر تنبت الأرضُ العامَ لم يصب العام الآخر؟ قال: سمعت كعبا يقول: البذر ينـزل من السماء ويخرج من الأرض, قال: صدقت.

قال أبو جعفر: إنما هو تبيع, ولكن هكذا قال محمد: وقيل: يخرج الخبء في السموات والأرض, لأن العرب تضع « من » مكان « في » و « في » مكان « من » في الاستخراج ( وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) يقول: ويعلم السرّ من أمور خلقه, هؤلاء الذين زين لهم الشيطان أعمالهم والعلانية منها, وذلك على قراءة من قرأ ألا بالتشديد. وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن معناه: ويعلم ما يسره خلقه الذين أمرهم بالسجود بقوله: « ألا يا هؤلاء اسجدوا » . وقد ذكر أن ذلك في قراءة أُبيّ: « ألا تَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يَعْلَمُ سرَّكُمْ وما تُعْلِنُون » .

وقوله: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ) يقول تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح العبادة إلا له, لا إله إلا هو, لا معبود سواه تصلح له العبادة, فأخلصوا له العبادة, وأفردوه بالطاعة, ولا تشركوا به شيئا ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) يعني بذلك: مالك العرش العظيم الذي كل عرش, وإن عظم, فدونه, لا يُشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد; في قوله: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ إلى قوله ( لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) هذا كله كلام الهدهد.

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق بنحوه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 27 ) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ( 28 )

يقول تعالى ذكره: ( قَالَ ) سليمان للهدهد: ( سَنَنظُرُ ) فيما اعتذرت به من العذر, واحتججت به من الحجة لغيبتك عنا, وفيما جئتنا به من الخير ( أَصَدَقْتَ ) في ذلك كله ( أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) فيه ( اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ )

فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك; فقال بعضهم: معناه: اذهب بكتابي هذا, فألقه إليهم, فانظر ماذا يَرْجِعونَ, ثم تول عنهم منصرفا إليّ, فقال: هو من المؤخَّر الذي معناه التقديم.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: فأجابه سليمان, يعني أجاب الهدهد لما فرغ: ( سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ) وانظر ماذا يرجعون, ثم تول عنهم منصرفا إلي. وقال: وكانت لها كوّة مستقبلة الشمس, ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها, فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها, واستبطأت الشمس, فقامت تنظر, فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه, وطار حتى قامت تنظر الشمس.

قال أبو جعفر: فهذا القول من قول ابن زيد يدلّ على أن الهدهد تولى إلى سليمان راجعا بعد إلقائه الكتاب, وأن نظره إلى المرأة ما الذي ترجع وتفعل كان قبل إلقائه كتاب سليمان إليها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم, ثم تولّ عنهم, فكن قريبا منهم, وانظر ماذا يرجعون; قالوا: وفعل الهدهد, وسمع مراجعة المرأة أهل مملكتها, وقولها لهم: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, قوله: ( فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ) أي كن قريبا ( فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ) وهذا القول أشبه بتأويل الآية؛ لأن مراجعة المرأة قومها, كانت بعد أن ألقي إليها الكتاب, ولم يكن الهدهد لينصرف وقد أمر بأن ينظر إلى مراجعة القوم بينهم ما يتراجعونه قبل أن يفعل ما أمره به سليمان.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( 29 ) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( 30 ) أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ( 31 )

يقول تعالى ذكره: فذهب الهدهد بكتاب سليمان إليها, فألقاه إليها فلما قرأته قالت لقومها: ( يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, قال: كتب - يعني سليمان بن داود- مع الهدهد: بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود, إلى بلقيس بنت ذي سرح وقومها, أما بعد, فلا تعلو عليّ، وأتوني مسلمين, قال: فأخذ الهدهد الكتاب برجله, فانطلق به حتى أتاها, وكانت لها كوّة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها, فسجدت لها, فأتى الهدهد الكوّة فسدّها بجناحيه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم, ثم ألقى الكتاب من الكوّة, فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه, فأخذته.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: بلغني أنها امرأة يقال لها بلقيس, أحسبه قال: ابنة شراحيل, أحد أبويها من الجنّ, مؤخر أحد قدميها كحافر الدابة, وكانت في بيت مملكة, وكان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر كلّ رجل منهم على عشرة آلاف, وكانت بأرض يقال لها مأرب, من صنعاء على ثلاثة أيام; فلما جاء الهدهد بخبرها إلى سليمان بن داود, كتب الكتاب وبعث به مع الهدهد, فجاء الهدهد وقد غَلقت الأبواب, وكانت تغلِّق أبوابها وتضع مفاتيحها تحت رأسها, فجاء الهدهد فدخل من كوّة, فألقى الصحيفة عليها, فقرأتها, فإذا فيها: ( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) وكذلك كانت تكتب الأنبياء لا تطنب, إنما تكتب جملا.

قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: لم يزد سليمان على ما قصّ الله في كتابه إنه وإنه.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ فمضى الهدهد بالكتاب, حتى إذا حاذى الملكة وهي على عرشها ألقى إليها الكتاب.

وقوله: ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) والملأ أشراف قومها، يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: ( يَاأَيُّهَا الْمَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) .

واختلف أهل العلم في سبب وصفها الكتاب بالكريم, فقال بعضهم: وصفته بذلك لأنه كان مختوما.

وقال آخرون: وصفته بذلك لأنه كان من ملك فوصفته بالكرم لكرم صاحبه. وممن قال ذلك ابن زيد.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) قال: هو كتاب سليمان حيث كتب إليها.

وقوله ( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) كُسِرت إنَّ الأولى والثانية على الردّ على « إني » من قوله: ( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) . ومعنى الكلام: قالت: يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب, وإنه من سليمان.

وقوله ( أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول: ألقي إليّ كتاب كريم ألا تعلوا عليّ.

ففي « أنْ » وجهان من العربية: إن جعلت بدلا من الكتاب كانت رفعا بما رفع به الكتاب بدلا منه; وإن جعل معنى الكلام: إني ألقي إليّ كتاب كريم ألا تعلوا علي كانت نصبا بتعلق الكتاب بها.

وعنى بقوله: ( أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تتكبروا ولا تتعاظموا عما دعوتكم إليه.

كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله: ( أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تمتنعوا من الذي دعوتكم إليه إن امتنعتم جاهدتكم، فقلت لابن زيد: ( أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ ) ألا تتكبروا علي؟ قال: نعم; قال: وقال ابن زيد: ( أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ذلك في كتاب سليمان إليها. وقوله: ( وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) يقول: وأقبلوا إليّ مذعنين لله بالوحدانية والطاعة.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ( 32 ) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ( 33 )

يقول تعالى ذكره: قالت ملكة سبأ لأشراف قومها: ( يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ) تقول: أشيروا عليّ في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألقي إليّ, فجعلت المشورة فتيا.

وقوله: ( مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) تقول: ما كنت قاضية أمرا في ذلك حتى تشهدون, فأشاوركم فيه.

كما حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: دعت قومها تشاورهم ( يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ) يقول في الكلام: ما كنت لأقطع أمرا دونك ولا كنت لأقضي أمرا, فلذلك قالت: ( مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا ) بمعنى: قاضية.

وقوله: ( قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) يقول تعالى ذكره: قال الملأ من قوم ملكة سبأ, إذ شاورتهم في أمرها وأمر سليمان: نحن ذوو القوّة على القتال, والبأس الشديد في الحرب, والأمر أيتها الملكة إليك في القتال وفي تركه, فانظري من الرأي ما ترين, فَمُرينا نأتمر لأمرك.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: ( قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) عرضوا لها القتال, يقاتلون لها, والأمر إليك بعد هذا, ( فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ) .

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن مجاهد, قال: كان مع ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول مع كل قيول مئة ألف.

حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: كان مع بلقيس مائة ألف قيل, مع كل قيل مائة ألف.

قال: ثنا وكيع, قال: ثنا الأعمش, قال: سمعت مجاهدا يقول: كانت تحت يد ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيول، والقيول بلسانهم: الملك تحت يد كلّ ملك مائة ألف مقاتل.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( 34 )

يقول تعالى ذكره: قالت صاحبة سبأ للملأ من قومها, إذ عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان, إن أمرتهم بذلك: ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً ) عنوة وغلبة ( أفْسَدُوها ) يقول: خرّبوها ( وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) وذلك باستعبادهم الأحرار, واسترقاقهم إياهم; وتناهى الخبر منها عن الملوك في هذا الموضع فقال الله: ( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: وكما قالت صاحبة سبأ تفعل الملوك, إذا دخلوا قرية عنوة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا أبو بكر, في قوله: ( وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) قال أبو بكر: هذا عنوة.

حدثنا أبو هشام الرفاعي, قال: ثنا أبو بكر, قال: ثنا الأعمش, عن مسلم, عن ابن عباس, في قوله: ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ) قال: إذا دخلوها عنوة خرّبوها.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قال ابن عباس: ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) قال ابن عباس: يقول الله: ( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

 

القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ( 35 )

ذكر أنها قالت: إني مرسلة إلى سليمان, لتختبره بذلك وتعرفه به, أملك هو, أم نبيّ؟ وقالت: إن يكن نبيا لم يقبل الهدية, ولم يرضه منا, إلا أن نتبعه على دينه, وإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف.

