القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( 56 )

يقول تعالى ذكره: فلم يكن لقوم لوط جواب له, إذ نهاهم عما أمره الله بنهيهم عنه من إتيان الرجال, إلا قيل بعضهم لبعض: ( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) عما نفعله نحن من إتيان الذكران في أدبارهم.

كما حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: سمعت الحسن بن عُمارة يذكر عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن عباس, في قوله: ( أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال: من إتيان الرجال والنساء في أدبارهن.

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال: من أدبار الرجال وأدبار النساء استهزاء بهم.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قال: ( يَتَطَهَّرُونَ ) من أدبار الرجال والنساء, استهزاء بهم يقولون ذلك.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة أنه تلا ( إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) قال: عابوهم بغير عيب أي: إنهم يتطهرون من أعمال السوء.

 

القول في تأويل قوله تعالى : فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ( 57 ) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ( 58 )

يقول تعالى ذكره: فأنجينا لوطا وأهله سوى امرأته من عذابنا حين أحللناه بهم, ثم ( قَدَّرْناها ) يقول: فإن امرأته قدرناها: جعلناها بتقديرنا ( مِنَ الْغَابِرِينَ ) من الباقين ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا ) وهو إمطار الله عليهم من السماء حجارة من سجيل ( فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) يقول: فساء ذلك المطر مطر القوم الذين أنذرهم الله عقابه على معصيتهم إياه, وخوفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم بذلك.

 

القول في تأويل قوله تعالى : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ ( 59 )

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( قُلِ ) يا محمد ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) على نعمه علينا, وتوفيقه إيانا لما وفِّقنا من الهداية، ( وَسَلامٌ ) يقول: وأمنة منه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط, وقوم صالح, على الذين اصطفاهم, يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدِّين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركين به, الجاحدين نبوّة نبيه.

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك, قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حديث أبو كُرَيب, قال: ثنا طلق, يعني ابن غنام, عن ابن ظهير, عن السديّ, عن أبي مالك, عن ابن عباس: ( وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.

حدثنا عليّ بن سهل, قال: ثنا الوليد بن مسلم, قال: قلت لعبد الله بن المبارك: أرأيت قول الله ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) من هؤلاء؟ فحدثني عن سفيان الثوري, قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله: ( آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره; قل يا محمد لهؤلاء الذين زيَّنا لهم أعمالهم من قومك فهم يعمهون: آلله الذي أنعم على أوليائه هذه النعم التي قصَّها عليكم في هذه السورة, وأهلك أعداءه بالذي أهلكهم به من صنوف العذاب التي ذكرها لكم فيها خير, أما تشركون من أوثانكم التي لا تنفعكم ولا تضرّكم, ولا تدفع عن أنفسها، ولا عن أوليائها سوءً , ولا تجلب إليها ولا إليهم نفعا؟ يقول: إن هذا الأمر لا يشكل على من له عقل, فكيف تستجيزون أن تشركوا عبادة من لا نفع عنده لكم, ولا دفع ضرّ عنكم في عبادة من بيده النفع والضرّ, وله كل شيء؟ ثم ابتدأ تعالى ذكره تعديد نعمه عليهم, وأياديه عندهم, وتعريفهم بقلة شكرهم إياه على ما أولاهم من ذلك, فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ .

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( 60 )

يقول تعالى ذكره للمشركين به من قُريش: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم التي لا تضرّ ولا تنفع خير, أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟ ( وَأَنـزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني مطرا, وقد يجوز أن يكون مريدا به العيون التي فجَّرها في الأرض؛ لأن كل ذلك من خلقه ( فَأَنْبَتْنَا بِهِ ) يعني بالماء الذي أنـزل من السماء ( حَدَائِقَ ) وهي جمع حديقة, والحديقة: البستان عليه حائط محوّط, وإن لم يكن عليه حائط لم يكن حديقة. وقوله: ( ذَاتَ بَهْجَةٍ ) يقول: ذات منظر حسن. وقيل ذات بالتوحيد. وقد قيل حدائق, كما قال: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ,وقد بيَّنت ذلك فيما مضى.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء, جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) قال: البهجة: الفقاح مما يأكل الناس والأنعام.

حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, قوله: ( حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ) قال: من كل شيء تأكله الناس والأنعام.

وقوله: ( مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ) يقول تعالى ذكره: أنبتنا بالماء الذي أنـزلناه من السماء لكم هذه الحدائق، إذ لم يكن لكم لولا أنه أنـزل عليكم الماء من السماء، طاقة أن تنبتوا شجر هذه الحدائق, ولم تكونوا قادرين على ذهاب ذلك, لأنه لا يصلح ذلك إلا بالماء.

وقوله: ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) يقول تعالى ذكره: أمعبود مع الله أيها الجهلة خلق ذلك, وأنـزل من السماء الماء, فأنبت به لكم الحدائق؟ فقوله: ( أَإِلَهٌ ) مردود على تأويل: أمع الله إله، ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) يقول جلّ ثناؤه: بل هؤلاء المشركون قوم ضلال, يعدلون عن الحقّ, ويجورون عليه, على عمد منهم لذلك, مع علمهم بأنهم على خطأ وضلال ولم يعدلوا عن جهل منهم, بأن من لا يقدر على نفع ولا ضرّ, خير ممن خلق السماوات والأرض, وفعل هذه الأفعال, ولكنهم عدلوا على علم منهم ومعرفة, اقتفاء منهم سُنّة من مضى قبلهم من آبائهم.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 61 )

يقول تعالى ذكره: أعبادة ما تشركون أيها الناس بربكم خير وهو لا يضرّ ولا ينفع, أم الذي جعل الأرض لكم قرارا تستقرّون عليها لا تميد بكم ( وَجَعَلَ ) لكم ( خِلالَهَا أَنْهَارًا ) يقول: بينها أنهارا ( وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ) وهي ثوابت الجبال،

( وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ) بين العذب والملح, أن يفسد أحدهما صاحبه ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) سواه فعل هذه الأشياء فأشركتموه في عبادتكم إياه؟

وقوله: ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون قدر عظمة الله, وما عليهم من الضرّ في إشراكهم في عبادة الله غيره, وما لهم من النفع في إفرادهم الله بالألوهة, وإخلاصهم له العبادة, وبراءتهم من كلّ معبود سواه.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ( 62 )

يقول تعالى ذكره: أم ما تُشركون بالله خير, أم الذي يجيب المضطّر إذا دعاه, ويكشف السوء النازل به عنه؟

كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, قوله: ( وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) قال: الضرّ.

وقوله: ( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ ) يقول: ويستخلف بعد أمرائكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم. وقوله: ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) يقول: أإله مع الله سواه يفعل هذه الأشياء بكم, وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: ( قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) يقول: تَذَكُّرًا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا, فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.

 

القول في تأويل قوله تعالى : أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 63 )

يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير, أم الذي يهديكم في ظلمات البرّ والبحر إذا ضللتم فيهما الطريق, فأظلمت عليكم السبل فيهما؟

كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج قوله: ( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) والظُّلماتِ في البر ضلاله الطريق, والبحر, ضلاله طريقه وموجه وما يكون فيه. قوله: ( وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) يقول: والذي يرسل الرياح بُشرا لموتان الأرض بين يدي رحمته, يعني: قدام الغيث الذي يحيي موات الأرض. وقوله: ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره: أإله مع الله سوى الله يفعل بكم شيئا من ذلك فتعبدوه من دونه, أو تشركوه في عبادتكم إياه ( تعالى الله ) يقول: لله العلوّ والرفعة عن شرككم الذي تشركون به, وعبادتكم معه ما تعبدون.