*ذكر الرواية عمن قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قالت: ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) قال: وبعثت إليه بوصائف ووصفَاء, وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى, فقالت: إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى, ثم ردّ الهدية فإنه نبيّ, وينبغي لنا أن نترك ملكنا, ونتبع دينه, ونلحق به.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) قال: بجوار لباسهم لباس الغلمان, وغلمان لباسهم لباس الجواري.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قال: قولها: ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) قال: مائتي غلام ومائتي جارية. قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: قوله: ( بِهَديَّةٍ ) قال: جوار ألبستهن لباس الغلمان, وغلمان ألبستهم لباس الجواري.

قال ابن جُرَيج: قال: قالت: فإن خلص الجواري من الغلمان, وردّ الهدية فإنه نبيّ, وينبغي لنا أن نتبعه.

قال ابن جُرَيج, قال مجاهد: فخلص سليمان بعضهم من بعض, ولم يقبل هديتها.

قال: ثنا الحسين, قال: ثنا سفيان, عن معمر, عن ثابت البُنَانيّ, قال: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الآجرّ بالذهب, ثم أمر به فألقي في الطرق، فلما جاءوا فرأوه ملقى ما يُلتفت إليه, صغر في أعينهم ما جاءوا به.

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ... الآية, وقالت: إن هذا الرجل إن كان إنما همته الدنيا فسنرضيه, وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبلَ غيره ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) .

حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن بعض أهل العلم, عن وهب بن منبه, قال: كانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة في بيت ملك, لم تملك إلا لبقايا من مضى من أهلها, إنه قد سيست وساست حتى أحكمها ذلك, وكان دينها ودين قومها فيما ذكر الزنديقية; فلما قرأت الكتاب سمعت كتابا ليس من كتب الملوك التي كانت قبلها, فبعثت إلى المقَاولة من أهل اليمن, فقالت لهم: يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ إلى قوله ( بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) ثم قالت: إنه قد جاءني كتاب لم يأتني مثله من ملك من الملوك قبله, فإن يكن الرجل نبيا مرسلا فلا طاقة لنا به ولا قوّة, وإن يكن الرجل ملكا يكاثر, فليس بأعز منا, ولا أعدّ. فهيَّأت هدايا مما يُهدَى للملوك, مما يُفتنون به, فقالت: إن يكن ملكا فسيقبل الهدية ويرغب في المال, وإن يكن نبيا فليس له في الدنيا حاجة, وليس إياها يريد, إنما يريد أن ندخل معه في دينه ونتبعه على أمره, أو كما قالت.

حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) بعثت بوصائف ووصفاء, لباسهم لباس واحد, فقالت: إن زيَّل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى, ثم رد الهدية فهو نبي, وينبغي لنا أن نتبعه, وندخل في دينه; فزيل سليمان بين الغلمان والجواري, وردّ الهدية, فقال ( أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ) .

حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: كان في الهدايا التي بعثت بها وصائف ووصفاء يختلفون في ثيابهم, ليميز الغلمان من الجواري, قال: فدعا بماء, فجعل الجواري يتوضأن من المرفق إلى أسفل, وجعل الغلمان يتوضئون من المرفق إلى فوق. قال: وكان أبي يحدثنا هذا الحديث.

حدثنا عبد الأعلى, قال: ثنا مروان بن معاوية, قال: ثنا إسماعيل, عن أبي صالح: ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ) قال: أرسلت بلبنة من ذهب, وقالت: إن كان يريد الدنيا علمته, وإن كان يريد الآخرة علمته.

وقوله: ( فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) تقول: فأنظر بأيّ شيء من خبره وفعله في هديتي التي أرسلها إليه ترجع رسلي, أبقبول وانصراف عنا, أم بردّ الهدية والثبات على مطالبتنا باتباعه على دينه؟ وأسقطت الألف من « ما » في قوله ( بِمَ ) وأصله: بما, لأن العرب إذا كانت « ما » بمعنى: أي, ثم وصلوها بحرف خافض أسقطوا ألفها تفريقا بين الاستفهام وغيره, كما قال جلّ ثناؤه عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ و قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ , وربما أثبتوا فيها الألف, كما قال الشاعر:

عَلامَـــا قــامَ يَشْــتُمِني لَئِــيمٌ كَخِــنزيرٍ تَمَــرَّغَ فِــي تُــرَاب

وقالت: ( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ ) وإنما أرسلت إلى سليمان وحده على النحو الذي بينا في قوله: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ،